أدب الرعب والعام

صراع العروش .. الجزء الأول

بقلم : Samer Salah – here

أرى أن الماء يحيط بك من كل جانب، من الماء خرجت و إليه ستعودين

عادت "نرمين" تجر قدميها جراً من حفل زفاف حبيبها الخائن، لقد أصرت على الذهاب رغم نصائح صديقاتها و
وجع قلبها لأنها لم تكن تصدق ما تسمعه عن خبر خيانته لها و من ثم خطبته و لا زواجه بعد ذلك .
كانت تثق فيه و لكنه خذلها و رماها كورقة بالية.. دخلت إلى الحمام، ملأت المغطس و عقدت عزمها بأن تنهي حياتها البائسة، فلا وجود لـ"نرمين" بلا "سائد" و لا وجود لقلبها بلا حبه لها…

كان هاتفها يرن دون توقف، لقد كانت صديقتها "جميلة" قلقة جداً ، فهي تعرف جنون "نرمين" و حبها "لسائد" و كم تأثرت عندما علمت بأنه وجد فتاة غيرها و هجرها إلى الأبد.
عندما لم تجب "نرمين" أسرعت صديقتها "جميلة" إلى شقتها طرقت الباب طويلاً ثم قررت استخدام المفتاح الاحتياطي الذين لا يعلم بأمره سواها و "نرمين" و "سائد".. دخلت على عجل و بدأت تبحث عن "نرمين" في أرجاء المنزل، فقد وجدت هاتفها و عرفت بأنها عادت من الخارج ، و لكنها لم تجدها في أي مكان، سمعت خرير المياه في الحمام، انتابها قلق عارم هل تراها قد… و دفعت باب الحمام بعنف، لتجد المغطس مليئاً بالماء و لكن لا أثر "لنرمين" فيه !

في الحقيقة، فإن "نرمين" نوت جدياً على إنهاء حياتها و غاصت في المغطس و بدأت تفقد وعيها رويداً و كل ما تفكر فيه كان "ملعون سائد و ملعون حبه"..
فتحت "نرمين" عينيها و شهقت و كأنها بعثت بعثاً جديداً ، لتجد نفسها في المغطس و لكن لم يكن مغطس بيتها، بل مغطساً غريب التصميم، يتوسط غرفة كبيرة يغطي أرضيتها بلاط فاخر لامع.. أصيبت "نرمين" بالذهول، فقد كانت ترتدي ثوباً غيباً طويلاً و مزركشاً ، و تحسست على رأسها قبعة غريبة يتدلى منها قماش حريري يحيط جيدها.
قبل أن تفهم "نرمين" ما يحدث، سمعت صوتاً قاسياً :
ـ زين ماذا تفعلين في مغطس الأمير؟؟
نهضت "نرمين"، و بدأت تجفف ثوبها و وقفت أمامها سيده عجوز تقرّعها:
ـ أسرعي أيتها البلهاء الكسولة، فسموه في الطريق و تعرفين كم يكره أن ينتظر حمامه ليجهز.
ـ هل تتحدثين معي يا سيدتي؟
ـ و هل هناك غيرنا أنا و أنت هنا أيتها الرعناء، ستحرمين من العشاء بسبب إهمالك.
فتحت الأبواب فجأة و صرخ أحد الحراس :
ـ سمو الأمير "القاهر" في الجناح الأميري!!

قفزت "نرمين" خارج المغطس، و دخل موكب عظيم يتقدمه رجل شاب ذو ثياب فاخرة مزركشة و تاج ألماسي صغير، يعلق سيفاً عظيماً في حزامه الجلدي، وقف أمام "نرمين" و العجوز، فسحبت العجوز الفتاة و انحنتا للرجل:
ـ ماذا تفعلان هنا؟
ـ نحن كنا بصدد إعداد حمام سموك أيها الأمير، قالت العجوز بصوت مرتعش.. ثم أعادت الانحناء بخوف.
ـ ألا تعرفان بأن عليكما المغدرة قبل حضوري ؟.. أم أظنكما قد نسيتما، ربما بعض الجلدات قد تذكركما..
عندها دفعت العجوز "نرمين" المذهولة و ارتمت بجانبها على الأرض تطلب السماح و الغفران، فيما كانت "نرمين" تسترق النظر إلى الأمير .
ـ ارحلا قبل أن أضرب عنقكما، صرخ الأمير في وجه المرأتين اللتان انسحبتا مسرعتين إلى خارج الجناح الأميري.

ـ هل جننت أيتها الوقحة، تنامين في مغطس الأمير؟ لو علم بأمرك لسفك دماءك و دمائي، و لا تكتفين بذلك بل تقفين في وجهه و تنظرين في عينيه.. تظنين نفسك فرداً من العائلة الملكية؟ صرخت العجوز ما إن تجاوزا باب الجناح و رفعت يدها مهددة بضرب "نرمين".
ـ هل هذه مزحة يا سيدتي؟ تمتمت "نرمين" مندهشة، ما هذا المكان؟ و ما هذه الثياب و هؤلاء الأشخاص الغريبين؟!!! كل ما أذكره أنني كنت في مغطس الحمام، هل هذا من تدبير "جميلة"؟
ـ أسرعي إلى جناح سمو الأميرة "نوران" و أنهي عملك و كفي عن التجول كالكلاب الضالة بلا هدف
ـ جناح الأميرة؟ عملي؟.. هل هذه مزحة؟ ما الذي يحدث هنا؟
ـ هل جننت يا فتاة ، هل اعتدت ممازحتك أيتها الحمقاء !

هجمت العجوز على "نرمين" تبتغي صفعها، عندما تراجعت و إنحنت بسرعة قائلة : "سمو الأميرة".
التفتت "نرمين" لترى فتاة ترفل في ثوب حريري تحيط خصرها بسلسال ذهبي و ترتدي خماراً أبيضاً شفافاً يغطي النصف السفلي من وجهها كاشفا عينين كحيلتين جميلتين.
ـ ما الذي يحدث هنا يا "أم الحُسن"؟
ـ لا شيء مهم يا مولاتي، كنت أؤدب هذه الخادمة الغبية لتأخرها في الرجوع إلى جناحك مولاتي.
ـ خادمة؟ .. أنا لست خادمة، ما الذي تهذي به هذه العجوز الشمطاء؟!!، تمتمت "نرمين" و هي تلتف حوولها علها تفهم ما يحدث
ـ أسرعا إلى عملكما و كفا عن إضاعة الوقت في الألعاب الطفولية
ـ أمرك يا مولاتي

و إنحنت المرأتان للأميرة و هي تغادر الرواق ، دفعت العجوز "نرمين" أمامها و قالت :
ـ أسرعي أيتها الحمقاء، كدت تتسببين في قطع رقبتينا بوقاحتك، لا أعلم ما الذي أصابك اليوم؟ هل جننت؟

** * **

في جناح الأميرة "نوران"، جلست "نرمين" رفقة عدد من الفتيات اللاتي يشاركنها نفس تصميم الملابس و الخمار، و كأنهن عناصر في فرقة فلكلورية، يحكن بعض الملابس، شعرت "نرمين" بالاضطراب و الحنق، فهي لم تفهم ما يحدث حولها، و لذلك نهضت و اتجهت نحو باب الجناح صارخة:
ـ لن أتحمل المزيد من هذا المزاح الثقيل أو هذا الكابوس المزعج أو أي كانت ماهيته.. سأخرج من هنا فوراً .

أسرعت نحوها فتاة و حاولت إثنائها على المغادرة :
ـ ما الذي تهذين به، هل جننت يا "زين"
ـ لا أدعى "زين" يا هذه ، و فتحت الباب و أسرعت تشق الرواق باتجاه الباب الخارجي و لكن الحراس لحقوا بها و أوقفوها مشهرين سيوفهم :
ـ إلى أين تنوين الذهاب؟ هل معك تصريح؟؟
ـ تصريح؟؟ ما هذا الجنون !
أثارت كلمات "نرمين" حنق الحراس فحاصروها و لكن رفيقتها سحبتها من ذراعيها:
ـ إنها تهذي ، تعاني من الحمى منذ أيام، نحن آسفتان.. ثم همست في أذن "نرمين" و هي ترافقها بعيداً :
ـ هل جننت يا "زين"، تريدين الخروج من القصر دون إذن من سموه، هل تريد الموت؟
ـ يا إلهي، ما هذا الكابوس، قلت لك بأني لا أدعى "زين" .. إسمي "نرمين" و لست خادمة
ـ يبدو أنك تعانين من الحمى حقاً .

وضعت الفتاة يدها على رأس "نرمين"، و لكنها أبعدت يدها :
ـ ما هذ المكان و من أنت و من "زين" هذه؟
ـ يا إلهي أأنت بخير؟، أنت "زين" إحدى مرافقات الأميرة "نوران" و أنا صديقتك "حسناء" و هذا قصر الملك "جوهر"، ربما عليك الخلود للراحة، فبعد عودتك من جناح " الولاس" و أنت تتصرفين بغرابة
ـ الولاس؟؟
ـ الأمير "القاهر"، ولي العهد الثاني!.. "ذئب القصر الملكي"، ما بك يا "زين"؟ دعيني أوصلك إلى جناحنا لترتاحي قليلاً ، لقد تعبت اليوم و لعل ذلك السبب فيما يقع معك.

رافقت "حسناء" ، "نرمين" إلى القسم الشرقي من القصر، حيث يقع جناح الخدم الذي تشرف عليه "أم الحُسن". جلست "نرمين" في فراشها تفكر فيما يقع معها، كيف وصلت إلى هذا المكان، و كيف ستخرج منه؟

** * **

حل المساء، عندما أفاقت "نرمين" من غفوتها، و عادت الفتيات إلى جناحهن تتقدمهن "أم الحسن"، أقبلت "حسناء" و في يدها طبق صغير فيه بعض الخبز، و صحن حساء، قدمته لـ"نرمين":
ـ تفضلي يا عزيزتي، تناولي العشاء فأنت لم تأكلي شيئاً اليوم.
تناولت "نرمين" بعض الطعام و استغلت فرصة تواجد "حسناء" لتفهم ما يحدث حولها :
ـ في أي يوم نحن الآن يا "حسناء"؟
ـ إنه الخميس السادس من الشهر الثامن
ـ من سنة ؟؟
ـ من السنة السابعة و العشرين من حكم الملك السابع "جوهر الملوك".

تذكرت "نرمين" بأنها قد قرأت في مادة التاريخ في فترة ما من دراستها عن ملك يدعى "جوهر الملوك"، و لكنها لا تذكر التفاصيل.
ـ و الملكة؟؟
ـ ملكة!! هل نسيت بأن لنا ثلاث ملكات، الملكة "ياقوت" أولى زوجات الملك "جوهر" لم يسعفها القدر لتنجب له، فتزوج بعدها الملكة "صبح" التي منحته الأمير "الحسام" و الأميرتين "نوران" و "نهوند"، ثم جاءت الملكة "مريان" الأجنبية التي تزوجها في صفقته مع والدها الملك "بران" من أجل إحلال السلام بين مملكتيهما، و هي والدة الأمير "القاهر" و الأميرات "ندى الصبح" و "ربى الجمال" و "الأوركيدا" ..

بدأت "نرمين" تتبين ما يحدث معها، لقد انتقلت بالزمن لسبب تجهله لتجد نفسها، فرداً من البلاط الملكي في عصر الملك "جوهر الملوك" الذي حكم البلاد قبل قرون طويلة ، لقد سمعت عنه في دروس التاريخ و في الأفلام و المسلسلات التاريخية التي تناولت عصره الذهبي ، و لكنها تذكرت بأنها لا تعرف من تكون هي بالذات في هذا العصر:
ـ أنا أدعى "زين"؟..
ـ بلى أنت "زين"، قريب من الدرجة الثالثة للسيدة "بيلسان" زوجة الأمير "الحسام" و لقد ضمتك لطاقم مرافقات الأميرة "نوران" شقيقة زوجها الكبرى، بعد وفاة والديك.
ـ و لكن ألست من النبلاء إذاً ؟؟ لماذا أعمل خادمة في القصر ؟؟؟

تغيرت ملامح "حسناء" و أسرعت بلملمة الطبق و بقايا الطعام، و تهربت من الإجابة:
ـ إنه قدرك ، البعض منا نبلاء و البعض الاخر خدم.. هيا اخلدي إلى النوم فغداً لديك عمل متعب في جناح الأميرين.
ـ الأميرين؟
ـ الأميرة "نوران" و الأمير " القاهر"
ـ و لكن ألست مرافقة للأميرة "نوران"؟؟ لماذا أعمل في جناح الأمير "القاهر"؟
ـ الخادمة المسؤولة على جناحه قد توفيت منذ أيام قليلة.. هيا أخلدي إلى النوم فأمامنا غدا يوم طويل و متعب كما أني مرهقة ، فبعكسي قضيت اليوم بأكمله أحيك ملابس الأميرة .

تمددت "نرمين" في فراشها، و قد زاد تردد "حسناء" في الإجابة على أسئلتها حيرتها ، و لكنها تأكدت الآن من مخاوفها، لقد بعثت في زمن آخر غير زمانها و لكن كيف لم يكتشف الموجدون بأنها ليست "زين" تلك !
نهضت "نرمين" و بدأت تدور حولها :
ـ "زين" ماذ تفعلين؟
ـ ألست لديكم مرايا هنا؟
أغرقت "حسناء" في الضحك: مرايا؟ و هل نحن ملكات أم أميرات لنملك مرايا و مساحيق للزينة، نحن خادمات يا عزيزتي، نغسل وجوهنا مرة واحدة في اليوم، و نجففها بخرق بالية، و نقضي النهار في الحياكة و الترتيب و العناية بالأميرات و بناتهن ، عودي إلى النوم و احذري أن تنتبه "أم الحسن" إلى ما يحدث معك ، و إلا ستحبسك أو تجلدك و هي بارعة في ذلك كما تعلمين.

عادت "نرمين" إلى فراشها و هي متأكدة بأن في الأمر سر عليها كشفه، و لكن الأهم عليها معرفة كيف تعود إلى عصرها قبل أن يعرف أحد ما سرها الخطير. و أخذت تسترجع معلوماتها التاريخية عن عصر مملكة "جوهر الملوك"و ما تعرفه عن سلالته.

اعتصرت دماغها و كل ما تذكره أن مدرس التاريخ قد أخبرهم أن الملك "جوهر الملوك" قد ورث الحكم عن والده، و حكم سنوات طويلة ارتقى فيها بالمملكة و احتل أراض كثيرة و جعلها أقوى ممالك الشرق السبعة ، و لكنها شعرت بأنها قد نسيت أمراً مهما و لكنها لا تعلم ما هو بالتحديد .

** * **

نهضت "نرمين" فجراً ، بعد ليلة مضطربة لم تذق فيها النوم و جهزت نفسها على عجل، و أسرعت رفقة الفتيات كل اتجهت إلى عملها، و لكن "نرمين" كانت تبحث عن حل للغزها الغامض.. في أثناء، تنقلها في القصر، لمحت نافورة ماء تتوسط ساحته، فسارعت نحوها و انحنت على صفحة الماء علها تلمح انعكاس وجهها فيه، و سرعان ما تراجعت 
ـ من هذه ، هذا ليس وجهي و لا تلك ملامحي.. ألهذا السبب لم يكتشف الموجودون سري؟ تمتمت "نيرمين"

فجأة فاجأها صوت رجالي فخم :
ـ ما الذي تفعلينه هنا ؟
أرعبها الصوت المفاجئ فسقطت في بركة الماء ، كان الرجل صاحب الصوت، طويلاً ذو لحية خفيفة، و وجه وسيم، يبدو من ملابسه بأنه أحد النبلاء ، مد يده إلى "نرمين" :
ـ أسرعي و أخرجي من الماء البارد قبل أن تصابي بالمرض.
و سحبها بسرعة، و وقف قريباً منها مبتسماً و هي تجف ملابسها .

و سرعان ما تبادرت إلى سمعهما أصوات أسلحة ، لقد كان موكب الأمير "القاهر" متجها نحوها حثيثاً و ما إن اقتربا حتى إنحنى الأمير القادم أمام صاحب الصوت الغامض، فأجابه بانحناءةصغيرة :
ـ عمت صباحاً أيها الأمير
ـ أمير ؟!! تمتمت "نرمين"
واصل القاهر كلامه و على وجهه ابتسامة هازئة:
ـ يا لرقة قلب ولي العهد، يساعد خادمة في تجفيف ملابسها المبتلة
ـ ما دمت السبب فيما حصل معها يجب علي مساعدتها، فالمسؤولية هي ما تفرق الحاكم و الملك.. فالحاكم يستمد شرعيته كما تعلم يا "قاهر" من حكمته لإضافة إلى حقه الوراثي أما الملك فلا حجة له سوى حق الوراثة الذي لا أظنك تجهل أنه لا يجعل الملك عظيماً 

ابتسم القاهر :
ـ ستكون ملكاً عظيماً يا أخي ما في ذلك شك.

عرف الأمير "الحسام" بأن "القاهر" قد تعمد استخدام كلمة "ملك" لإرسال رسالة في نفسه لا تخفى عن المتواجدين. "فالقاهر" شاب طموح، لا يوقفه شيء مهما كان، و رغم كونه ولي العهد الثاني بعد أخيه "الحسام" إلا أنه يبدو بأنه لا يملك الصبر لانتظار دوره، و هو ما يعرفه "الحسام" منذ سنين.

ـ أشكر حسن ظنك يا أخي الصغير، و لكني لا أنوي أن أكون ملكاً بل حاكماً يبني مجداً عظيماً كمجد والدي و قبل والده.

أصاب الحنق الأمير "القاهر" و لكنه عجز عن التعبير عنه، فمهما بلغت عداوته لأخيه لا يمكنه الجهر بذلك خاصة في حضور الخدم و الحراس ، فصب غضبه على "نرمين":
ـ ما الذي تفعلينه خارج الجناح الأميري، هل تظنين نفسك في نزهة.. ارحلي و إلا جعلت "أم الحسن" تجلدك في الساحة أمام أعين بقيةالخدم علك تكونين عبرة لهم.
إنسحبت "نرمين" من الساحةو هي تتمتم :
ـ علي الرحيل من هنا من يظن هذا الأمير نفسه .. كيف يعيش هؤلاء الناس حياتهم تحت حكم هكذا ملوك لا يعرفون سوى ضرب الأعناق و الجلد .

** * **

كانت "نرمين" منهمكة في ترتيب جناح الأميرة "نوران"، عندما أقبلت عليها "أم الحسن"
ـ "زين" سترافقين سمو الأميرة إلى جناح السيدة "بيلسان" و اصطحبي معك "حسناء".

قصدت الأميرة جناح زوجة شقيقها و جلستا تتبادلان الحديث فيما وقفت المرافقات تخدمنهن بانضباط، كانت "حسناء" تقدم الشاي، و لكنها لسوء حظها تعثرت في غطاء المائدة فسكبت الشاي على السيدة "بيلسان" دون قصد ، لتستشيط هذه الأخيرة غضباً و تصفع الخادمة فتطرحها أرضاً ، و لكن ذلك لم يكفها، فالسيدة معروفة بقسوتها فنادت الحراس:
ـ خذوها و اجلدوها خمسين جلدة في الساحة.

سحب الحراس "حسناء" بينما واصلت "نوران" شرب فنجانها و كأن لا شيء يحدث. 
أثارت سلبيةالأميرة حنق "نرمين" فأسرعت و وقفت بين الحراس و "حسناء":
ـ لقد كان الأمر حادثاً لا غير ، فهي لم تقصد سكب الشاي على سموك.
عندها انتفضت الأميرة "نوران":
ـ كيف تجرؤين على منادتها باللقب الأميري، هل جننت أيتها الخادمة؟ ستجلدين معها حتى تتعلمين إحترام أفراد العائلة الملكية.

كثر اللغط في الجناح، مما جعل الأمير "الحسام" يتوقف عن قراء الكتاب بين يديه و يتجه إلى جناح زوجته "بيلسان"، صرخ الحراس :
ـ ولي العهد الأمير "الحسام" في الجناح الأميري
ـ ما الذي يقع هنا ؟ ما سبب هذ اللغط في الجناح؟
توقف الجميع عما يفعلونه، أمر الأمير الحراس بالانسحاب من الجناح ريثما يفهم ما يحدث.
ـ هذه الخادمة الوضيعة تطاولت على سمو الأميرة "نوران" و علي يا سمو الأمير، قالت "بيلسان" تبرر ما يحدث
و لكن "نيرمين" التي تجهل ما يحدث في القصور، لم تتردد:
ـ لقد كنت أدافع عن "حسناء"، كيف تجلد لأنها أوقعت بعض قطرات من الشاي على السيدة دون قصد منها
تعجب الأمير من جسارة الفتاة، و من شجاعتها في الدفاع عن صديقتها و كلامها بتلك الطريقة في حضوره و حضور أخته.

تعجبت "بيلسان" من صبر الأمير على "نيرمين" و قالت بحنق:
ـ كيف تجرؤين على الحديث في حضور سمو الأمير، و على النظر في وجه سموه بهذه الصفاقة.. يجب ضرب عنقها لتكون عبرة لغيرها.
ـ كنت أدافع عن نفسي سموك، أليس العدل أن يطرح الطرفان وجهة نظرهما حتى يحكم القاضي بينهما؟
ـ كيف تجرئين؟
أشار الأمير إلى زوجته فصمتت، بينما قال :
ـ العدل يقتضي المساواة و لكن الأخلاق تقتضي الاعتذار عندما يجترح المرء خطأ، و من علمك العدل ألم يعلمك الأخلاق؟ العدل دون أخلاق يتحول إلى وقاحة… الآن ارحلا و لكن تذكرا بأنه في المرةالقادمة لن يغفرا خطؤكما.

خرجت "نرمين" برفقة"حسناء" و هما لا تصدقان بأنهما قد نجيا من سيف الجلاد.
بينما قال "الحسام" لزوجته و شقيقته:
ـ إن أكبر هفوات الإنسان أن يخلق أعداء ممن يحتاج إليهم،. أتريدان أن تحيطا نفسكما بأعداء يتربصون بكما، أم بخدم أوفياء مستعدون للتضحية بحياتهم من أجلكما.
ـ إنهما خادمتان
ـ الخادمتان هما من تطبخان طعامكما، و ترتبان أجنحتكما، و من تغسلان ثيابكما و تساعدنكما في التجمل، فكرا كم ستكون لديهما من فرصة لقتلكما إن أرادتا ذلك!

هزت الأميرة "نوران" رأسها موافقة على كلام شقيقها :
ـ معك حق يا أخي، كيف لم نفكر في ذلك ! تحكمي في غضبك يا "بيلسان" و لا تمنحي أعداء أخي ولي العهد و والدتي الملكة، من الطامعين في الحكم الفرصة ليحققوا ما يسعون إليه. إن اخترق الأعداء أجنحتنا بجواسيسهم فسنسقط بالتأكيد مهما طال الزمن و مهما قاومنا.
ـ أحسنت يا "نوران" و الآن عليك أن تكسبي خادمتيك إلى صفك مجدداً .. أما أنت يا "بيلسان" فتوقفي عن سلوكك المتهور إن كنت تريدين أن تصبحي ملكة في يوم ما .

** * **

شعرت "حسناء" بالامتنان نحو "نرمين" لدفاعها عنها في ذلك الموقف العصيب، فأرادت شكرها و طلبت إذناً بأن ترافقها إلى المدينة لشراء بعض الحاجيات.

ـ "زين" لقد أنقذت حياتي اليوم، و سأظل مدينة لك طول العمر ، و لذلك سأعرفك اليوم على خطيبي
ـ لديك خطيب
ـ بلى، هل تظنين بأني سأقضي حياتي أعمل خادمة في القصر الملكي؟ سأتزوج و أنجب و أنجو برقبتي من القصر الملعون ذاك.
ـ و لماذا تصفينه بالملعون ؟
ـ يا عزيزتي كل القصور الملكية محكومة بلعنة الصراع على العرش و الدسائس و المؤمرات، الملكات الثلاث تتصارعن على قلب الملك "جوهر"، و أبناؤه ذكوراً و إناثاً يتصارعون على عرشه و من يرثه من بعده و البلاط و الحاشية يتصارعون على فرض سيطرتهم على الأمراء و الأميرات.
ـ و لكن أليس ترتيب ورثة العرش محدد من البداية ؟
ـ و منذ متى كان الطمع و الحسد يخضع لقوانين أو قواعد، لا تنسي يا "زين" بأن ولاة العهد الأمراء "الحسام" و "القاهر" ليسا شقيقين بل إخوة من الأب و كل منهما يريد أن يرث العرش و ينقله إلى نسله من بعده، و لكل أمير حزبه من البلاط و الحاشية و الجيش و النبلاء، و حتى من الممالك الأخرى.. لا أريد التفكير فيما قد يحصل بعد وفاة الملك "جوهر".

بدأت "نرمين" تتذكر بعضاً من تاريخ أسرة "جوهر" الذي قرأت عنه بعض الكتب أثناء سنين دراستها، و بينما هي تسير رفقة "حسناء" بين المحال شاردة الذهن، قفزت أمامهما فجأة إمرأة متشحة بالسواد، تزين وجهها بوشوم غريبة، و ترتدي سلاسل طويلة و خيوط ملونة و خواتم فضية ذات أحجار كبيرة. أخذت تتأمل "نرمين" بإهتمام:
ـ لقد جذبت اهتمامي منذ وطأت قدمك السوق، تحيطك هالة غريبة لم أرها من قبل.. لستِ من هنا لقد أتيت من مكان بعيد، بعيد جداً .. سحبت المرأة يد "نرمين":
ـ أرى أن الماء يحيط بك من كل جانب، من الماء خرجت و إليه ستعودين ، عودي قبل أن يفوت الأوان .. ارحلي ؛
و رفعت المرأةرأسها و يديها :
ـ أرى الغربان تحلق في السماء، الخراب إنه الخراب ما يسعى بك إلينا.. ارحلي، ارحلي.

سحبت "حسناء" صديقتها و قالت :
ـ لا نريد قراءة الطالع ارحلي أيتها المجنونة، لا تقلقي يا "زين" إنها محتالة تدعي معرفة المستقبل ..

يتبـــع

 

تاريخ النشر : 2017-11-22

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى