أدب الرعب والعام

ذكـــريات الزمـــن الجـــميل

بقلم : حمزة عتيق – فلسطين
للتواصل : [email protected]

ذكـــريات الزمـــن الجـــميل
لا أصعب من دقات ساعة الرحيل .. و ماضٍ لا طريق يعيد إليه و لا سبيل .. آهٍ و ألف آه على ذكريات الزمن الجميل

يقف بشرفةٍ مطلّةٍ على مساحةٍ خضراءَ شاسعة و الحزنُ بادٍ على تقاسيم وجهه التي عبثَ بها الزمن ، دموعه على وشك الانهمار لكن كلمّا أراد إطلاقها يهمس له ذلك الصوت بداخله قائلاً : أنتَ رجلٌ ، و الرجال لا تبكي ! .. لماذا ؟ هل البكاء يُنقِص من رجولته شيئاً ؟ أليس الرجل إنساناً في النهاية ؟ إنسانٌ له مشاعرٌ و أحاسيس كباقي الخليقة على هذه المعمورة ! ، لكن خالد هو رجلٌ متلحفٌ بكبريائه ، شامخٌ كشجرة عتيقة لا يمنعها من السقوط إلا جذورها الراسخة في باطن الأرض ، و على هذه الطينة قد جُبل هذا  الرجل ، لكن حتى الأشجار القوية تتساقط أوراقها بالخريف لتتلاقفها الريح من كل جانب ، فتصبح مجرد قطعة من الخشب خالية من كل مظاهر الجمال ..

 

 يتكلم بصعوبة و كأنه شخص طريح الفراش على مشارف الموت و يقول :

هل تذكرين يا عزيزتي ؟ هل تذكرين أول لقاءٍ لنا كيف كان ؟ كنّا حينها طلاباً في الجامعة ، مجرّد طلابٍ شغلهم الشاغل في هذه الحياة هو كتابهم البالي و محاضراتهم المملة ، آآآهٍ ما أجمل تلك الأيام ، لكن تباً لابن آدم ؛ لا يعرف قيمة الشيء إلا حين يفقده .. كنتِ حينها تلك الفتاة البسيطة المتوشحة بخجلها و عيناها لا تفارقان الأرض ، الفتاة صاحبة الشخصية الضعيفة المهزوزة التي تعتذر حتى لأتفه الأسباب .. أمّا أنا فقد كنت ذلك الشاب الملتزم بمبادئه ، لا يؤرّقني شيء في هذه الحياة إلا دراستي و مستقبلي و الطريقة التي سأجعل بها والدايَ فخوران بي .

كنّا حينها وسط الامتحان ، و كنتِ أنتِ على يساري مرتبكة و كأنكِ تائهة بين كل تلك الأسئلة ، و هذا شيء طبيعي فأنتِ في النهاية لستِ بتلك الفتاة المجتهدة .. لقد لاحظتُ ذلك جيداً فقد كنتِ من النوع الذي لا أطيق ، ذلك النوع الغير جادٍ في دراسته و كأنه في نزهةٍ ما ! لقد قلتُ في نفسي حينها : فلتذهب إلى الجحيم ، هذا هو حصاد الإهمال .. لكن نظرة واحدة في عينيكِ المتلألئة كانت كفيلة بإشعال فتيل الحيرة بداخلي ، أجل لقد بدأت حينها نقاشاً حاداً بداخلي ، فتارةً أقول دعها و شأنها و لتحصد ما زرعت ، و تارة أخرى أقول و ما الضير بالقليل من المساعدة ! ..

لم ألبث هكذا دقائق حتى ناديتُ عليكِ بصوتٍ فيه بعض التردد و مددتُ لكِ ورقتي بحذرٍ شديد ، حتى الساعة لا أعرف كيف تحليت بكل تلك الشجاعة ! فهذا كان ينتهك كل مبادئي التي تربيت عليها ، و مع ذلك فقد فعلتها ؛ أخذتِ ورقتي و أخذتُ ورقتك ، تفاجأت حينها أنها فارغة  – ربي كما خلقتني – ، لم أتصور في حياتي أن أجد شخصاً بهذه الدرجة من الإهمال ! .. حللتُ لكِ الأسئلة و تركت إحداها فارغاً حتى نبعد عنا أصابع الاتهام ، و عند صافرة النهاية أعدتها لكِ و أخذت ورقتي حتى نسلم إجاباتنا ، خرجت حينها من القاعة فتبعتني و قلتِ بصوتٍ فيه شيءٌ من الخجل : خالد شكراً لك ، لولاك لما تخطيت هذه العقبة و لو بعد سنين .. أردتُ توبيخكِ فعلاً لكن عيناكِ  البريئة ما كانتا تمنعانني ، أردت أن أجيب بشيء من الحزم أيضاً ، لكن احمرار وجنتاكِ أوقفاني ، فكان جوابي لبقاً إلى حدٍ ما : لا بأس يا مَلَك ، لكن أرجو منكِ أن تحاولي في المرة القادمة ..

اتجهت نحو منزلي و أنا أشعر بدفءٍ لا يوصف بداخلي ، تساءلت حينها عن سبب ذلك الشعور رغم أني قد فعلت شيئاً خالفت به معتقداتي ، لكني لم أجد جواباً لسؤالي .. لم أعرف سبب ذلك إلا عندما خلدت إلى النوم ؛ كلما أغمضت عيناي أرى ملامحكِ الخجولة ، أرى وجك بأدق تفاصيله و كأنكِ واقفةٌ أمامي ، حينها عرفت أنه الحب ! لم أتوقع أني سأحب شخصاً ممن يعاكسني في مفاهيمي ! لكن هكذا تسري الأمور ؛ فالأشياء المختلفة تتجاذب كما المغناطيس ؛ يتجاذب إذا اختلفت أقطابه ..

استيقظت في الصباح و قد عقدت العزم أن أوطد معرفتي بكِ ، سرت الطريق إلى الجامعة خطوة إلى الأمام و أخرى إلى الخلف ؛ حتى أشد الرجال سيقف متردداً إذا ما كان يقدم على فعل شيء يخالف طبيعته ، و هكذا كان حالي حينها ، و مع ذلك تحلّيت بالشجاعة و ذهبت إلى المكان حيث كنت تعتكفين بعيدة عن أعين الطلبة ، رميت السلام ثم جلست بجانبك على الكرسي و أنا لا أعرف من أين و كيف سأبدأ ، لم أتصور أن أتردد هكذا في حياتي .. استجمعت قواي و هدأت من نفسي ثم قلت :.

 

***

– مرحباً مَلَك .. كيف حالكِ ؟

– ( بصوتٍ خجولٍ ) أهلاً خالد ، أنا بخير و أنت ؟

– الحمد لله أنا أيضاً بخير ، لماذا أنتِ تجلسين وحدكِ دائماً ؟ ألا يوجد لكِ أي صديقات ؟

– للأسف لست جيدة في تكوين العلاقات مع الآخرين ، كنتُ وحيدة و سأبقى كذلك ..

– لكن الوحدة قاتلة يا ملك ، لا شيء أصعب من الوحدة في هذه الحياة ، لمن ستشكين همومكِ إذا ضاقت بكِ الدنيا ؟ و مع من ستشاركين اللحظات المفرحة ؟ شعور الوحدة قاسٍ لا يوصف ، أنّى لك تحملها ؟

– لا أعلم صراحةً ، لكن لتتضح الصورة لك فأنا أخشى تكوين العلاقات ، فكل بداية و لها نهاية صحيح ؟ و تبعاً لذلك فسيأتي حتماً ذلك اليوم الذي ستنتهي به علاقتي ، و على حد علمي فالشعور المترتب حينها أقسى من شعور الوحدة أليس كذلك ؟

– نعم كلامكِ فيه شيء من الصحة ، لكن ليست بالضرورة أن تكون كل النهايات حزينة و قاسية ، ألا يوجد نهايات رائعة ؟ بلا يوجد و الأمثلة كثيرة على ذلك !

– أخبرني كيف ستكون النهاية سعيدة لشيء أنت متعلق به ؟

– لا أعرف صراحةً ، و مع ذلك هذا ليس مببراً لوحدتك ، حسناً .. ما رأيك أن أكون صديقك الأول ، هل تقبلين بذلك ؟

– لا أعرف صراحةً ، أفضل البقاء وحيدة ، أنا شاكرة لك حقاً على مساعدتك لي البارحة و لا أجد طريقة مناسبة لأرد لك العرفان ، لكن اعذرني لا أريد تكوين صداقات ..

– لن أقبل بذلك ، حسناً ما رأيك بذلك ، سنكون متعادلين إذا وافقتِ على صداقتي ، حينها لن تحتاجي لرد أي شيء ؛ فالأصدقاء لا توجد بينهم تلك الأمور صحيح ؟

– ..

– سأعتبر صمتكِ هذا موافقة ..

 

***

 

ابتسم خالد ابتسامةً تخفي خلف تقوّسها مقداراً كبيراً من الحزن و الأسى ، ثم أتبعها قائلاً : لا أزال أذكر يا عزيزتي حوارنا الأول بكل حروفه ، بأدقّ تفاصيله ، لا أنكر أن تصرفي كان وقحاً حين طلبت منك مصادقتي مقابل مساعدتي لكِ ؛ لكني لم أجد طريقة إلا تلك ، فقد كنتِ مصرّةً على موقفكِ حينها ، لكن أتعلمين حمدتُ الله كثيراً أني قد أصررت على موقفي ؛ فلولا ذلك لخسرت أعز إنسانة على قلبي ..

  

بعدها بدأنا بالتحدث كل يوم على نفس الوتيرة حتى توطدت العلاقة بيننا و بدأتِ تسردين عليّ مواقفكِ المضحك منها و الممل بصراحة ، لكني لا ألومك فقد وجدّت شخصاً تخبرينه بقصصك بعدما كنتِ تتشاركينها مع حائط غرفتك الصغيرة ! فقد كنتِ كالأسير المحرر الذي يريد أن يجرب كل شيء قد فاته حين كان هو قابع في غياهب السجون ، أجل لقد كنتِ كذلك يا قرّة عيني ..

 

تعمّقنا في علاقتنا كثيراً حتى بدأنا نخرج سوية ، ندرس سويةً ، كم كنتُ أعاني حينما كنت ألعب دور الأستاذ معكِ ؛ فقد كنت تلعبين دور الطالب ذو العقل البليد الذي لا يفهمُ المعلومة إلا بشق الأنفس .. مع ذلك ما أجمل تلك اللحظات ، لحظات هيهات أن تعود .. هل تذكرين كيف كنّا نخرج من دور العرض و الابتسامة ملء فاهنا بعد الفيلم المشوق الذي شاهدناه ؟ كيف كنّا نتبادل المعلومات في قاعة الامتحان و كأننا في جلسة حوارٍ مفتوح ! بالطبع تذكرين ذلك ..

أمّا أجمل تلك الذكريات هي حينما خرجنا يوماً من الجامعة متجهين نحو منازلنا ، لقد كنا نعود سيراً على الأقدام ، و على الرغم من طول المسافة إلا أنا كنا لا نشعر بها ؛ كيف ذلك و نحن لا نترك موضوعاً إلا و نتناقش فيه .. توقفنا حينها نستظل تحت شجرة الكرز الباسقة ، بدأت أتأمل في شعركِ المنسدل على كتفيكِ و كيفَ كان يلاعبه النسيم ، و أشعة الشمس الذهبية المنعكسة عليه تجعل منه تحفة فنية يعجز أمهر الفنانين عن رسمها .. لقد كنت غارقاً في هذا الإبداع الإلهي حينما أيقظتني يداكِ اللتان التفتا حولي فجأةً ، أتذكرين سبب ذلك ؟ .. لقد كان قطاً يأخذ قيلولة أعلى الشجرة ، أزعجناه بحضورنا فقفز إلى الأسفل لتخافي منه أنتِ ، كم أنا شاكرٌ لذلك القط الذي جعلك تتشبثين بي من الخوف ..

لم أتمالك نفسي حينها ، فعندما أردتِ الابتعاد عني ضممتكِ إلى صدري بقوة و قلت لكِ بكل شجاعة أني أحبك ، هل تذكرين كيف كان وجهك حينها ؟ لقد تلون بألوان كثيرة من شدة الخجل ، دموعكِ المتلألئة على وجنتيكِ من الفرح و الصدمة في نفس الوقت هي الدموع الوحيدة التي أحببتها ، آخر شيء أحب رؤيته هي دموعكِ ، لكن تلك الدموع هي قصة أخرى تماماً ..

تلك الليلة كانت أطول ليلة في حياتي ، لم أعرف فيها معناً للنوم ؛ فقد كنت أنتظر الصباح بفارغ الصبر كي أخبر والداي أني وجدت نصفيَ الآخر ، النصف الذي سيكمل معي حياتي و سيعيش معي لحظاتي بحلوها و مرها ، النصف الذي لن أفترق عنه و لن يفترق عني مهما اشتدت الظروف .. و بالطبع قد حصل ذلك ..

أجمل ما رأت عيناي هي أنتِ حينما كنتِ مكتسيةً بالبياض ، و وجهك حينها كان كالبدر في الليلة الظلماء ؛ قابع في كبد السماء تتغزل النجوم بجماله ، و أنا واقفٌ أنتظر عروسي بلهفةٍ كبيرة ، حتى أن الغيرة تملكتني حينما رأيتكِ تعانقين والدكِ ، هل تصدقين ؟ أجل أحببتكِ بذلك القدر ، فسأصبح رجل فتاةٍ يتمناها كل رجل .. كم كان الوقت طويلاً حينها ؛ أردته أن ينتهي بسرعة لننفرد وحدنا بعيداً عن كل أولئك البشر ، لا يحول بيني و بينك إلا لحظات كانت كالسنين بالنسبة لي ..  

 

أصبحتِ زوجتي التي أتفاخر بها أمام الجميع ، التي أحبها و تحبني تغار علي و أغار عليها ، كنت كالطفل الصغير بين أحضانك ؛ أشكي لكِ هموم يومي و أشارككِ لحظاتي المفرحة ، أول مرة استلطفتكِ فيها كنت جالسةً على يساري ، و بالفعل قد أصبح ذلك المكان محجوز لكِ فقط ، أنت فقط  و لا أحد غيرك ؛ فقلبي لن يقبل أنثى سواكِ ..

 

هل تذكرين يوم كنتِ طريحة الفراش كيف كنتُ كالتائه الذي أضلّ طريقه و لا يجد مرشداً له ؟ كيف لا و قرة عيني في حالة يرثى لها ، تمنيت لو أني كنتُ طبيباً حينها ، بل أمهر الأطباء ؛ فتالله ما كنتِ لأأتمن أي أحدٍ عليكِ ؛ فالجوهرة  الثمينة لا يليق أن يتفحّصها إلا أمهر المختصين .. سهرت الليالي على راحتكِ حتى أني طردت النوم من عيني خشية أن تحتاجين شيئاً و أكون غير منتبهاً لكِ ، يومان هما الأطول في حياتي كلها ، لم يهدأ لي بال حتى رأيت الراحة و قد  ارتسمت على ملامحكِ ، فأشرقت شمسُ حياتي مجدداً بعد أن كانت في سباتٍ عميق لتطل بأشعتها الذهبية طاردةً سواد الليل اللعين .. أو هكذا ظننت !

         

***

بدأ خالد يكفكفُ الدموع عن عينه ، فالذكريات عندما تتزاحم داخل المرء لا ترحم ، ثم ذَهب إلى زوجته خلفه و وقفَ عندها هنيهة ليجهّز نفسه لما هو مقدمٌ على فعله ، زوجته في غيبوبةٍ منذ أكثر من شهر و قد قال الأطباء أنها ميّتة سريرياً ، لم يكن ليفعل ما سيفعله إلا لأن رؤية من تحب يعاني و أنت عاجزٌ عن تقديم يد العون  لهو أمرٌ أصعب من الموت حتى .. وضع يده على جهاز التنفس ؛ الشيء الوحيد الذي يفصل بين الموت و حياة زوجته  ، ثم بحركة مترددة أزاله عنها ، و نظر إليها نظرة أخيرة و هي على مشارف الموت قائلاً : كانت   أياماً جميلةً عندما كنتِ هنا بجانبي ، الآن فهمتُ سؤالكِ في حوارنا الأول يا عزيزتي ، لا يوجد نهاية سعيدة لشيء نتعلق به ،  و الله إنكِ محقة و أني لمخطئ ، يا ليتني لم أتعرف عليك و تركتكِ وحيدة ، حينها ربما كنتِ ستكونين بخير ، ربما ..

 

                                           .. النهاية ..

 

تاريخ النشر : 2018-01-23

حمزة عتيق

فلسطين
guest
58 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى