أدب الرعب والعام

مذكَّرات عانس

بقلم : نوار – سوريا

مذكَّرات عانس
أتأمَّل في المرآة وجهي الآيل للذبول..

 
إلى القابعات في العتمة ، الغارقات في دوّامة الانتظار .. أهدي قصَّتي هذه

**

جميلةٌ أنا ؛ هكذا أرى نفسي عندما أنظر في المرآة ، مثقفةٌ أنا ؛ هذا ما تثبته شهاداتي المعلَّقة على الحائط ، فنّانةٌ أنا ؛ هذا ما يدلُّ عليه أثاث منزلنا الذي أزيِّنه بمشغولاتٍ من صنع يدي ، ملكة المطبخ أنا ؛ بشهادة جميع من تذوَّق الطعام الذي أعدُّه ، أخلاقي يُضرَب بها المثل .. إذاً لماذا لم أتزوّج بعد ، لماذا ؟!
هذا السؤال طرحته على نفسي كثيراً و لم ألقَ إجابة ، طرحته عندما تزوَّجت صديقتي التي كانت معروفةً بأنها أبشع فتاة في الفصل ، طرحته عندما خُطِبت زميلتي في العمل تلك التي لم يبقَ شابٌّ إلا و أقامت معه علاقة ، و بالنهاية وجدت رجلاً ساذجاً لا يعرف شيئاً عن ماضيها و بدأت تُمثِّل أمامنا دور العذراء البريئة بوقاحة ، طرحته و طرحته و طرحته .. و هأنذا أعود و أطرحه بينما أجهِّز نفسي لحضور عقد قران ابنة جارتنا الغبيَّة ، فتاةٌ في السابعة عشر تركت المدرسة بمجرَّد أن تقدَّم لها رجلٌ ميسور الحال .. لا أعرف لماذا جميع الفتيات من حولي يضعن الزواج منتهى طموحهن .. أنا لست هكذا ، لست هكذا أبداً ، الرجل لا يعني لي شيئاً في الحياة ، أنا كيانٌ مستقلٌّ بدونه .. لكن ، لكن يبقى السؤال مطروحاً .. لماذا لم أتزوج بعد ؟؟

**

مللت من لفظ المجتمع لي و وضعي بالّلائحة السوداء لائحة العوانس ، سئمت نظرات الشفقة التي ألمحها بعيون صديقاتي عندما أبارك بقدوم مولودٍ جديدٍ لإحداهن ، أكره الموقف الذي لطالما يتكرر عندما أكون جالسةً في العمل بين زميلاتي المتزوجات و فجأة تقول إحداهن : لا تعرفين ما الذي حصل معي ليلة أمس ، يشرئبُّ عنق الأخرى و تقول باستعجال : ماذا ؟ لتقترب تلك منها و تهمس شيئاً في أذنها بعد أن تكون قد التفتت نحوي قائلةً بأسلوبٍ مثيرٍ للغثيان : عذراً عزيزتي هو كلامٌ لا يجب أن تسمعيه فأنتِ لستِ متزوِّجة .. و من قال لكِ أيتها البلهاء أنَّي أريد سماع ثرثرتكِ الفارغة ! فلتذهبي للجحيم أنتِ و زوجك .. أقول هذا الكلام في سرِّي بينما أشغل نفسي باللعب في هاتفي .

**

أعود متعبةً من العمل لأجد أمي واضعةً يدها على خدِّها و في وجهها اجتمع بؤس العالم ، و عندما أسألها عن السبب تقول و حيرةٌ مُقلِقةٌ في عينيها : ابنة خالتكِ ليلى خُطِبَت ، اتصلت بي والدتها منذ قليل لتزفَّ لي الخبر ، أجيبها بغباء : و ماذا يعني ذلك ؟ تقول بنفاد صبر : هذه آخر ابنة عزباء لدى خالتك و ها قد خُطِبَت ، خالتكِ لديها ستُّ بناتٍ و جميعهنَّ تزوَّجن ، و أنا لديَّ ابنة واحدة تجاوزت الثلاثين و لم .. أقاطعها بحزم : و لم أتزوَّج أليس كذلك ؟ و ماذا يعني هذا ، ماذا يعني .. الزواج آخر همِّي ماما .. آخر همِّي

أدخل غرفتي صافقةً الباب ورائي ، هذا الباب المسكين الذي لا أجد غيره للتَّنفيس عن غضبي ، و لو كان له لسانٌ ينطق لقال ما ذنبي أنا بالذي تمرِّين به ؟!!
أنظر إلى نفسي في المرآة فأرى صورتي المنعكسة تهمس لي بخبث : كاذبةٌ أنتِ يا ميساء ، أنتِ تشعرين بالغيرة و السخط ، بالأمس كنت تلاعبين ابنة خالتكِ ليلى و تقصِّين عليها الحكايا و اليوم ليلى خُطِبَت و غداً سوف تتزوج و سَتُلقَّب بـ مدام ليلى ، أما أنتِ ستبقين العانس ميساء .. اعترفي هيَّا ، عبِّري عن غضبك عن وجعك ، اختاري ردَّة فعلٍ مغايرة هذه المرَّة .. لا تواجهي الأمر بالتَّجاهل و صنعِ ابتسامةٍ واهية .. اصرخي .. حطِّمي

أبتعد عن المرآة تاركةً وجهي معلَّق هناك ينتظر جواباً لكن ما من مجيب ..

**

أخرج متوجهةً للمطبخ طلباً للماء ، فتلحقني أمي و تطلب منِّي أن نتحدث ، تعابير وجهها توحي بأنَّها تخشى الكلام الذي تودُّ قوله لي ، هذا يعني أنه كلامٌ لن يروقني سماعه ، لكني أذعنت لطلبها على كلِّ حال ، أمي الحبيبة هذه فلنرى ماذا تخبِّئ ..

قالت و قد دارت عيناها على كلِّ تفصيلٍ في وجهي إلا عيناي : سألت نفسي كثيراً يا ابنتي لماذا لم يطرق بابنا أحدٌ من أجلك مع أنه لا ينقصكِ شيء جميلة ، عاقلة و مثقَّفة ، فقلت لنفسي.. صمتَتْ و لم تكملْ ، قلت أشجِّعها على الكلام : أكملي أمي ما الذي قلتيه لنفسك ؟ تجيبني بتردُّدٍ و عيناها مازالتا تتجاهلان نظراتي : قلت لنفسي ربما يكون أحدهم قد صنع لك سِحراً ، انتفضتُّ قائلةً و قد أخذتني الدهشة : سِحر أمي ؟ هل هذا هو الاكتشاف العظيم الذي توصلتِ إليه !

قالت و شجاعةٌ اعترتها لا أعرف مصدرها و ثبَّتت نظرها في عينَي : أجل ، إنه احتمالٌ قائم ، و حتى نقطع الشكَّ باليقين دعينا نذهب إلى شيخ ، أخبرتني جارَتنا عن شيخٍ معروفٍ بصلاحه و إيمانه لن نخسر شيئاً لو ذهبنا إليه .. يا سلام شيخٌ بمعرفةِ جارتنا ، يبدو أنَّ أمي قد خطَّطت لكلِّ شيء .. قلت لأنهي هذه المهزلة : أمي لا تتصرفي كما يفعل الجهلة أيُّ شيءٍ ينسبونه للسِّحر و هذه الخزعبلات ، لا شيء يحصل دون إرادةِ الله .. تذكَّري هذا ماما .
قبَّلت رأسها و نهضت عائدةً لغرفتي أجرجر خيبتي معي .. أمي ضاقت ذرعاً بوجودي معها لدرجة اللجوء إلى الدَّجل و الخرافات !

**

كنت مرهقةً جداً بعد حفلة عقد قران ابنة جارتنا ، فرأسي كاد ينفجر من الأغاني و الموسيقا التي وضعوها ، لذلك أخذت إجازةً في اليوم التالي من العمل .. و من عمق نومي أيقظتني أمي :
– ميساء انهضي..
قلت و مازال رأسي تحت الغطاء :
– ماذا أمي ؟ حتى في يوم إجازتي لا أهنأ بالنوم !
أجابت و هي ترفع الغطاء عنِّي :
– إنه أمرٌ هامٌّ لا يؤجَّل
استويت قائمةً في فراشي و قلت باستغرابٍ بعد أن نظرت في الساعة الموضوعة بجانبي على المنضدة :
– بقينا معاً في سهرة الأمس للساعة الواحدة بعد منتصف الليل و الآن الساعة العاشرة صباحاً .. فما هو الأمرُ الهامُّ الذي حدث خلال نومي و الذي لا يؤجَّل ؟!
أجابتني و في عينيها لمع بريق الفرح :
– عريس يا ميساء ، جاءكِ عريس
عند سماعي لهذه الكلمة طار من عيني ما تبقَّى من نومٍ و قلت باندهاش :
– عريس ! كيف و متى ؟
قالت أمي و هي تنهض مبتعدةً عني :
– أنا ذاهبةٌ للمطبخ لأعِدَّ طعام الفطور ، الحقي بي هناك و ستعرفين كيف و متى ..

**

على مائدة الطعام عرفت ما حدث ، هناك امرأةٌ في حفلة الأمس أُعجِبَت بي و اتصلت صباحاً بجارتنا تستفسر عني و أخذت رقم هاتفنا لتأتي لخطبتي لابنها .. فما كان من جارتنا إلا أن تتصل بأمي و تخبرها بالأمر .

قلت معترضة : لا أحبُّ هذه الطريقة في الزواج ، ردَّت أمي مستنكرةً : و ما بها هذه الطريقة ! نصف البنات تتزوَّج هكذا ، ثم أننا لم نصل لمرحلة الزواج بعد ، ستتصل المرأة لتحدد موعداً معنا و تأتي مع ابنها و يريانكِ ، بعدها إن حصل توافق ننتقل لمرحلة الخطوبة و من ثم الزواج .

**

قلبي يدقُّ بعنف ، يداي بالكاد ساعدتاني على وضع الأقراط في أذنَي فهما ترتجفان بشدَّة ، ما الذي أصابني ! يا ربي ساعدني و اجعل هذا الموقف يمرُّ بسلام .. أنا الآن أعِدُّ نفسي لمقابلة تلك المرأة و ابنها .. ثقتي بنفسي انعدمت كليَّاً ، خرجت من الغرفة ، توجَّهت نحو أمي و لسان حالي يقول كيف أبدو ؟
ما إن رأتني والدتي حتى قالت : قمر يا ابنتي ، أنتِ جميلة و أنا متأكِّدة أن الشاب سيُعجَب بكِ .. قلت باستياء : هذه النقطة التي أبغضها ، إن أعجبته يتقدَّم و إن لم أعجبه لا يكرر الزيارة .. ذلك يشعرني أنِّي سلعةٌ معروضة لمن يشتري ، قالت أمي بامتعاض : ميساء رجاءً لا تفلسفي الأمور ، دعي الدنيا تمشي كما اعتدنا عليها .. هكذا تزوَّجت أنا و من قبلي والدتي ، خذي الأمر ببساطة .

قاطع حديثنا صوت جرس الباب ، يا إلهي لقد قدم الضيوف .. أسرعتُ إلى المطبخ بينما أمي اتَّجهت لاستقبالهما ، سمعت عبارات الترحيب و من ثم سكونٌ تام .. أخبرتني أمي أن أنتظر قليلاً و بعدها أدخل عليهم لأقدِّم القهوة .. هذه هي أعرافنا

**

لم أتنفس الصَّعَداء إلا بعد أن رحلا ، فقد شعرت طيلة فترة مكوثهما بأني تحت المجهر ، سألتني أمي عن رأيي بـ جواد ( هذا كان اسمه ) ، فأجبتها ساهمة : لا أعلم ، كيف رأيته أنتِ ؟ فأسرعت تقول : يبدو لي شاباً جيداً ، ثمَّ أن صفاته تحلم بها أي فتاة ، مهندسٌ و له عمله المستقل ، كما أنه يملك منزلاً في أرقى الأحياء ، و فوق كلِّ هذا أراه رجلاً لا يخلو من وسامة أليس كذلك ؟ نهضتُّ قائلةً : لا أعلم ماما ، فكري مشوّش الآن ، أريد أن أخلو قليلاً مع نفسي ، عن إذنك .

دخلت غرفتي و استلقيت على السرير ، أغمضت عيناي و بدأت أتساءل .. ماذا يكون شعور الفتاة عندما يأتيها خاطبٌ ما ؟ هل تشعر مثلي ؟ أظنُّ بأن الفتياتِ يكنَّ سعيداتٍ بمثل هذا الموقف لماذا أنا لا ؟! لماذا أستنكِر على نفسي الفرح ! أليس هذا ما كنت أنتظره ؟ أليس قبولي بـجواد يضع حدَّاً لتساؤلاتي التي أرهقت تفكيري و لمخاوفي من عدم اللحاق بركب المتزوجات ؟ يرسم البسمة على شفتَي أمي و يريحها من همِّي ، و الأهمُّ من هذا كلِّه ؛ ينزِع عنَّي لقب عانس ، هذا اللقب الظالم الذي ينبُذ الفتاة و يشعِرها بأن مدَّة صلاحيتها منتهية !

بقيت سارحةً في أفكاري و لم يوقظني منها إلا طرق والدتي على الباب تناديني لتناول طعام العشاء .

**

مترددةٌ أنا و حائرة لا أعرف أين الصواب .. أنظر إلى أمي فأجد ارتياحاً على وجهها لم أكن ألمحه من قبل ، فأهمس لنفسي أكيد ذلك بسبب خطبتي .. أسير في الشارع فألتقي صدفةً بصديقتي التي لم أرها منذ سنوات و إلى جانبها تسير فتاةٌ صغيرة ، عرفت بعد السؤال أنها ابنتها و عرفت هي بالمقابل أنني عانس ، أنهت حديثها بالعبارة المعهودة ( الله كريم ) و كأنَّني شكوتُ لها قِلَّة حظِّي !!

تائهة أنا ، كل ما حولي يقول لي أن وافقي ، وافقي و اعبري إلى الضَّفة الأخرى ، اخرجي من مستنقع الانتظار ، الحقي بالقطار .. القطار شارف على الرحيل ، اقطعي التذكرة و اركبي .. هيا ، لا تكوني بلهاء ، من سيأتيكِ أفضل من جواد .. وافقي يا مجنونة ..
أصرخُ لأُسْكِت الأصوات التي ضجَّت بداخلي : كفى ، كفى لم أعد أحتمل سأوافق .. فقد تعبت و أريد أن أرتاح .

**

خبر خطوبتي انتشر بين قريباتي بسرعة البرق و انهالت الاتِّصالات على والدتي ، ظاهرها بغرض التهنئة و باطنها تغذيةً للفضول و جمع المعلومات .. و لقد لعبت أمي الدور على أكمل وجه ، تراها واضعةً ساقاً على ساق و الهاتف على أذنها :
أهلاً عزيزتي .. شكراً ، الله يبارك بعمرك .. أجل ( تتبعها ضحكة قصيرة ) .. اسمه جواد ، مهندس قد الدنيا .. أجل أعجَبَته جداً ، والدته لم ترفع عينيها عن ميساء .. طبعاً ستكونين أول المدعوَّات …. أفتح فمي لأقول لها كفى تبجُّحاً لكن أعود و أصمت ، أمي طوال عمرها و هي تأخذ دور السائل و المستفسر و المبارك ، فلأدعها تستمتع بدور متلقِّي التهاني هذه المرة .. إنها الآن أم العروس بعد انتظارِ سنين طويلة .. سأتركها و شأنها فلْتتبجَّح كما تشاء .. أنا سعيدة لسعادتها و هذا يكفي .

**

يا إلهي كم أنا متوتِّرة ، إنَّه يوم خطوبتي ، لقد اجتمعن حولي قريباتي و أخذن يساعدنني بوضع زينتي ، أنا أريد أن أكون لوحدي لكن لم أستطع منعهنَّ من المجيء .. إنهنَّ يُزِدن من توتري ، تدخل أمي علينا و في ابتسامتها ألمح الرضا و الاطمئنان فتهدأ نفسي و أهمس بداخلي أنَّ كلَّ شيءٍ سيكون على ما يرام ..

دخلت صالة الفرح و أنا أحسُّ بأنَّ دقَّات قلبي يسمعها كل الموجودين من شدَّة خفقانه .. سارت بي أمي و خالتي إلى أن أوصلتاني إلى المكان المخصص للعروسين ، و هناك رأيت جواد ، شعرت بأنِّي أراه لأوَّل مرة ، فعلاً هو وسيم كما قالت أمي و بذلته أنيقةٌ جداً ، إنه يبدو كنجوم السينما ، يا ربي هل هذا كلّه لي ؟! لي أنا ! تساءلت في سرِّي و شكرت ربي على نصيبي .. اقترب منِّي جواد و همس في أذني : أنتِ جميلة و أنا محظوظٌ بكِ .. كاد يُغشى عليَّ عند سماعي لكلماته ، فلم يغازلني أحدهم من قبل .

جلست على المقعد المخصص لي و إلى جانبي جلس جواد ..رفعت نظري إلى المدعوين وجدتها كلَّها موجهةً نحوي ، كم هو موقفٌ صعب ، لطالما كنت أقف في الظل لا أحد يراني أو يلتفت إلي ، تعبرني نظراتهم و كأنني غير موجودة ، أما الآن فأنا المحور أنا بطلة هذا اليوم .. أفقت من شرودي على صوت جواد و هو يطلب مني أن ننهض للرقص .. قلت لنفسي و لمَ لا ميساء أنتِ نجمة الحفل ، انهضي و ارقصي و افعلي ما تشائين .. آن لكِ أن تذوقي طعم الفرح .

نمت ذلك اليوم و أنا أتأمَّل خاتم خطوبتي ، إنه كائنٌ غريب على يدي لم أعتد عليه بعد ..

**

مضى شهرٌ على خطبتي ، تعرَّفت فيه على جوادٍ بشكل أكبر ، كنا نتواصل عن طريق الهاتف و كان يأتي لزيارتنا في المنزل من فترة لأخرى .. بدأت أعتاد عليه و أتقبَّل وجوده بحياتي ، بل أحياناً أشعر بأنِّي أحبُّه .

دعوته ليتناول طعام الغداء عندنا ، أخذت في ذلك اليوم إجازةً من العمل و شمَّرت عن ساعديَّ استعداداً للطبخ ، كنت مصمِّمةً أن أصنع له كل المأكولات التي يحبُّها .. جاءنا يحمل لي باقةً من زهور الفل التي أعشقها ، و ضعتها في مزهرية و من ثم جلست معه قليلاً قبل أن أدعوه إلى المائدة ، كنت أمسك بهاتفي و من ضمن أحاديثنا قلت له : فلْنرى نسبة التوافق بيننا عبر هذا التطبيق من خلال أسمائنا و أعمارنا .. و ضعت اسمينا و من ثم عمره 35 و بعدها عمري 33 ثم ضغطت على كلمة Go .. بدأ العدَّاد يتزايد بسرعة إلى أن وقف على الرقم 82 % ، فأخذت أضحك و سألته ما رأيك بالنسبة ؟ عالية أليس كذلك ، لم يجبني فقد كان ساهماً ، اضطررت أن أهزَّه لينتبه لي ، استفسرت منه عن حاله فقال لا شيء أنا جعت ألن تطعميني ؟ نهضت ضاحكةً : بالطبع تفضل ، لمن إذاً طبخت كل هذا الطعام !!

لاحظت أن جواد لم يأكل كثيراً ، بل هناك أطباقٌ لم يمد يده إليها ، و بعد الطعام غادر سريعاً معتذراً بأن وراءه أمرٌ هامٌّ لا يؤجَّل ..

مضى يومان و جواد لا يكلمني و لا يرد على اتصالاتي ، و في اليوم الثالث أرسل لي رسالة قال فيها بأنه قادم بعد الظهر إلينا .. لم أستطع منع نفسي من القلق .

في الموعد المحدد كان جواد يجلس قبالتنا أنا و أمي ، قال بعد أن ظلَّ صامتاً دقائقَ مرت عليَّ كأنها ساعات :
– أنا خُدِعت ، بل تعرَّضت لأكبر مقلبٍ في حياتي ، ميساء أنتِ لم تخبريني أنَّ عمركِ ثلاثة و ثلاثون سنة !

قلت له و أنا أحاول استيعاب الموقف :
– لم تسألني ، ظننتك تعلم ، أقصد بالتأكيد تعلم قبل أن تتقدم لخطبتي !!

أجابني بضيق :
– لكنهم قالوا لي بأنكِ في السادسة و العشرين من عمرك و أنا تقدمت لكِ على هذا الأساس .. آسف ميساء أنتِ لا تناسبينني ، لو كنتُ أعرف عمركِ الحقيقي ما كنت تقدمت لخطبتك ..

نهض واقفاً ليغادر لكني أوقفته ، ثم نزعت خاتم الخطوبة من إصبعي و وضعته في يده قائلةً له بصوتٍ حاولت ألا أجعله يبدو متأثراً :
– و أنا أيضاً لا يناسبني رجلٌ لا يرى في المرأة سوى عمرها متناسياً أيَّ شيءٍ آخر .. اذهب الله معك

خرج جواد .. خرج و لن يعود إلى الأبد ، و مع خروجه انهرت متداعيةً على الأريكة ، تعبٌ مفاجئٌ أصاب جسدي و خدرٌ في أطرافي ، بالكاد استطعت أن ألتفت نحو أمي التي لم يكن حالها بأفضل مني ، قلت متسائلةً : اشرحي لي ماما أنا لم أفهم ، ما الذي حدث و من الذي قال له بأن عمري ستة و عشرون ؟! مدّت أمي يدها نحو الهاتف و طلبت من جارتنا الحضور ..

طأطأت جارتنا برأسها نحو الأرض بعد أن علمت ما حصل و قالت بخجل :
– أنا من أخبرت والدته عندما أُعجِبَت بكِ و سألتني عنكِ أن عمرك ستة و عشرون ، عرفت أني لو قلت لها عمركِ الحقيقي فإنها لن تُفكِّر بكِ لابنها .. قلت لنفسي أنَّ شكلكِ لا يوحي بعمرك بل دوماً تبدين أصغر بعدةِ سنوات ، و عندما سيتعرَّف جواد عليك عن قرب ربما ستعجبه صفاتكِ و لا يهتم لمسألة العمر ..

ثمَّ جثت على ركبتيها عند قدمَي و قالت بتوسل :
– سامحيني أرجوكِ ميساء ، أنا فعلت ما فعلت بحسن نيَّة ، لم أكن أريد أن أقطع بنصيبك ، أردت إعطاءكِ فرصة ، قلت لنفسي بالتأكيد سيُفتح موضوع الأعمار في حديثكما و لكن بعد أن يكون قد تعلَّق بكِ و لن يستغني عنكِ .. لم أكن أظن أبداً أن هذا سيحصل ، ميساء أنت كابنتي و أنا أردت لك الخير .. سامحيني أتوسَّل إليكِ .

كنت طيلة حديث جارتنا أنظر إليها بأسى ، قلت لها بعد أن أنهت كلامها : لو كنت مثل ابنتكِ فعلاً ما رضيتِ لي الألم .. ثم نهضتُّ متوجِّهةً نحو غرفتي بقدمين متهالكتين ، لم أصفق الباب ورائي مثل كلِّ مرّةٍ لأُخرِج فيه حرقتي ، بل أغلقته بكلِّ هدوءٍ و جلست على طرف السرير ..

عجزت عن وصف شعوري بعدما حدث ، كنت أحسُّ بفراغٍ كبيرٍ مكان قلبي ، ألم اجتاحني تجمَّع على شكلِ غصَّةٍ آلمت حلقي ، بحثت عن دموعي لأرتاح لكن لم أجدها ، دموعي خانتني و ليست المرَّة الأولى .. فلطالما كنت عصيَّة الدمع و بداخلي ألف جرحٍ و جرح .. بدأ عقلي يتساءَل ، هل حقاً أنا خُطِبت ؟ هل جواد كان شخصيَّةً حقيقيةً أم هو صنع خيالي ، هل كنت أضع بإصبعي خاتم الخطوبة أم أنا أتوهَّم ! لماذا هذا حصل معي ؟ أنا لا أستحق هذا ! أنا لم أؤذي أحداً لماذا الدنيا آذتني ؟

تذكرت فجأة كلام إحدى زميلاتي في العمل ، تكلَّمت – و نظرة حسد لمعت في عينيها – عن حظي الذي يفلق الصخر ، فخاطبي أكبر مني بسنتينِ فقط ، و من بعمري لا يأتيها إلا من تجاوز الأربعين و يكون أرملاً أو مطلَّقاً .. كيف لم أنتبه وقتها إلى كلامها ! كيف استمرَّيت شهراً مع جواد دون أن أتطرق معه إلى مسألة العمر ، لماذا لم أسأله عن كيفية تقدمه لي على الرغم من تجاوزي الثلاثين ! ربما وقتها لم يكن سيحصل ما حصل ، أو على الأقل سيحصل بوقتٍ أبكر و بطريقةٍ ربما ألطف ..

وضعت رأسي على الوسادة و برغم الجرح ، برغم الألم و الصَّدمة وجدت نفسي أستسلم للنوم .. !
غبت في نومي تماماً عن الواقع و عندما استيقظت لم أدرك للوهلة الأولى أين أنا ، فكلُّ ما حولي كان غارقاً في الظلام .. بدأت بالتدريج أتذكَّر أن هذا منزلنا و أنِّي في غرفتي و بأنَّ خطوبتي من جواد قد انتهت .. عندما وصلت بتفكيري لهذا الحد شعرت بالاختناق و كأنَّ الأمر حدث للتو ، ربما لأننا في نومنا نهرب من الواقع ، و عند الاستيقاظ نجد ألَّا شيء قد تغيَّر و بأنَّ الذي رحل لن يعود و بأنَّ الجرح الذي آلمنا مازال ينزف ، فندرك حينها أنَّ ما حدث حقيقةٌ و واقعٌ لا يمكن الهروب منه ، فيتجدَّد الوَجَعُ علينا بكل تفاصيله .

نهضت و أشعلت ضوء الغرفة ، نظرت في الساعة فوجدُّتها قد تجاوزت الثامنة و النصف مساءً ، يا إلهي كيف استطعت النوم كلَّ هذه الفترة !
خرجت من الغرفة فوجدت الصالة مطفأةَ الأنوار ، تناهى إلى سمعي صوت بكاءٍ مكتومٍ و شهقاتٍ مقموعة النفس ، إنها أمي .. أمي الغالية تبكي ! هرعت إليها و جلست عند قدميها ، سألتها : أمي حبيبتي لمَ البكاء ؟ و لماذا تجلسين هكذا في الظلام ؟! أجابتني بصوتٍ متهدِّج : أبكي على حظك يا ابنتي .. قلت متظاهرةً بالقوة : حظي ! و ما به حظي ؟ أنا محظوظةٌ فقط لأنك أمي و لا أريد شيئاً آخر صدِّقي .. ماذا يعني إذا فُسِخَت خطبتي ، بالتأكيد ليست نهاية العالم
نظرت إليَّ باستغرابٍ و قالت بقلق : ميساء هل أنتِ بخير ؟ ضحكت لأني عرفت بما تفكِّر و أجبتها : اطمئنِّي أمي لم أُجَن بعد .. أنا بخير و أشعر بالجوع أيضاً ، سأقتحم المطبخ لأُعِدَّ لي ولكِ أجمل مائدة .. طبعت قبلةً على يدها قبل أن أُردِف : رجال العالم بأكملهم لا يساوون عندي دمعةً من عينيكِ يا حبيبتي ..

ماذا أفعل ؟ مطالبةٌ أنا دائماً أن أكتم آلامي و أتظاهر بالصَّلابة و الجَلَد منذ أن توفي والدي و أنا ابنة العاشرة .. الناس من حولي كانوا يبكون إلا أنا ، اقتربت من أمي و قلت لها بابا رحل لكني أنا معكِ لا تحزني ، سأبقى دائماً معكِ و إلى الأبد .. و يبدو أن وعدي بأن أبقى إلى جانب أمي إلى الأبد سيتحقق !

**

عدت إلى حياتي الرتيبة التي لا إثارة فيها ، في النهار ألاطف هذه و أساير تلك و أستحمل سماجة أحاديث زميلاتي في العمل ، أجلس مع أمِّي أسمع أخبارها التي لا تنتهي عن الخالة و الجارة و ابنة الخالة و العمة .. و عندما يُطبِق الليل أجفانه و تضمُّني جدران غرفتي أستسلم لأفكاري و وحدتي ، أتأمَّل في المرآة وجهي الآيل للذبول و شعري الذي بدأ اللون الأبيض يعرف طريقه إليه ، و عندما أتذكر شهرُ خطوبتي أحسه كالحلم الذي سرعان ما تلاشى و لم يبقَ منه سوى صورٍ طُبِعَت في الذاكرة و لن تُمحى ..

لقد تعايشت مع كوني العانس ميساء .. لم أعد أسأل نفسي عن سبب عدم زواجي ، لم أعد أحلم بمن ينتشلني من دوّامة الانتظار لأني لم أعد أنتظر أحداً الأمر الذي جعلني أعيش بسلامٍ داخليٍّ و أراحني من مخاوفي و أزاح عني الهمَّ الذي كان يمنعني من الاستمتاع بتفاصيل الحياة الصغيرة ، كشرب قهوة الصَّباح مع أمي ، التَّخطيط معها لرحلةٍ سنقوم بها في يوم الإجازة ، الإنصات إلى صوت حبَّاتِ المطر و هي تَضرِب النافذة في ليالي الشتاء ، استنشاق الهواء المُشبَع بعبقِ الرياحين و الزهور في صباحٍ ربيعيٍّ مُشرِق و غيرها الكثير من التفاصيل التي تخلق السعادة ..
أجل ، لقد قررت أن أصنع سعادتي بنفسي و لن أنتظر أحداً بعد الآن ليأتي و يصنعها لي .

تاريخ النشر : 2018-04-12

نوار

سوريا
guest
91 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى