أدب الرعب والعام

شبح خجول

بقلم : مروة علي – مصر 
للتواصل : [email protected]

شبح خجول
لشبح دائم الظهور أمامه في شرفة العمارة المقابلة لمنزله

هناك وقف عمار ينظر لهذا الواقع الذى يشبه الحلم أو الكابوس الغير مفهوم ،الذي يراوده في منامه وفي استيقاظه ، الشبح دائم الظهور أمامه في شرفة العمارة المقابلة لمنزله.

في أحد الأيام الحارة من شهر أغسطس وبعد سهر حتى الساعة الثانية فجراً ، نام عمار بجوار ابنته الصغرى فى غرفتها المطلة على النيل ، تألم عندما رقد بظهره على السرير بعد مجهود يوم قضاه بأسره فى المستشفى ، فوظيفة دكتور جراح لا تعطى له الوقت الكثير ليعتني بنفسه .
أخذت الذكريات عمار للماضي القريب حيث تواجد حوله أصدقاؤه وأيضاً عن زوجته الجميلة هيام ، أما عن حبه القديم فتقلب قلبه في الذكريات قبل عقله ، فقد تركته الحبيبة بكل بساطة بعد حب كبير وهمست له ” لأني لم أعد أحبك”.
حدث نفسه قائلاً : ربما كانت خائفة من أن أتركها فتركتني أولاً .
لكنه تعلم من هذا الفراق أن لا يترك نفسه لأجل من يحب مهما كانت مكانته بقلبه الذي لم يغفر هذا الفراق حتى الآن .

لفحه بقوة الهواء النصف بارد القادم من النافذة المواربة ، لكنه تخطى هذا الشعور وكان بالنسبة له كتخطي خيال شبح غير مرئي ، حيث مر الهواء على جسده القابع على الطرف الأيسر من السرير وكأنه ستار دخاني خيالي .

في الصباح الباكر استيقظ عمار مع ابنته ليان على صوت المنبه في تمام الساعة السادسة صباحاً.
مع إشراق ضوء الصباح ، وغناء العصافير نشط عقل عمار لاستجلاء ما رآه أمس فنطق : هذا الشبح إما أنه خجول أو هذا خيال ..مجرد خيال !!

فى المستشفى أنهى عملية مريضه الصغير السن وكانت الساعة تشير للعاشرة مساءً ، بعد أن خرج من غرفة العمليات طمأن أسرة المريض بابتسامة مقتضبة جالت على فمه وهو يقول : سيصبح بخير..فقط هو يحتاج للراحة.
والد المريض بجزع : أنجحت العملية حقاً؟
عمار : نجحت العملية سيد مُهاب ، وغداً أعود لأرى مريضي .

عاد عمار لمنزله وعلى وجهه علامات الإرهاق ، بعد أن أبدل ملابسه نظر لشرفة العمارة المجاورة فوجد الشبح هناك يندمج مع الظلام المحيط به ، ثم توارى عندما لمح عمار ، فكان أشبه بجرذ ولى هارباذً من قط شرس.
ضحك عمار ضحكات خفيفة وهمس بصدى صوت رفيع : يا له من شبح جبان !
أثناء ذلك دخلت عليه زوجته قائلة : عمار ألن تستحم حبيبي؟
عمار واضعاً يده على رأسه : بلى حبيبتي أنا في طريقي للحمام.

أخذ المنشفة الخاصة به ، ثم دخل للحمام بخطى سريعة ، بين حيرته من هذا الشبح وخوفه من أن يكون مجرد خيال ، لم يدرك أن الشبح أمامه يراقبه من وراء الستار وهو يستحم.
أنهى عمار استحمامه ببطء ، ثم ارتدى ملابسه والتي كانت بنطال رمادي وسترة صيفية صفراء برسمة ذات لون برتقالي على هيئة ورقة شجر .
قبل أن يغلق إنارة الحمام لمح الشبح قبالته ، فتشنج فس مكانه ، وكان وجهه يميل للون الأصفر ، لم يتحرك الشبح قيد أنملة باتجاه عمار ، بل أعطى له ظهره ثم غادر .
بعد ذلك تنهد عمار بقوة ثم صرخ : هيام ، لقد رأيت الشبح.

جاءت هيام من الغرفة المجاورة ، فوضعت يدها على كتفه مهدئة إياه : اهدأ عمار ، لا يوجد هنا أشباح على الإطلاق .
فانهار عمار على ركبيته وكاد يغمى عليه من شدة الخوف: كيف جاء لهنا ولماذا ؟!
في الغرفة مضى عمار ذهاباً وإياباً ، فكان كمن لسعته حية أو أفعى مجلجلة ، اهتز جسده وارتعد قلبه ، فدارت الأحداث في عقله من رؤيته لهذا الشبح في الشرفة وحتى هذه اللحظة ، هنا سقطت حبات العرق على وجهه الصامت .

خرج من الغرفة ومازال طيف ماحدث يراقص عقله وكيانه ، على مائدة الطعام جلس هو وأسرته ، لكنه لم يكن معه سوى بجسده ، حتى أنه لم تناول إلا القليل جداً من الطعام.
نهض عمار بقوة من على المقعد ، ثم اتجه للشرفة في الظلام الدامس ، فتطلع للأفق وتنسم الهواء العليل ، من بعيد رأى زوجته هيام قادمة ، ابتسم محاولاً الخروج من حالته النفسية السيئة ، لاطفته هيام قائلة : عمار انسى كل شسء مزعج .
عمار بضيق : هيام لقد رأيت نفس الشبح ولكنه أفزعني ، تخيلي هذا أن تريه أمامك هكذا دون مقدمات !
هيام وهى تتصنع الإبتسامة : ربما عملك قد هيأ لك كل ما تراه ، تذكر حبيبي ليس كل ما تراه حقيقي ، فلا تزعج نفسك.

لمحت تقى جارتهم الشبح من السطح وهو يعود للعمارة المظلمة ، فارتعدت وظهرت حبات العرق على جبينها الماسي ، ثم أكملت طريقها للأسفل نحو شقتها في الدور الثالث ، عندما دخلت للشقة هدأت روحها من عنفوان ما حدث لها منذ قليل ، حدثت نفسها : شبح في عمارتنا ، الويل لنا ..علينا الرحيل ، قال جملتها الأخيرة بصوت مرتفع ، مما جعل زوجها يسألها : ماذا هناك تقى ؟ لما علينا الرحيل ؟!
تقى وهي نصف مفزوعة : لقد رأيت شبح يا قاسم في الرواق .
ثم أشارت بيدها : هناك تماماً .
لما رأى قاسم نظرة الوجل احتضنها : لا بأس تقى أنا معك فلا تخافي ، ربما في الظلام فتهيأت لكِ الرؤية واعتقدتِ أنه شبح .
بنظرة منه أكمل : الأشباح في القصص والروايات فقط عزيزتي ، أو في مخيلة المخمورين .
في الغرفة المقابلة للشارع تحت ضوء القمر ، مرر الشبح يده أمام القمر ، فظهرت ضوءه مخترقاً جسده الشفاف ، ثم تبسم الشبح في خجل ، أدمع عيناه وبصمت تذكر الحادث في العام الفائت ..

فى ذكرى احتفالات المدينة بعيدها القومي في الثالث من شهر مارس ، وقف وسط الناس يحتفل معهم ، والألعاب النارية تملأ المكان ، كانت فرحة حاتم غامرة ، حتى ذهب أصدقاؤه وتركوه وحيداً في هذا الحفل ، ثم انتصف الليل وقرر العودة لمنزله ، في طريق العودة خُطف على يد عصابة ، اقتادته لمركب في النيل حيث ظل محبوساً لشهر كامل ، يُعذب بطرق غريبة جداً ، في إحدى المرات سمع رئيسهم في العمل يأمر أحدهم قائلاً : حمدي فلتغمروا جسده بالعسل الأبيض ، ولنرى ماذا الذي سيحدث ؟
حاول حاتم التحرر من قيوده ، لكن دون جدوى حتى تركت بعض الآثار والخدوش على يديه ، مما أوجعه وأطلق آهة أتبعها بكلمات كثيرة آخرها : اللعنة .
بعد أن أغرقوه في العسل ، تجمعت الحشرات على جسده من كل حدب وصوب ، فتألم وجه يظهر الغضب وقلة الحيلة ، من بعيد وقف رجال العصابة يضحكون ضحكات متتابعة جهورية .

عندما جاء الليل وبدا الإعياء عليه ، سكب حمدي المياه الباردة على جسد حاتم المنهك ، فاستفاق حاتم ببطء ، وعندما رأى النور قال : أخرجوني من هنا لأني لم أعد أحتمل العذاب .
وتنهد صارخاً : بحق الله أطلقوا سراحي .

تركه حمدى وأغلق الباب بعنف مبالغ فيه ، حيث صم الصوت المفزع أذن حاتم لبرهة من الوقت ، مضى حمدي لمقابلة داغر رئيس العصابة ، الذي كان يدخن سيجارته في الهواء الطلق أمام مخبئهم الجديد ، اقترب حمدي وبصوت خفيض : داغر ألن نطلق سراح هذا الولد؟!
داغر بهدوء مصطنع : كيف نُطلق سراحه ، ولم يدفع أحد الفدية يا أحمق !

مر يومين ثم أمر داغر بإحراق حاتم بعد إطلاق الرصاص عليه ، ثم تركوا الجثة هناك متفحمة وعلى وجهها الألم بادياً ، لم يتوجع من هذا المنظر إلا حمدي الذي نطق بوعي كامل : الله يرحمه .

ملأ الدخان المكان فكتمت أنفاس العصابة ، وأمرهم داغر بإطفاء الحريق قبل أن يلاحظ أحد آثاره ، ويتمكن من فضح هذه العصابة المجرمة ..

في اليوم التالي رأى حمدى جثة حاتم ، ففزع من المنظر الذي توهج تحت ضوء الشمس الحارقة ، جلد الفتى تشقق بفعل الحريق حتى أضحى كالقش المحترق ، وجمجمته كجمجمة راهب بوذي ضحى بنفسه من أجل فكرة الخلاص وذلك بالتجويع الذي يؤدي للتحنيط بعد مرور ما يزيد عن الألف يوم ، هنا غطى حمدى الجثة بأوراق كانت هناك متناثرة على الأرض ، وألقى النظرة الأخيرة على المكان ثم ذهب بلا عودة .

عادت هذه الذكريات بالشبح للماضي القريب ، وجعلته ينتفض ذهاباً وإياباً في نفس الغرفة ، حتى لمح عمار يقف بوجل هناك ، حيث طوق الصمت المكان كله ، فقرر الشبح قص كل ماحدث لعمار لعل الحقيقة تصل لأسرته التي مازالت تبحث عنه كما تمنى قلبه ، ليس قلبه فحسب بل كل كيانه الذي لم يمحى منه مرارة ما حدث له.

فى صباح اليوم التالي ذهب عمار للمستشفى كعادته في نفس التوقيت ، لكنه اليوم تأخر خمس دقائق بعدما رآه أمس ، وأخيراً نطق : حتماً سأفقد عقلى قريباً ..كيف يتحول الشبح لجثة محترقة ؟!
قبل أن ينطلق بسيارته استوقفته تقى هامسة : دكتور عمار من فضلك.
ذكرت له القصة وعندما وصلت لكلمة الشبح ، حملق بها عمار وهتف : أكملي سيدة تقى.
عندما انتهت من السرد ، قص هو كل ماحدث في الأيام الأخيرة ، وهكذا تأكد الاثنان من وجود الشبح وأنه ليس محض خيال كما اعتقد غيرهما .

تم القبض على داغر بعد تحقيقات الشرطة ، واعترف بجريمة الخطف والقتل ، لكنه لم يدلهم على مكان الجثة وقال بكل بساطة أنه لا يعرف مكانها ، لكن الشرطة لم تصدقه أبداً ، ومع مرور الأيام ، أرشد عن حمدي الذي إختفى في بلدته في أقصى الجنوب ، جاؤوا بحمدي الذي ارتجف من الخوف ، فوقف أمام الضابط يتلعثم بحرارة فاقت حرارة الصيف سخونة ، بعدما سأله الضابط : أين جثة الفتى حاتم؟
نظر لداغر نظرة المستسلم ثم قال : في المخزن على أطراف الصحراء ، كما تركتها مغطاة في مكانها.
الضابط بلهجة قاسية : أذهبت لهناك مرة أخرى؟
حمدي : لا لم أذهب من بعد تلك الليلة المشؤومة .
الضابط : إذن لم يعبث أحد بالمكان ، أليس كذلك؟
حمدي : لا أعلم حضرة الضابط ، فأنا لم أعد للمكان من ذاك الوقت.

عندما ذهبوا لذلك المخزن في المنطقة الغير مأهولة ، وجدوا بقايا عظام متكومة في منطقة واحدة ، وعليها بقايا أوراق وتراب ، وبعد أخد عينات لتحليلها استدعت الشرطة أسرة الفتى حاتم ، ولم يغب عن الشرطة أن تعيد نفس الأسئلة عليهم من جديد ، فأجاب الجميع عليها بنفس الأجوبة ، وبعد ذلك أخذوا عينات من الأسرة .

مر أسبوع على ذلك حتى ظهرت النتائج وأكدت أن هذه العظام تعود لحاتم ، فتباكته الأسرة وغضبت في نفس الوقت لطريقة دفنه الغير لائقة .

ذهب عمار للعمارة المظلمة بخطى مهرولة ، ثم صعد للغرفة السوادء كما أسماها حيث تواجد الشبح الذي قص حكايته على عمار ، دهش عمار لهذه القصة الغريبة وتنهد بقوة : قصتك غريبة حاتم .
الشبح : ألم تخف مني كما خفت عندما زرتك في منزلك !
عمار : أنت فاجأتني وقتها ، لكن الآن أنا من فاجأتك ..ثم أطلق ضحكات خفيفة ونظر لمنزله وأردف : حقاً أنت شبح خجول .

..تمت..
 

تاريخ النشر : 2018-02-26

guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى