أدب الرعب والعام

الشك

بقلم : منار عبدالهادي – العراق
للتواصل : [email protected]

الشك
طبع قبلة في جبين ولده الذي ما زال مرتمياً في أحضان النوم

في الساعة الحادية عشرة من مساء الأثنين وبعد أن عاد من حفل أُقيم في ساحة الاحتفالات في بغداد بمناسبة أنتهاء حرب الثمان السنوات , لم يجد محمد سعيد زوجته وأبنه في الشقة التي أستأجرها في شارع حيفا , فينتفض البدوي الذي بداخله وتتعالى أصوات الغيرة لديه ، لم تكن تلك المرة الأولى التي يتفاجأ بها محمد بخلو الشقة من زوجته ، لكنها المرة الأولى التي يشعر فيها بقلق حيال ذلك , خصوصاً أن هذه هي المرة الاولى التي تخرج فيها نوال في هذه الساعة المتأخرة دون أن يعلم بخروجها , كما لم تخبره بذلك حينما كان يروم الخروج من الشقة بعد أن تناول وجبة الغداء مع عائلته المكونة من زوجته وأبنه الوحيد عماد , بل وفوق ذلك أخبرته حين عرض عليها الخروج للتنزه بأنها متعبة ولا ترغب بالخروج أبدا

يشعر محمد بتوتر شديد ينهي كل ما تبقى من لحظات الرقص والشراب التي عاش نشوتها لتوه مع بعض الرفاق , يدور في الشقة وهو يضرب راحة يده بقبضة يده الأخرى مغمغماً ببعض الكلمات الغير مفهومة , يتصاعد الأدرينالين ليطغى على تأثير الجعة التي تلافى الإكثار منها كي لا يصل إلى حد الثمالة إلا أن تأثيرها كان بادياً عليه بوضوح ، ينظر إلى الباب لعلها تدخل عليه فجأة , يبحث في الصالة عسى أن يجد شيء يبين له ما حصل ، لكن دون جدوى

 يفكر بالاتصال بالشرطة من خلال الهاتف العمومي , لكنه يقرر التريث إلى الصباح ، فأن لم تعد فلا مناص من أخبار الشرطة , لم يسأل الجيران , فقد يكونوا لا يعرفون شيئاً حول الأمر , ثم أن الساعة متأخرة ولم تكن لديه رغبه بإعلام الجيران , فهو لا يريد أن يضع نفسه في صورة الرجل الذي لا يعلم بخروج زوجته , خصوصاً أن هذا الأمر وأن حصل فستترتب عليه سمعة سيئة لا يحبذها , ستكثر الأقاويل وتتألف القصص لتؤخذ الأمور بشكل خاطئ ..

يرد على باله أن زوجته قد خانته , لكن سرعان ما يفند تلك الفكرة بعد أن يتذكر بأن أبنه غائب أيضاً , وقد يكون معها في أقرب الاحتمالات كونه لم يعتد هو الأخر أن يبقى خارج الشقة إلى تلك الساعة ، يزداد توتره كلما تأخر الوقت أكثر , يجلس على كرسي أمام نافذة مطلة على الشارع لعله يلمح شيء ما فيه ، كان يدخن بشراهة فقد أكمل علبة سجائر خلال ساعتين ، لم يكن يرغب بالخروج والبحث عن عائلته لأنه كان متعباً الى درجة بالغة , ثم أنه لا يعرف إلى أين يذهب ليبحث عنهم ، وهو على كرسيه يغلبه النعاس ويغفو في الساعة الواحدة والنصف

 وبينما هو يغط في نومه  تسقط سيجارته من بين أصابع يده فتحرق جذوتها المتقدة بنطاله الذي أشتراه مؤخراً ولم يرتديه قط ، لم يشعر بالذكوة التي خبت على قدمه وسقطت جراء هبوب نسمة هواء باردة بالمقارنة مع طقس أغسطس اللاهب , إلا أن ضجة أحدثها دخول شخصاً ما وهو يدلف باب الشقة جعلته ينتفض كالعصفورٍ بللّهُ القطْر ، كانت زوجته نوال ومعها عماد أبنه . ، نظر اليهما بشزر وصاح بصوت أجش :

– أين كنتما ؟

أجابت نوال وهي تكاد تسقط على الأرض من شدة التعب بأنها أخذت عماد لتعمل له غسيل معدة في مستشفى الكرخ بعد تسممه بطبق بقلاء مسلوقة أعدتها على العشاء ، هدأ محمد قليلا ثم جلس على كرسيه من جديد ؛ قال بصوت هادئ وبوضع أكثر أتزان :

– وكيف حالته الأن ؟

– أنه بصحة أفضل ، لقد نصحني بعض الأطباء المقيمين هناك بأن علي أن أبقى في المستشفى إلى صباح الغد كي يرتاح أكثر ، لكني لم أستطع ذلك ، فأنت لا تعلم شيئاً بالأمر.

– أه يا نوال , لو تدرين أين ذهب تفكيري !.

قالها ساخراً .

– أعرف ، أنت لا تتجرد من وسواس الشك الذي يسيطر عليك ، هل نسيت بأنك كدت تقتلنا في ذلك اليوم حين اعتقدت بأن رجل غريب ينام إلى جنبي !؟

ترافق نوال ولدها الكليل إلى فراشه وتخبره : بأنه لا يجب عليه الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي ، وأن عليه البقاء في فراشه لفترة كافية للراحة ، تتجه إلى مخدعها وتستبدل ملابسها متثاقلة بملابس النوم ، كانت منهكة خائرة القوى , فهي لم تنم منذ الساعة الخامسة من صباح الاثنين ناهيك عن الاحداث التي رافقت ذلك اليوم ، تقوم بتشغيل جهاز التكييف و اتجهت نحو السرير ، تدلق كوباً من الماء من تأمورة موضوعة على منضدة بجوار السرير لم تستبدل ماءها منذ اليوم الفائت , تتناول حبة اسبرين للحد من الصداع الرهيب الذي أغشى بصرها والآلام في ساقيها ، تنام على سريرها , وتضع رأسها على وسادة الريش , وتستسلم لمورفيوس .

***

يحدق محمد الى الشارع المقفر وهو ينفث دخان سيجارته من على كرسي كان قد سحبه أكثر باتجاه النافذة , مستعيداً ذكريات ذلك الحادث الذي حدث في منتصف كانون الثاني الماضي ، في تلك الليلة شديدة البرودة يدخل محمد سعيد الشقة , قادماً من مجلس عزاء والد أحد أصدقاءه من أيام الجامعة أقُيم في مدينة الرمادي , لم يكن محمد في حالة يحسد عليها وهو يشاهد ذلك المنظر الذي رآه وهو داخل لغرفة نومه ..

تفاجأ بشخص غريب ينام مع زوجته على سريره الخشبي , يقف مصدوماً برهة من الوقت , وأخذ يغلي كبركان هائج ما أن وصلت الحمم إلى فوهته حتى ثار بسرعة دون أن يأبه لجسده المنهك , لم يصدر أي صوت حين قام بإخراج مسدسه الكولت الذي ورثه عن أبيه بعد موته بالسكتة القلبية , كان في الخزانة المجاورة لباب غرفة النوم ، يقترب من السرير أكثر و يسحب رصاصة بيده المرتعشة ثم يوجه مسدسه نحو زوجته الخائنة ورفيقها الوضيع الذي يضطجع جنبها , الله وحده يعلم ما الذي كان يحصل أثناء فترة غيابه حينما يخرج من الشقة

لقد كان مخدوع كل تلك الأيام وربما السنين , أين كان غائباً عنها ؟ ومنذ متى بدأت تلك الخائنة الوضيعة بخيانته ؟ يجب أن يضع الأن حداً لهذا الهراء , يجب أن تُعاقب زوجته القذرة وتموت في فراش العار , يجب أن يغسل هذا العار الذي لحق به , كانت ترد في ذهنه أفكار مشوشة وظنون مسمومة , جعلته لا يتمالك نفسه في تلك اللحظة , كان شرر حارق يتطاير من عينيه و كاد أن يطلق النار لولا أنه قرر أن يزيح الدثار السميك عن النائمين ليرى وجوههم المسودة بهذا العمل القبيح

المفاجأة لم يكن هناك أي خيانة ولم يكن ذلك الذي ينام جنب زوجته غير أبنه عماد الذي كان يحضّر لامتحان الرياضيات والذي سيخوضه في اليوم التالي , وكانت والدته تساعده في فهم المادة , وقد أخذته غفوة بدون قصد منه بعد أن نامت هي الأخرى مستسلمة لقطار الاحلام ، بجنب عماد كانت هناك وسادة ساعدت على اظهاره من تحت الدثار بهيئة ضخمة خدعت أبيه  وجعلته يتصور أن زوجته خائنة وعليها أن تدفع ثمن خيانتها هذه

 يجلس محمد على سريره والعرق يتصبب من جبينه , عانق زوجته التي ايقظها ثقل جسده الذي رماه إلى جانب السرير بحرارة وطبع قبلة في جبين ولده الذي ما زال مرتمياً في أحضان النوم ، يرمى مسدسه على الأرض وسط دهشة واستغراب من نوال التي كانت لتوها على حافة الموت ..

 ***

في الساعة السادسة والنصف توقظ نوال زوجها ليذهب إلى عمله بعد أن أخذه النوم وهو يستذكر تلك الحادثة على ذلك الكرسي الذي أنهكه حتى الصباح .

تاريخ النشر : 2018-01-11

guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى