أدب الرعب والعام

رعب في الطاسيلي

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

رعب في الطاسيلي
مع غروب الشمس لا تدخل إلى أماكن مهجورة ومظلمة يا بني,فاللّيل مرتع لمخلوقات العالم الآخر..

قابعاً تحت غابة من الأحجار ستنتهي سنين عمري, لم أكن أتخيل يوماً أن ذلك الفضول الذي يدفعه حب الاستكشاف والمغامرة سيقودني إلى أعماق الهاوية, إلى مكان يلفه الظلام ويكتنفه الغموض وتفوح منه رائحة الموت,قريباً سألفظ آخر أنفاسي, فالهواء داخل الحفرة التعيسة التي علقت بها أوشك على النفاد , لذا قررت أن أخط آخر كلماتي علها تجد طريقاً أو سبيلاً تسلكه غاب عني..

التاريخ ,الآثار القديمة…كانا ولعي منذ الصغر, فجذور عائلتي ضاربة بعمق مدينة تعج ببقايا الآثار من حقبٍ مختلفة وتعد وجهة سياحية ممتازة لعشاق خبايا الماضي السحيق..

انفردت بهوايتي عن باقي أقراني,ففي الوقت الذي كانوا يلعبون فيه كرة القدم ويتغنون ببطولات مارادونا و أمجاد بيليه و روائع زيدان, كنت أتسلل من بينهم خلسة,وأحث الخطى حتى لا يشعر بغيابي أحد,متوجهاً إلى أعمدة الحجارة وبقايا المدرجات العتيقة تلك,أجول فيها سارحاً بخيالي بعيداً إلى قرون خلت..

انقضت مرحلة طفولتي ولكنني بقيت متشبثاً بأحلامها التي سرعان ما استحالت واقعاً صنعته بيدي,كنت كل موسم من مواسم العطل التي أنتظرها بفارغ الصبر أجمع عدتي و عتادي وأنطلق إلى الطبيعة لأغوص في بحر كنوزها العظيمة داخل ولايتي الشرقية الواسعة..

وعلى الرغم من اعتراض أهلي على ميولي و سخرية من حولي, إلا أنني صمَمتُ أذناي إلا عن الصوت الذي يرن بداخلي منذ أمد,والذي ينبعث من تلك القبلة السياحية الطبيعية التي تمركزت داخل الصحراء الجزائرية الكبرى, ذلك الصرح الحجري الشامخ الذي يروي قصصاً من غابر الأزمان وسالف العصور,فاغتنمت فرصة عمل أتيح لي بجنوب شرق البلاد لأرضي مطامع نفسي بالمثول أمام اللّغز الذي حير الخليقة وأعجز أمامه العلماء فخر بلادي محمية “الطاسيلي ناجر”..

بعد ساعات من السفر البريّ الذي بدأ مع بزوغ الفجر على متن إحدى شاحنات نقل السلع برفقة سائق من معارفي وصلت إلى مقصدي,كنت أتحرق شوقاً لرحلتي المرتقبة ولكن مشاغلي منعتني في أوائل أيامي هناك من المضي قدماً فيها..

وأخيراً حل اليوم الموعود, في الصباح الباكر تجهزت وتفقدت آلة التصوير خاصتي ,كنت كمن يتأهب لرحلة تخييم في الغابة,فقط الفرق الوحيد أنني سأخيم لساعات داخل غابات حجرية قديمة قِدم التاريخ,وأمتّع ناظري بتلك اللّوحات التي لم تندثر ملامحها مع اندثار الزمن من حولها,ودعت رفيقي وأخبرته أن ينتظرني مساءً عند الطريق العام ثم انطلقت إلى وجهتي يدفعني حلم الطفولة وحماسة الشباب..

٭٭٭٭

وصلت إليها..وانضممت لقافلة من السياح الذين تجمهروا في انتظار تراخيص الدخول وحضور المرشد السياحي الذي سيدلّهم,كانت الشمس تتوسط كبد السماء وتنشر بأشعتها الذهبية على الكثبان الرملية لوناً برتقالياً حامياً يبعث حرارة شديدة لا تطاق, بعد ترقب استلمنا التراخيص ثم ولجنا رفقة دليل من السكان المحليين”الطوارق” إلى عالم الأسرار الذي يعبق بنفحات من عصور أكل عليها الدهر وشرب, تجولنا داخل الأروقة الحجرية وسرنا بين الأطلال والكتل الصخرية الممتدة على طول البصر,أمضينا وقتاً لا بأس به إلى أن حان موعد آخر محطة برحلتنا وأهمها تلك الكهوف الغريبة الجاثمة جانب جرف صخري عميق, والتي تحمل بين جدرانها مئات الحكايا سطرت بنقوش بدائية منذ الأزل..

اندفعنا إلى الداخل وتنقلنا من كهف لآخر , سحرت بما رأيت, عالم آخر تماماً وكأنني ركبت آلة للزمن هَوَت بي وجذبتني إلى أكثر من عشرين ألف سنة للوراء , اندمجت تماماً مع تلك الصور التي كانت كفيلم وثائقي يحكي عن الحضارات البائدة, لدرجة أن غاب عن ذهني أنّ موعد الرحيل قد أذِن لولا تنبيه الدّليل لي .. التقطتُ بعض الصور ثم انضممت إلى بقية السياح لنباشر رحلة العودة..

تذكرت أنني لم ألقِ نظرة على منظر الكثبان الرملية المتحركة المواجهة للجرف الصخري.. فانتهزت فرصة انشغال الدليل بجمع السياح وركضت هناك ثم ألقيت نظرة عليها, بدت لي وكأنها رمال عادية ولكنني أخذت قداحتي القديمة ورميتها فوقها وبعد قليل كانت قد غاصت واختفى أثرها..ابتسمت من فعلتي الصبيانية و قفلت عائداً إلى المجموعة, ولكني أثناء سيري لمحت ظلاً غريباً يتحرك إلى أن زال أثره عند عتبة مدخل كهف قريب ,اعتراني الفضول لمعرفة ماهيته وأحسستُ بقدماي تدفعانني إلى هناك, حاولت مقاومة رغبتي المريضة التي لم يكن الوقت مناسباً لها ولكنها هزمتني شر هزيمة, فدخلت الى المكان الذي حفرت فيه قبري بيدي..

٭٭٭٭

مشيت بخطوات بطيئة أمعن النظر بالجدران من حولي,كان موعد الغروب قد حل فسادَ ظلام خفيف حجب عني الرؤية فأنرت المصباح اليدوي الذي كان بحوزتي وسلّطته على محيط الكهف الداخلي,لم أرَ شيئاً ولم أستشعر أي حركة فظننت أن الهلاوس قد نالت مني, هممت بالخروج من هناك,حركت قدمي باتجاه المخرج…لم تتحرك,هلعت واستبد الخوف بي ولكنني تمالكت نفسي وعزوتُ الأمر لمجرد خيالات نتيجة شتات ذهني,حركتها ثانية..لم تتحرك,جمدت مكانها وكأن نعلي ملاصق للأرض..ارتعدت فرائصي وفقدت السيطرة على نفسي وأطلقت صرخة استغاثة اهتزت لها جدران الكهف المظلم…انتظرت قليلاً ولا مجيب..ساعتها شغّلت عقلي وفكرت بنزع حذائي وتركه والفرار بجلدي من هذا المكان اللّعين, وما إن انحنيت لفكِ خيوطه حتى لمحت يداً سوداء غريبة لا تمت للبشرية بصلة تمسك برجلي وسرعان ما سحبتني معها إلى أغوار الجحيم..

٭٭٭٭

مع غروب الشمس لا تدخل إلى أماكن مهجورة ومظلمة يا بني,فاللّيل مرتع لمخلوقات العالم الآخر..

على صوت جدتي أفقت من غيبوبتي,كنت أتمنى لو أن ما مررت به كان مجرد كابوس عابر, ولكن هيهات هيهات فقد وجدت نفسي ملقى على أرضية حجرية خشنة,جبت ببصري من حولي كانت الظلمة حالكة فلم أتبين شيئاً ,تحسست الأرض بيدي باحثاً عن مصباحي ولا أثر له,تذكرت جوالي الذي وضعته بجيب سترتي فأخرجته ,كانت الإشارة معدومة تماماً, إذن فلا جدوى لأي محاولة اتصال,شغلت ميزة المصباح الذي فيه ثم وقفت وسرت بتأنٍ أحاول استكشاف المكان الذي هويت إليه متناسياً صورة اليد البشعة التي جرتني ..

علا صوتي محاولاً الصراخ لكن صداه كان يرتطم بجدران الغرفة الشبيهة بالكهف العميق ويرتد علي, بحثت عن مخارج أو منافذ فلم أجد غير فتحة متوسطة بالزاوية لا تتضح طول المسافة إلى نهايتها, فعقدت العزم على أن ألجها مهما كانت النتائج..

سميت بالله, ودخلت الفتحة زاحفاً على بطني أدفع بجسمي فيها دفعاً,كنت أشق طريقي مخترقاً شباك العناكب,وما لبثت أن داعبت أنفي رائحة كريهة لا فكرة لدي عن سببها,تابعت زحفي وكلما تقدمت ازدادت شدة الرائحة فخفق قلبي بقوة وضاق نفسي,ولكنني لم أتراجع فقد لفحت وجهي نسمات هواء يسري من نهاية النفق فزدت من سرعتي وكلي أمل أني وجدت منفذ الخلاص..

نزلت من الفتحة كان الظلام دامساً أكثر من ذي قبل, حتى ضوء الجوال لم يستطع اختراقه,فسرى شيء من الجزع بداخلي,وفجأة شعرت بتحركات غريبة من حولي,وانتشرت نفس الرائحةِ التي شممتها في الممر ولكن كانت أكثر قوة,سددت أنفي ووجهت ضوء الجوال لأماكن الحركة, كانت هناك مجموعة من الظلال الغريبة تتراقص على الجدران الحجرية العالق في وسطها, تارة تلوح وتارة تختفي,ظننتها مزحة من أحد ما أو هكذا تمنيت فاستجمعت رباطة جأشي وعلا صوتي قائلاً : من هناك..أعدتها مراراً وتكراراً..لا جواب,أحسست بهمهمات تأتي من فوق رأسي فشخصت ببصري إلى الأعلى, ولهول ما رأيت أجفلت,حاولت الصراخ ولكن لساني كان قد شل, وفقدت القدرة على الحركة..

٭٭٭٭

مخلوقات غريبة ذات ملامحٍ مرعبة وأشكال شاذة لا تشبه أي كائن أرضي تحوم فوقي,كانت قمة في البشاعة لدرجة أن كلماتي تعجز عن وصف ما رأيته, لم أر مثلها حتى في أسوأ كوابيسي ,تسمرت في مكاني دون حراك أنظر إليها مذهولاً غير قادر على الإستيعاب,ودون سابق إنذار حدق إلي أحدها بعينيه الخضراوين المرعبتين وطار بسرعة خيالية نحوي.. وكان هذا آخر ما ذكرت..

لا أدري كم من الوقت قضيته غائباً عن الوعي,فتحت عيني فوجدت نفسي مثبتاً بأغلال فوق سرير عالٍ وسط غرفة حجرية واسعة شديدة الإضاءة, أبصرت بجسمي فإذا بي عارٍ إلا من لباسي الداخلي ,وتتصل برأسي مجموعة من الأسلاكِ والأنابيب التي تنتهي عند جهاز ضخم يمثل أمامي,ارتعشت أوصالي وجلاً, و جلت ببصري هنا وهناك لأجد العشرات من الأسرّة من حولي وعليها الكثير من بني جنسي, ظننت لوهلة أنني ممثل بإحدى حلقات مسلسل من نوع الخيال العلمي, ولج من مدخل الغرفة عدة كائنات,شعرت بأحدهم يقترب فتظاهرت بالنوم ثم فتحت عيني قليلاً فأبصرته واقفاً أمام ذلك الجهاز بهيئته المنفرة قصير كقزم,يدان طويلتان ورأس كبير ,ورائحته كريهة لا تطاق , لم أعرف بالتحديد ما يفعل.

أما الآخرون فكانوا يجرون جسماً ما لبثت أن عرفت أنه إنسان انضم إلينا, وبعد لحظات حدث شيء عجيب جمّد الدم في عروقي,وجعل مم سبق ورأيت مجرد تفاهات,وصلوا أسلاكا بين أحد منهم وهذا الآدمي وما هي إلا دقائق حتى تحول هذا المخلوق إلى نسخة طبق الأصل منه,ثم خرج من الغرفة بعد أن لبس لباسه وأخذ حاجياته..

أغمضت عيني مصعوقاً,كانت نبضات قلبي تزداد حتى أحسست أنه سينقلع من مكانه, وسرت قشعريرة بجلدي, وفكرت كثيراً آملاً بإيجاد تفسير منطقي لكل ما يحدث,ففي الأخير أنا إنسان ويحكمني العقل,تذكرت كل الأساطير والحكايات التي حُبكت حول رسوم الطاسيلي وكل التفسيرات العلمية والماورائية التي أطلقها بعض العلماء والماورائيين, منهم من اعتقد أنهم جان, وآخرون صمموا على أنها مخلوقات فضائية,أما ما أراه الآن فيتجاوز هذا وذاك..

٭٭٭٭

مر الوقت بعد ذلك ثقيلاً وكأنه سنوات,حاولت الكلام فلم أستطع, كانت عيناي تتلاقى مع أعين الناس والتي حملت كماً كبيراً من الهلع والرعب,وكأنهم يحاولون قول شيء لي إلا أنني لم أفهمه, عادت تلك المخلوقات البشعة والكريهة مرة أخرى وتوجهوا إلى شخص بعينه,ثم فكوا الأسلاك عنه, كنت أرى فمه مفتوحاً وكأنه يحاول الصراخ لكن بصوت مكتوم, يحاول مقاومتهم لكن بدا وكأن قواه قد خارت,ثم جروه معه إلى حيث لم يعد أبداً..

مرت بخاطري في تلك اللّحظة بعد أن توقعت أن ذلك مصير الجميع ممن يقبعون هنا كل ذكرياتي , أهلي , أصدقائي , وحبيبتي التي تنتظرني .. أيعقل أن أتركهم ليعيش بينهم مسخ على أنه أنا؟!..محال،،سأحاول بكل قوتي أن ألوذ بالفرار لن أسمح لهم بأن يقضوا علي وعلى أحلامي ومستقبلي والأهم عالمي..

٭٭٭٭

لا أعلم كم مضى على وجودي بهذا المكان القذر, فكأن الزمن متوقف لا ليل ولا نهار, الغريب أنني لم أشعر برغبات الإنسان الطبيعية كالجوع والعطش,وأحسست أنني بدأت أفقد بعض الذكريات, هل السبب هو ذلك الجهاز البغيض ؟! تساءلت كثيراً ما دوره فلم أفلح في إيجاد إجابة..

أعددت خلال ذلك الوقت خطتي .. فالناس تُسحب كل يوم من هنا وسيأتي دوري لا محالة,أثناء مراقبتي لتلك المخلوقات اللّعينة البكماء التي لا تنطق لاحظت أنها تسير على نفس النمط ونفس الوتيرة,تعيد نفس الحركات كل مرة وكأنهم آليون مبرمجون على اتباع برنامج بعينه, وهذا ما حفزني على المضي فيها..

جاء اليوم الذي سأساق فيه إلى المقبرة,حضروا كعادتهم برائحتهم العفنة وتوجهوا نحوي, حاولت الصراخ كمحاولة يائسة فلم أفلح, نزعوا قيودي وقادوني معهم جراً من الغرفة,كان العالم خارجها شديد السواد, صرت لا أبصر حتى يدي,حاولت تحريك رجلي فلم تتحرك..كيف سأهرب وأنا لا أرى شيئاً, ولا أقدر على الحراك ؟, كانت خطتي تقتضي بالتملص من أيديهم والركض بأسرع ما يمكن,أي خطة سخيفة هذه ، أين رحل ذكائي؟

انتهى الأمر وحلّت الخاتمة, أُلقيت وسط هوّة عميقة مظلمة قاموا بسد منفذها الوحيد,فأعلنت ساعتها استسلامي فقدرتي كبشري فانٍ لها حدود,انتبهت إلى أنني أصبحت أستطيع تحريك أعضائي,قمت متثاقلاً فألم رأسي كان لا يطاق, ولمست الجدران من حولي,صخر صلد شديد الحرارة, وكأنني بغرفة من غرف سجون العصور الوسطى, ضربتها بعفوية بكلتا يدي وكأنها ستتصدع لتسمح لي بالهروب

سِرت قليلاً إلى أن تعثرت بشيء ما, انحنيت وتحسسته بين يدي, كانت كعلبة الكبريت ولكن ملمسها كالحديد, خطرت ببالي فكرة مجنونة, أيعقل أنها قداحتي؟ بلى إنها هي .. أشعلتها وأنرت بها مقبرتي.. هالني منظر ما رأيت الكثير من الهياكل العظمية مكدسة فوق بعضها البعض بجانبي,أمعنت النظر قليلاً فإذا بي أرى أشياء متناثرة هنا وهناك, بضعة أقلام, علبة كبريت, مصباح يدوي مكسور, شمعة .. ضحكت لأول مرة منذ زمن، فتصرفات البعض الطفولية ستجعلني أخلد قصة أكتبها للعالم على الجدران السفلية لمدينة حجرية تغير مجرى التاريخ..

كنت أعتقد أنني برحلةٍ لتحقيق حلم , فإذا بي أميط اللّثام عن واحد من أكبر الألغاز التاريخية.. فيا من ستقرؤون سطوري هذه بعد آلاف السنين,لا تنكروا كل ما يسطر على جدران التاريخ.. فقد تكون رسالة خطها أسلافكم تنقذ عالمكم من الدمار..

انتهــــت <<

ملاحظة :

القصة خيالية مستوحاة من القصص والروايات المتداولة حول النقوش على جدران الطاسيلي ناجر الموجود بالجزائر

و شكر خاص لصاحب الفكرة .

 

تاريخ النشر : 2018-04-10

وفاء

الجزائر
guest
69 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى