أدب الرعب والعام

رائحة الفناء

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
للتواصل : [email protected]

رائحة الفناء
كانت مريم في غاية البهاء ، حسناء لطيفة المعشر ، سحرت صغاراً وكباراً في قبيلة الميامين

أين أمي ؟! هذا السؤال كبر معي ، إلى أن فكت الأيام أسر الجواب الباتر : أمك يا ” إلياس ” لن تعود .. عشت معها بضعة سنين ، مجموعهم سبعة ، مرت في مسيرة الزمن كيوم واحد . . وذات يوم اختفت ، لم يعد لها أثر ، سألت أبي ، أين أمي ؟ أجاب : ستعود قريباً . – أين ذهبت ؟ لم يجب .. رغم أن عقلي كان صغير ، إلا أنه أدرك شيئاً أو لمح حدثاً غير عادي طغى على الأجواء ، حتى أصبحت أخشى هذا السؤال المالح الذي يحرق شفتاي . كل طفل من أقراني له أمه يركض نحوها في آخر النهار ، وأنا لا أجد سوى ذكراها 

أما أبي ، فلا أعرف لماذا لم يأخده القدر ويترك أمي ، حينئذ لن أكلف نفسي السؤال عنه . كان قاسياً معي منذ أن عرفت أنه أبي ، أو قالوا أن هذا الرجل أبوك ، لطالما حافظ على هذه العادة ، وبالأخص منذ موت أمي ، فكل مرة يوبخني على أتفه الأسباب ، و يرميني بكلمات كشريط شائك يسير داخل جسمي فيمزقه .. تزوج بعد موت أمي ، ورزق توأم ذكور ” برهان وصفوان ” ولأن العادات تقضي في تفضيل أبناء الزوجة الحالية ، فقد كان نصيبي من الحرمان وافراً ، أما زوجة أبي فتراني كخادمٍ حقير أو عبدٍ مطيع ، وهكذا كبرت حتى إشتد عودي وأصبحت شاباً وأصبح حضوري بينهم شبه منعدم ، وأصبح بيت جدتي ملاذي الوحيد من جبروت أبي وحقد زوجته والصراع مع أبنائه . 

كان أبي رجل صلب خشن مجحوظ العينين ، أما عمله فهو شيخ قبيلتنا ، قبيلة الميامين ، يقضي سحابة أيامه في قصر حاكم القبيلة ” جعفر ” وهناك يتغير بالحرف ليصبح عبداً رعديد ، فهو ساعد الحاكم اليمين بل هو اليد البطشة الذي يضرب بها الحاكم ” جعفر “

**

“الميامين ” أعظم القبائل في الأرجاء وأعرقها ، هنا يوجد قصور العلم لطالبه ، وهنا كل أنواع الصناعة اليدوية . قبيلة كبيرة لا يحدها سوى البحر ذاع صيتها بين الناس

وذات يوم نحس بغيض ، مات الحاكم المحبوب عند الجميع “مختار” ليرث نجله البكر ” جعفر ” الحكم ويقبض على السدة كقبضة الكواسر على الفرائس ، ومنذ ذلك الحين ، كان الحاكم الجديد يدفع بصخرة الميامين من على رأس جبل ، وكانت ستهوي لا محالة لتركض نحوى قاع الواد وتتفتت فيه ، كان ” جعفر ” طاغي بما تحمل الحروف من معاني ، لكن من هذا الشجاع المهيب الذي سيقف أمام الحاكم ويلوح له بالمعارضة ، من يستطيع وقف بطش الحاكم وقطع يده التي يسبّح بها في الليل ويذبح بها في النهار ، لا أحد يستطيع ، فكل من تجرأ ومس الحاكم ولو بزلة لسان ، كان مصيره الموت ولا حكم أخر يعلى عليه .

تغيرت قبيلة الميامين مع تعاقب سنين حكم جعفر ، وازداد الفقر بين الناس ، وهنا سيلجأ الحاكم ومن معه من عشيرته إلى منافسة الشيطان في المكر ، وبدأوا في سلب الأراضي من الفقراء ليتحولوا جميعاً إلى عبيد على أرضهم التي أصبحت ملكاً للحاكم دون حق معلوم ، نخر الفقر في جسد الأمة ، وازداد غنى الحاكم وزمرته .
أما أنا فقد ابتعدت بشكل نهائي عن منزل أبي ، ولم أعد أمر جنبه فأنا أخجل كثيراً من ذاك الأب الذي انغنمس مع الحاكم في خطاياه ، ووجدت في جدتي كل عائلتي ، ولم يعد لي سواها هي ومريم إبنة خالتي شقيقة أمي وخطيبتي التي مازلت أحلم أن يجمعنا ذات يوم سعيد سقف واحد ، كانت مريم في غاية البهاء ، حسناء لطيفة المعشر ، سحرت صغاراً وكباراً في قبيلة الميامين ، أعتبرها هدية من السماء التي رمتني بها وسط ركام من الحرمان ، كنت على حالتي أفكر في الرحيل مع محبوبتي لأرض يهنأ فيها المرء ولا أثر فيها للطواغيت والأسياد ، من يضعون أنفسهم في مقام الآلهة ، ويجعلوا من مقاماتهم مقدسة ، وما دون منهم عبيد وخدم سخروا لخدمة أطماعهم اللاهثة.

لم يكن أمر السفر باليسير ، لأن مريم لا تريد الرحيل ، ومصرة على البقاء في القبيلة ، تبخرت كل جهودي في إقناعها ، حتى رضخت في الختام لرغبتها ، وحان الوقت للزواج منها ، لكن ، أنا أحتاج المال من أجل إتمام ذلك الحلم الذي أبى أن يتحقق ، فعملي ماهو إلى راعي بضعة رؤس أغنام ، أقتتي منهم معاشي البئيس رفقة جدتي ، وأبي منغمس في البذخ حتى أصابع رجليه . وفي الأثناء تذكرت شيئاً ، إنها مجوهرات أمي ، فمازالت عند أبي ، ووعدني سابقاً في تسليمها لي ما إن بلغت الرشد ، وها أنا قد أتممت الشرط ، وتوجهت إلى منزل أبي بعد غياب طويل .

فتح التوأمان ” برهان وصفوان ” لي الباب وقال أحدهما : أي ريح هوجاء قذفتك إلينا أيها الراعي البئيس
قال الأخر : لقد تذكر إلياس أن له أبا مازال على قيد الحياة
– إسمعوا أيها التوأمين ، أنا إبن أبيكما البكر ، وأبسط حقوقي منكما هو إحترامي ،
قال أحدهما : لا يوجد لك أي حق تستحقه في هذا المنزل ،
قال الأخر : ومتى يطلب العبيد الاحترام من أسيادهم ، فأنت لم تعد منا
– إنه لحق أنني لست منكم ، لكن ، هناك شيء مازال يجمعني معكم ، وأرجو أن نقطع وارده هذا اليوم
قال التوأمين مناصفة : وما هذا الشي الذي مازال يجمعنا !!
– إنها ذكرى أمي في مجوهراتها ، التي يحتفظ بها أبيكما ، أيها الشبيهين

نظرا إلى بعضهما ، قبل أن يخرج أبي ليجدني أمام الباب ، وقال : هل سمعت أنك قلت مجوهرات أيها الولد العاق ؟!
– نعم يا أبي ، قلت مجوهرات ، ولا أحتاج أن أذكرك عن وعدك القديم لي
– لم يعد لك شيء عندي ، وتلك المجوهرات رحلت مع أمك منذ موتها ، ووعدي لك ما هو إلا وعد لأطفال ، فلترحل الآن من هنا فأنا لا أرضى بمن لا يرضى بي .

إنه لا يتغير كصخرة صلداء ، وقمت عائداً أجر ذيول خيبتي وأنا أعود من جديد إلى انتظار اليوم الذي ستفك فيه أسر حالتي وأتزوج من مريم .. ومرت بضعت شهور ، وفي ذات يوم سمعت خبراً انفجر صداه في رأسي كمقامع من حديد ، الحاكم جعفر يريد الزواج من جديد ، وسقط اختياره الطائش على خطيبتي مريم ، وانتشر الخبر في القبيلة ، الجميع يعرف أن مريم على علاقة معي منذ الصغر وأمر زواجها محسوم ، لكن الحاكم إختار ورفع الكلام . 

أرسل الحاكم الرسول إلى بيت مريم لطلبها لزواج ، رفضت مريم ومعها خالتي بعذر زواجها مني في المستقبل ، لم يستسغ جعفر الرفض وأرسل في طلب أبي ، ولأنه شيخ القبيلة كلفه بهذه المهمة التي تقضي بالزواجه من مريم ، وإبعادي من الطريق..
قصدني أبي في بيت جدتي وقال على مسامعها : عليك أن تبتعد عن مريم منذ اليوم ، لأنها ستصبح زوجة الحاكم الثانية
– اسمع يا أبي ، إرجع إلى سيدك وأخبره أن ذلك لن يحصل إلا في حالة واحدة ، أن أكون جسداً بلا روح
– أنا أحذرك يا إلياس من اللعب مع الحاكم 
– أنا لا أعرف كيف خرجت من صلبك أيها الجبان الرعديد ، فأنا لا أخشى سيدك وافعلوا بي ما شئتم

رحل أبي ، عائداً إلى ربه ليعلمه عن أمري الميئوس ..

مرت بعض الأيام أخبرني فيها أصدقائي أن الحاكم يدبر لي مكيدة للتخلص مني والزواج من مريم بالغصب ، لكنني لم أصدق ، هل يعقل أن أبي سيلعب دوراً في التخلص مني ، وحتى لو بلغت فيه القسوة حدود السماء ، فأنا في الأخير إبنه
لكن رغم ذلك وجب الحذر ، فكرت جيداً ولم أجد سوى خيار واحد وهو الرحيل ، أقنعت مريم بذلك ، لم يكون خيار الرحيل يصب في مصلحتي كثيراً ، فأمر جدتي يقلقني ، لمن سأتركها بعدي ، لكنها كانت داعمة لي وشجعتني على المضي بعيد عن أنظار قبيلة الميامين .

أتى يوم السفر ، ودعت جدتي بعينين مجللتان بالدمع ، لقد أرغمت على الرحيل ، بعدما كان مجرد خيار في سالف الأيام . إلتقيت بمريم في مخرج القبيلة ، ونحن نمتطي الخيول ، لنأخد في سبيل لا نعرف نهايته ، وبينما نبتعد عن القبيلة ، خرج الحراس فجأة من جحورهم وكأنهم كانوا في انتظارنا ، وقبضوا علينا وأعادونا إلى قصر الحاكم .. هناك من وشى بنا ، أحدهم تكلف في إجهاض حلمي في الزواج من مريم .

وصلنا إلى القصر ، ليخرج لنا الحاكم جعفر وزمرته ومعهم أبي .. قال الحاكم : أنظروا أيها الرجال إلى إلياس خطف مريم ولاذا بها بالفرار ، ثم التفت إلى مريم وأردف قائلاً : كيف فضلت هذا الراعي الصعلوك والحقير على مقامي أنا ، أي صنف من الغباء هذا
– اسمع يا جعفر أنا لم أخطف مريم ولم أفر بها
ابتسم بسخرية وقال : لماذا إذا خرجتم من القبيلة خلسة من الجميع
– لأنني ببساطة أجيد قراءة أفكار من يطلقون على أنفسهم ، الأسياد
– اسمع أيها الراعي ، أنا لن أضيع وقتي معك ، وسألخص لك كلامي ، أمامك خياران لا ثالث لهما ، أن تنسى مريم وتعيش في القبيلة كما كنت ، أو أتكلف بمصيرك.. لأن مريم ستكون زوجتي وحبيبتي
– كيف يسوغ لقلبك أن ينبض عشقاً لمحبوبتي ، وكيف سقط اختيارك بين كل نساء الأرض على مريومتي ، وفي الأخير مريم لا تقبل بك زوجاً
– مريم لا تعرف مصلحتها ، وستعرف لاحقاً بعدما تصبح زوجتي إن إختيارها لك كان سيكون ضرب من الجنون أيها الراعي البئيس .

فقدت صوابي ولم أتمالك نفسي حتى بصقت في وجه ربهم وهم ينظرون ، انتفض أبي في مكانه ليصفعني أمام الجميع وقال : كيف سولت لك نفسك أن تبصق في وجه سيدنا
– اسمع يا أبي ، أنا لا أجيد الخنوع والانبطاح مثلك .

تغير لون وجه الحاكم وهو أهين أمام حاشيته ، وقال بصوت دفعه الغضب ليصدح في أرجاء القصر : خذوه من أمام عيني

ساقني الحراس وأنا معصوب العينين إلى مكان مجهول ، وربما إلى مقصلة ستضيف رأسي إلى سلسلة مديدة من الرؤوس ، حتى أزالوا العصابة عن عيني ولم أسمع بعد ذلك سوى صوت باب الزنزانة يصفق في وجهي ، وصوت المفاتيح تتفرقع في الأقفال ، لأجد نفسي في زنزانة مظلمة ، فلا شيء يظهر غير الليل الساكن هنا ، وفي هذه البقعة من الأرض يسحق النور .. وبعد ، بأي ذنب أنا هنا ، سوى أنني تشاركت في عشق فتاة منصافة مع الحاكم المقدس ..

فقد الزمن معناه ، فأنا أسبح في ليل خالد لا يطلع عليه فجر ولا شروق ، أما أمر الطعام فالجلاد في غاية النبوغ ، فقد كلف نفسه أن يطعمني قطعة خبز مع شربة ماء ثلاث مرات في النهار ، حتى يبقي على روح داخل جسمي أطول زمن ممكن إلى أن تنطفئ مني نسمة الحياة ، وهكذا ستتولى الأيام التي يفقدها شبابي دون الإحساس بها .. أيها الجلادون ، أوليس بتر السيف أو الرمي بالرمح أهون وأرحم مادام إصراركم على قتلي أمراً لا مرد له ، أم أنكم كلفتم عزرائيل أن يرتشف روحي بثقل ومهل مهين . 

مرت الايام لا أعرف مجمعهم حتى أتى يوم أخرجوني فيها من ذلك الظلام ، لأجد أبي ينتظرني وحيداً في غرفة خاصة في السجن ، بدأ ينظر إلي بنظراته الحادة ، فمازالت القسوة تصون نفسها في هذا الرجل الواقف أمامي .

ماذا تريد من هذا السجين المهان يا ” نعيم “
– هل نسيت أنني أبوك
– لا ، لم أنسَ بعد ، مازلت أتذكر من رمى بإبنه في هذا الجرف الهاري من الجحيم ، فداءً لسيده
– مازلت كما كنت ولم يغير فيك السجن شيئا ، إلى متى ستبقى على عادة أمك في غرورها
– أححجم يا ” نعيييم ” واللجم لسانك عن ذكرى أمي ، ودع غضبي يغتلي في غمده ، قبل أن أنسى أن من يقف أمامي ما هو إلى أبي

– اسمع أيها الولد العاق ، أنا ما جئتك إلا لأخبرك أن الحاكم وافق على إطلاق صراحك ، بشرط أن ترحل من القبيلة في ظرف شهر ، ويتوجب عليك أن تكون شاكراً لهذا العفو
– ماذا ! أكون شاكراً ، وأي عفو هذا ، بل قل فشلتم في قتلي كما تقتل الفئران في جحورها
– سأخبرك شيئاً يا إلياس ، أنا لم أفتخر بك يوماً كإبني ، لأنك عاق منذ طفولتك
– إنه شعور متبادل يا نعيم ، فلا يدعو للفخر أن أكون إبن شيخ القبيلة الذي يركع لغير الإله الواحد في قصر الحاكم ، ودائماً ألعن اليوم الذي لفظني فيها رحم أمي ، لأجد قسوتك في استقبالي

غادر أبي ولم يقل كلمة أخرى ، وفك الحراس أسري لأخرج إلى الحياة من جديد ، تاركاً ورائي ليل طويل لا أعرف مداه ، لكن انعتاقي مشروط بالرحيل عن قبيلة الميامين في ظرف شهر ، حتى لا يبقى من بصق ذات يوم في وجه ربها حر على أرضها .

عدت إلى بيت جدتي لعلي أجدها مازالت على قيد الحياة، وكم كانت سعادتي عظيمة عندما سمعت صوتها تستفسر من الطارق ، لتجد حفيدها الذي خطفه المؤمنون قد أعاده القدر ، عنفتني في بكاء حارق ملتاع ، وسألتها : كم مضى يا جدتي منذ سجني
– إنه ما يقارب السنتين يا إبني
– ماذا حل بمريم هل تزوجت من الحاكم
صمتت جدتي وكانت عينيها تشيان على خبر صاعق لاريب فيه ، حتى قالت : مريم يا إبني ، ماتت بعدما شنقت نفسها في ليلة زفافها من الحاكم

انصدمت ، مريم ماتت ، لا أعرف ماهذا الشعور الغريب ، هل أبكي لفراقها الأبدي ، أو أفرح أن محبوبتي لم تصل إلى أحضان جعفر المتسخة ، وبينما كنت غائباً عن الوجود أسرح في ذكرى مريم ، أخرجتني جدتي من تأملاتي : كنت أعرف أنك ستتحرر أخيراً ، فقد كنت أرغّب أبوك منذ زمن حتى يطلقوا صراحك إلى أن وافق الحاكم بشرط الرحيل عن القبيلة ، لكنهم وعدوني طويلاً ولم يفوا بوعدهم إلى أن تحررت الآن .

لم يمر أسبوع كامل من تحرري حتى مرضت جدتي وماتت ، وكأنها كانت تنتظرني لتنظر لوجهي للمرة الأخيرة قبل أن تغلق عينيها إلى يوم الدين ، ماتت مريم من قبل والآن جدتي تختفي أمام أنظاري لتلحق بها ، لم يعد هناك ما يدعوا لإكمال الشهر المنصوص في عقد حريتي ، ثم غادرت قبيلة الميامين بألم الحسرات ، لأمضي في طريق مفتوح لعلي أجد بذور تصلح لنبت في صحراء الضياع ، وأنا أسير كأهوج بين التلال ، وأنا أنتسب يا حسرتاه لأعرق القبائل على البسيطة ، لكنها لفظتني وذبحت كل أحلامي على صخرة المهان ، وأنا أسير دون خيل أو سيف ، إلى أن صدفت في سبيلي قبيلة من الرعاة الرحل ، طلبت منهم بعض الطعام والماء ، لكنهم كانوا أكثر بذخاً معي ، ورحبوا بقدومي واستفسروني عن قبيلتي ومقصدي ، لأجيبهم : أنا أدعى إلياس ، سليل قبيلة الميامين ، أما مقصدي ، فأنا أبحث عن أرض فيها ربيع إنساني دائم …

سمعوا قصتي ورحبوا بي في أرضهم كواحد منهم ، وأنا متأثر ببساطتهم وعيشهم الكريم وأحببتهم منذ أول يوم معهم حتى أنني نسيت قبيلة الميامين .. الله على الإنسانية عندما تتجلى في أبجديتها ، هنا يندثر عالم الأسياد ويقمع النسب ، وتسحق الطبقات ، هنا تختفي عبارات ، من أنا ومن تكون أنت ، أي فصل أنا وأي أصل أنت ، هنا تطوى تلك الصفحة الملوثة من الإنسان .

رحبت بي القبيلة عن بكرة أبيها واحتفلوا على شرفي ، لتمضي مسيرة الأيام معهم ، وأنا أعيش حياة الرعي والترحال في سعادة وهناء ، وذات يوم طلبوا مني الزواج ، فقد تقدم بي العمر ومازلت على ذمة نفسي ، وفي الحال تذكرت مريم ، لا ، لا ، لن أتزوج ، فمحبوبتي ماتت على عهدها لي ، وشنقت نفساً حتى لا تكون لأحد إن لم أكن أنا ، ولهذا فسأبقى على ذكرها إلى الختام .

مرت عشر سنوات على خروجي من قبيلة الميامين ، عشر سنوات لم أعرف فيها حال تلك القبيلة ، بدأ الحنين يغزوني ، ففي الأخير نحن لا نختار أمهاتنا ، ومهما وجدناهن علينا تقبل الأمر ، وناكر أصله لا أصل له ، ولهذا قررت أن أزور قبيلة الميامين ، وأخذت السبيل نحوها وأنا أمتطي الخيل إلى أن سقط في غفلة وكسرت ساقه وسط الطريق ، وكأنه نذير شؤم من القادم ، تركته مرغما لأكمل سبيلي على الأقدام ..

كان الطريق طويلاً استنفدت فيه قواي ، حتى بدا لي المكان مألوفاً ، إنها جوار قبيلة الميامين ، بعد غياب لدهر ، أصبحت على مرمى خطوات من قبيلتي ، لا أعرف كيف سأجدها ، كيف حالها ، ماذا حصل في غيابي ؟ هل مازال سيدة وتاج القبائل ؟ كانت الأسئلة تطوف في ذهني مكتسية بالحماس ، وبصبر نافد وبرغبة جامحة تدفع بخطواتي للوصول إلى مقام قبيلتي ، وأنا أصعد إلى جبل منه سترى لي قبيلة الميامين ، حتى وصلت إلى القمة ، ووقفت أرمي بنظري إلى كل مكان .

أين قبيلتي ؟! فأنا لا أراها ! أين اختفت ؟! بعد لحظات رسخ فيها نظري ، تبين لي مشهد في غاية البشاعة ، قبيلة الميامين تعرض نفسها من بعيد والخراب يعلوا وجهها .. أين تلك القصور الشامخة ؟! أين أين تلك الوديان الصافية ؟! أين تلك الربوع الخضراء ؟! أين تلك السبل العابدة ؟! أين منك من قبيلة كانت ، ومن هذه الصورة البشعة التي تلوح بيدها من بعيد وكأنها بها مودعاً كغريق فقد الأمل في النجاة .. كانت القبيلة تظهر وكأنها تلتف بلحاف أسود ممزق ، وأنا لم أصدق عيني بعد ، فلا يعقل أن تكون تلك المقبر المهجورة بقبيلة الميامين ، كيف ذلك ؟!
لابد من كشف هذا الغطاء وتحري عن تلك الصورة المهترئة التي تغرب شمسها هناك 

نزلت من الجبل وأنا أهرول صوب قبيلتي ، أو ما تبقى من قبيلتي من ملامح وأثر ، حتى السبل إليها تغيرت وأصبحت ملتوية كأفعى هاربة ، كلما اقتربت من القبيلة كانت نسمة الرماد تسبح في الجو ، وكأن معركة من نيران هوجاء مرت من هنا وفحمت الأرض والأشجار ، أين تلك الحقول من الورد التي كانت تسكر الأرواح بأريج عطرها ؟ أين ذلك الواد الذي كان يلوب هنا كحية تسعى فوق الرمال ؟ تجاذبت الأسئلة في رأسي حتى وصلت إلى باب القبيلة الذي لم يعد في مكانه ، أصبحت القصور تعانق الأرض ، ولم يعد في القبيلة سوى بضعة منازل منثورة في الأرجاء ، يطوف حولها بعض ما يشبه بشر . 

أين قصرك المصون يا جعفر .. أين قصوركم الشامخة أيها الأسياد ؟ أين جبروتك يا أبي ؟ ما الذي اقترفته أيديكم الطائشة في حق قبيلتي ..

وأنا أسير بين الأزقة الخربة ، ظهر لي بعض الرجال مدججين بسيوف يطوفون في كل مكان ، يظهر في سيماهم أنهم قطاع طرق ، ولا ريب أنهم يحكمون اليوم قبيلة الميامين ، أما من تبقى من أبناء قبيلتي ، فهم هياكل عظمية متآكلة وملفوفة في كيس من الجلد الممزق ، بشعور مغبرة شعثاء ، ووجوه كأنما مرغت في تراب لازج

– أين أنتم يا شيوخ القبيلة ، أين أنتم أيها الميامين ، أين أنتم أيها الشرفاء ، أين أنتم يا رجال هذا البلد ، تعالوا جميعا لنشيِّد بالحسرات ، جسراً نحوى الأطلال ، ونستعيد معاً تلك الومضات ، أمَّا حالنا اﻵن تفوح منه رائحة الفناء .

FIN

“رائحة الفناء” 
بنصالح …

 

تاريخ النشر : 2018-02-16

guest
79 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى