أدب الرعب والعام

رحلة عبر الألب

بقلم : عمران بوجلال – الجزائر
للتواصل : [email protected]

كانت مسيرة أشهر عبر الجبال لذا من المتوقع حتماً أن تكون هناك معاناة

كانت تصيبه نوبة من الذعر والهلع حين يكون خائفاً أو متوتراً …

صبيحة يوم من أيام الشتاء البارد التعيس ، ذلك بالضبط ما حصل معه لدى تلقيه خبر عدم عودة ابنه للمنزل في الليلة الماضية من مهمة أرسله إليها ليجلب الدواء لزوجته الكفيفة التي كانت تعاني من السل وأعراضه التي لا تبشر بخير

لم تكن تلك هي الحياة السعيدة أو العائلة المثالية التي لطالما حلم أن ينشئها ، فالمرحلة الزمنية الحالية لم تكن مستقرة ، كان القحط والحروب المشتعلة تضرب السكان المغلوب على أمرهم ، كانت تلك الحياة لا تختلف كثيراً عما عايشه في زمنٍ مضى .

حدث ذلك منذ زمن طويل عندما كان من بين آلاف المرتزقة النوميديين الذين استأجرهم القائد القرطاجي حنبعل من شمال إفريقيا ، في حربه الضارية ضد الامبراطورية الرومانية .

كانت تلك هي لقمة عيشه وعائلته ، يقاتل لمن يدفع أكثر ، بدا له العرض مغرياً عندما سمع بالأمر ، فكر في تلك اللحظة اليائسة ولمَ لا ؟ سنقوم بجولة سريعة لقطع بعض الرؤوس ونعود بسرعة ، سالمين غانمين !

يبدو أن حظه السيئ يرافقه أينما حل ، فلقد انطلقت جيوش حنبعل قبل حلول فصل الشتاء قبل أسابيع فقط من موعده ، كانت مسيرة أشهر عبر الجبال لذا من المتوقع حتماً أن تكون هناك معاناة وعواقب ستصيبهم في الطريق ، كانت بداية الرحلة تبدو موفقة ، كان الطقس معتدلاً نسبياً ، كان عبوراً سَلساً عبر أوروبا ومحطات للتوقف في القرى والمدن الحليفة للتزود بالمؤن إلى أن وصلوا إلى جبال الألب

ساء الوضع بسرعة ، كان التنفس صعباً على الرجال هناك بحكم أن المكان مرتفع ، هذا وبدأت الثلوج تتساقط وكانت الملابس التي يرتدونها لا تنفع في ذلك المناخ بتاتاً .

كان الجنود يائسين ، البرد قارص وحصص الطعام كانت تكون منعدمة أغلب الأوقات ، حتى أن قادة وجنرالات حنبعل اقترحوا عليه أن يذبح الخيول والفيلة لإطعام رجاله ، كان اقتراحاً سخيفاً بالنسبة له ، فقد كانت الفيلة الورقة الرابحة له في فوزه على روما فكيف له أن يمزق ورقته الحاسمة .

لم تكن بيده حيلة غير أنه يرضخ لاقتراح مستشاريه وهو ما فعله أمر رجاله بذبح الفيلة أولاً كانت تعيق حركتهم وتحتاج للكثير من الطعام كما أنها كانت تسبب لهم الكثير من المتاعب عندما تكون متوترة .

مرت أيام شاقة على رحلتهم وسط اللامكان ، كانت الطرق الجبلية صعبة ومغطاة بالثلوج و بدأ الطعام بالنفاد ، كان الطاعون ينتشر بسرعة والموت يحلق من كل جهة حتى أن بعض الجنود فكروا في التهام رفيق لهم مات من شدة البرد ، هذا ما وصل إلى مسامع صديقنا الذي كان يحتضن درعه وسيفه محاولاً النوم قليلاً .

كان الامر كارثيا لا يطاق ، القذارة في كل مكان ، اللحم يوزع نيئاً لا توجد نار لا للطهي ولا للتدفئة .. كان كل شيء متجمد .

استيقظ صاحبنا في اليوم التالي على وقع ضجيج وتحركات كثيفة ، ماذا هناك ما الذي يحدث..

– ههه ما الذي تتوقع أنه حدث ؟ نحن في الجنة يا ملك السبات ..

كان قد أجابه أحد الرجال مع رفيق له كانا يراقبان الوضع ،

تعال يا هذا تعال اجلس بجوارنا لا تكن خجولاً

– حسناً إذن ألم تعلم حقاً بعد بما حدث ليلة الأمس ، كان الحدث مروعا وكأنه نهاية العالم

– لا لا صدقا لقد أرهقني التعب والجوع واستغرقت في النوم ..

– إليك إذن نبأ انتصارنا الساحق أيها الوسيم ، لقد كان هناك انهيار ثلجي عظيم قضى على ثلثي جيشنا تقريباً وها نحن نستمتع بمشاهدة رفاقنا يحاولون استخراج الجثث المطمورة ، لن يكون هناك دفن سيحرقونها فحسب .

كان قد شارك زميله في الحديث ..  أترى تلك هي قيمتنا بالنسبة لهم مجدر ماكينات مقاتلة لا أكثر ، حسناً دعنا من ذلك ولنركز عليك ، يبدو أن صداقتنا ستكون إيجابية جداً بالنسبة للموقف المثالي الذي جمعنا !

أدعى أكسيس وهذا صاحبي الذي سبق وأن تحدث إليك يدعى أغيلاس ، ماذا عنك بماذا ينادونك ؟

– أدعى يوبا أطلقته علي والدتي العزيزة تيمناً بأحد ملوكنا الشجعان ، دائماً ما يغيظني الأولاد باسمي اللعين هذا ، فلقد كنت في صغري جباناً لا أمثل شجاعة وفخامة صاحبه في شيء ..

– يا إلهي ، اللعنة .. ظننت أنك الملك نفسه ، اعذرنا يا فخامتك لقلة احترامنا وعدم انضباطنا ..

– توقف أيها الأحمق دع الرجل وشأنه .. محدقاً إليه أغيلاس بغضب

رد عليه يوبا مبتسماً :
– لا عليك دع الرجل يروّح عن نفسه قليلاً ، لكنني أرى أن من مصلحتك يا أكسيس هو أن تصب كل تركيزك على الخروج من هذا المأزق الذي نحن فيه وليس علي أنا .

أكسيس :
– و ماذا تقترح أن نفعله أيها الذكي ؟

– بما أن الطعام ينفد والجيش ينقسم لم يبق لنا إلا الهرب ، فلن تفيدنا نقوده في شيء ولم يبق لنا عدد كاف من الجنود لمجابهة الرومان ، ببساطة نستيقظ في الصباح الباكر نحمل معداتنا وننسحب بهدوء.

أجابه أغيلاس :
– و إلى أين تظن نفسك ذاهباً ؟ هل تعتقد أننا سننجو في هذا الصقيع بدون مؤن أو دعم ؟ الأهم من ذلك إلى أين تريدنا أن نلجأ ..

يوبا :
– سنلجأ إلى قبائل الغال فهي في طريقنا مباشرة وبقاؤنا مع هذا الجيش المحطم سيبطئ تقدمنا فقط هذا إن لم نتعرض للأكل من بعض الصعاليك

– هل أنت مجنون يا هذا ؟ (أجابه أغيلاس ) أتريد منا اللجوء إلى بلاد الغال؟ لابد أنك تمزح ، هؤلاء المتوحشون ألا تعلم أن معظمهم متحالف مع الرومان .

رد عليه أكسيس :
– إني أوافقه الرأي فلا خيار آخر لدينا ، ربما سنموت في كلتا الحالتين لكني لا أريد أن تحرق جثتي على قمة جبل حقير مجهول

هكذا اتفق ثلاثتهم على الفرار ، ومع حلول الليل وفي أثناء توزيع وجبات العشاء لم يتناولوا شيئاً ، احتفظوا بحصصهم وقايضوا بعض مقتنياتهم ببعض اللحم من الجنود الآخرين، بعدها حددوا مكاناً بعيدا عن نقاط المراقبة للالتقاء به والانطلاق منه لكي لا يكشف أمرهم ، حتى ذلك الحين كانوا قد جمعوا مقدار مؤن تكفيهم لثلاث أيام ، بعدها لزموا أماكنهم للاستلقاء .

مع بزوغ الفجر وما إن غفت عيني يوبا بصدد النوم وإذ به يتفاجأ بصراخ الحراس وصهيل الخيول هجوم ..نحن نتعرض لهجوم ..؟ !

*****

لقد تعرض جيش حنبعل لغارة من إحدى القبائل الغالية التي كانت تترصدهم عبر الجبال

– أكسيس.. أغيلاس استيقظا هيا بنا اجمعا أغراضكما ولننطلق

– ربما ليس هذا ما خططنا له لكننا سنستغل الهجوم كتمويه لنا للهرب

حمل الرجال أغراضهم وانطلقوا يركضون عبر منحدر حاد يتجه أسفل الجبل ، في تلك الأثناء بدأ الظلام بالانقشاع للتمهيد لصباح جديد ، وبدت تتضح لهم الرؤية ، كانوا بصدد الخروج من المتاهة الجبلية التي أرهقتهم .

صاح أكسيس إنها الغابة إنها الغابة ..

أسرع الرجال نحو عمق الغابة للاختفاء عن أعين الفرسان الذين كانوا يطاردونهم على أحصنتهم ، كان الخوف يدب في قلوبهم لا يعرفون في أي اتجاه يذهبون ، فقد كانت الغابة مسكناً لأولئك القوم ، وها هم الآن يدخلونها بدون استئذان

لمح يوبا مدخلاً بجانب صخرة كبيرة اتضح فيما بعد أنها مغارة لدب أو حيوان ما …

دخل ثلاثتهم بدون تردد ، كان همهم الوحيد أن تتوقف هاته المطاردة أو بالأحرى محاولة اصطيادهم ، استلقى أحدهم على الآخر يلتقطون أنفاسهم وهم يحاولون ،استجماع قوتهم فجأة مرت بهم نخبة الفرسان المطاردين لهم

– لم يلاحظوننا لقد نجونا بأعجوبة ..

– اصمت يا أكسيس ألا تستطيع الهدوء قليلاً تثرثر حتى في المواقف الحرجة

– صمتاً أنتما الاثنان مازال الخطر محدقاً بنا في كل شبر من هاته الغابة ، يوجد شيء قد يصيبنا بأذى ، هل تظنان أنكما في قرطاج أو نوميديا ، تلك الصحاري القاحلة لقد سمعت عن زواحف ومخلوقات فتاكة تعيش في هاته الغابات ، بالمناسبة ما هاته المادة اللزجة على جسمك أشم رائحة دماء !؟

– اكسيس عن أي دماء تتحدث .. ؟

أجابه أغيلاس :
– إنني أحتضر ، إنها مني ، لقد أصبت بطعنة في المعسكر

– يا إلهي لم لم تخبرنا ! كيف حدث ذلك ؟

– لا يهم ذلك الآن ، كان الأمر سريعاً ، عندما هممت لإحضار أغراضي ، التقيت أحد الحراس فأخطأني لذا أصابني قبل أن يسقط هو الآخر بسهم من الأعداء ، لم نكن نملك الوقت المناسب لهاته الدردشة السخيفة ، لقد كنا في حالة حرب بالفعل لم أشأ أن أعرقلكم لذا لزمت الصمت

– لا بأس عليك يا صديقي ، سنقوم بعلاجك أنت لست وحدك لن نتركك ..

– شت شت اصمت إني أسمع حركة في الخارج ، لابد أنهم اقتفوا أثرنا سألقي نظرة سريعة للخارج وأعود

– سآتي معك

– لا أنت ابقى هنا مع أغيلاس حتى أعود

كانت هناك تحركات وأصوات غريبة داخل الغابة ، حمل سيفه ووضع خوذته وانبطح على الأرض زاحفاً خارج المغارة .

حاول استجماع قوته والاستعانة بمهاراته في القتال ، ذلك ما ركز عليه في الوقت الراهن ، قال لنفسه ربما هم فقط ثلاث فرسان أو أربعة سأشتت انتباهم داخل الغابة واصطادهم واحداً تلو الآخر .
زحف نحو مصدر الصوت حوالي ثلاثين قدماً ، فابتسم مما شاهده !

كان هناك جرو دب صغير يرعى ويمرح محدثاً جلبة كان المشهد ساحراً انساه لبرهة خوفه

لكن سرعان ما تغيرت ملامح وجهه إلى الرعب والهلع ، لقد ظهر دب ضخم بجواره ربما كانت أمه أو أياً كان ذلك ، فالمخيف في الأمر أنه لا يقاوم .

كان الدب في حالة استنفار وكأنه أحس بكائن يراقبه في حين حاول يوبا الزحف منسحباً ، وفيما كان يباشر في ذلك أصدر درعه خشخشة لينطلق الدب نحوه مهاجماً ، لقد اكتشف أمره ..

من حسن الحظ أنه كان يرتدي خوذته ، لقد تلقى ضربة على رأسه من طرف الحيوان الهائج ، أصيب بدوار طفيف لكنه استرجع توازنه بسرعة ملتقطاً سيفه طاعناً به ظهر المخلوق الضخم .

اهتاج الدب أكثر فأكثر منطلقاً بسرعة نحوه ليلقيه أرضاً غارساً أنيابه في ساقه ، لم يتحمل يوبا رؤية المشهد كان قد استسلم في تلك الأثناء ، فقد الوعي من شدة الألم والصدمة

*****

– اسمع يا هذا …استيقظ أيها القذر

سكب على وجهه دلواً من الماء و ألقى إليه ببعض الخبز

– مم ..ما هذا أيها ؟ !

– إنه حمامك أيها الحيوان

استيقظ ليجد نفسه داخل قفص وحوله مجموعة من الأولاد يمرحون ويلقون الدعابات فما بينهم ، وجندي ضخم عند الباب يحرسه.

لم يستوعب الأمر كيف ومتى وصل إلى هذا المكان !

– مرحباً أنت .. أيها القوي أين أنا وما هذا المكان ؟ منذ متى وأنا فاقد الوعي

رد عليه الحارس بنظرة احتقار ولكمة على وجهه :
– قلت لك الزم الهدوء لست في وضع يخول لك طرح الاسئلة هنا ، لا أنصحك بذلك مرة أخرى

– حسناً حسناً ، هل لي أن أتكلم مع سيدك ؟

– قلت لك الزم الصمت

هاته المرة فتح القفص ودخل إليه حاملاً بيده سلسلة حديدية ضارباً بها إياه بقوة على أنحاء جسده الجريح ، لقد قلت لك من قبل لا أنصحك بذلك لكنك أحمق عنيد..

بسرعة تجمع السكان يراقبون ما الذي يحدث

قبل أن ينزل ساعده لإتمام ضربته الرابعة ، أمسكت يد رقيقة ذراعه

– توقف ..قلت لك توقف عن إيذائه أيها الغبي

– ربما يدعي البعض أننا همجيون ومتوحشون لكننا لسنا أكثر وحشية من جيراننا الرومان نعم نحن كذلك ، فقط عندما يتعلق الأمر بعائلاتنا وأرضنا التي هي ملكنا هل فهمت ذلك ايها الصعلوك

– نعم سيدتي أمرك كما تريدين .. طأطأ الحارس رأسه واختفى بسرعة

كان يوبا مندهشاً من الموقف ، فتاة جميلة شقراء بهاته الرقة تواجه وحشاً بشرياً وتذله فقط ببعض كلمات منها

أشارت إليه بنظرات حادة :
– من أين أنت أيها الغريب المسبب للمتاعب ؟

أجابها :
– إذن من أنت لأتحدث معك أو .. أو أجيب عن أسئلتك

– من حسن حظك أن مزاجي معتدل لحد الساعة وإلا لكنت لقنتك درساً بنفسي على عدم انصياعك ، سأقول لك أمراً ربما من حيث أتيت أنت عدم التعريف عن النفس لا مشكلة في ذلك أبداً ، لكن في موطني يعتبر فعلاً وقحاً .

رد عليها يوبا :
– ربما سيقطع رأسي إن أخبرتك لكني أعدك أنني سأعرف عن نفسي وأقول الحقيقة كاملة ، ففي كلتا الحالتين أنا ميت لا محالة…

– ادعى يوبا من شمال إفريقيا ، ربما لم تسمعي بهذا المكان أبداً ، قدمت مع أحد القادة القرطاجيين للنيل من روما والتي هي على الأرجح حليفتكم الأهم ، كانت رحلتنا لا بأس بها إلى أن وصلنا للجبال ، بعدها تعرضنا لسلسلة من الأهوال حتى قررت في الأخير الفرار أنا ورفيقان لي ،الهرب من الجيش .

– أهاه ، إذن أنت أحد أولئك القتلة المأجورين ، لا أرى عليك أنك جندي نظامي في جيش ، إن كان كلامك صحيحاً فلباسك الفوضوي والأوشمة المتفرقة على أنحاء جسدك تخالفك الرأي

– معك حق أنت شديدة الملاحظة ، في الحقيقة أنا كذلك ، ما كنت فاعلة في مكاني لو كنت تملكين عائلة كبيرة تحتاج للإطعام ؟ ربما لو كنت وحيداً لما انخرطت في هاته المهنة القذرة ،لكن كما قلت لكِ أملك عائلة كبيرة وأنا ملتزم بإطعامها …

– نحن نعرف بأمركم منذ أن خطوتم أولى خطواتكم عبر الجبل ، كنا نراقبك حتى أننا لم نكن مضطرين للتدخل كل ما كان علينا فعله هو إلقاء بعض الصخور وإحداث القليل من الضرر لإحداث انهيار ثلجي من على قمة التل ، كان ذلك كافيا لدفن نصف جيشكم بدون طعنة سيف واحدة

– ماذا قلتِ ؟! إذن الانهيار لم يكن طبيعياً ، أنتم خلف كل ذلك الدمار .. !

– ها .ها..ها لا تكن ساذجا لتلك الدرجة ، حتى أننا سبب الوباء الذي أصابكم ، قبل كل ماحدث لقد قمنا بتسميم آبار المياه التي تزودتم للشرب منها في رحلتكم .

– أيتها المشعوذة عديمة الرحمة أنت بلا قلب ..

– هل هكذا يكون رد الجميل في موطنك لمن يقوم بإنقاذك

– عما تتحدثين أيتها المنافقة ، ما قصدك

– لا تكن وغداً ، قبل ايام كنت ستكون وجبة دسمة لأنثى دب لولا أنني لم أتدخل في آخر لحظة

– و أصدقائي ماذا حدث لهم أين هم ..

– لم نجد أحداً غيرك ، ربما في الأخير لم يكونا بما فيه الكفاية صديقين صالحين ، أراهنك أنهما هربا وتركاك وراءهما بمجرد أن سمعا صوت الحيوان .

أضافت .. دعنا من هاته المحادثة العقيمة ربما في الأخير كنت أنا الوقحة أني لم أعرف عن نفسي ، أدعى فريّا ابنة زعيم القبيلة وأنا قائدة فرسانه وحامية عرشه .

انبهر يوبا بما سمع كان يظن أنه يتحدث إلى إحدى الفضوليات من بنات السكان ، لم يصدق ما يحدث ، ظن أنها ستعاقبه أشد عقاب بسبب رده القوي عليها

قالت له :
– الآن خذ قسطاً من الراحة ، سأرسل من يحضر لك طعاماً ولباساً لائقاً ، وسنرى بعدها ما سنفعله بك

في اليوم التالي استيقظ على صهيل الخيول وصراخ الجنود ، كانت هناك استعدادات وتصرفات تنبئ عن قيامهم بغارة أخرى أو شن هجوم ، لم يكن يعرف حقاً ما يجري ، كل ما كان يهمه في تلك اللحظات هو ما سيفعلونه به ، فجأة اتجهت الشقراء بفرسها نحوه ترتدي درعها وترسها وتحمل رمحها ، اشارت به إليه ليخرج من قفصه

– هيا بنا ..تحرك أيها الهزيل لا نملك اليوم كله سنرى إن كنا سنستفيد من مهاراتك كمقاتل ، ألقت إليه بخوذة وسيف مع درع خشبي ، اركب ذاك الجواد والحق بنا لا تفكر كثيراً ربما ستكون هاته الجولة سبباً لخلاصك .

– عما تتحدثين ماذا هنالك .. ؟

– لقد قام الرومان الأنذال بغزو قرية مجاورة لنا أسروا أهلها وأحرقوها بالكامل ، سنقطع عليهم الطريق لتحرير المدنيين

– حسنا أنا موافق سأرافقكم

– وإن لم توافق لا أظنك تفضل المكوث هنا مع النساء و الأطفال ..

انطلقوا بسرعة متتبعين طريقاً مختصراً صعوداً إلى أعلى هضبة كانت تطل على أنحاء الغابة الموحشه ، كان أول مشهد جذبهم هو عمود من الدخان المتصاعد ينبئ عن حريق مهول، كانت تلك هي المقاطعة التي اغتصبت وشرد أهلها ، عاد المستطلعون بسرعة مشيرين إلى مكان تواجد العدو ، أمرت فريا فرسانها بالتحرك بسلاسة إلى أن يصلو مرمى الهدف .

كان يوبا مرتعباً ومشوشاً لم يكن متعوداً على قتال الغابات والأحراش كما لم يعتمد من قبل كذلك على استراتيجية المباغتة والكمائن المتبعة حالياً من طرف أصدقائه الجدد .

******

أطلقوا سهامكم ولتكن قاتلة …

بدأ الهجوم فعلاً ، شكلت الفيالق الرومانية جداراً من الدروع في محاولة يائسة منهم كسر هجوم المئات من المقاتلين المتدفقين عليهم من كل حدب وصوب ، لم يكن هجوم الغاليين المتبع دفاعياً كانوا يهاجمون بطريقة عشوائية لكن ما كان يميزهم في تلك الطريقة العفوية والغير منسقة هو شجاعتهم وقتالهم إلى آخر رمق .

كانت الجثث بالعشرات أما في الطرف الآخر من النخبة الرومانية فقد كان موتاهم بالمئات ، بدؤوا يلقون أسلحتهم معلنين بذلك عن استسلامهم .
في تلك الأثناء ألقى القبض على قائدهم الذي حاول الفرار ، كان وجهه شاحباً وتبدو عليه علامات الصدمة من الهجوم والانهزام الغير متوقعين ، سحبته فريا إلى وسط الميدان مذلولاً وأشارت نحو جنوده للنظر إلى قائدهم الذي تخلى عنهم .

أطلق صراح النساء والأطفال مما تبقى من السكان ، أما الرجال فقد كانوا قد قتلوا أو صلبوا جميعهم ولم يستثنى من ذلك الجرم الشنيع حتى كبار السن ..

التقطت خنجراً كان ملقى على الأرض وتقدمت ، مشيرة به إلى الجنرال المهزوم ، فجأة بدأ يضحك بطريقية هستيرية

– هل أنتِ جادة ؟ هل ستقومين بقتلي الآن ؟ افعلي ذلك وستنتقم منكم امبراطوريتنا العظيمة ببشاعة ستسحقكم ببساطة ، صحيح أنك قضيتِ على كتيبة كاملة لكن لم تري بعد قوتنا الحقيقية .

أمسكت بيديه وقطعت حبل قيده وقالت له « انهض الآن أيها الجبان التقط سيفك وأرنا قوتك التي كنت تستخدمها ضد الأطفال والنساء ، وأشارت بعدها إلى الشمالي قائلة تعال إلى هنا أيها النوميدي ، لقد قلت لك سابقاً أن هاته المعركة ستقرر مصيرك ألا تريد حريتك ..؟

لم يفهم يوبا ما كانت تقصده فكر في أنها ستقطع رأسيهما معاً وينتهي الأمر

– هيا فليبتعد الجميع ، أفسحو لهما مجالاً للقتال ، إليكم الخطة ، ببساطة من يفوز يحصل على حريته ، إن فزت أيها الروماني فسأطلق سراحك أنت ورجالك وإن فاز الشمالي فسينال حريته أعدكما بذلك

استعد الاثنان للمبارزة كان عرضاً سخياً من طرفها ، لم يكونا في وضع يستطيعا فيه المفاوضة أو الاختيار ، بدأ القتال ومعه الصرخات والصيحات المتعطشة للدماء ، كان يوبا في وضع لا يحسد عليه ، خاصة وأن ساقه لازالت محطمة ولم تشفَ بعد ، كان عليه الدفاع فقط في حين أن الروماني كان واثقاً من نفسه يستعرض قوته ، كان يرى يوبا على أنه هزيل وضعيف ولا فرصة له أمام قوته ومنازلته ، أعلن موعد القتال ، اندفع الرجلان نحو بعضهما بقوة ، كان فرسان فريا يشجعون الشمالي فلقد أعجبوا به ، كان قد أثبت نفسه بجدارة أثناء المعركة في وقت سابق .

استجمع قوته لينهض من سقوطه محاولاً الوصول إلى درعه ، كان الروماني يضحك ملء شدقيه من المشهد ومحاولات غريمه اليائسة للدفاع عن نفسه .

فكر يوبا في أنه لا طريقة للقضاء على خصمه إلا عن طريق مناورته وإجهاده ليكون القتال متكافئاً ، بعد مدة من فعله ذلك كان الأمر ينجح في كل مرة يتقدم فيها مافسه نحوه كان يتراجع برجله المصابة ويتجنب الضربات المتتالية عليه بصدها متقدماً برجله اليمنى .

بدت علامات التعب والإرهاق على وجه الروماني ، محاولاً كمرّة أخيرة صدم يوبا للسقوط أرضاً ، ليتجنبه هو الآخر فسقط أرضاً .

ألقى الشمالي بكل أسلحته أرضاً وألقى بجسده وراء الروماني مثبتاً إياه على الأرض ، لم يجد نفسه في وضع يسمح فيه بطعنه إلا عن طريقة واحدة وهي خنقه ، لف ذراعيه حول عنقه وضغط بقوة استمر في ذلك حتى بعد موت خصمه بمدة ، كانت فريا تراقب الوضع من بعيد لم تبدِ أي ردة فعل عدا أنها أمرت بالانتشار وأن الحفلة انتهت كان الرجال مجتمعين حول يوبا لتهنئته على بسالته وشجاعته ..

بعد مرور أشهر على وقع الأحداث وبعد شفائه التام تلقى يوبا استدعاءً من زعيم القبيلة نفسه يدعوه فيه إلى العشاء معه ، كان الحارس القائم على مراقبته قد أحضر له رداءً فخماً يتوافق مع المناسبة ، في تلك المرحلة التي قضاها بين هؤلاء القوم لم يحس يوماً بالاختلاف أو التمييز بينه وبينهم ، حتى أن أفراد وأطفال القبيلة صاروا يلقبونه بالشّمالي الشجاع ، كان يشعر بالأسى لاقتراب موعد رحيله عنهم ، جمع كل أغراضه من كوخه الذي نقل اليه من قفصه كعربون ثقة وشجاعة ، تأمل المكان لبرهة وبعدها خرج

دخل خيمة الاحتفالات و اقتيد لمائدة الطعام ، كان الكل يلتف حول مائدة واحدة على حد سواء ، أفراد الأسرة الحاكمة المقاتلين وكبار القوم .

لاحظ أن الجميع حاضر إلا وجهاً ألف أن يتأمله من نافذته وهو مختبئ ، أراد رؤيته بشدة للمرة الأخيرة ،أراد توديعها

– حسناً أيها الشمالي الشجاع ماذا قررت الآن ؟ هل أنت راحل إلى موطنك .. خاطبه الزعيم كانت تجلس زوجته على يمينه وعلى يساره ولده الصغير .

أجابه يوبا :
– نعم ذلك ما أظنه ، سأعود للديار خاصةً وأن الغرض الذي أتيت لأجله إلى هنا لم يتحقق

ابتسم الزعيم قائلاً له :
– لا تكن متشائماً لهذا الحد ، بما أننا تعودنا عليك وأحببناك كما هو ذاته نفس الشعور الذي تكنه لنا أنت كما أفترض فلقد خطرت ببالي فكرة ربما تكون مفيدة للجميع

– وركيف ذلك أجابه يوبا .. ؟

– بما أنك تقاتل مقابل المال فسأعقد معك اتفاقاً ، الرجال هنا يحبونك إضافةً إلى مهاراتك القتالية وشجاعتك ، فسأدعوك للانضمام إلينا ، ستعيش بيننا وكأنك واحد منا ، وإذا احتجناك في أي قتال أو شيء من هذا القبيل سنستدعيك وبالمقابل سندفع لك .

– وعائلتي ..ما الفائدة من مكوثي هنا و أموالي بحوزتي كيف سيستفيدون من ذلك !

– لقد فكرت في كل شيء سيكون ذلك آخر ما يقلقك ، نحن نملك قوافل تجارية تعبر هاته الجبال مروراً بديارك ، سنكلف شخصاً لنقل أجرتك لهم ، وزيادة على ذلك سأزودهم بالمؤن والطعام ، وذلك سيكون على حسابي

– ولكن …

– لا حاجة لك بالتحجج أو الرفض فمكوثك معنا هنا أمر يهمك أكثر مما يهمني

– لم أفهم كيف لي أن ..

– لا تدعني أحرجك أيها الشمالي ، فأنت عاشق ومحبوب ، فمنذ جلوسك معنا وأنت تبحث في الأرجاء كمن فقد فرسه ها..ها
سأغنيك عناء هذا كله ، إن ابنتي الغالية فريا تحبك وأنت تبادلها نفس الشعور ، لذا سأقدم لك أعز ما أملك ، سأزوجها لك ستكون أنت حامي هذه الديار وستكون هي سندك وملكتك المخلصة ، ألا تعرف عدم حضورها معنا الليلة أنها تظن أنك راحل بلا عودة ، ربما تظهر بمظهر الرجال ، قاسية صلبة لكنها أنثى بكل معنى الكلمة من الداخل ، فقط كبرياؤها الزائف جعلها تهرب نفسها .

*****

كان احتفالاً ضخماً يشهد له الجميع ، حضره كبار القادة والزعماء من القرى المجاورة ، تم لم شملهما واتحد قلباهما أخيراً ، كانت سعادتهما لا توصف ، شكلا زوجاً مثالياً حتى أن عائلة يوبا حضرت الحفل ، وذلك ما زاد سعادته ، كان والد زوجته قد أمر بجلبهم عندما كان يفاوضه على القتال إلى جانبه ، كان يعرف أنه سيوافق إن لم يكن لأجل المال فسيوافق لأجل ابنته .

كانت ماتزال الهدنة الهشة قائمة مع الرومان ذلك ما أعطاهم فرصة مؤقتة للراحة وللتركيز على حياتهم الخاصة ، فقد كان الرومان محتارين بشأن حنبعل وجيشه الذي كان يحرق مزارعهم ، ويقطع عنهم الإمدادات ، كان يتقدم بسرعة نحو مدينتهم قاضياً على كل مقاومة في طريقه .

بعد مدة طويلة من السعادة والأفراح نزل نبأ وفاة والد فريا عليها كالصاعقة ، كان بالنسبة لها أباً وأماً في آن واحد ، كانت قد فقدت أمها أثناء ولادتها لها ، دائماً ما كانت تلوم نفسها على ما حدث ولتصحيح ذلك في نظرها أقنعت والدها بالزواج مرة أخرى لإخراجه من متاهة الأحزان التي ألحقت الضرر به وبعشيرته .

كما لم تدم أفراحها طويلاً كذلك لم يدم حزنها ، كانت قد تداركت أن للحزن معنى وهو أن لكل نهاية بداية جديدة ، لقد وضعت مولودها المنتظر كان بغاية الجمال وبصحة جيدة ، كان والده غاية في السعادة لدى سماع الخبر ، أطلق عليه اسم سيغارد على اسم جده تمجيدا لذكراه ، كان مصراً على تعليمه كل فنون ومهارات القتال فيما كانت أمه تعلمه تاريخ وعادات المنطقة .

كان الفتى ينضج بسرعة ويزداد وسامة ، لم يكن ينقصه إلا نزاله الأول على أرض الميدان ، فلتثبت أنك رجل كامل كان ذلك ما عليك فعله .

كان يوبا يبتسم ويراقب الوضع من بعيد ابنه لم يخيب ظنه ، كان يقاتل بضراوة مع الفرسان في غارة شنوها على حصن مراقبة روماني مليء بالأسلحة والمؤن ، كانت الهدنة قد فسخت من الجانب الروماني بسبب عدم موافقة يوبا الانضمام في حربهم ضد قرطاج .

زوجته بالمقابل لم تكن أكثر سعادة فقد كانت غاضبة منه لأنه فرض عليها أن تلزم البيت وألا تتدخل في شؤون الحرب ، كانت تعرف أن قراره هذا هو فقط نابع من حبه لها وخوفه عليها ، بالرغم من ذلك كانت تشعر بالضيق وأنها عديمة الفائدة بمكوثها بالبيت وتمثيلها دور ربة منزل ، وبحكم أنها نشأت منذ نعومة أظفارها على القتال ووسط الجنود لم تحتمل واقع الحال التي هي عليه ..
فجأة وبينما هي مستغرقة في التفكير تخيط بدلة لابنها صاح بوق الحرب نداءً للقتال ، قامت بسرعة من مكانها لالتقاط أسلحتها ، امتطت جوادها وانطلقت بسرعة وراء الفرسان .

هيا تحركوا بسرعة ..الكل يلزم مكانه استعدوا ..

كان يوبا ينظم الصفوف ويتفقد استعدادات رجاله لأول مرة في حياته ، كان مرتعباً من المواجهة كان خائفاً لدرجة أنه لم يكن واثقاً من نفسه .
كانت الجحافل الرومانية تتقدم من كل صوب مدججة بآلات وماكينات حربية ضخمة "منجنيقات – أبراج خشبية للحصار – قاذفات للسهام "

كانت كل تلك الأعداد الهائلة من الجنود ، والآلات الغريبة الضخمة هي لغرض واحد وهو القضاء نهائياً على عشيرة يوبا وممن يساندونه ، كان انتقاماً أكثر منه تحدي أو غزو

لم يكن بمقدور الشمالي ملاحظة زوجته أو التعرف عليها ، كانت بين صفوف الخيالة تضع خوذتها وترتدي معطفاً من الفرو للتمويه عن نفسها ، في حين أنها كانت تراقب عن كثب ابنها ووالده على رأس الجيش ينظمون الرجال …

كان أكثر ما يحزن يوبا في تلك اللحظات المصيرية هو تفاؤل وحماس رجاله الزائفين ، كان الجميع يعرف أنهم لا يملكون أدنى فرصة للفوز إن لم نقل النجاة أمام تلك الجموع الهائلة .

رفع يده في إشارة منه لبدء الهجوم ، كان الجنرال والقائد الروماني يوليوس قيصر معروفاً عنه بدهائه في التعامل مع معارك من هذا النوع ووحشيته ضد أعدائه .. أطلقت العشرات من الحجارة وكرات نارية ملتهبة نحو الغابة التي كانت تشكل درعاً بالنسبة لجنود الشمالي لكن ذلك لم يكن كافياً كما كان متوقعاً ، بسرعة بدأت النيران تنتشر بسبب القصف الكثيف ، كان الأمر لا يطاق دخان .. فوضى في كل مكان لم يكن ذلك ما خطط له يوبا ، أراد استدراج الرومان إلى عمق الغابة كما اعتاد في خططه لكن على ما يبدو أن غريمه قيصر هو من يحاول استدراجه هذه المرة وعكس خطته عليه

لقد أطال مدة القصف ليجبر "الهمجيين" كما يحب هو أن يطلق عليهم ، للخروج ومواجهتهم على أرض الميدان التي كان قد درسها مسبقاً
في الأخير اضطر يوبا إلى إعطاء الأوامر بالهجوم ، لقد انتظر بما فيه الكفاية ، كان ينتظر وصول حلفائه من العشائر المجاورة لنجدتهم لكنه يئس وأدرك أخيراً أنه وحيد في هذه المحنة

أطلق وابل ثالث من قاذفات الأسهم أثناء تقدم رجال النوميدي ، كان العشرات يسقطون أمواتاً في الحال ، شكل جيش القيصر جداراً من دروعهم لكسر هجوم الغاليين ، كانت تلك هي طريقتهم المثالية للدفاع والهجوم في آن واحد ، و التحم الجيشان في قتال ضاري كانت فيه الأفضلية للرومان ، فقد كانوا يتمركزون أعلى التل .

في الجهة الأخرى من الغابة كانت فريا قد انطلقت مع جمع لا بأس به من الخيالة ومن جنود القرى المجاورة الذين كانوا يصلون في مجموعات في محاولة منها لكسر ثبات الرومان من الناحية الجانبية ، وبينما كان يوبا ورجاله المرهقين يقاتلون في عراك عقيم بين كر وفر أتى الفرج من محبوبته ناحية الميمنة من أرض المعركة ، تغيرت مجريات الأحداث بسرعة تقهقر الرومان للخلف ، وحل الفزع بينهم أحدث ذلك فجوة لابنه سيغارد وأتباعه في أن يقتحموا وسط الميدان على الجهة اليسرى

كان القيصر يخسر المعركة لم يصدق ذلك فيما استمر توافد مئات المقاتلين من حلفاء الشمالي ، لم يهضم يوليوس قيصر الخسارة وفي محاولة يائسة أخيرة منه أمر بقصف الجميع بما في ذلك جنوده ، اندهش الرماة والقائمين على الآلات بقراره ، كانوا غير متأكدين مما أخبرهم به ..

– قلت لكم اقصفوا الجميع أمطروهم بوابل من الجحيم .. اقتلوهم كلهم .. !

كان جنود القيصر يتقهقرون تمهيداً للانسحاب ، التفت يوبا ليشاهد ابنه وزوجته يقاتلان جنباً لجنب لم يكن غاضباً كان يبتسم وعلامات الرضى على وجهه ، كان يعرف أن فريا محقة عندما أصرت على الانضمام إليه والقتال بجانبه ، كانت تشكل دفعاً معنوياً كبيراً له

– لا لا لا …..يا إلهي لا .. ! ؟
حبيبتي ..

اختفت تلك البسمة من على وجهه بعد ضربة قوية من قذيفة نارية تلقتها زوجته على وجهها أسقطتها أرضاً …

انسحب القيصر مذلولاً بخسارته ، تاركاً وراءه آلاف الجثث من رجاله ومعظم آلاته الحربية تقريباً .
زالت نشوة النصر على الرجال بسرعة بعدما حدث لزوجة قائدهم ..اجتمعوا حولهما يراقبون ماحدث

صمت مطبق وهدووء مريب ..

-إنـ  ..إنها تتنفس أسرعوا ..اسرعوا قوموا بنقلها للعلاج بسرعة

– هيا أخبرني أيها الحكيم هل ستتحسن هل هي بخير

– حسناً حسناً زوجتك بخير ، تعرضت لبعض الحروق ستتعافى مع الوقت لكن ..

– لكن ماذا أطلعني على الأمر ..

– على الأرجح زوجتك لن تراك مجدداً ؟

– لم أفهم الأمر أيها الحكيم ، لقد أخبرتني أنها تعرضت لحروق طفيفة فحسب !

– نعم نعم ، إليك الأمر ، زوجتك فقدت بصرها ولن ترى مجدداً

*****

لقد رأى لمحات عديدة من حياته في غفوته السريعة تلك ، تحت شجرة بلوط ضخمة تناول غدائه تحتها استيقظ بعدها لم يكن يشعر بأي شيى نحو الماضي البعيد ، كان كل همه في تلك الأثناء هو العثور على ولده ..

جمع أغراضه وامتطى حصانه متوجهاً بحذر نحو البلدات المجاورة لروما ، كان قد سمع أخباراً من بعض الأشخاص أن ولده شوهد آخرة مرة هناك ، كان ينتقل من بلدة إلى أخرى يسأل فيها عن ابنه الوحيد سيغارد

بدأ اليأس يتملكه ، لم يكن متأكداً مما سيحدث ، أو ما حدث فعلاً ، فجأة وفي طريقه لمح أعمدة دخان متصاعدة إنها قرية أخرى ، كان يتساءل يا ترى هل مر سيغارد من هنا.. هل هو هنا … ربما أصابه مكروه ولجأ إلى هذه البلدة

حسناً إذاً سألقي نظرة وأعود أدراجي إلى زوجتي ، لقد أطلت الغياب لا أعرف ما أخبارها ولا أخبار عشيرتي ، لقد أطلت الغياب فعلاً ، وربما حدث مكروه ، تباً كم أنا عنيد أخرق ، لو أرسلت رجالي لتقصي الأمر لما تحملت عناء قلقي هذا ..

– هاي أنت مرحباً أيها الغريب ، ناداه شيخ يقود عربة تجرها الخيول ، يبدو عليه أنه بائع متجول كما يبدو

– خبرني من أين أنت هل تحتاج لمساعدة ؟

أجابه يوبا أظن ذلك ، إنني غريب عن هذه الديار ، قبيلتي بعيدة أعلى الجبل ، وأنا أبحث عن ولدي أرسلته في طلب ما ، لقد مر على ذلك أسابيع وأنا أبحث عنه ، وكما ترى لقد قادتني الطريق إلى هنا

– حسناً أظن أنني أعرف عما تبحث ، لقد التقيت بشاب في طريقي منذ أيام يسأل عن دواء لمرض ما لم أتذكر حقاً ما هو ذاكرتي تخونني أحياناً ..لا عليك ستكون ضيفي اليوم وغداً سأدلك على وجهة ابنك ..

حقا ما قلت ؟ هل أنت جاد ؟

– نعم أنا متأكد من ذلك لا تخف ، الفتيان في سنهم يحبون اللهو والمغامرة ، أنت تعرف ذلك ، أحياناً يشعرون بالملل ربما وجد فتاة ووقع في غرامها ألا تظن ذلك

أجابه يوبا بابتسامة مصطنعة ..نعم ..يمكن حدوث ذلك ولكن دعنا من هذه الألاعيب والتخمينات التافهة وأخبرني حقيقة أنك تعرف حقاً الطريق التي سلكها الولد ..

– نعم قلت لك أني أعلم وأراهنك على ذلك

– إلى أين إذاً ؟

– إلى روما الامبراطورية

– ماذا تقول هل جننت على الأرجح أنه قتل الآن !..

– هناك سيجد كل شيء ، كل أنواع الأدوية والعطور وأجود الخمور ها..ها

– أتراني أمزح أيها العجوز الخرف ..

– لا داعي للغضب ستبيت الليلة عندي وغداً أرسل أحداً من معارفي يدخلك المدينة بدون أن يلاحظك أحد ، وأجزم من انفعالك هذا كله أنه غير مرحب بك هناك ، هل أنت من أعداء روما أو شيء من هذا القبيل ؟

– لا لست كذلك فقط أريد العثور على ابني والعودة إلى زوجتي

أقام يوبا ليلته عند العجوز وفي الصباح الباكر أرسل معه رجلاً ليدخله المدينة ، كان شخصاً هادئاً ، لم يتكلما طوال الطريق بكلمة فأراد أن يختبره في ما قاله العجوز وهل هو أهل للثقة أم لا

– قل لي ما قرابتك مع هذا العجوز

– أنا أعمل عنده

– مم ..حسناً إذاً

– هل تستطيع إدخالي المدينة بدون أي مشاكل ؟

أجابه بابتسامة خبيثة .. نعم وماذا تظن غير ذلك ؟ الحراس يعرفونني منذ زمن طويل أعمل هناك كبائع للسمك

– حسناً سيكون ذلك جيداً

كان يوبا قد ترك حصانه وأسلحته عند العجوز حتى يعثر على ابنه ، اقتربا من البوابة الضخمة للمدينة كانت الأسوار عالية تحتوي على العديد من الحصون وأبراج للمراقبة ، فكر برهة في نفسه وهو يتأمل المشهد المهيب في لو أنه حاول رد هجوم الرومان سابقاً فكيف له دك هذه الجدران الضخمة والدخول ! كان يشعر بالسذاجة بتفكيره في هكذا أمر وهو في هذا الوضع الذي لا يحسد عليه .

فور وصولهما حاول يوبا بجهد إخفاء وجهه مرتدياً قلنسوة ردائه الذي أعطاه له العجوز لألا يلفت الأنظار من حوله ، ابتسم مرافقه لدى إلقاء التحية على الجنديان اللذان يحرسان البوابة ، أشعر يوبا ذلك الاستقبال بالراحة حتى حين وجهت إليه ضربة من الخلف على رأسه أفقدته وعيه

******

– استيقظ يا رفيقي ..استيقظ هل تشعر بتحسن الآن

– من أنت ..ماذا حدث !

– لا تفزع ياصديقي أنا صديقك أكسيس.. ألم تتعرف علي

– هل هذا أنت حقا أيها النذل ؟ لقد مر وقت طويل ماذا حدث لك ، كيف وصلت إلى هنا أين هو أغيلاس هل هو هنا معك ؟

رد عليه اكسيس :
– آسف يا رفيقي ، أغيلاس لم يستطع النجاة ، لقد فقد الكثير من الدماء ومات بعد ساعات من رحيلك ، ظننت أن ذلك الدب قضى عليك ولم أستطع الانتظار أكثر ، خرجت بعدها من الكهف لأبحث عنك فوجدت الحيوان اللعين مرمياً على الأرض ولم أجدك بجواره ، ظننت أنه التهمك وتوقف قلبه عن العمل بسبب لحمك العفن …

رد عليه يوبا مبتسماً : كما عهدتك دائماً كثير الكلام وتحب المزاح كثيراً ، تلك كانت قصة طويلة أنت تتذكر مجموعة الفرسان تلك الذين كانو يطاردوننا

– نعم أتذكر جيداً

– لقد كانت بينهم امرأة وهي من أنقذت حياتي وأخذتني لقبيلتها

– أها ، هل هي جميلة كيف تبدو ..

– إنها زوجتي الآن أيها الوغد ، وأنا حامي قبيلتها ، كما لدي ابن منها كذلك

– هذا كثير يا صديقي إنك فعلاً لمحظوظ يارفيقي ، من قاتل مأجور إلى ملك ما هذا الجنون كله ! أخبرني الآن لماذا تركت كل هذا النعيم وراءك وأتيت هنا لتصارع الموت .

– لقد قلت لك إنها قصة طويلة ، لقد انقلبت حياتي رأساً على عقب ، زوجتي مريضة جداً احتاجت لذلك دواءً خاصاً فأرسلت ابني سيغارد لجلبه فلم يعد ، لذا ها أنا هنا الآن أمامك ، خرجت للبحث عنه منذ اسابيع فالتقيت بعجوز مخادع أوهمني على أنه سيقوم بمساعدتي ، لقد وثقت به كما كنت أظن لكنه قام بخداعي وأرسلني إلى هنا

– ماذا قلت ؟ هل ذكرت شخصاً يدعى سيغارد ؟

– نعم إنه ابني .. يدعى كذلك

– أظن أن هناك شخصاً ما معنا هنا يلقب بهذا الاسم ، لم ألتقي به كثيراً ، إنه يقيم في زنزانة أخرى لا يدعون لنا فرصة للاجتماع أو التعرف على بعضنا ، يشاع أنه مصارع بارع ولحد الآن لم يخسر أي مبارزة ..

– هل تقصد أنكم هنا كمجالدين .. !

– نعم نستخدم لغرض إمتاع الجماهير في الحلبة ، من ينتصر يحيى ليعيش يوماً آخر ، لم أكن أكثر حظاً منك ، عندما افترقنا قمت بإخراج أغيلاس من المغارة ودفنه في الغابة ، انتظرتك ليوم آخر وبعدها حاولت العثور على مكان آخر ، وفي طريقي ألقي القبض علي من قبل دورية رومانية ، عملت في المزارع والحقول حتى انقضى موسم الزراعة ، لأنقل بعدها أنا ومجموعة من العبيد إلى هنا مباشرةً ، قاموا بتدريبنا في مدرسة خاصة كل أنواع القتال بما في ذلك مصارعة الحيوانات المتوحشة ، لم أعد أحتمل يا رفيقي ، الوضع لا يطاق ، لقد اشتقت للوطن ولعائلتي لقد بعت نفسي يوم وافقت على عرض حنبعل

– لا عليك يا صاحبي سنجد طريقة للخروج من هذا المكان كما فعلنا سابقاً ألا تذكر ..

– هذه المرة لا أظن ذلك ، هنا إما أن تفوز وإما أن تموت لتلقى جثتك طعاماً للأسود

– هدووء ..اصمتا حالاً أيها الوغدان كفى ثرثرة .
 قام عبد ضخم بفتح باب المرقد الذي يحتوي على العشرات من المصارعيين ، كان يلقي لهم الطعام كالكلاب فيما يبدو أن الجميع يهابه ..

– أنصحكما بالتفكير في صباح الغد لديكم قتال كبير لخوضه والأمر يعنيك أنت كذلك أيها المبتدئ .. مشيراً إلى يوبا

*****

استيقظ الرجال على ضرب السوط استعداداً لخروجهم للقتال ، كان الشمالي مندهشاً من ضخامة المدرج الذي يجلس عليه المشاهدون ، وفي المقدمة يجلس الامبراطور وأعضاء مجلس الشيوخ ، كان رمزاً للامبراطورية الرومانية بالنسبة لهم أكثر منه مكاناً لسفك الدماء .

كان الصراع يقام أحياناً بين مجموعة كاملة من الرجال لتمثيل معركة شهيرة أو حدث تاريخي تستعمل فيها العربات والحيوانات ، كان العشرات يضحون بحياتهم من أجل إمتاع وترفيه الشعب

في ذلك اليوم كان يوبا محظوظاً ، كان الصراع بين زوجين من الرجال فقط ، لم يكن منافسه بتلك الصعوبة التي توقعها ، فبعد جولة سريعة أسقطه أرضاً بطعنة من سيفه

كانت الجماهير تتهافت وتصرخ تعطشاً للمزيد من الدماء ، لم يصدق يوبا تلك الوحشية والشذوذ النفسي الذي شاهده في ردة فعل مواطني روما وهو الذي لطالما نُعِت هو وقومه بالهمج والبربرية

اتجه نحو غريمه الملقى على الأرض لينزع خوذته كان يريد أن يتعرف على وجه منافسه ، فكر في نفسه لربما كنت قد طعنت ولدي المسكين ..

كان مجرد ولد صغير ربما اختطف من قريته أو أسر في معركة ، لم يكن سعيداً بما شاهد أو اقترفت يداه ، كان الأمر كله خاطئاً

أعيد الأحياء من المصارعين إلى زنازينهم لكن أكسيس لم يكن من بينهم ، أمر العبد الضخم رجلاً آخر للدخول إلى الزنزانة مع يوبا ، ارتاب الشمالي مما قد حدث لرفيقه ، هل نقل إلى مكان آخر ؟ ربما أطلق سراحه.. هل يكون ربما قد قتـ… ؟

أشار إليه العبد بسوطه ضاحكاً :
– هل تبحث عن شيء ما أيها الحيوان ؟ أظن أنك تتساءل عن رفيقك ، حسناً سأطمئنك ، لقد أصبح الآن طعاماً للأسود والكلاب وعلى الأرجح ستكون أنت التالي غداً .

مر على يوبا أسبوع مجهد ، كان التدريب شاقاً تأهباً لعرض آخر ، كان محبطاً بفقدان صديقه وتفكيره بأن ولده قد قضى نفس المصير.. تذكر زوجته وما سيحدث لها إن سمعت أنها قد فقدت الاثنين معاً الزوج والابن مرة واحدة على الأرجح أن المسكينة ستجن

يضرب على قضبان السجن بسوطه ويجلد كل من يجده أمامه ، كعادته دخل العبد الضخم يوقظ الرجال للخروج والاستعداد

– هيا تحركوا بسرعة ، قوموا من أماكنكم وارتدوا دروعكم لدينا عرض لنقدمه ، لم ينم الشمالي جيداً ، أجهده التعب والتفكير بما حدث وسيحدث

– هيا قم أيها البربري ، لقد جهزت لك مفاجأة سارة ربما ستسعدك !

بعد عدة جولات من القتال حانت لحظة يوبا للدخول إلى الحلبة ، ارتدى درعه ، خوذته وحمل سيفه ودخل على أصوات وصياح الجماهير المتعالية ، كان المكان مكتظاً كالعادة ، لم يكن يحس بأي شيء ، اعتاد على القتال والذبح لم يتبقَ له شيء كل الأشخاص في حياته ممن كانوا يهتمون لأمره إما فقدوا أو ماتوا ، كل شيء جميل في حياته اختفى كما لو لم يكن ..

– وبما ينفعني ذلك أصلاً (قال في نفسه ) فأنا الآن عبد مأمور ملك للرومان

دخل منافسه من الجهة الأخرى يحمل سيفه ويرتدي خوذته ، يبدو عليه أنه خصم جدير بالمواجهة

– حسناً إذاً ربما كان العبد الحقير محقاً ، سأموت على يد مقاتل يستحق ذلك

ضربت الطبول لتعلن بداية المواجهة ، انطلق الخصمان بقوة نحو بعضهما لتتعالى بذلك صيحات الجماهير المتحمسة والمتعطشة للدماء ، كان القتال ضارياً ، أدرك يوبا أن خصمه سيقضي عليه ، لاحظ ذلك من طريقته في المناورة والاندفاع ، لم يستطع أن يثبت أمامه ، لديه نفس مهاراته وكأنما يقرأ أفكاره

طالت مدة صراعهم ذلك الذي لم يتعود عليه المشاهدون من قبل ، كانت علامات الاستياء والملل واضحة عليهم

– هيا ايها النذل فلتنحر عنقه ..

– فليذبح كل منكما الآخر ….ماذا تنتظران

أحس يوبا بالذل والمهانة في تلك الأثناء ، لم يكن ليتوقع أبداً في حياته أن يصبح على ما هو عليه الآن آلة قتالية لإمتاع الجمهور

فجأة ألقى بسيفه أرضاً وخلع خوذته واستدار إلى المدرجات الذي ظل أصحابها واقفين بصمت يشاهدون الوضع الغريب

"لن أنحر أحداً بعد اليوم أيها المرضى المجانين.. لست ملكاً لأحد ، لقد ولدت حراً و سأموت كذلك "

مما زاد غرابة المشهد أن المجالد الآخر ألقى أسلحته كذلك

******

ـ أبي ..أبي إنه أنا سيغارد ولدك !

لم يكن الشمالي متأكداً مما كان يسمعه ، ظن أنه يحلم مجدداً ، كالذي حدث معه أثناء غفوته تحت شجرة البلوط

لم يصدق شيئا مما يحصل..أهذا حقا أنت يا سيغارد

التفت خلفه ليرى فلذة كبده ، كان وجهه محطماً وجسده مشوهاً كأنه فتى في جسد رجل أتى عليه الدهر ، احتضن الاثنان بعضهما والدموع تنهمر من عينيهما ، كانت فرحة هستيرية ، همس يوبا في أذن ولده :
– أتعرف الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ؟

– كيف ذالك يا أبي لم افهم قصدك ! ؟

– إنه لا شيء ، فقط ليس إلا وهماً عنيداً يستمر إلى ما لانهاية …

فجأة فتحت الأقفاص و أطلقت عليهم الأسود

التفت الولد لأبيه مبتسماً وقال له :
– لم أفهم ما تريد أن تقوله لي من كلماتك هذه لكنني أثق فيما قلته سابقاً ..

" لقد ولدنا أحراراً وسنموت كذلك "

 

تاريخ النشر : 2018-03-26

guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى