أدب الرعب والعام

نيران صديقة – الجزء الأول

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

نيران صديقة - الجزء الأول
أعدك أنني لن أرتاح حتى ألقي القبض عليه وعلى جميع أفراد عصابته

 – ماذا قررت ؟ هل أنت موافق ؟

قالها وهو يسحب نفسا من سيجارة محدقا بعيني صديقه.

– أخبرتك مراراً يا جايمس أنني لا أرغب بالعودة لهذا العمل أبداً ، أنا أحاول أن أنسى ولكن لا أراك تساعدني على ذلك ، رجاءً لا تفتح معي الموضوع ثانية ، وأشاح بوجهه عن صديقه حتى يخفي ملامح الألم التي اعترته.

– صدقني أنا لم أقترح عليك هكذا اقتراح إلا لأنني أريد أن أخرجك من حالة العزلة التي أحطت بها نفسك ، أنت الآن بالأربعين من العمر ما مضى قد مضى يا صاحبي آن لك أن تنسى ، أما عملك هذا فلا علاقة له بعملك السابق.

سكت مارك ولم ينبس ببنت شفة مما جعل جايمس يقف من مجلسه ويتأهب للمغادرة ، ولكن قبل أن يخرج من الباب نطق قائلا:

– عموماً عرضي لك مازال قائماً , فكر جيداً ، أراك لاحقاً يا صديقي.

وقف مارك عن الأريكة التي كان يجلس عليها وخطى نحو النافذة الزجاجية لشقته الصغيرة وراح يتأمل منظر الغروب الذي أعاد له صوراً لم تمح من ذاكرته

– لم أصدق نفسي عندما أخبرتني السكرتيرة أن مارك بذاته موجود عندنا ! وأطلق ضحكة قصيرة وأضاف:

لم أرك منذ مدة ، كيف حالك ؟ تفضل بالجلوس.

جلس مارك على أحد الكراسي أمام مكتب صديقه وقال بكلمات مقتضبة :

– أنا موافق على العمل لديك.

بدت على جايمس ملامح العجب ثم صاح قائلاً :

– رائع ، كنت قد بدأت أفقد الأمل منك ، لن أسأل ما الذي غيّر رأيك المهم أنك هنا الآن وستعمل معي لا لدي.

– متى يمكنني البدء ؟

– بأي وقت تريد ، انتظر لحظة.

وأخرج ملفاً من درج مكتبه أعطاه إياه ثم تابع :

– خذ هذا الملف معك إلى المنزل وادرسه جيداً ، يحوي معلومات عن طبيعة مهمتك وأتصل بي عندما تستعد لنتفق على كل شيء.

عاد مارك إلى منزله ، رمى الملف على الطاولة ثم فتح الثلاجة وأخذ زجاجة شراب ، سكب منها البعض في كوب وجلس على الكرسي ، فتح الملف وبدأ بقراءته واستمر في ذلك لساعات.

– بصراحة درست الملف جيداً ليلة البارحة و أرى أن هناك مبالغة بحجم الخطر الذي يتهدد هذه الأسرة.

قال مارك لجايمس :

– لا ليست مبالغة ، رب الأسرة رجل أعمال ومسؤول بالدولة ويشهد له بالنزاهة والشرف ، كلانا يعلم أن مثل هذه المبادئ تعتبر رذائل إذا تعلق الأمر بالسياسة والأعمال والكثير لم يعجبهم ذلك , لأنه لا يتوافق مع مصالحهم.

الخطر يتهدد أسرته فهناك رسائل تهديد مجهولة تأتيه كل فترة ، المشكلة أن له أعداء كُثر لذلك صعب تحديد مصدر الخطر بالضبط.

وهنا رفع مارك حاجبيه وقال:

والمطلوب مني هو حماية هذه الأسرة!

ليس الجميع ، فقط الابنة الصغرى التي لا زالت بالبلاد فلديها أخ يدرس بالخارج ولم يبق غيرها مع والديها.

بصراحة إنه يثق بشركتنا ويتعامل معها دائماً وما أخترتك إلا لأنني أعلم بمدى ذكائك وقدرتك على تنفيذ هذه المهمة.

– حسناً ، قالها بعد أن تنهد تنهيدة مطولة.

بعد يومين استعد مارك للعمل الجديد ، وكان على جايمس أن يوصله لمنزل العائلة التي سيعمل لديها.

ركنت السيارة أمام منزل كبير وفخم وسط أحد الأحياء الراقية بالمدينة.

ولج الاثنان إلى الداخل بعد أن أعطيت تعليمات للحرس بإدخالهم, وساروا رفقة كبير الخدم إلى القاعة الرئيسية حيث انتظروا لدقائق قبل أن يحضر رجل يبدو بمنتصف الخمسينيات ويبادرهم قائلاً:

– أهلا سيد جايمس ، أرى أنك حضرت بالموعد المحدد.

– مساء الخير سيد توماس بالطبع وقد أحضرت لك ما وعدتك به.

والتفت إلى مارك الذي حيا السيد بإيماءة من رأسه وأردف قائلاً :

– مارك ، الرجل الذي حدثتك عنه ، ستكون ابنتك بأيد أمينة بحضوره.

-أتمنى ذلك حقاً ، الوضع صعب للغاية.

ثم وجّه كلامه إلى مارك متسائلاً :

– سمعت أنك كنت تعمل بسلك الشرطة ، بصراحة سُمعتك سبقتك و لقد أطرى جايمس كثيراً عليك وعلى مهاراتك كشرطي ، ألا تنوي العودة لعملك؟

احتقن وجه مارك ولم يدرِ بما يجيب فأنقذ جايمس الوضع قائلا بنبرة مازحة:

– سيد توماس لو أنه عاد لعمله لما استفدت منه ومن خبراته ، أخبرني الآن متى سيباشر بعمله؟

– من الآن.

وهنا دخل إلى القاعة أمرأه وفتاة و شرع توماس بتقديمهما للزائرين قائلاً :

– كاترين زوجتي ، وكارلا أبنتي.

كانت الزوجة جميلة ، نموذجاً لامرأة ثرية كلاسيكية ، أما الفتاة فكان واضحاً أنها لم تتجاوز الخامسة عشر من العمر ، شقراء وذات جمال باهر.

ألقى كل من الرجلين التحية عليهما ومن ثم جلس الجميع للتشاور بآلية عمل مارك بالمنزل.

أمضى مارك ثلاثة أشهر كاملة يسير على نفس الروتين العادي ، يقوم بدوره كحارس شخصي لحماية كارلا بالنهار ويقضي جلّ ليله يفكر إذا ما كان بمقدوره الاستمرار ، كان يلزم نفسه يومياً بالمواظبة على العمل آملاً أن تتحسن نفسيته للأفضل.

صبيحة أحد الأيام وأثناء تواجده مع كارلا بأحد المقاهي أنبأه حدسه أن هناك شيئا مريباً , فمنذ انطلاقه بالسيارة من المنزل لاحظ أن هناك سيارة تسير وراءهم أينما ذهبوا ، والآن يرى بعض التحركات الغامضة من حولهم ولا يعرف كنهها ، لذا بادر كارلا قائلا بهدوء:

-أقترح أن نعود للبيت حالاً ، الوضع غير مطمئن.

– ماذا تقصد ؟ أجابت كارلا.

– أخشى أن هناك خطراً محدقا بك ، رجاءً تعالي معي.

– ولكنني على موعد مع صديقتي أنت تعلم هذا ، أجابت بغضب.

– يمكن لها أن تنتظر ، حياتك أهم الآن ، ولكي يغلق النقاش سحبها من يدها ومضى بها مسرعاً نحو السيارة غير آبه باعتراضها.

في المنزل..

-أعتقد أن هذا – وأشارت لمارك – الحارس الذي عينته قد تجاوز حدوده يا أبي.

قالت كارلا لوالدها بنبرة استياء..

– عزيزتي إنه يقوم بواجبه ، فأنا أعطيته كل الصلاحيات التي تضمن سلامتك.

بدت عليها ملامح الامتعاض واندفعت خارجة من المكتب.

ثم التفت لمارك قائلاً:

-احرص على حمايتها جيداً و لا تستمع إلى اعتراضاتها.

أومأ مارك للسيد توماس ثم غادر المنزل يفكر في ماهية الإحساس الغريب الذي انتابه لدى رؤيته للسيارة اليوم.

بعد أيام عديدة حرص فيها مارك على حماية كارلا رغم كل المناوشات والخلافات التي كانت تدور بينهم بسبب أنها ترى نفسها مأسورة بحضوره ولا تملك حريتها بالكامل ، قرر ترك العمل.

-لو سمحت يا سيدي تقبل استقالتي واعتذاري ، لا يمكنني المواصلة بهذا الشكل.

-اهدأ يا مارك إنها فتاة مراهقة , وأنت تعلم أنها بسن حرج ، لا داعي لكل هذا ، رد توماس ثم تابع قائلاً:

اذهب الآن لإحضارها من المدرسة وبعدها سنسوي الأمر.

– حسناً ، أجاب مارك وترك المكان مبيتاً النية أنها آخر مهمة له هنا.

ركبت كارلا السيارة وبعد انطلاقها ، صمتت قليلاً ثم غمغمت قائلة:

-أنا آسفة.

-عفواً..؟

– أخبرتك أنني آسفة – بصوت عال – وأردفت بهدوء:

أعلم أنك تريد حمايتي ، ولكنني غير معتادة على هذا الوضع ، سأحاول التأقلم أعدك.

شعر مارك بالصدق في كلامها فنظر إليها وابتسم ابتسامة خفيفة وبادرها قائلاً:

-هل تودين أن نبتاع بعض المثلجات..؟

صاحت كارلا : بالطبع أنا أحبها ، هناك محل قريب من هنا يبيع مثلجات لذيذة.

وقفت السيارة أمام المحل ، نزلت كارلا مسرعة من السيارة قبل أن ينزل مارك منها ، وما أن هتف قائلاً : انتظري ، وهم بالخروج من السيارة إلا وبصوت رصاص يغزو طبلة أذنه ، كان آخر ما سمعه.

بعد أيام..

فتح مارك عينيه ليجد جايمس بجانبه ، حاول أن ينهض لكنه أحس بألم شديد بصدره لم يقو على التحرك بسببه ، فساعده جايمس على الاعتدال ثم قال :

-الحمد لله على سلامتك ، كنت بحالة حرجة و من حُسن حظك أن الرصاصة لم تقترب من القلب.

– ماذا حصل؟…قال مارك بتعب .

لم يجب جايمس وحدق إليه بأسى ، فأعاد مارك شريط ذكرياته  وصاح فجأة:

-أين كارلا؟.

لم يتلق رداً.

فصرخ : جايمس ، سألتك أين كارلا؟

– اُختطِفت ، أجاب باقتضاب.

– يا إلهي!…لماذا؟…لم يعيد الماضي نفسه من جديد ، وتوجه بكلامه لجايمس معاتباً:

-أخبرتك أنني لا أريد ، لكنك ألححت علي ، يا للفتاة المسكينة وعائلتها ؟ بماذا سأخبرهم ؟ أنني لم أقم بواجبي ، اللّعنة..

– مارك ، اهدأ يا صديقي فحالتك سيئة ، أظن أن الفتاة لا زالت حية ، فبالرغم أننا نجهل الخاطفين أو مطالبهم لكن لا مؤشر يدل على أنها قُتلت.

سكت جايمس وحدّق بسقف الغرفة عائداً بذاكرته لأكثر من ست سنين مضت..

قبل ست سنوات…

-الرئيس :اعتقله يا مارك إنه مجرم خطِر ، أنا أعتمد عليك بعد فشل الكثير من رجالي في الإمساك به.

– مارك: حسناً يا سيدي أعدك أنني لن أرتاح حتى ألقي القبض عليه وعلى جميع أفراد عصابته ، ما نتائج التحقيق؟

الرئيس : تفيد التحقيقات أنه سيقوم بالصفقة بعد يومين بالقرب من الساحل بعد وقت الظهيرة ، المشكلة أن المكان عام و يبدو أنهم قد اختاروه ليجعلوا من المدنيين درعاً بشرياً لهم ، إنهم أوغاد.

مارك : إذاً سأذهب لدراسة المكان جيداً ، سآخذ جايمس معي ، عن إذنك يا سيدي.

وصل الاثنان إلى المكان المطلوب ، كانت الكثير من الأكواخ والشاليهات السياحية منتشرة به مما يبدد أي أمل في عملية مداهمة تُشن على نطاق واسع.

-جايمس : ماذا سنفعل الآن ؟..لا يمكن المخاطرة بالمدنيين.

– مارك : لن نخاطر بهم ، أرأيت ذلك الكوخ المنزوي عن البقية؟ سنتخذه مركزاً للمراقبة ، اذهب وأحضر المعدات وأنا سأراقب المكان إلى حين عودتك.

بعد يومين كانت الشرطة بقيادة مارك على أتم الاستعداد للقبض على المجرم رئيس أحد عصابات المافيا بالبلد والملقب بـ”الحوت ” المطلوب للشرطة الدولية” الإنتربول بتهم عديدة أهمها تجارة المخدرات والأعضاء البشرية وتهريبها من جنوب إفريقيا وحتى دول أوروبا مروراً بالمحيط الأطلسي.

– مارك ، هناك سيارات عديدة قادمة باتجاه الشاطئ.

– لابد من أنه “الحوت” ، لا تحرك ساكناً حتى يحضر الطرف الثاني للصفقة وهكذا نضرب عصفورين بحجر واحد.

– لقد حضروا ، أرى سيارات أخرى تأتي لنفس النقطة من الاتجاه الآخر.

– لن نتحرك بوجود الناس ، كما أخبرتك سابقاً أنا ورجالي نترصدهم عند الحدود البرية ، أخبرني عند تحركهم.

-حسناً ، أجاب جايمس.

بعد مدة من المراقبة صاح جايمس قائلاً:

– إنهم يهربون عبر البحر يا مارك..!  هناك زورق نفاث آت من بعيد أظنه سيهرّب “الحوت” ، تباً أظن خطتنا فشلت ، لم نفكر في هذا الاحتمال.

-لا لن تفشل ، أنا قادم.

جهز مارك سلاحه وقاد سيارته بأقصى سرعة عاقداً عزمه على القبض عليه بأي ثمن.

وصل إلى المكان بسرعة ، كان “الحوت” على وشك الركوب بالزورق ، و بالرغم من وجود الكثير من الناس بالقرب منه أطلق مارك الرصاص عليه ، فساد الهرج والمرج بينهم وانطلق تبادل الرصاص بين مارك و جايمس الذي سارع لدعمه ورجال الحوت الذين أطلقوا النار على الجميع دون رحمة.

بعد أن هدأ الصراع كان الحوت قد لاذ بالفرار تاركاً مارك يعذب نفسه على تسببه بزهق العديد من الأرواح.

الوقت الحاضر…

– إلى أين يا مارك؟ أنت لم تشفى بعد..!..

سأل جايمس مارك لما رآه ينزع الأجهزة الطبية ويستعد لمغادرة المشفى.

-لا يهم ، لا شيء أهم الآن من العثور على كارلا وإرجاعها سالمة إلى والديها ، لا يمكنني تحميل ضميري عبئاً جديداً ، ساعدني للوصول لمنزل السيد توماس.

وصل الاثنان إلى منزل السيد توماس ، كانت سيارات الشرطة تحيط بالمنزل ، أشهرا هويتهما ثم دخلا إلى القاعة الرئيسية حيث لاحظ مارك وجود السيد توماس رفقة محقق يعرفه حق المعرفة ، ولفت انتباهه السيدة كاترين جالسة على إحدى الأرائك ، وما إن رأته حتى هرعت إليه تصرخ بأعلى صوتها:

– لقد خطفت كارلا ، لماذا لم تقم بحمايتها ؟ ألم يكن هذا واجبك؟ ألم تكن أمانتك؟.

طأطأ مارك رأسه خجلاً ولم يستطع أن يجيب بكلمة واحدة فأمامه أمّ مفجوعة وكل ما قالته كان صحيحاً.

– أهدئي يا كاترين عزيزتي ، اطمئني سنعثر عليها.

قالها توماس ونادى للخدم لأخذها لغرفتها لترتاح وبعد أن غادرت توجه مخاطبا مارك:

-جيد أنك تحسنت ، كنت أطمئن على صحتك بالهاتف ، لا تحزن لكلام كاترين فهي لا زالت تحت الصدمة ، أنت أيضاً كنت على وشك الموت.

-هل من أخبار جديدة ؟ سأل جايمس.

– لم يتصل الخاطفون بعد ، أجاب توماس بأسى.

ثم أضاف:

المشكلة أن أعدائي كُثر ويصعب علي تحديد المشتبه به الأول لذا طلبت مساعدة المحقق إدوارد ، أظنكما تعرفانه ، وأشار للمحقق الذي حيّا الرجلين ثم قال بلهجة ساخرة:

-مارك و جايمس ، سعيد أن أراكما ثانية بعد كل هذه السنين ، غريب كيف أننا لا نلتقي إلا عند المصائب!

كان المحقق إدوارد هو الذي حقق معهما منذ سنوات بقضية “الحوت” والتي على إثرها أقيل مارك من الخدمة.

صمت مارك أما جايمس فأجاب بفظاظة مفتعلة:

-صدقني نحن أشد سعادة منك.

– سيد مارك هلاً ، أخبرتني ما حصل يومها بالضبط ؟ سأل إدوارد.

وقص عليه مارك ما حدث.

فرد بغضب واضح:

– كعادتك متهور ، الفتاة بخطر وأنت تريد أن تأكل المثلجات ، لا أعلم إلى الآن كيف قُبلت بكلية الأمن !

غض مارك الطرف عن سخرياته وتوجه قائلاً للسيد توماس:

-أنا مستعد لفعل أي شيء لاستعادة كارلا ، أعدك أنني سأرجعها سالمة للمنزل.

يُتبع …..

تاريخ النشر : 2018-02-22

وفاء

الجزائر
guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى