أدب الرعب والعام

حوريات وهران

بقلم : ميهرونيسا بربروس – الجزائر

حوريات وهران
لها شعر أشقر طويل تراقصه الرياح .. تعزف على قيثارة جميلة لحناً لم تُحِط أذناه بمثله عذوبة

قبيل انقضاء ثلث الليل الآخر , تراءت له على البعد امرأة جالسة على صخور البحر المتراكبة , لها شعر أشقر طويل تراقصه الرياح و ذراعين ناعمتين ترتدي ثوباً أبيضاً رقيقاً كأنما هو الرباب يتراءى من خلفه ساقاها الممتدان إلى الموج, و تمسك بيدها تعزف على قيثارة جميلة الإيقاع لحناً لم تُحِط أذناه بمثله عذوبة و دفئاً , فجلس يترنم ذلك اللحن البديع و المنظر الوديع ثم سرح بعينيه في الأفق يتعقب خيط الفجر يزداد وضوحاً و سطوعاً , و بينما هو كذلك حتى التفت إلى مكان الفتاة فإذا هي غادرت في حين غفلته و شروده , و إذا بصوت قيثارتها لم يتبقَّ منه إلا بعض نغيمات تداعب ذاكرته .

*** *** ***

كان سعيد شاباً في العقد الثاني من العمر و صياداً محترفاً و هبه الله صورة من أجمل الصور و أحسنها ، و كان شديد الفخر بنفسه و بمهارته محباً للبحر و غماره لا يكاد يفارق قاربه ساعة , حتى جاء اليوم الذي لمح فيه تلك الفتاة عند البحر فمكثت صورتها لا تفارقه ليله نهاره , فتردد مراراً إلى المكان الذي رآها فيه عله يجدها لكن يبدو أن لقاءه الأول بها كان الأخير , و مرت الأيام لينضب في قلبه آخر ما تبقى من ذلك الفيض الذي استهواه أياماً من زمان , و غدت حسناء البحر حكاية فجرٍ دابر .

و إذا به عائد ذات ليلة من الليالي من حفلة كانت في منزل صديق له , فتذكر أن له شبكة ماتزال ملقاة في البحر فهمَّ بالذهاب لسحبها فقعد به أنه ليل مظلم و المكان بعيد قليلاً , ثم أخذت الوساوس تعبث برأسه حتى أقامته من فراشه و مشت بقدميه صوب البحر فصوب الشبكة , و كانت كما هي على حالها فتقدم لسحبها و ما كان يحسبه ليجد شيئاً فيها , غير أنها كانت ثقيلة و كأن بها أطناناً من السمك , فكان يسحبها بصعوبة بالغة و كأن شيئاً آخر يسحبه حتى ليكاد يهوي به في الماء , فلم يثنه ذلك شيئاً بل زاد من إصراره و عزمه على رفعها , و من داخل الشبكة التي لم تزل الأمواج تلاطمها ظهر له ساقان , كان مندهشاً .. ما هذا الذي بالشبكة , هل يعقل أنه إنسان غارق .. من يدري 

 لكن سعيد لم يكن شاباً شجاعاً لدرجة أن يسحبها أكثر ليرى ما بداخلها ، و ما إن هم لينفض يديه منها حتى أحس بشيء يضطرب فيها , أمعن النظر في الماء فرأى من بين لجج الظلام يداً تمتد لتقبض على حبل من حبال الشبكة ، و إذا به يسمع صوتاً خافتاً بحّاً يقول أرجوك ارحمني , فعرف أن بها إنساناً ما يزال حياً , فتحامل على نفسه و حملها ما لا تكاد تطيق و سحب الشبكة إلى أعلى , تم سقط على الصخور تعباً منهكاً , لم يستغرق منه تعبه إلا بضع دقائق للراحة ثم قام ليتفقد صيده .

الليل جميل و البحر أجمل و النجوم أروع و الدنيا أعجب , مدت يدها إليه و قالت بصوتٍ أقرب إلى الصمت منه إلى سائر الأصوات : ساعدني يا سيدي .. ساعدنـ , و هنا انقطع نفسها و أغمي عليها .

 كانت هذه الفتاة داخل الشبكة هي بعينها الفتاة الحسناء التي لمحها في ذلك الليل على صخور البحر لكنها بدت هذه المرة شاحبة متألمة كأنما هي عائدة لتوها من موت محقق , أهاج في قلب سعيد ما رأى من حب كامن و وله طالما تناساه و عادت به هذه اللحظة لسابقتها من تلك الليلة بسمائها و لحافها الداكن السواد المرصّع بالنجوم , و نسماتها الهبَّابة الباردة و قمرها الوضاء الساطع و بحرها اللمّاع الهائج و صخوره الملساء التى تصارعها أمواجه فتصدها فلا تستطيع لها هضماً , و حسنائه المتهللة العازفة , و لحنها الوديع و فجرها البديع .

لم يجد سعيد بداً من أن يحمل الفتاة إلى المستشفى و ما إن هم بحملها حتى استيقظت و رأته بجانبها فقالت له : لا تأخذني إلى أي مكان يا سيدي , دعني هنا و سأكون شاكرة لك فضلك ما تبقى من حياتي , فاشتد عجباً لكلامها و قال : ما لك يا آنسة ؟ يبدو أنك لست بخير , و أخشى عليك إن تركتك هنا أن يصيبك مكروه , ثم تدارك و سألها : أم أنك تنتظرين شخصاً هنا ؟ 

فلم تجب على سؤاله و جلست صامتة فلم يكن له أن يقابل الصمت بشيء غير الصمت فوجم صامتا يتفحص في وجهها و يعيد في ذاكرته تلك الأماني الرقاق , و إذا به شارداً في أفكاره حتى رآها تشهق شهقات متتابعات كأنها تسترجع نفسها , ففتح حقيبته و أخذ منها قنينة ماء و أشربها منها فعاد إليها نفسها فشكرته ملوحةً برأسها و اعتدلت في جلستها و قالت : ما كنت أتمنى أن يراني أحد يا سيدي بل لم أكن أرغب أن يعلم إنسان بوجودي , فابتسم و قال : لقد مضى أكثر من شهرين مذ رأيتك , فالتفتت إليه مستغربة , فواصل قائلاً : 

كان الفجر لم يطلع بعد و كنت أتجول في الأرجاء فلمحتك هناك _ و أشار إلى الصخور التي عند البحر _ كنت تعزفين على قيثارة لحناً جميلاً شجياً لم أسمع في حياتي كلها لحناً أشجى منه و لا أروع ، فشعرت أنه يمتزج بشيء ما في روحي , فمكثت أراقبك وقتاً ما كان بطويل و لا بقصير , و سرعان ما شرد ذهني في شيء لم أعد أتذكره فالتفت إليك فلم أجدك , فلم أنْفَكًّ متعلقاً بخيالك الذي ما كان يفارقني لحظة واحدة , و ترددت إلى المكان الذي رأيتك فيه أملاً أن ألقاك مرة أخرى لكن لم يكتب لي أن أراك مجدداً إلا اليوم و في هذا الحال .

فصمتت قليلاً ثم قالت : إنه لمن أعجب العجب أنك لم تجد هذا غريباً .
فقال : ما تقصدين ؟
قالت : أعني أنك رأيتني أعزف عند البحر في وقت متأخر و في جو بارد ثم وبعد مرور شهرين تجدني في شبكتك التي كانت داخل الماء حية , ألا يبدو لك هذا غريباً ؟
و ما إن حرك شفتيه يريد الحديث حتى قاطعته قائلةً : أنا لست ببشرية يا سعيد

لم يكن سعيد ليستغرق أقل من دقائق ليفهم معنى كلامها , لكنه لم ينتظر حتى يحط بذلك علمه , فانتفض من مكانه يريد الهرب لكنها أمسكت بيده و جذبتها إليها و قالت : أستتركني يا سعيد , و بعد كل هذا ؟ يا لك من شاب بسيط , لولا أني ما لمست فيك طيبتك و بساطتك ما كنت لأخبرك بحقيقتي , و وضعت يديها عل كتفيه و قالت : أتحبني يا سعيد , فتضعضع و خضع لها و قال : أحببتك منذ اللحظة التي رأيتك فيها , فشابكت أصابعها بأصابعه و أمسكت عليها بقوة و قالت إذاً عليك أن تسمعني حتى النهاية , و شرعت تقص قائلة : 

في زمن غابر كانت حوريات البحر تظهر نفسها للإنسان و تتعامل معه و تتعايش , و بموجب عهد قام بيننا و بين بني البشر كانت الحوريات تساعدن الإنسان لحل مشاكله في أعماق البحر , فكن تساعدن ربان السفن و البواخر لخوض غمار المحيطات و استخراج الكنوز من أعماق البحار و تنقذن السفن من الغرق و تنلن بذلك حقوقاً على الأرض , لكن مع مضي الزمن أصبح الإنسان ينقض العهود و لا يفي بالوعود فنقض عهدنا و أخلف و عدنا و أصبح يستغلنا في مصالحه الشخصية التي لا تدر على المخلوقات الأخرى بفائدة , فاصطادنا و سجننا و اتخذنا سلعاً يجني أموالاً طائلة مقابل بيعنا أو عرضنا في الأسواق و الاحتفالات , و منذ ذلك الوقت أصبحت الحوريات يتخفين على أعين البشر حتى نسوهن و لم يعودوا يذكرون من سالف أمرهن إلا أساطيراً عفا عنها الزمن .

لم يقتنع الفتى بقصتها و لم يكن ليعتقد إلا أنها مجرد خرافة , فقال لها ساخراً : و لما عدت و أظهرت نفسك للإنسان ؟
فقالت : أعرف أنك لن تصدقني مهما قلت لك ففي النهاية أنت بشري .
قال سعيد : إن قلنا أن هذه القصة صحيحة فعليك أن تثبتي لي أنك عروس البحر فعلاً .
فابتسمت و قالت : ما توقعت إلا أن تقول هذا , و سأثبت لك أنني أستطيع أن أتنفس تحت الماء .

و فصلت يدها عن يده و قفزت في البحر و اختفت في عبابه , حاول الشاب اللحاق بها لكنه لم يحتمل صقع الماء فوقف على الصخور العالية يناديها بصوت محزون بائس و ينشدها أن تترفق بنفسها و تعود إلى اليابسة , لكن لم يكن لذلك جدوى فجلس يبكي و ينتحب و يلوم نفسه على ما دفع إليه الفتاة المسكينة , فهو كذلك حتى انقضى ثلث الليل الثاني و إذا به يرى شيئاً يتقلب بين الأمواج و إذا به يقترب شيئا فشيئاً حتى بات يراه بوضوح , فإذا بها الفتاة تلوح له بقيثارة في يدها .

أعجب سعيد ما رأى , لكنه ظل مترنحاً بين تصديقها تصديقاً تاماً أو تكذيبها تكذيباً تاماً , خرجت الحورية من الماء و ضربت بأناملها على أوتار قيثارتها لحناً قصيراً ثم قالت للفتى : أصدقتني الآن ؟ فهز بكفيه أن لا أدري , ثم نظر إليها بعيون يغمرها الحزن و الحيرة معاً و قال : أعائدة إلى البحر أنت , فمتى أراكِ ؟ رفعت الحورية عينيها إلى عينيه فرأت دمعة تترقرق بين جفونهما يحاول جاهداً منعها من النزول فلا يقدر , فقالت له : رويدك يا فتى , فللقصة تكملة يجب أن تدري بها , و أنشأت تقول : 

نقض البشر عهدهم و غدروا بنا فأصبحت الحوريات لا تظهرن أنفسهن لهم و ذلك منذ زمن بعيد , هذا الفعل المقدم عليه من طرف الإنسان دفع الحوريات لحل الميثاق المعقود من طرفهن و كانت خطوة تتبعها عواقب وخيمة كن على دراية بها , فقدت الحوريات قدرتهن على التنفس خارج البحر إلا ليلتين من كل شهر متى كان القمر أحدباً و أثناء ثلث الليل الآخر حينها يمنحن أقداماً كأقدام البشر و يستطعن استنشاق الهواء الذي طالما يشعرن بالحنين إليه و كان عليهن العودة إلى الماء قبل بزوغ الفجر

 لقد حقّ علينا العقاب نحن معشر الحوريات جزاء حل العهود و أي عهد هو عهد يبقينا للإنسان عبيدا بلا حرية و لا ثمن , لكن البشر لم يعاقَبوا على خذلانهم و خيانتهم و هاهم أوُلاءِ يتابعون حياتهم كما كانت كأن لا شيء كان ، بل و ازدادوا إفساداً لما على الأرض و ما فيها و لما تحت البحر يعوم و لما في السماء يحوم , و أنا يا سعيد … و تنهدت بعمق ثم واصلت :

 كان علي ان آخذ بنصيبي من ثمار خطيئة أسلافي , رأيتني يا سعيد حيث ما كان ينبغي أن تراني و لا أن تدري بوجودي , فلم يعد لي أن أعيش في البحر موطني , فسلبت ذيلي و فقد جلدي تدريجياً قوته على البقاء مدة طويلة تحت الماء بينما لم أفقد قدرتي على التنفس فيه , جزاء كل حورية رآها إنسان .

ظل سعيد مطرقا برأسه و هو يستمع إليها و عندما أنهت كلامها رفع رأسه إليها و ابتسم و قال : ليس لي أن أدعك هنا وحدك و ليس أمامك إلا أن تأتي معي إلى بيتي فأنا أسكن وحدي و لا تخافي فلن أمسك بسوء أبداً .

اصطحب سعيد الفتاة إلى بيته و أمن لها الطعام و الشراب .

*** *** ***

جلس سعيد إلى الحورية و أخذ يحدثها عن يومه كيف كان ثم جرَّ الحديث بعضه إلى أن قال لها : تعلمين أنه من غير الممكن أن تبقي هنا لفترة طويلة و ما أنا بقادر على إبقائك و لا على فراقك و قد مرت أربعة أيام مذ جئت إلى بيتي و طالما أنك أحببتني أيضاً فأريد أن أعرض عليك الزواج لتبقي معي مدى الحياة بقاءً لا شكاً فيه و لا ريبة 

و ما إن وصل في الحديث إلى هذا الحد حتى اضطربت و تغيرت ملامح و جهها لكنها تمالكت و قالت : أما و قد ملك حبك علي روحي و جناني فلا أريد إلا أن ألازمك ما تبقى من حياتي و حياتك , أن ألازم إلى الأبد شخصاً لم يلحق بي سوءاً طوال مكثي عنده و هو يعلم أني في دار غربة , لا من يعرفني و لا من يعترف بي , و إنه ليغص في صدري ألا أستطيع أن أقابل إحسان هذا الحبيب بإحسان إلا أن ألف له مشاعر حب في قلبي و أتمتم بكلمات شكر لإحسانه , فأمسك الفتى بيدها و قال :

 كنتُ طوال هذه الفترة أرى حزنا في عينيك و لا أقدر أن أخمن ما سببه , و يكفيني منك يا حوريتي حبك لي بينك و بين نفسك , فسحبت يدها من يده ببطء و قالت : و لو كان حباً يائساً ؟ فتعجب و قال : ما الشيء الذي تخفينه عني ؟ فأكبت تبكي و تقول محال أن أتزوج بشرياً هو بمثابة عدو لدود لبني جنسنا , ذلك الغل في أعناقنا يلغي عهود الحب و الوفاء له , و ما السبيل لسعادتنا إلا سبيلاً تأباه و آباه على كرامتك حباً فيك .

أصر الفتى على استنطاق الحورية و لم يرض منها بعبرات تسكبها تبعاً عن سكات ، فما كان منها إلا أن تصب في مسامعه هموم صدرها فمسحت عنها الدموع و أنشأت تقول : لم يكن خروجي من البحر خروج حياة و خير , فالخطيئة لا تعفو و البحر لا يرحم , فقد طردت من البحر طرداً , ليس لي أن أحيا خارجه و لا أن أعود إليه إلا في حالة واحدة , ثم صمتت هنيهة و نظرت إليه فقال لها : و ماهي ؟ , فتابعت تقول : عليَّ أن أجلبك معي إلى أعماق البحر لتتحول و يصبح لك ذيل كذيل الحورية و ذلك ليلة الأحدب السادس بعد الليلة التي رأيتني فيها و إلا فإنني سوف أموت في الليلة نفسها 

 صمت سعيد لفترة ليست بقصيرة ثم قال : فهمت إذاً ما تريدين مني , فقالت مرتبكة : ما أريد منك يا سعيد إلا أن تكون سعيداً و ما سعادتك في حبك لتقاس بسعادتك في عالمك مع أهلك و قومك , فانتفض من مكانه و قال : أَفَتَرَيْنَ أنني سأكون سعيداً بدونك , فقاطعته قائلة : لم أقل أنك ستكون سعيداً بدوني , و لكنك لن تكون سعيداً معي في عالم هو غير عالمك و مع قوم غير قومك 

 فقال و الدموع محتجرة في عينيه : أنتِ عالمي و أنتِ قومي , لست لأحب عالماً لست فيه , أفتظنين أنك إن فارقت حياتك فإني سأهنأ بحياتي , لقد أسأت التقدير فوقتها سأغدو مخلوقاً آخر كأن لا عهد له بالإنسية و لا عهد لها به , سأبغض عائلتي و قومي و أرضي و سمائي و قلبي و روحي و عيناي التي رأينك و كن سبباً في تعاستك , و الغد ليلة القمر الأحدب .. سآتي معك و سأفسخ انتمائي للبشر من أجل الحب , فأطرقت و قالت : لو حسبتك ستقول هذا لما قصصت عليك قصتي … فأغلق بيده على فيها و قال : سآتي معك .

*** *** ***

انقشعت الظلمة و قطعت سيوف الشمس ما تبقى من آثارها , ثم لم تلبث أن غلبت من جديد و ساد الصمت و خيم السكون , و ازدادت النجوم بريقًا و رصانة كأنما تحدق جميعها إلى وجه القمر الأحدب و هو ينغص على الظلام فرحته برقعة استلبها منه فملأها نوراً , و دخل آخر الليل مختالاً بين هذا الحشد الذي رص بين أعطافه كل صور الجمال , و هب نسيم البحر النقي .. اقشعرت الأبدان و اضطربت الأذهان و أمسك الحبيبان بيدي بعضهما بقوة يخافان أن ينفكا فيتيهان على حدا في الظلام , و قفزا في البحر ليغوصا إلى أعماقه .

من كان يدري أن البحر بهذا الجمال في داخله , كان سعيد يحدث نفسه و هو قابض على يد الحورية التى ما لبثت أن عاد لها ذيلها , و يا للعجب .. إنه يتنفس تحت الماء , هكذا نحن البشر لا نبصر إلا سطحيات الأمور فنخدع بالمظهر عن الجوهر , إن البحر أجمل في أعماقه , بأعشابه و مرجانه و رماله و حيتانه و كل ما فيه ..

 لم يكن بمقدور الفتى أن يبعد ناظريه عن المخلوقات الجميلة و المتنوعة التي تعيش بانسجام في هذا العالم المستقل , و التي يتبع الواحد منها المجموعة , و كانت خيوط الشمس المتسربة تنير الماء بشكل تدريجي تضفي طابعاً من الجمال على هذه الأعماق التي تتراقص فيها الألوان قاتمها و فاتحها جميعاً في لوحة فنية تتملك أزمة النفس فلا يجد الواحد نفسه منفكاً عن تتبعها أين ما صالت و جالت , إننا معشر البشر لا نرى البحر إلا كما نرى المرآة الصقيلة , فهي ترانا حيث نزعم أننا نراها , فإننا لا نرى فيها إلا صوراً مسمطة بلا روح , و لو نظرنا إلى البحر بغير العين التي ننظر بها إليه كل يوم , لرأينا شيئاً عز أن نراه , و لرأينا في تلك المرآة أرواحنا بدل أبداننا .

و أخذت الحورية تغوص بالفتى أعمق فأعمق , حتى بدأ نور الشمس يتلاشى شيئاً فشيئاً ، و إذا به يحس برعدة خفيفة في جسده ثم و كأن قدميه مخدرتين و إذا به يكلم الحورية فلا ترد و لا تلتفت إليه , و هنا انتابه شعور مريع خليط من البرودة و الحرارة يتصاعد إلى جسمه بدءاً من أخمص قدميه , حاول أن يزيح عن ناظريه شيئاً من غشاوة الظلام و ينظر إلى رجليه فإذا هو يرى بدلاً منهما قطعتين من الخزف .. نظر حوله فإذا هو محاط بحشد من الحوريات يحدقن إليه تحديقا مخيفاً , حاول أن يتكلم لكنه لم يملك لذلك جهداً , و لم يلبث أن بدأ نفسه يضيق ببطء فأخذ يقلب عينيه يفتش عن حبيبته الحورية حتى وقعت عيناه عليها ..

و إذا به يرى فيها وجهاً غير الوجه الذي يعرفه و صورة لا عهد له بها منها تنظر إليه نظرات شزراء يتطاير منها ما هو أقرب إلى شواظ النيران منه إلى أنوار الحب , كأنما تستعجل إحراقه كي لا ترى منه حتى جثمانه , أظلم كل شيء في قلبه و ضاقت به الدنيا بما رحبت و تمنى لو لم يولد ليرى هذا اليوم الذي نكبه في حبه و قلبه و جسده و روحه جميعاً ، فغدى في لحظة واحدة صفر اليدين من كل شيء فلا هو فوق الأرض و لا هو تحت الماء و يا حسرته و هو يرى الحوريات تسخرن منه و تصفقن و تغنين و من بينهن حوريته ، و بدأت أطرافه تتجمد و الموت يتسلل إلى قلبه شيئاً فشيئاً , و إذا بالحوريات تهتفن بنبرات ملحونة : 

عفا الزمن عن خطاياكم يا بني البشر و لكن البحر حقود , إنه أقسى من أرواحكم و أكثر منها يأساً , سلبتمونا حريتنا و جعلتم حياتنا غصة في صدورنا , نقضتم عهودكم و جعلتموها في أعناقنا غلاً و في أقدامنا وحلاً , أفحسبتم أنًّا بغافرين لكم زلاتكم , فهذا جزاء من أخلف الوعود و حل العهود , فبئس العهد عهدكم و بئس الجزاء جزاؤكم .

*** *** ***

الآن في الأعماق المجهولة للبحر الأبيض المتوسط يقوم تمثال خزفي شامخ لشاب ذي وجه جميل بهي , تزور حوريات وهران   هذا التمثال كلما صادف التاريخ اليوم التاسع من شهر آذار لتخليد ذكرى إغوائهن الشاب التعيس , و تلبسن رأسه الخزفي الأصم إكليلاً من عشب البحر , فإذا سرت ذات ليلة من الليالي على شواطئ مدينة وهران و لمحت امرأة لا تحسبها إلا الملاك حسناً و بهاءً , فاحذر أن تنساق خلف دقات قلب تودي بك إلى مصيرٍ مشؤوم .

 

تاريخ النشر : 2018-04-05

guest
47 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى