أدب الرعب والعام

فرصة أخرى للسعادة

بقلم : نوار – سوريا

فرصة أخرى للسعادة
كانت النافذة وسيلتها الوحيدة للاطمئنان عليه و تتبُّع تحركاته ..

صعدت غادة سلَّم الطائرة المتجهة من نيويورك إلى دمشق ممسكةً حقيبتها الصغيرة بيد ، و باليد الأخرى كانت تقبض على كف ابنتها لونا ، اتخذت مكانها و أجلست لونا بجانبها و ثبَّتت لها حزام الأمان ..
سألتها ابنتها :
– ماما ، هل دمشق جميلة ؟
– أجل حبيبتي ، بنظري لا يوجد أجمل منها ، فهي مدينتي التي ولدت و كبرت فيها ، و لي فيها ذكريات كثيرة
– هل جدتي تعرف حكايات لتقصّها عليَّ قبل النوم ؟
مسحت بيدها على شعر ابنتها و أجابتها بابتسامةٍ حانية :
– نعم ، أمي لديها قصص كثيرة كانت تقصُّها عليَّ في طفولتي و ستقصها عليكِ أنتِ أيضاً ، ستحبِّين أمي و أبي كثيراً و سيكون لديك أصدقاء من أبناء الحي و في المدرسة .. و الآن حبيبتي دعي ماما ترتاح قليلاً ، عندما نصل ستجدين إجابةً على جميع أسئلتك ، الآن افعلي مثلي ، أغمضي عينيك و تخيَّلي لحظة الوصول .. 

في هذه اللحظة أقلعت الطائرة و حلَّقت عالياً في السماء ، و حلَّق معها عقل غادة بعيداً ، بعيداً جداً ، حيث الذكريات و الحنين و الألم .

***

هبطت الطائرة في مطار دمشق الدولي و مع هبوطها أخذ قلب غادة يدقُّ بعنف ، فها قد عادت إلى المكان الذي فرَّت منه ، و كأنَّ القدر يسخر منها و يقول لها ليس باستطاعتك الهروب مني !

أنهت إجراءات الوصول و تسلَّمت حقائبها ثم اتجهت نحو البوابة التي يعبر من خلالها القادمون ، و في هذه الأثناء تذكَّرت يوم السفر .. عندما حزمت حقائبها التي لم تكترث كثيراً بمحتوياتها كما تفعل أي فتاةٍ مقبلةٍ على الزواج ، حاولت الابتسامة و التظاهر بالفرح أمام أهلها ، و أبدت تماسكاً و صلابة انهارات كلها في المطار عندما نظرت إلى أهلها نظرة الوداع الأخيرة ، و فعلاً كانت الأخيرة بالنسبة لها ، فقد صمَّمت على عدم العودة و الالتفات للخلف ، صمَّمت أن تبدأ حياةً جديدة لا علاقة لها بالماضي .. و هكذا كان لولا تدابير القدر .

استفاقت من ذكرياتها على صوتٍ محبَّب إلى قلبها يقول :
– غادة ، ابنتي غادة 
– أمي الحبيبة 
ألقت غادة بنفسها بين ذراعي أمها التي أخذت تذرف الدموع ، ثم تقدَّمت من والدها الذي أحاطها بذراعيه و قبَّل رأسها قائلاً :
– حمداً لله على سلامتكِ يا ابنتي.. 
تساءلت بقلق :
– أين حنان ؟ ظننتها ستكون باستقبالي  
أجابت الأم :
– كانت تريد المجيء لكنها استيقظت متعبة جداً هذا اليوم فموعد ولادتها قد اقترب كما تعرفين 

كانت لونا في هذه الأثناء تقف خلف والدتها بخجل ، و قد انشغل عنها جدَّيها باستقبال أمها و الآن حان دورها ، انحنت جدتها مقبِّلةً خديها بينما حملها جدها فأسرعت غادة إلى القول :
– أبي ، أخشى أن تكون ثقيلة عليك 
أجاب والدها مازحاً :
– مازال أبوكِ شاباً يا ابنتي 
و ضحك الجميع متجهين إلى الخارج ، استقلّوا السيارة و مضوا باتجاه المنزل ، هذا المنزل الذي كانت غادة من أشدِّ المتذمرين من قرار الانتقال إليه ، ابتسمت و هي تتذكر ذلك ، فقد كانت من النوع الذي إن اعتاد على شيءٍ لا يحب تغييره لذلك كرهت فكرة التأقلم مع حيٍّ جديد و جيران جدد ، لكنها بالنهاية رضخت للأمر الواقع .. 

لم يكن المنزل الجديد سيئاً بالعكس ، كان جميلاً و أكثر اتساعاً من منزلهم القديم ، احتاجت هي و أمها و شقيقتها لثلاثة أيام من العمل المتواصل حتى يرتبن جميع أغراضه و يضعن كل شيء في مكانه ، قالت غادة بعد أن عدَّلت من وضعيَّة لوحةٍ كانت معلقةً على جدار غرفة المعيشة :
– و أخيراً انتهينا ، لا أصدِّق
– لقد تعبنا جداً و آن لنا أن نرتاح .. أضافت شقيقتها حنان و هي تجلس على الأريكة 
لكن والدتهن قالت فجأة :
– بقي شيءٌ واحد 
تساءلت غادة و حنان بنفس اللحظة :
– ما هو ؟
– يجب علينا أن نفكر ماذا سنعدُّ على العشاء ، فقد اقترب موعد عودة والدكما  
سارعت غادة إلى القول :
– فكِّرا أنتما ، أما أنا فسأذهب إلى سريري لأريح ظهري 
قالت حنان معترضة :
– أمي ، غادة تريد أن تهرب ، كلنا تعبنا 
ردَّت الأم ضاحكة :
– دعيها يا ابنتي ، فلا تستطيعين أن تنكري أنها أكثر واحدة تعبت فينا ، فنحن دائماً نترك الأعمال الثقيلة عليها 
قالت حنان و هي تلحق بوالدتها إلى المطبخ :
– حسناً حسناً أنا أستسلم ..

**

– أمي جدتي تقول أننا وصلنا 
  أمي .. 
أعادها صوت ابنتها إلى الواقع فابتسمت و قالت :
– نعم وصلنا 

خرجت من السيارة و لفحت وجهها نسمةُ هواءٍ جعلتها تذكر كلاماً قرأته يوماً ، يقول أن للأماكن رائحة لا تتبدَّل مع مرور الزمن ، ربما ليست رائحة المكان بالتحديد و إنما عبق الذكريات التي تحملها تلك الأماكن الشاهدة على فرحنا و أملنا ، شاهدة على انكسارنا و خيبتنا .. الأماكن تمثِّل ذاكرة الزمن .
هذه النسمة أعادتها سبع سنين إلى الوراء عندما قدمت للحي أول مرة لتتعرَّف على منزلهم الجديد ، تلفتت حولها لم يتغير شيء ، فذاك “أبو فتحي” بائع الخضروات يتنقَّل في دكّانه بكرشه التي ترقص مع كل خطوة يخطوها ، وقف ينظر إليهم باستغراب و بفضول كعادته في حب جمع أخبار أهل الحي ، و تلك المكتبة ماتزال موجودة ، رفعت رأسها تنظر إلى شرفات و نوافذ البيوت مازال كلُّ شيءٍ على حاله ، كأن الزمن لم يمر من هنا ! و في تلك اللحظة سمعت صوت والدها يناديها :
– غادة ما بك واقفة تعالي لندخل يا ابنتي
– قادمة حالاً أبي

و في المنزل أيضاً لم يتغير شيء ، كل ما حولها كان يدعوها للبكاء ، كل شيء يذكِّرها فيه حتى تلك اللوحة الصامتة المعلَّقة على الجدار ، كان والداها يحتفيان بقدومها و يكلِّمانها بسعادة و هي كانت تريد الانفراد بنفسها مع ذكرياتها الغافية في قلبها لسنوات و قد استيقظت كلها دفعةً واحدة و أخذت تتزاحم في عقلها مشكِّلةً ضوضاء تمنعها من التركيز مع من هم حولها ، كلَّمتها حنان معتذرةً عن عدم القدوم لاستقبالها و قالت بأنها ستأتي هذا المساء للسهر عندهم هي و زوجها و الأطفال .

نهضت غادة مستأذنة والديها بالذهاب إلى غرفتها لتستريح قليلاً ريثما تحضر شقيقتها و تركت لونا معهما .. تساءل والدها بعد أن ذهبت :
– ما بالها غادة ! منذ أن أتت و هي شاردة 
أجابت والدتها و هي تُجلِس لونا في حضنها :
– ربما مازالت حزينة على فقدان زوجها ، مسكينة لقد ترمَّلت و هي في عزِّ شبابها ، يا لحظها العاثر 
أخفض والدها نظره و تمتم :
– معكِ حق

**

دخلت غادة الغرفة و وقفت عند بابها ، ذاك هو سريرها و هناك سرير أختها و بقيَّة الأثاث ، و كأنها بالأمس كانت هنا ! اقتربت من المرآة و نظرت إلى نفسها ، هذه المرآة هي الوحيدة التي تعرفها و تعرف أسرارها ، تجرَّدت أمامها من غادة المزيفة ، غادة الضاحكة السعيدة و التي تتزيَّن و تذهب إلى السهرات و الحفلات برفقةِ زوجها ، و التي لا همَّ لها سوى إسعاده و تربية ابنتها و المساهمة في المؤسسات الخيرية التي كانت عضواً فاعلاً فيها في نيويورك .. 

نظرت إلى ثيابها و سألت نفسها لماذا ماتزال ترتدي الأسود ؟ لقد مضى على وفاة زوجها أكثر من شهر ، هل هي بالفعل حزينةٌ عليه ؟ لم تعرف الإجابة فمشاعرها تجاهه لم تكن حباً بل امتناناً ، كانت ممتنَّة له لانتشالها من دوَّامة العذاب التي كانت غارقةً فيها ، منذ أن قبلت الارتباط به أقسمت على الإخلاص له ، أقسمت أن تدفن قلبها في هذه الغرفة قبل الرحيل و قد برَّت بقسمها و كانت نعم الزوجة الصالحة و الوفيَّة ، وقفت معه في مرضه حتى آخر لحظات حياته و رحل عن هذه الدنيا و هو راضٍ عنها ..

اقتربت من خزانة الثياب و فتحتها ، تفاجأت بوجود ملابسها القديمة فيها ، لم تتخلص أمها منها !
تلمَّستها و أخرجت منها فستاناً ليلكيَّاً مصنوعاً من الحرير و تذكَّرت المناسبة التي ارتدته فيها ، تلك المناسبة التي تعرفت فيها حنان على زوجها …

**
– هيَّا يا بنات ، احرصن على مظهركن ، ففي هذه المناسبات تتصيد الفتيات العرسان
قالت غادة معترضة :
– أمي ما هذا الكلام ، لم أكن يوماً ممن يبحثن عن شريك الحياة بهذه الطريقة ، ثم لا يهمُّني مظهري سأرتدي ما يريحني بغضِّ النظر عما إذا كان ملفتاً أم لا 
– غادة…
قاطعتهما حنان و هي تدور في الغرفة :
– أما أنا فيهمُّني مظهري و لن أجعل أي واحدةٍ من قريباتي تنجح في إبراز نفسها أكثر مني .. ضحكت و أكملت سأغطي على العروس بجمالي و جمال ثيابي 

و بالفعل تعرَّفت هناك على لؤي و وقعا في حب بعضهما البعض ، قالت لها حنان في يوم عقد قرانها :
– غادة أنا آسفة ، لطالما تمنيت أن أراكِ عروساً قبلي فأنتِ شقيقتي الكبيرة لكن..
قاطعتها غادة :
– لا تكملي حنان ، أنا سعيدة جداً من أجلك و لا فرق عندي من ستتزوج قبل الأخرى ، ثم أنكِ تعرفين قلبي معلَّق بمن و قد لا أتزوج أبداً ..

**

أعادت الفستان إلى مكانه في الخزانة و مسحت دمعة جرت على خدها .. اتجهت بنظرها نحو النافذة و اقتربت منها ، مدت يدها لفتحها لكنها أنَّبت نفسها قائلةً :
– غادة كلُّ شيءٍ أصبح من الماضي ، أنتِ الآن أرملة و أمٌّ لطفلةٍ في الخامسة من عمرها ، ارهني حياتك لتربيتها 

ابتعدت عن النافذة التي شهدت ولادة حبها و كانت وسيلتها الوحيدة للاطمئنان عليه و تتبُّع تحركاته .. تذكَّرت أول مرة رأته فيها ، كان ذلك بعد أن رتبت مع أمها وشقيقتها أغراض المنزل حيث تركتهما يعدَّان طعام العشاء بينما اتجهت لترتاح في حجرتها ، و قبل أن تستلقي على السرير ذهبت للنافذة و فتحتها ، كانت تريد استنشاق بعض الهواء النقي ..

أغمضت عينيها و هي تأخذ نفساً عميقاً و عندما فتحتهما لاحظت و جود ظلّ شخصٍ خلف ستار نافذة المنزل المجاور لمنزلهم ، اقترب الظل أكثر و أزيحت الستارة ليظهر خلفها رجلٌ أطلَّ برأسه إلى الخارج و عندما التقت عيناه بعينيها أخفضهما بسرعة و عاد للتواري خلف الستارة .. لم تستطع غادة تبيُّن ملامحه جيداً لكن يبدو أنه رجل في منتصف العمر ..

رمت نفسها على السرير محاولةً الاسترخاء لكن ذهنها بقي عند نافذة ذاك المنزل ، أخذت تتساءل يا ترى هل سيحظون بجيرةٍ طيبةٍ أم أن جيرانهم سيكونون مزعجين ، خصوصاً هذا الرجل الذي تطلُّ غرفته على غرفتها هي و أختها ..

**
تنهَّدت بحزنٍ عندما تذكَّرت تساؤلاتها في ذلك اليوم ، لقد ظنت بأنه سيكون جاراً مزعجاً ، و كرهت أن تطلَّ غرفتها على غرفة رجلٍ غريب ، لكن الأيام التالية أثبتت لها عكس ذلك تماماً ، ليس ذلك فحسب بل سخرت منها و جعلت قلبها يتعلق بحب هذا الرجل ! 

جلست على طرف السرير و حاولت تذكُّر كيف بدأت في حبه .. لا تعرف بالتحديد متى تسرب حبه إلى قلبها ، فقد وجدت نفسها تراقبه بصمتٍ من خلف النافذة ، كانت في البداية تفعل ذلك من باب الملل و حبِّ الاستطلاع ، فهم ساكنون جدد في الحي و يهمُّها أن تعرف من هم جيرانها ، لكن هذه المراقبة أصبحت شيئاً روتينيَّاً ، عرفت من خلالها أنه يقضي أغلب أوقاته في غرفته ، كانت تراه جالساً خلف حاسوبه بجوار النافذة لكنه لم يكن يلتفت إليها ، و أغلب المرات يترك الستارة نصفها مفتوح بحيث لا تراه لكنها تعلم بوجوده من خلال شاشة الحاسوب المضاءة ، قتلها الفضول من أجل رؤيته وجهاً لوجه و تمنَّت أن تحدث مصادفة تجعلها تلتقي به و بالفعل أمنيتها تحققت سريعاً ..

دخلت ذات يوم إلى المكتبة المقابلة لمنزلهم تبحث عن كتبٍ تقضي وقتها بقراءتها ، و بينما كانت تحادث البائع سمعت صوتاً هادئاً و عميقاً يأتي من خلفها ملقياً السلام ، فردَّ صاحب المكتبة بترحيبٍ كبير :
– أهلاً أستاذ كمال ، لقد استطعت تأمين الكتاب الذي طلبته 

التفتت غادة نحو هذا المدعو كمال فوجدته رجلٌ طويل القامة ، ضخم الجثة ، ذو جبهةٍ عريضة و ذقنه نابتة بإهمال ، كل هذه الصفات لاحظتها خلال ثانيتين ، أما ما توقَّفت عنده هو عيناه ، كان يمتلك عينين لا يستطيع الناظر إليهما إلا أن يتوه في ظلمتهما ، تمنحان له نظرة عميقة لكن متعبة بنفس الوقت .. 

نظر لها بعدم اهتمامٍ و اتَّجه نحو البائع الذي قدَّم له الكتاب ، أخذه الأخير و نقده ثمنه ثم خرج ، تتبَّعته غادة بنظرها فوجدته يدخل في المنزل المجاور لهم ، أي هو كما توقعت جارهم ، الرجل الذي تطل غرفته على غرفتها ! 
قالت للبائع :
– يبدو أنك حريصٌ على إرضاء زبائنك 
أجاب صاحب المكتبة ضاحكاً :
– إن الأستاذ كمال زبوني المفضَّل ، دائماً ما يأتي هنا و يطلب مني تأمين بعض الكتب 
– أوه ، إنه قارئٌ نهمٌ إذاً !
– أجل ، لكنه غريب الأطوار ، لا يتحدَّث كثيراً و لا يخرج من منزله إلا إلى العمل ، تصوَّري لقد تجاوز الأربعين و لم يتزوج بعد ! يعيش وحيداً مع أمه العجوز 

خرجت غادة من المكتبة و قد شعرت برغبةٍ شديدةٍ لمعرفة المزيد عن حياة كمال ، هذا الرجل الغامض ..

**

تساءلت و هي تضع رأسها على الوسادة لماذا هو دوناً عن جميع الرجال ؟ لماذا قلبها لم ينبض إلا لحبه ؟ جميع من في الحي على الرغم من احترامهم له إلا أنهم يلقِّبونه بغريب الأطوار ، جميعهم لم يفهموه كما فهمته هي ، كان كمال من أولئك الأشخاص الذين آثروا الصمت و العزلة على الاختلاط بالبشر ، لم يكن يحبُّ الدخول بحواراتٍ طويلةٍ ، يتكلَّم منتقياً أقصر العبارات ، لكن ذاك لم يكن نابعاً من استعلاءٍ أو غرور كما يتَّهمه البعض بل لأنَّه لم يجد من يفهمه ، لم يجد من يشاركه ميوله و أفكاره ، كان يخفي خلف قناع الصمت إنساناً حسَّاساً مرهف المشاعر هذا ما لمسته عندما تعرَّفت عليه عن قرب .. أصرَّت أن تقحم نفسها في حياته و كانت بذلك تنسج خيوط الشقاء حول نفسها دون أن تعلم ..

قطع استرسالها في الذكريات صوت طرقٍ على الباب ، استوت في جلستها قائلةً تفضَّل ، فدخلت شقيقتها حنان تترنَّح في مشيتها قائلةً بابتسامةٍ مرحة :
– أنتِ تجلسين هنا و نحن قدمنا من أجل رؤيتك !
نهضت تستقبل حنان بالقبلات و الأحضان و بعبارات الاشتياق .. ثم قالت :
– ياه كم وزنك زاد على الحمل ! متى ستضعين ؟
– الطبيبة أخبرتني أنني سألد خلال هذا الأسبوع 
– أرجو لكِ السلامة 
حانت من حنان التفاتة نحو النافذة و همَّت بقول شيءٍ لكن غادة قطعت عليها السبيل قائلةً بحزم :
– لم أقترب من النافذة 
– آسفة غادة لم أقصد..
– لا عليك عزيزتي .. هيا لننضمَّ إليهم ، من غير اللائق أن يطول مكوثنا هنا 

خرجتا إلى غرفة المعيشة و ألقت غادة السلام على لؤي زوج حنان ثم جلست بين أمها و شقيقتها ، أما لونا فبسرعة اندمجت مع ابنة حنان التي تكبرها بعام و ابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات و ذهبوا ليلعبوا في أحد الأركان .. 

كانت أمسيةً جميلةً تخللتها الضحكات و التندُّر على طفل حنان القادم و فيما إذا كان سيشبه أمه أم أبيه و غيرها من الأحاديث المرحة ، كانت غادة تضغط على نفسها لمسايرتهم ، فقد أحسَّت بداخلها فوضى كبيرة بحاجةٍ لترتيب ، أرادت فسحةً من الوقت تنفرد فيها مع نفسها لتنفِّس عن مشاعرها المكبوتة داخلها و دموعها المتحجِّرة في مقلتيها ، أرادت أن تُمنَح الفرصة لترمي عن كاهلها ترسُّبات الماضي حتى تستطيع البدء من جديد في هذه الحياة التي كلما ظننا أنفسنا قد فهمناها وخبرنا كل تقلباتها تفاجئنا بالمزيد ..

**

– تصبحان على خير 
قالتها لوالديها بعد أن غادرت حنان ، حملت ابنتها التي كانت نائمةً على الأريكة و دخلت إلى الغرفة ، ألبستها ثياب النوم و وضعتها في السرير الذي كانت تشغله حنان ، ثم غيَّرت ثيابها و اندسَّت في الفراش و رغماً عنها سرح تفكيرها عند كمال و كيف تحدثت إليه لأول مرة ..

كان صباحاً خريفياً يبعث في النفس الكآبة ، فالشمس سجينة الغيوم ، و الرياح تعطي شعوراً للمرء بعدم الارتياح ، خرجت غادة من المنزل لقضاء بعض الشؤون و عندما عادت رأت امرأةً عجوز تخرج من عند أبو فتحي “الخضرجي” محملةً بالأكياس المليئة بالخضار و الفاكهة ، كان من الواضح أنها ثقيلة عليها ، فاتَّجهت غادة نحوها لتساعدها و اكتشفت عندما أوصلتها للمنزل أنها والدة كمال ..
شكرتها المرأة على صنيعها لكنَّ غادة أصرت أن تدخل لها الأغراض إلى المطبخ ، و عند ذلك دعتها المرأة لشرب القهوة ، لم تمانع غادة فإنَّ الجلوس في منزل كمال أمرٌ يروق لها ..

دخل كمال المنزل بينما غادة تتبادل أطراف الحديث مع والدته ، كانت الدهشة واضحة على وجهه عندما التقت عيناه بعينيها فشعرت بقليلٍ من الإحراج ، بادرته أمه قائلةً :
– عدتَّ باكراً اليوم على غير العادة 
– شعرت بالإرهاق فطلبت إجازة 
أحسَّت غادة أنها متطفِّلة فنهضت لتستأذن ، فانتبهت والدة كمال و قالت :
– لم أعرِّفكما على بعض .. 
أشارت إلى كمال قائلةً : ابني كمال ، ثم التفتت إلى غادة :
– غادة ابنة جيراننا الذين سكنوا حديثاً في المنزل المجاور لنا ، ساعدتني اليوم بحمل الأغراض التي جلبتها ..
نظر لها بامتنان و قال :
– تشرَّفنا ، و شكراً على مساعدتكِ لأمي 
ثم التفت إلى أمه قائلاً باستياء :
– كم مرَّة طلبت منك أن تدعي جلب أغراض المنزل علي ، أرجوك لا تتعبي نفسك 
– لا بأس بني لا تقلق لم أهرم لتلك الدرجة التي تجعلني لا أخرج من المنزل ..

نظر لها باستسلام ثم استأذن و ذهب إلى غرفته ، أما غادة نهضت مودعةً المرأة الطيبة التي طلبت منها أن تزورها ثانيةً ..

دخلت غادة منزلها و اتجهت مسرعةً نحو نافذة غرفتها ، حركت جزءاً صغيراً من الستارة و نظرت من خلاله إلى غرفة كمال ، فاجأتها حنان من خلفها قائلةً :
– أمسكت بك ، لك مدة و أنت لا تفارقين النافذة ، علامَ تنظرين ؟ قولي لي هل تراقبين أحداً معيناً ؟
ابتعدت غادة عن النافذة و قالت متجاهلةً نظرات الشك في عيني شقيقتها :
– لا أبداً ، لا شيء .. ثم سألت مغيرةً مجرى الحديث  :
– ماذا صنعت أمي اليوم على الغداء ؟
– اهربي من الموضوع لا بأس ، سيأتي يوم و أعرف فيه كل شيء 

خرجت حنان ضاحكة من الغرفة بينما بقيت غادة تسترجع لحظة تعارفها هي و كمال ، و كيف بدا كالطفل عندما تحدَّث مع أمه ، واضح أنه يحبها و يخاف عليها كثيراً .

**

تقلَّبت لونا في فراشها فانزاح الغطاء عنها ، نهضت غادة و أعادت الغطاء على جسد ابنتها ثم راودتها نفسها أن تفتح النافذة و تلقي نظرة ، نظرة واحدة فقط تطمئنها و تروي شوقها ، لكنها أبت ذلك و عادت إلى سريرها و ذكرياتها التي منعتها من النوم ..

لقد حدَّثت أمها عن والدة كمال و دعتها للقدوم عندهم في المنزل فلبَّت الدعوة ، و فيما بعد أصبحت غادة تطلُّ عليها بدون ميعاد ، تقضي عندها بعض الصباحات و تساعدها في بعض الأمور ، قالت لها والدتها في إحدى المرات :
– ما سر تعلقك بتلك المرأة جارتنا ؟
– أوه أمي ، إنها امرأةٌ كبيرة في السن و وحيدة ، أشفق عليها فهي لم تنجب بنات و ابنها لم يتزوج ليمتلئ المنزل بزوجته و أطفاله 
– لا بأس عزيزتي ، أنا لا أمانع ذهابك إليها .. لكن تذكَّري أن ابنها مايزال أعزباً و ألسنة الناس لا ترحم
– أنا أذهب إليها عندما يكون هو في العمل 
تدخَّلت حنان في حوارهما موجهةً الكلام لأمها :
– من ؟ تقصدين كمال ؟ إنه يكبرها بأكثر من خمسة عشر عاماً و يستحيل أن ينظر إليها نظرة خارجة عن إطار الأخوة 

استاءت من حنان و كلامها الذي شعرت بأنه يحوي رسالةً مبطَّنة لها .
تساءلت الآن .. كيف عرفت شقيقتها ما يعتمل في قلبها و هي نفسها حتى تلك اللحظة لم تكن تعلم بأنها فعلاً واقعة في حبه !

**

التقت به ذات يوم في أحد المقاهي ، تقدَّمت منه و قالت بعد أن ألقت السلام :
– أتسمح لي بالجلوس أم أنك تنتظر أحداً ؟
أجابها و هو يشير لها بالجلوس :
– إنَّ مثلي لا ينتظر أحداً ، صدقاً أنا بعمري لم أنتظر أحداً و لم أتعلَّق بأيِّ أحد 
– إذاً لماذا جئت هنا ؟
– سأجيبك بعد أن تجيبيني أنتِ ، لمَ قدمتِ إلى هنا ؟
قالت و قد اصطبغت وجنتيها بحمرةِ الخجل :
– خرجت من أحد المحلَّات القريبة من هنا و لمحتك جالساً في هذا المقهى ، فأحببت أن أتعرَّف عليك أكثر ، أنت شخصية مثيرة بالنسبة لي ..
– يعني لم تكن في نيَّتكِ الدخول لولا أن رأيتني ؟
– أجل

أطلق ضحكةً قويةً جعلتها تتوتر ، و همَّت بالنهوض متمتمة بكلمات اعتذارٍ عن تطفُّلها ، فتوقف عن الضحك و قال معتذراً :
– آسف ، حقاً أنا آسف ، لا تذهبي
– هل لي أن أعرف لماذا ضحكت ؟
– عندما قلتِ بأن شخصيتي مثيرة انتابني الضحك ، لا أجد أي إثارةٍ بشخصيتي ، ربما لو قلت شخصية كئيبة ، معقدة حزينة كما يقولون عني كنت صمت ، أما مثيرة !
– أنا لا أرى أي تعقيدٍ في شخصيتك ، هل لأنك تحبُّ الوحدة هل لأنك لم تتزوج بعد ؟ هل هذه الأمور تجعلهم يطلقون عليك هذه الصفات ؟
– في مجتمعاتنا مع الأسف الاختلاف يرونه تعقيداً ، بنظرهم يجب أن يمشي الجميع مع القطيع ، أنا رجلٌ حرٌّ بأفكاري و ميولي و قناعاتي و لست مضطراً أن أسايرهم حتى أنال رضاهم ، لذلك تجديني آثرت العزلة و ابتعدت عن البشر ..
– لكن لا أعتقد أنَّ المرء قادر على الاستمرار لوحده حتى النهاية ، فالإنسان اجتماعي بطبعه 
– أنا بطبعي إنسان يعشق عزلته لذا لن يكون هناك فرقٌ بالنسبة لي

صمت قليلاً قبل أن يكمل :
– أنتِ الآن تحدثِّين نفسك و تقولين ما الذي أجلسني مع غريب الأطوار هذا .. أليس كذلك يا فتاة ؟ 
– لا أبداً ، أنا لا أجدك غريب الأطوار ، ثم لا تخاطبني كما لو كنتُ صغيرة ، عمري خمسة و عشرون سنة
– و أنا عمري واحد و أربعون أي أنكِ ستظلين صغيرة بنظري 
سألته بعد برهةٍ من الوقت :
– صحيح لم تخبرني لماذا قدمتَ إلى المقهى إن كنت لا تنتظر أحداً ؟
– أنا معتادٌ أن آتي إلى هنا مساء كل اثنين و خميس تقريباً ، أجلس لوحدي أقرأ بعض الصحف ، أراقب العالم الخارجي قليلاً .. 
– و هل تمانع إن شاركتك المجيء إلى هذا المقهى ؟
– المقهى ليس لي ، لذا تستطيعين المجيء بأي وقت بلا استئذان !
قالت و هي تلعب بملعقة السكر التي أمامها دون أن ترفع عينيها إليه :
– أقصد الجلوس معك و مبادلتك الحديث 
– لا أبداً لا مانع لدي فقد استمتعت بالحديث معك ، لكن أخشى عليكِ من الندم 
– الندم ؟ علامَ ؟!
نهض متجاهلاً تساؤلها و قال : 
– يجب أن أعود ، فأمي وحدها في المنزل

عضَّت غادة على شفتها عندما استرجعت حوارها معه ، لقد حذَّرها منذ البداية لكنها لم تُنصِت ، كان يعرف بأنَّ عواطفها ستجرفها إليه ، كان يعلم بأنه سيتسبَّب لها بجراح لا تندمل ، بقيت تلاحقه سواء في منزله أو في ذلك المقهى ، دخلت معه بنقاشات طويلة ، حدَّثها فيها عن طفولته و شبابه ، أحلامه التي لم تتحقق ، طموحاته و أفكاره ، و حدثته هي عن نفسها ، عن أهلها ، كانت تحب أن تشركه بأيِّ شيء يمر بها حتى لو كان صغيراً ، اقتربت منه للحد الذي ظنَّت فيه بأنها ملكت قلبه ، ارتفعت بأحلامها عالياً و السقوط من الارتفاعات مؤلم جداً ، و هذا بالضبط ما حدث معها عندما حانت لحظة المواجهة ..

تعب ذهنها من الذكريات التي كانت تصارع رغبتها بالنوم ، و أخيراً انتصر سلطان النوم و أغمضت غادة عينيها و ذهبت في سبات عميق بعد يوم مجهدٍ حافلٍ بالأحداث .

**

استيقظت غادة صباحاً ، التفتت نحو ابنتها فوجدتها نائمة ، نهضت بهدوء و ارتدت غلالتها و خرجت من الغرفة فاستقبلتها أنغامٌ موسيقيةٌ صادرةٌ من المطبخ جعلتها تقول في نفسها : يا الله لم يتغيَّر شيء ، مازالت أمي تستمع إلى “فيروز” صباحاً .. 
دخلت على أمها التي كانت تعد القهوة 
– صباح الخير ماما
– صباح الورد يا حبيبتي ، جيد أنكِ استيقظتِ لتشاركيني قهوة الصباح 

اتجهت غادة نحو شرفة المطبخ و جلست هناك بينما سرحت مع صوت “فيروز” و هي تغني .. أهواك بلا أملِ ، شعرت بالألم فكلمات الأغنية تعبِّر عنها ، أخرجها من شرودها صوت أمها و هي تقدم لها فنجان القهوة و تقول :
– لقد اشتقت للجلوس معكِ يا ابنتي ، فأنتِ منذ أن سافرتِ لم تأتي لزيارتنا ..
– و ها قد عدتُّ بينكم دائماً و أبداً 
همَّت والدتها بقول أن الحياة مازالت أمامها و تستطيع الزواج ثانيةً لو تقدم لها شخص مناسب لكنها شعرت أنَّ الوقت مبكرٌ جداً على هذا الحديث ، لذا لاذت بالصمت الذي قطعته غادة عندما قالت :
– يبدو أنه لم يتغيَّر شيء في الحي منذ غادرت ، مازال الكل على حاله .
– أجل لم يتغيَّر شيء و لم يغب أحدٌ سوى والدة كمال التي توفيت 
اهتزَّ فنجان القهوة بيد غادة و قالت بدهشة :
– والدة كمال ماتت ! منذ متى ؟
أجابت أمها و قد شعرت أنها ارتكبت إثماً بإخبارها :
– منذ عامٍ تقريباً ، ظننتكِ تعرفين أقصد بالتأكيد حنان أخبرتكِ 
قالت غادة متمتمة :
– يبدو أنها نسيت إخباري

الحقيقة أن حنان لم تنسَ إخبارها ، بل هي من طلبت منها طيلةَ هذه السنين عدم التحدث عن كمال أو أي شيءٍ يتعلَّق به ، أرادت بالفعل نسيانه .. 
أدارت وجهها عن أمها حتى لا ترى دموعها التي توشك على النزول ، فكَّرت بكمال و كيف عاش وحيداً بعد أمه ، لقد كان متعلَّقاً بها جداً ، بل هي الشخص الوحيد الذي تعلَّق به ، تذكَّرت يوماً ساءت فيه حالتها الصحية و نُقِلت على إثرها إلى المشفى ، كيف بدا كالطفل التائه ، جلس خائفاً متوتراً ينتظر خروج الطبيب ، كم تمنَّت وقتها أن تضمه إلى صدرها ، أن تقول له اعتبرني أمك و شقيقتك و حبيبتك ، اعتبرني أي شيءٍ يخصُّك .. في تلك اللحظة بالذات عرفت بأنها غارقة في حبه ، عرفت أنها لا تقوى على رؤيته يتألم .

اكتشافها بأنها وقعت أسيرة هوى كمال جعلها لا تنام تلك الليلة ، ظلَّت مستيقظة تتساءل هل يا تُرى كمال يبادلها المشاعر ؟ هل تعني له شيئاً كما يعني لها ؟ انتابتها رغبةٌ شديدة في البكاء فتكورت على نفسها في السرير كاتمةً أنَّاتها في الوسادة ، لكن حنان استيقظت على صوت شهقاتها التي خرجت رغماً عنها فنهضت مفزوعة و قالت :
– غادة عزيزتي لماذا تبكين هل يؤلمكِ شيء ؟
أخذ جسد غادة يرتجف فاقتربت منها حنان و قد ألحَّت في السؤال :
– أرجوكِ تكلَّمي ما بك ؟ هل أنادي أمي ؟
أسرعت غادة بالنفي قائلةً :
– لا ، لا تنادي أحداً .. أنا بخير 
– إذاً لمَ تبكين ؟ صارحيني أنا شقيقتك 
– أحبه يا حنان أنا أحبه
– كمال أليس كذلك ؟
رفعت غادة رأسها و قالت باستغراب :
– كيف عرفتِ ؟ هل حبي له مفضوحٌ لهذه الدرجة ؟
– لا اطمئني لا أحد يعلم ، و لكني شقيقتك و أشعر بك و أعرف أنكِ كنت طيلة الوقت تراقبينه من النافذة ، لكن لمَ تبكين ؟ أظن أن الحب يجعل المرء سعيداً 
– لأني وقعت بحبِّ شخصٍ أخشى ألا يبادلني المشاعر 

جلست حنان على طرف السرير و أمسكت بيد غادة و قالت :
– لا تغضبي مني عزيزتي و لكن هل كمال فعلاً الشخص المناسب لكِ ؟ أقصد فرق العمر الذي بينكما  
– القلوب عندما تنبض بالحب لا تعرف عمراً .. كمال هو الرجل الذي أرى فيه حياتي ، مجرَّد سماعِ صوته يشعرني بالأمان ، أما النظر إلى عينيه .. آه كيف أصف لك ! عندما أنظر في عينيه أريد أن يتوقف بي الزمن عند تلك اللحظة 

عانقت حنان شقيقتها و قالت مربتةً على كتفها :
– تأكَّدي بأنه مهما كان خيارك فأنا معكِ و لن أتخلَّى عنكِ .. الآن اهدئي و اخلدي إلى النوم و كلُّ شيءٍ سيكون على ما يرام 

**
– غادة .. غادة ما بكِ لماذا لا تردين علي ؟
جفلت غادة و عادت إلى الواقع ، قالت متسائلة :
– نعم أمي ، عن ماذا كنت تتحدثين ؟
– اشربي فنجان قهوتك فقد أصبح بارداً 

**

ألحت لونا على أمها و طلبت منها أن تصطحبها إلى الحديقة ، رضخت غادة بالنهاية لطلبها مع أنها لم تمتلك مزاجاً للخروج و في طريق العودة التقت بهِ ، كانت مفاجأة بالنسبة لكليهما ، منذ عودتها و هي تشعر أنَّ الزمن لم يمر على سكان الحي لكنها الآن أدركت أن الزمن مرَّ عليه هو .. لقد تغيَّر كثيراً لكن مازال لعينيه تلك النظرات المتعبة ، قال لها :
– غادة ، منذ متى أنتِ هنا ؟
ذاب قلبها مع صوته الدافئ .. أجابت :
– وصلت البارحة فقط 
– هل هذه ابنتك ؟
– أجل 
– إنها جميلة مثلك ..
تلبَّكت غادة ، فلم يخبرها من قبل أنها جميلة 
– هل ستمكثين هنا طويلاً ؟
– في الواقع أنا عدتُّ بشكلٍ نهائيٍّ إلى هنا ، فقد توفي زوجي
– أنا آسف ، لم أكن أعلم 
– لا عليك .. 
شعرت بأنها لو بقيت واقفةً معه أكثر فإنها ستنهار ، لذلك استأذنت و أكملت طريقها إلى المنزل ..

**

أسرعت غادة بالدخول إلى غرفتها موصدةً الباب خلفها بالمفتاح ، شعرت بالاختناق و برغبة بالصراخ ، و تدفقت الذكريات إلى عقلها مجدداً ..

بحياتنا قرارات حاسمة يتغيَّر معها مصيرنا ، و قد وُضِعَت غادة أمام أحد هذه الخيارات عندما تقدَّم لخطبتها شابٌّ يعيش في أمريكا ، كان ذلك بعد زواج أختها بثلاثة أشهر ، رفضته في البداية لكن أمها طلبت من أمه أن يعطوهم وقتاً طويلاً للتفكير فالمسألة فيها اغتراب و بعدٌ عن الأهل ، و جلست تقنع غادة بمزايا خاطبها لكنها بنفس الوقت قالت أنَّ الخيار متروكٌ لها و لن تضغط عليها ، و يجب أن تفكِّر جيداً قبل إعطاء القرار النهائي .. 

كانت غادة في دوَّامة و صراع مع نفسها ، حبَّها لكمال أنهك روحها ، أحياناً يبدو قريباً منها و على وشك البوح لها بمشاعره و أحياناً أخرى يكون بعيداً كل البعد ، لم تستطع تحديد طبيعة علاقته بها أو ربما لم تكن تريد أن تبصر الحقيقة .. حبها له جعلها تغرق بالأوهام ، الأوهام التي صحت منها في إحدى الأمسيات الصيفية عندما خرجا من المقهى الذي اعتادا اللقاء فيه و أخذا يتمشيان بهدوء في طريق العودة للمنزل ..

توقف كمال فجأة في منتصف الطريق ، قال و هو يرنو إلى السماء :
– هل يوجد ما هو أجمل من تأمُّل القمر في ليليةٍ صيفيةٍ هادئة ؟ 
التفتت إليه مرسلةً نظرةً حائرة .. أتخبره أم لا أنَّ تأمل عينيه ، الإنصات إليه عندما يتكلَّم لهوَ عندها أجمل من مئات الأقمار
– ما بالكِ تطالعيني بهذه النظرة ! ألا توافقيني أنَّ القمر جميلٌ جداً هذه الليلة ؟
– القمر جميل لأنه بعيد ، لو هبطتَ على سطحه لهالتكَ بشاعته و وحشته ، توجد أشياء قريبة ، قريبة جداً و لا ندرك جمالها إلا بعد أن تبتعد و نفتقدها 

أدار وجهه عنها متجاهلاً ما ترمي إليه و عاد إلى تأمُّل القمر ، بينما بقيت حائرة أتخبره أم لا ، و غالبت دمعة توشك على النزول .

أكملا طريقهما لكنه عاد للتوقف و سألها مبتسماً :
– بالمناسبة ، سمعت من أمي أن هناك من تقدَّم لخطبتك ، قالت أنه يعيش في أمريكا
– أجل ، ما رأيك أنت ؟
أجاب ضاحكاً :
– أمريكا بلاد الحرية .. لمَ لا ؟ إن كان الشاب جيداً فأنا أرى أن توافقي ، إنها فرصةٌ لا تعوَّض 
شعرت و هو يتكلَّم أن سكِّيناً غُرِزَت في قلبها ، وقفت تنظر إليه ببلاهة :
– ألا يعني لك شيئاً إن أنا تزوجت و سافرت ؟
– بلى ، سأشعر بالسعادة لأنكِ إنسانةٌ رائعة تستحقِّين كلَّ الخير 
– فقط ؟
– و أنتِ صديقةٌ عزيزةٌ أيضاً .. بالتأكيد سأفتقدك

تجمعت دموعها في مقلتيها و هي تنظر إليه ، لقد كانت مصدومة من ردَّة فعله تجاه خطبتها ، ياه كم شعرت بأنها حمقاء ، كم شعرت بالإهانة .. كم شعرت بالحزن ، عصفت بها مشاعر عديدة و عجزت عن النطق 
– غادة ، هل قلت شيئاً خاطئاً ؟ 
– لا أبداً .. يجب أن أعود بسرعة إلى المنزل اعذرني ، وداعاً 
و ركضت مبتعدةً عنه و بقي وراءها يناديها :
– غادة انتظري ، انتظري ..
لكنها أكملت طريقها دون أن تلتفت إليه ، و في اليوم التالي أعلنت موافقتها على الزواج من ذلك الشاب

تذكرت غادة ذلك اللقاء الأخير بينهما و انفجرت ببكاء أغرق وسادتها 

**

مضى يومان و غادة لا تخرج من غرفتها إلا قليلاً ، و لا تكلِّم أحداً ، حتى ابنتها لونا قالت لجدتها :
– ماما لا تكلمني و لا تلعب معي 

قلقت أمها عليها و اتصلت بحنان ..

كانت غادة جالسةً في سريرها عندما طُرِق باب الغرفة و دخلت حنان تمشي بصعوبة ، نهضت غادة تساعدها و هي تقول :
– لماذا جئتِ و أنتِ متعبةٌ بهذا الشكل ؟
– قدمت من أجلك ، كلمتني أمك و هي قلقة جداً عليكِ ، غادة صارحيني ما بكِ ؟ 
تنهَّدت غادة بعمق و قالت :
– لقد رأيته 
– كمال ؟
– أجل .. صمتت قليلاً ثم أكملت بأسى :
– لم أكن بحاجةٍ لأن أراه حتى أدرك أني مازلت أحبه ، لكن عندما رأيته أيقنت أني لا أستطيع سوى أن أحبه ، حاولت بشتَّى الوسائل أن أنتزعه من قلبي لكن هيهات ، هربت منه إلى الجهة الأخرى من العالم ، تزوَّجت ، أنجبت ، ملأت وقتي بمختلف النشاطات حتى لا أفكِّر به ، لكنَّ القدر سخر مني و أعادني إليه ..
ربما هو قدري و عندما هربت لم أكن أهرب إلا لأصل إليه ، فوا أسفي على عمرٍ مضى عشتُ فيه كذبة أني نسيته 

ظلَّت حنان صامتة و لم تقاطع غادة ، أرادتها أن تُخرِج كل ما بداخلها حتى ترتاح ، فهي أكثر شخصٍ يعلم كم عانت من حبها لكمال و كم كتمت ..

تابعت غادة :
– جبانة أنا جبانة ، لقد اخترت الهروب و استخدمت لذلك رجلٌ لا ذنب له ، عشت سنين معه و أنا أمثِّل عليه بأني أحبه ، عندما توفِّي شعرت بقليلٍ من الراحة و أخجل من نفسي لقول هذا ، لكني ارتحت من القناع الذي كنت أرتديه بحضوره ، اخترت الزواج كوسيلةٍ للهروب و بئس الوسيلة التي اخترتها 

اقتربت من حنان و أخذت تهزُّ كتفيها بعنف :
– لكم أشعر بالندم على اختياري .. قولي لي أتوسَّل إليكِ هل أخطأت ؟ هل لو كنتِ مكاني كنتِ تصرفتِ مثلي .. أخبريني بالله عليكِ فأنا أشعر بالضياع أشعر بالخواء

فتحت حنان فمها لتجيب لكنَّها بدلاً من ذلك أطلقت صرخةً قويَّةً ثم أخذت تقول :
– غادة سأُنجِب ، آه .. اتصلي بـ لؤي حالاً .. آه  

**

أحاط الجميع بحنان بعد أن وضعت طفلاً رائع الجمال ، كانت الأجواء كلها فرحٌ و سرور ، و بينما الكل منشغلٌ مع المولود الجديد همست حنان في أذن غادة :
– لقد طرحتِ عليَّ سؤالاً قبل أن تباغتني آلام الولادة ، سألتني إن أخطأتِ الاختيار أم لا .. أرى أنَّ الأوان قد فات على هذا السؤال و ما مضى لن يعود ، لكني أعتقد بأنه مازال هنالك أمل .. كمال طيلة هذه السنين كلَّما يراني يسألني عنكِ بلهفة ، أعتقد أنكِ تعنين له شيئاً أكثر من الصداقة ..
اقتربت أمهما قائلةً :
– بماذا تتهامسن يا فتيات ؟
قالت غادة ضاحكة :
– لا شيء هامَّاً أمي ، كنت أعرض عليها بعض الأسماء من أجل المولود الجديد ..
ثم ضغطت على يد شقيقتها بإشارةٍ منها أنَّ رسالتها قد وصلت 

**

كان صباحاً غائماً استيقظت فيه غادة و هي بكامل نشاطها ، اتَّجهت نحو النافذة و فتحتها ، لفحتها نسماتٌ باردةٌ تنذر باقتراب الشتاء ، رنت بنظرها نحو النافذة المقابلة فوجدتها مفتوحة لكن الستارة تغطيها ، مازالت لها تلك الستارة الزرقاء نفسها لم تتغير ، ابتسمت بحنان و اتَّجهت نحو الباب لتخرج لكنها شعرت بقليل من البرد جعلها تعود أدراجها و تُخرِج من الخزانة شالاً صوفياً خفيفاً وضعته على كتفيها ثم انضمَّت إلى أمها في المطبخ الذي كان يصدح فيه صوت “فيروز” و هي تغني :

أنا لحبيبي و حبيبي ألي
يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي
و لا يعتب حدا و لا يزعل حدا 
أنا لحبيبي و حبيبي ألي

فأصبحت تغني معها و تدور ، نظرت والدتها نحوها بابتسامةٍ يشوبها الاستغراب ، فاقتربت من أمها و حوَّطتها بذراعيها قائلةً :
– أنا سعيدة أمي ، أشعر أن هذا اليوم مميَّز  

انضمَّ إليهما والدها و كان صباحاً رائعاً استمتعت غادة بكل لحظةٍ فيه ..

**

اتجهت مساءً نحو ذلك المقهى و هي تدعو الله أن يكون كمال موجودٌ فيه .. كانت قد وقفت مطوَّلاً أمام المرآة و هي تسأل نفسها ماذا سترتدي ؟ و بالنهاية قرًّرت أن تخلع الأسود فقد سئمت التمثيل على نفسها و على الجميع .

دخلت المقهى و أصبحت تبحث بعينيها عنه ، و كم كانت سعادتها عندما رأته جالساً يعبث بقطع السكر الموضوعةِ أمامه بجانب فنجان القهوة .. اقتربت منه بهدوء و قالت :
– أتسمح لي بالجلوس ؟
رفع رأسه إليها و لمحت السعادة في عينيه لرؤيتها ، قال :
– بالطبع ، تفضلي 
قالت بعد فترة صمت لا بأس بها دامت بينهما :
– لم أكن واثقة بأني سأراك هنا ، أقصد ست سنين كافية بأن تغيِّر من عادات المرء 
– لم أعد آتي كثيراً إلى هنا ، لكني قدمت من أجلك 
– و هل كنتَ واثقاً بأني سآتي ؟
– كنت أتمنى ذلك 
– و لو لم آتِ ؟
– كنت انتظرت مجيئكِ غداً 
– لكنك قلتَ لي يوماً أنَّ مثلك لا ينتظر أحداً 
– و قلتِ أنتِ قبل قليل أنَّ ست سنين كافية بأن تغيِّر المرء

عاد الصمت ليفرض نفسه عليهما ، لكن كمال قطعه عندما قال :
– غادة ، في آخر لقاءٍ تم بيننا قسوت عليكِ كثيراً ، كنت على علمٍ بما تُكنِّينه لي من مشاعر ، آلمني أن تتعلَّقي بي فمن يتعلق بي كمن يتعلَّق بسراب .. أردتكِ أن تستيقظي من غفلتك و تنتبهي لمستقبلك لذا أبديت فرحي بخطبتك ، و أفهمتكِ بأنني أعتبرك صديقةً لا أكثر .. أشفقت عليكِ و على شبابك من التعلق برجلٍ يسير نحو خريف العمر ، رجلٌ لا يؤمن بالحب و لا يحب حديث المشاعر ، رجلٌ يعتزُّ بعزلته ..

لكن بعد أن غادرتِ استفقدتك بشدة ، أنا الذي لم أتعلَّق بأحدٍ صدِّقي ، وجدت نفسي قد تعلَّقت بك دون أن أشعر ، و أصبحت بعد رحيلك أتأمَّل نافذة غرفتك و أتخيَّلك تطلِّين منها ، اكتشفت بعد أن رحلتِ بأن لي قلباً قادراً على الحب .. لو تعرفين كم لمتُ نفسي على جعلكِ تضيعين من بين يدي ، كنتُ أظن بأني محصَّنٌ ضدَّ الحب ، وثقت من ذلك حد اليقين ، و جئت أنتِ و اقتحمت حياتي و عزلتي و حطَّمتِ أسوار قلبي .. غادة أنا أحبكِ ، أحبك بجنون

كانت غادة تنصت إلى كلامه و دموعها تنهمر من عينيها بصمت ، قالت له :
– هل كنتُ بحاجة لأبتعدَ و أتزوَّج رجلاً لا أحبه و أقاسي مرارة الفراق حتى أسمع منك كلمة أحبك ؟ لماذا كمال لماذا الآن ، لماذا ؟ 
– لأني كنت أحمق ، كنت مغترَّاً بنفسي و بصلابتي و بمقدرتي على المضيِّ وحيداً في هذه الحياة ، غادة أنتِ جعلتني أختبر مشاعر لم أختبرها من قبل ، جعلتني أرى الحياة بألوان بعد أن كنت أراها رمادية .. حاولت قتل مشاعري تجاهكِ خصوصاً و أنتِ مرتبطةٌ برجلٍ آخر ، لكن اتَّضح لي أنَّكِ قدري و المرء لا يستطيع الفرار من قدره .. 

مدَّ يده و أمسك بيدها فسرى دفءٌ في قلبها ألهب مشاعرها ، لكم تمنت في السابق أن تحضن يدها يديه ، لكم عاشت هذه اللحظة في خيالها .. 
قال لها :
– غادة هل تسامحيني ؟
أجابت بهمس :
– لم أحقد عليك حتى أسامحك .. ثم أكملت بخجل .. يا حبيبي
– ما رأيكِ أن نسير في الخارج ؟ أعتقد بأنَّ الجوَّ مناسبٌ للمشي

خرجا من المقهى و سارا جنباً إلى جنب ، كان لديهما الكثير ليقولانه لكنَّهما بقيا صامتين و مكتفيين بوجودهما معاً .. أمامهما ليالي الشتاء الطويلة ليبثَّا أشواقهما و لوعتهما و ليعوِّضا سنين الحرمان ..
هبَّت رياحٌ حملت معها أنغام أغنيةٍ صادرةٍ من مكانٍ ما و أطارت وشاح غادة بعيداً لكنها لم تهتم ، طالما كمال إلى جانبها فإنها لم تعد تبالي بشيء و لن تخشى شيء ..

لقد ابتسمت لها الحياة أخيراً و منحتها فرصـة أخـرى للسـعادة .

 

تاريخ النشر : 2017-10-10

نوار

سوريا
guest
52 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى