أدب الرعب والعام

أسـيـرة الانـتقـام

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

أسـيـرة الانـتقـام
أقسم أن أجعلك ترتاح يا والدي..فنيران قلبي لن يخمدها سوى الانتقام..

في مساء ربيعي دافئ النسمات ، دفعت عربة صغيرة أمامها وخطت ببطءٍ نحو الحديقة المجاورة لبيتها..تلقي نظرة من حين لآخر على وليدها الذي كان نائماً..وتبتسم له ابتسامة تفيض حباً وحناناً..ثم تسرح بأفكارها بين ماضيها الراحل ومستقبلها الغامض..تحاول أن تجمع شتات نفسها وتكبح ذكرياتها لتعيدها إلى أعماق ذاكرتها..

جلست على أحد المقاعد المنتشرة في الحديقة, وحملت صغيرها بين ذراعيها,طبعت قبلة خفيفة على جبينه ثم راحت تتفرج على جمع العائلات من حولها,أحست بغصة تخنقها و ذرفت عيناها دمعات سرعان ما مسحتها,ثم تابعت تأملاتها حتى حان موعد الغروب,أعادت صغيرها إلى العربة وطفقت عائدة إلى بيتها حيث تسكن الوحدة ويعشش الألم ويتدثر الليل بغطاء الماضي الذي تسدله ذاكرتها كلما وضعت رأسها لتنام..

اطمأنت أن طفلها غارق بالأحلام..فارتمت على سريرها وأغمضت جفنيها علّ النوم يتكرم ويستجيب لدعوتها بعد أن فارقها لزمن..تقلبت مراراً وتكرارًا على فراشها..حاولت طرد كل تلك الصور من مخيلتها لكن كل محاولاتها ذهبت أدراج الرياح..نفد صبرها وازداد حنقها..فلم تشعر بنفسها إلا وهي تطلق صرخة عالية اخترقت الهواء..ومزقت السكون من حولها..بكت بعدها بكاءً مريراً..انسكبت دموعها بحرقة..على الوحدة..على الألم..على الزمن..على الرجل الذي أحبته..

٭٭٭٭

منذ زمن…

-ندى!!..ندى!!….استيقظي حالاً..!!

بصوت غالبه النعاس:
-اتركيني يا أمي..لا عمل لدي اليوم..لقد أخذت إجازة..

-لا يهمني عملك..انهضي الآن وانظري لآخر مصائبكِ..

وأخذت الصحيفة التي بيدها ووضعتها بقوة في يد ابنتها.. أين أخذتها ندى و اعتدلت جالسة وتفحصتها بعينيها الناعستين ثم تثاءبت ملء فمها وأطلقت ابتسامة خفيفة وقالت:

-وماذا يعني ذلك؟!..

وهنا صرخت أمها قائلة:
-لا تقومي باستفزازي..تعلمين ماذا أعني..قلت لك ألف مرة من قبل ابتعدي عن هذه الأجواء وهؤلاء الناس..إنها وحوش لا ترحم..ألست خائفة على نفسكِ وعلى والدتكٍ؟!..ألا يكفي ما حدث من قبل..؟!..
بجدية:
-أمي..رجاءً ..أخبرتك مراراً أنه عملي..لم أدرس لسنوات من أجل أن أكتب مقالاً عن آخر أخبار الممثلة فلانة أو بطولات الرياضي علان..أنا أنقل ما يجري حقاً بالواقع..لست أفبرك شيئاً من عندي..

– ولا يوجد بالواقع غير رجال الأعمال والمسؤولين..؟.. وهذا الرجل بالذات حذرتكِ من الاقتراب منه..

-طبعاً يوجد غيرهم..لكنهم الحيتان الكبيرة..وأنا لا يستهويني صيد الأسماك الصغيرة..

– يا لِبرودة أعصابك..!!..يوماً ما ستلتهمك هذه الحيتان ولن تترك منك شيئاً حتى العظام…قالت والدتها بغضب وهي تدلف خارج الغرفة..

ألقت ندى نظرة أخرى على الصحيفة..وارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها..وغمغمت قائلة:

-ليس قبل أن أصيدها..

٭٭٭٭

في مكان آخر..

– سيدي أرجوك إهدأ..إنه مجرد مقال بجريدة..كتبته صحفية هاوية..حتى أنها لم تذكر اسمك تحديداً..

وهنا صرخ غاضباً:
-هل أنت أحمق أم تتحامق علي؟!..انظر بوضوح مَن المدعو”إ.ح”؟،..ألست أنا”إيهاب حمدي”..ثم من يملك مصنعاً للأجبان بالمدينة غيري؟..كل ما ذكر في المقال يشير إليّ شخصياً..

ثم رمى بالجريدة من يديه وتفاقم غضبه وصار يذرع غرفة مكتبه جيئةً وذهاباً..ويطلق وابلاً من السباب والشتائم..

-سأطلب من الجريدة نشر اعتذار رسمي،،قال مدير مكتب السيد إيهاب بهدوء..

وهنا لم يتمالك السيد إيهاب نفسه وصاح به:
-وغبي أيضاً..؟!..ألا تعلم أنه إذا تم نكران الأمر رسمياً فهذا يعني قطعاً أنه صحيح؟!..أي قدر ساق أحمقاً مثلك ليعمل عندي..أغرب عن وجهي الآن..

نكس “أيمن” رأسه ثم همّ بالخروج من المكتب قبل أن يوقفه قائلاً :
-أريدك أن تجلب لي كامل المعلومات عن تلك الصُحفية..

٭٭٭٭

صباح اليوم التالي..

-أهلا ندى..صباح الخير..مقالك الذي نشر البارحة كان ناجحاً..لقد تزايد حجم مبيعات الجريدة..من حسن حظك مقالاتك دائماً في الصدارة..

قال زميلها “علي” الصحفي بقسم الرياضة..بعد أن ولج مكتبها..

هتفت والإبتسامة تعلو محياها:

– صباح الخير..ما نتائج مباراة الكلاسيكو؟!..

-تعادل..قال ضاحكاً..ثم جلس إلى مكتبها وراقبها للحظات قبل أن تدرك مغزى ما جاء من أجله..فـ”علي”صديقها من أيام الكلية وتعرفه حق المعرفة..

-شكراً لك..لكن ليس للحظ دور في ذلك..أنا أكتب الواقع..من داخل المشاكل والمعاناة اليومية للناس..

صمتت قليلا ًوأخذت نسخة من الجريدة وأشارت إلى المقال واسترسلت بالكلام:

-كما قرأتَ بالأمس مصنع الأجبان ذاك يوزع أجباناً صُنعت من حليب لا يطابق الشروط الصحية..لقد تأكدت من الأمر بنفسي..يقوم بشراء هذا الحليب بثمن بخس ويحوله إلى أجبان بعد أن يضيف إليه ما يحسن طعمه..ويخفي رائحته لمدة على الأقل..ثم يوزعه في السوق المحلية بأسعار مناسبة فتتهافت الناس على شراءه لأنه يناسب ميزانيتهم..فيم يكسب المدعو “إيهاب” أموالاً طائلة على حِساب صحتهم..حادثة التسمم قبل أسابيع كانت بسبب منتجاته..جميع المتسممين أكدوا لي أنهم تناولوا منها..أخذتُ عينة إلى أحد معارفي والذي يعمل بإحدى مخابر الدولة..أكد لي أنها غير صالحة للاستهلاك..هل رأيت مدى جشعه؟!..إنه مجرم..

-ولجنة الرقابة..؟!.

-هل أنت جاد؟!..إنهم تحت إِمرته..

-أنت تعلمين مدى خطورة العبث معه ومع أمثاله..توخي الحذر..إنهم مستعدون لفعل أي شيء لأجل مصالحهم…و إن احتجت للمساعدة فأنا جاهز..

ثم وقف وأردف بمرح:
-هناك مباراة تنتظرني..إلى اللّقاء،،

-حظاً موفقاً …صاحت ندى..وأخذت هاتفها وأجرت اتصالاً..انتظرت حتى فتح الخط ثم قالت:

-ما الخطوة التالية..؟..

٭٭٭٭

مساءً فتحت باب شقتها لتجد أمها جالسة على أحد الأرائك المقابلة لجهاز التلفاز..ألقت التحية فردت بصوت متعب دون أن تلتفت إليها..جلست بجانبها وقالت لها بصوت حانٍ:
-هل أنتِ بخير..؟!..أخشى أن يكون المرض قد عاودك..

-لا يا عزيزتي أنا بصحة جيدة..بعض الإرهاق فحسب…أخبريني ماذا قررتِ بالنسبة لطلب جارتنا..

وهنا انفرجت أسارير ندى وعلا صوت ضحكها:

-أتقصدين زواجي من ابنها؟..إنها حقاً امرأة ظريفة!..أخبريها أن تجد عروساً مناسبة له..

وبصوت هادئ ردت أمها:
-إنه رجل..ولا يعيب الرجل إلا دينه وأخلاقه يا ابنتي..أريد الاطمئنان عليكِ قبل رحيلي…

-صدقيني أنا أعلم هذا…أمدك الله بطول العمر يا أمي..لكنه لا يناسبني..
قالت بجدية ثم وقفت وقبلت رأس والدتها ودلفت إلى غرفتها تفكر في توابع وآثار القنبلة التي ستنفجر غداً..

٭٭٭٭

-اسمها ندى عبد القادر..عمرها ست وعشرون عاماً… توفي والدها منذ سنوات..وحيدة والدتها..خريجة كلية الإعلام بتقدير ممتاز..معارفها وأصدقاؤها ضمن حدود طبقتها المتوسطة..ولا شيء آخر مهم..

قالها”أيمن” لمديره الذي كان يمعن النظر بصورة ندى..كانت ناعمة وجميلة كقطرات الندى فعلاً..

-جميلة حقاً..لكن جمالها لن يدوم طويلاً..

٭٭٭٭

صباح الغد..

-هل أنتِ مجنونة..؟!،،صاحت والدتها بها..

-بل عاقلة..

-الأمر خطير…لن يسكت هذه المرة..بالأمس مصنع الأجبان واليوم مصنع المعلبات…وغداً؟!….على الأقل كنت تستطيعين الانتظار حتى تمر فترة على المقال الأول..سيدرك أنكِ تستهدفينه..

وهنا احتقن وجهها وصاحت:

-بالضبط..لن أرتاح حتى أدمره..

-تريدين الانتقام إذاً ؟!..وتستخدمين آلام ومعاناة الناس كوسيلة..يبدو أنني لم أحسن تربيتكِ..أين مبادئك؟!..والدك لم يكن هكذا من قبل..

-لا تضجري أسماعي بمحاضرة عن المثالية يا أمي..إني آخر شخص قد تعنيه..ماذا حصدنا من هذه المبادئ غير الأوجاع والآلام؟..والآن أتركيني أرجوكِ..أريد أن أختلي بنفسي..

٭٭٭٭

جهزت نفسها وحملت حقيبتها وقبل أن تمضي تأملت وجهها للحظات في المرآة محاولة كبت مشاعر الإحساس بالذنب التي تتآكلها..كانت تعِي أنها تستغل مهنتها النبيلة من أجل ثأرٍ شخصي.. لكن ما كان بيدها من حيلة..يجب أن يدفع ذلك المجرم الثمن غالياً ..

اتجهت إلى الرصيف.. ووقفت منتظرة الحافلة التي تقلها إلى مقر الجريدة كالعادة..رن جوالها فردت عليه..وأثناء انشغالها بالمكالمة لاحت من بعيد دراجة نارية يركبها رجلان ملثمان سرعان ما مرت بجانبها وألقى أحدهما عليها بسائلٍ متقصداً وجهها ولاذ بالفرار..

هوت على الأرض..وتحجرت عيناها من الصدمة..

-ندى…ندى…ندى..لم تتجاوب..فصرخ بأعلى صوته..

-ندى!!!!!…ثم رش عليها بعض الماء من قارورة أعطاها إياه أحد المارة..حتى بدأت تعود للواقع..

-هل أنتِ بخير؟!..

-علي..!!..حدقت به قليلاً ثم أجهشت بالبكاء..

-اطمئني..لم تتأذي..لحسن حظك أسعفتك سرعة بديهتك..انظري..وأشار إلى حقيبتها التي حُرق جزء منها..

٭٭٭٭

داخل أحد المقاهي..

-رجاءً يا علي لا تخبر والدتي بما حصل..

-لن أخبرها..ولكن من هؤلاء؟!..ولم يستهدفونك..؟!..

-أتباع إيهاب حمدي..يريد التخلص مني لأنني فضحته أمام الرأي العام..

-أخبرتكِ أن تهدئي يا ندى..فمثله لن يتقاعس عن فعل أي شيء..يمكن أن يقتلكِ مادام ما تكتبينه يؤذي سمعته…

سكت قليلاً ثم نظر إليها نظرة كشفت خبايا نفسها وتابع:

-أهناك ما تخفينه عني..؟!

ترددت قليلاً ثم أجابت مصطنعة المزاح:

-طبعاً..!!موضوع مقالي التالي..

٭٭٭٭

مرت أيام منذ تلك الحادثة..أصبحت ندى تتوخى الحذر وتحسب لخطواتها ألف حساب..وتوقفت مؤقتاً عن إتمام سلسلة المقالات التي تستهدف مصانع وشركات” إيهاب”..

توطدت علاقتها بـ”علي”أكثر بتلك الفترة..كانت تشعر بشيء مميز فيه لم تلحظه من قبل..بانجذاب نحوه..بمشاعر تجاهه.. وكثيراً ما تساءلت “هل يمكن أنني وقعت بحبه..؟”..

**

وذات يوم…
علا صوته إلى أن سمعه جميع الموظفين من حوله..كانوا قد اعتادوا على صراخه كل فترة..ولكن ليس بقوة ذلك اليوم..

-ماذا أقول؟..أحمق..غبي..أبله..عديم الفائدة ..صدقني لا توجد كلمة بقاموس اللغة تصفك..لماذا لم تنبهني من قبل..؟..

-لم أعلم أن الأمر مهم..كان مجرد إسم…أجاب أيمن بقلق..

-ليس مجرد إسم…إنه صفحات ماضٍ أحاول طيّها لأنه إذا فتحت سوف تحرقني أيها الغبي..

“ندى عبد القادر ياسين”..

٭٭٭٭

* الألمُ ينهشني من الداخِل..جراحي ثخينةٌ تأبى أن تندمل..ظننتُ أن الزمنَ كفيلٌ بأن ينسينِي..لكن عقلي يرفضُ إلا أن يعيدَ لي تلكَ الذكرياتِ المرّة…أحياناً أتساءل ولِمَ أريد أن أنسى؟..طالما أن النسيانَ سيمحو هويتِي..كينونتِي..والأهم ذكرياتِي..ذكرياتِي معك..أحلامنَا التي تشاركناها وأحاديثَنا التي سطرنَاها..النسيانُ لدى البعض نهايةٌ للألم ولكن بالنسبةِ لي بدايةٌ له..فأنا لستُ ممّن يستطيع فرزَ ذكرياتهِ والاحتفاظَ بالجميلِ منها فقط..*

*أعدِك يا والدي لن أتراجع..وكيف أتراجع وطيفكَ يعيشُ معي..يلاحِقني أينما ذهبت..صوتكَ الحاني يداعبني..ندى..ندى..طلع الصبحُ يا ندى…*

*ياااه..لم أتصور وأنا ابنة الثامنةِ أنني في يوم قد أفقدك..هل تتذكر حديثنا يوم قلتَ لي أنك ستعيش لـثلاثِ مائـةِ عامٍ من أجلي!!..يومها استغربت وكيف لبشرٍ أن يعيش كل تلكَ المدة..؟…أجبتني ببساطة..”لأنني والد ندى”..*

*أتذكَّر يوم نهضتُ صباحًا لأجدَ الصبحَ قد طلع دون أن توقظنِي…قلت:أمي..أمي..أين أبي.؟.وجدتها تبكي..تساءلتُ لماذا تبكي أمي؟!..لم أرها تبكي يوماً..قالت:في الجنةِ يا صغيرتِي..لماذا ذهب إلى الجنةِ من دوني؟!..متى سيعود..؟؟..ردّت:قريباً.. واستمرت بالبكَاء..انتظرتُ قليلاً..وانتظرتُ طويلاً..أملاً في أن تعودَ من الجنة..حتى جاء اليومُ الذي أدركتُ فيه أن لا أحد يرجعُ من الجنة فالجنةُ تعني” الموت” والميتُ لا يحياَ..يومها لا أحد استطاعَ إيقاف سيولِ الدموعِ التي انجرفت من عيناي..ليس لأنكَ ذهبت من دونِي..لاَ..بل لأنكَ أخلفتَ وعدك بأن تعيشَ لِــثـلاثة قــرونٍ من أجلِي…*

ثم طوت مذكراتها ومسحت عبرات انسابت على وجنتيها..وقالت:أقسم أن أجعلك ترتاح يا والدي..فنيران قلبي لن يخمدها سوى الانتقام..

٭٭٭٭

اهتزت المدينة على خبر جديد..
“رجل الأعمال”إيهاب حمدي” يتعامل مع كبار وزعماء المافيا في البلد..”..

-ألم أخبركِ أن تتريثي؟..أنا خائف عليكِ..قال علي معاتباً..

-لا تخف أخذت احتياطاتي..هذا عدا عن أن اسمي صار معروفاً..إن فكّر بأذيتي ستشير جميع أصابع الاتهام إليه..

-فقط أريد معرفة من أين لك بكل هذه المعلومات..؟..

لكل صُحفي مصادره الخاصة..قالت ضاحكة و أضافت..دعنا من هذا الحديث الآن أخبرني ما هو الموضوع الذي أردتَ محادثتي به..؟..

-بصراحة..كنت سأعترف لك بأمر لكن لا أعلم إن كنت ستتقبلينه أم لا,عرفنا بعضنا منذ الجامعة وكنا خير رفقة..لم أتصور يوماً أن تنجرف مشاعري نحوك بهذه الطريقة,أنا آسف..لكنني أحببتك..

وهنا انفجرت ندى ضاحكة…

قطّب جبينه وارتسمت ملامح الغضب على وجهه:
-لا داعي للسخرية…لك أن ترفضي لكن دون جرحي.. وهم قائماً لكنها أمسكت بيده وأجلسته..

-آسفة..ضحكت لمنظر وجهك المتصبغ بالأحمر من الخجل..وكأنك لم تحب من قبل فتاة قط ..

-تعلمين أن هذا صحيح..

-أعلم..ثم رمقته بنظرة تشع سعادة وأردفت:

انتظرتك طويلاً لتنطق أيها الأبله..

٭٭٭٭

وضع السيد إيهاب الجريدة جانباً..ثم أخذ سلسلة مفاتيحه وفتح درجاً خفياً بمكتبه..وأخرج ظرفاً..فتحه وأمعن النظر بالصورة التي داخله..ثم تمتم قائلا: لماذا يا صديقي..؟..لماذا..؟..

كانا جارَين و صديقَي طفولة..أحدهما إيهاب والثاني عبد القادر..عايشا جميع مراحل الدراسة سوياً إلى أن تخرجا..وعملا كموظفين بالبنك باعتبارهما درسا المحاسبة والاقتصاد..
كانت علاقة الأخوة والصداقة التي تجمعهما قوية ومتينة رغم اختلافِ طبعَيهما..لدرجة أنهما تزوجا في نفس اليوم..
بعد عدة سنوات وبمحض الصدفة عندما كان عبد القادر يفحص الملفات اكتشف أن هناك مشكلة أو خطأً بالحسابات..أخبر صديقه بذلك لكنه لم يهتم كثيراً بالأمر ونصحه أن لا يبالي طالما أنه ليس المتسبب بها..

راودت الشكوك عبد القادر فلطالما علِم أن صديقه إنسان يحب المال وكان الثراء دائماً أولوية طموحاته..فقرر مراقبته ودقق بجميع الملفات والحسابات من بعده..وبعد مدة اكتشف أنه يتلاعب بالحسابات ليدخل الفرق إلى جيبه..ويزور أرقام وتواريخ القروض ليؤخر أجلها مقابل رشاوٍ يتقاضاها من أصحابها..هذا عدا عن إفشاء أسرار المتعاملين ..

صعقته المفاجأة..فلم يتخيل يوماً أن أعز أصدقائه ضرب بكل المبادئ والقيم عرض الحائط من أجل حفنة من النقود ووقتها قرر مواجهته..

طلب مقابلته وواجهه بما اكتشف وطلب منه التراجع فرفض..هدده بالإبلاغ عنه لكنه تعنّت أكثر..ثم تركه ..وتلك كانت أولى خصومة بينهما..والأخيرة..

“وبعد يومين نشر خبر بصفحة الحوادث مفاده وفاة موظف بالبنك في حادث سيارة…”..

٭٭٭٭

مر أكثر من شهر منذ حفل زواج” ندى و علي”الذي تم بسرعة..فكلاهما لم يهتما يوماً للمظاهر..لم تتوانى ندى خلاله عن شن الضربة تلو الأخرى ضدّ السيد إيهاب…نشاطاته..حياته الخاصة..ماضيه..كلها صارت تحت المجهر..حتى إنه طُلب للتحقيق عدّة مرات..لكن هذا لم يمنع الكثيرين من التساؤل عن سر تحامل ندى الكبير عليه.. وأولهم زوجها “علي “الذي بدأ يرتاب من هذا الأمر..

واجهها عدة مرات لكنها كانت تتملص من الموضوع وتغيره أو تعطيه مبرراتٍ وأسباباً واهية..وما زاد حيرته صمت السيد “إيهاب “فمنذ محاولة إيذاءها آخر مرة لم يحرك ساكناً..وهذا غريب على رجل من نوعية “إيهاب حمدي “إلى أن جاء ذلك اليوم الذي غير كل شيء..

كان متجها إلى مكتبها الذي يقع في الطابق الثاني لمبنى الجريدة حين لمحها تنزل بسرعة على الدرج المؤدي إلى مكان ركن السيارات..تبعها ثم اختبأ خلف أحد الأعمدة الكثيرة الموجودة هناك..وظل يراقبها واقفة وكأنها تنتظر شيئاً ما..وبعد هنيهات جاء رجل غريب لم يتبين ملامحه جيداً تحدث معها قليلاً وأعطاها ما يشبه الملف ثم غادر..خبأته ندى تحت سترتها وعادت راكضة إلى المكتب..

٭٭٭٭

مساءً وبعد أن جاب” علي” الشوارع والأفكار تتزاحم في عقله..يحاول أن يجد تفسيراً منطقياً للكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام التي تحوم برأسه..قرر العودة إلى المنزل والبحث عن أجوبة ومن حسن حظه وسوء حظها كانت والدتها في زيارة لهم…

-رأيتكِ اليوم في مقر الجريدة تستلمين شيئاً من أحد ما…هلا أخبرتني ماذا يحدث؟..
سأل علي ندى بنبرة حادة..
امتقع وجهها وتلعثمت وسرعان ما تمالكت نفسها وأجابت:
-إنه أحد مصادري التي أكتب من خلالها مقالاتي..

-تقصدين سلسلة هجماتك على رجل أعمال واحد من أصل العشرات..اسمعي يا ندى لست غبياً ، أريد إجابة واضحة وصريحة هل تعملين لصالح أحدِ أعدائه؟..

-أنت تمزح؟!…ثم أضافت بغضب:كيف تجرؤ على أن تشك في نزاهتي..ألا تعرفني..؟!..

-بصراحة صرت لا أعرفك..هناك شيء لا أفهمه..

وهنا تدخلت أم ندى وتوجهت لعلي قائلة:
-سأروي لك الحقيقة يا بني…وقصت عليه حكاية إيهاب مع عبد القادر..
ذُهل علي ممّا سمعه..وقبل أن يتفوه بحرف دق باب الشقة أين سارعت ندى لفتحه هروباً من ردة فعل زوجها..

ولج منزلها العديد من الرجال المسلحين ووجهوا مسدساتهم على الثلاثة معاً وصاح أحدهم قائلاً :

-إذا أتى أي منكم بأيةِ حركة سيقتل فوراً..
أنتِ…وأشار إلى ندى..تعالي معنا وسحبها من يدها..

همّ كل من والدتها وزوجها بالصراخ والاعتراض لكنه أوقفهم:

-إذا علمتِ الشرطة بالأمر ستكون الفتاة في خبر كان..سنأخذها في جولة قصيرة ثم نعيدها..
تلاقت أعين الثلاثة..فرمقتهما ندى بنظرة مغزاها “اطمئنوا سأكون بخير” ثم غادرت معهم..

٭٭٭٭

أخذها المسلحون إلى مكان كبير أشبه بالمزرعة..ثم أدخلوها إلى منزل كبير يقع وسطها وتركوها بالقاعة الرئيسية…

-ندى عبد القادر ياسين…لم أركِ منذ كنتِ طفلة..

صدح صوت إيهاب وهو ينزل الدرج من الطابق الثاني..

التفتت ندى ورأته..إنه هو كما توقعت..كبحت جماح الغضب الذي سيطر عليها لدى رؤيته وقالت ساخرة:

-انتظرتك طويلاً..أرى أنك تأخرت..

-تركتك تمرحين على راحتك..اعتقدت أنك ستتعبين وتوقفين المهزلة التي استمرت لشهور..لكن من الواضح أنك لا تنوين التوقف..لقد تماديتِ كثيراً لدرجة أنك أصبحتِ تلقين التهم جزافاً..

-لن أرتاح حتى أدمرك…قالت بحقد..

-آنسة ندى..أحضرتك إلى هنا لأزيل سوء الفهم الذي لحق بك..لقد فهمتِ الموضوع بشكل خاطئ..لا علاقة لي بموت والدك..كيف لي أن أؤذي صديق عمري..؟..

-أووه..حقاً..ومن القاتل إذاً..؟..

– أحد رجال الأعمالِ الذين كانوا زبائن للبنك،،علِم أن والدكِ أمسك بأدلة تدينه..فخاف على نفسه و سمعته فأرسل من قام بقتله..

-وطبعاً علِم من خلالكَ أنت..أي أنه بجميع الأحوال لك ضلع بمقتله..قالت بحنق..

-اطمئني..لقد انتقمت لصديقي منذ زمنٍ طويل..فذلك الرجل يقبع في الجحيم الآن..

-“وستلحق به بالتأكيد..”
أتى صوت من الخلف..استدار الإثنان ليجدا أنه”أيمن”..مدير مكتب السيد إيهاب..

-هل جننت أيها الأخرق..كيف تحدثني بهذا الأسلوب..وماالذي جاء بك أصلاً..؟..

-كيف حالكِ يا ندى؟..أرى أنكِ وقعت بشَركِه..

-لماذا لم تحذِرني كالسابق…؟..

-لأنه لم يعد يهمنِي أمركِ بعد الآن.. أجاب بلؤم ثم التفت لإيهاب الذي صاح به قائلاً :
– كنت أشك بوجود جاسوس في مكتبي..لكنك آخر من توقعت..سأنادي الحرس حالاً..

ابتسم أيمن وأجاب بتهكم:

-لا تتعب نفسك..أخبرتهم أن حضرتكَ طلبت منهم ترك المزرعة لتهنأَ بصيدك..ثم أشهر مسدسه نحوه وتابع وعيناه تقدح شراراً :

-سآخذ اليوم بثأر والدي منك أيها الحقير..

-من تكون..؟..سأل إيهاب بذهول..

-مشكلتك أنك لا تدقق بالأسماءِ جيداً..أجاب ساخراً ثم تابع:
أيمن سعيد نادر…أظنك تعرف “سعيد نادر”..إنه الرجل الذي تبجّحت قبل قليل بأنك أرسلته للجحيم..

لم تكن الصدمة قد نالت من إيهاب بمفرده..فتعابير الدهشة اكتسحت وجه ندى..وتذكرت يوم كانت بمكتبها وجاءها أيمن الذي أخبرها بأنه يعرف قصة ثأرها مع إيهاب وسيساعدها لتوقع به..الآن فقط أدركت أنها كانت مجرد أداة بيده ليحقق انتقامه والأدهى من ذلك أنها تعاونت مع ابن قاتل والدها الحقيقي…لم تتمالك نفسها وصاحت به:

-أيها المخادع كنت تستغلني لصالحك..

-كان هدفنا مشتركاً..أردت مساعدتكِ فحسب,رد بخبث ثم توجه لإيهاب قائلاً :
-تسببت بمقتل والدي بعد أن تحايلتَ عليه وسلبت أمواله..أتظنني تحملت إهاناتك من أجل راتب حقير..؟..سأقضي عليك الآن..

وهنا صرخ إيهاب متوسلاً :

-دعني وسأعيد لك جميع أموالك..

-أموالك لا تهمني..و هم بالضغط على الزناد..

توالت صرخات” إيهاب” لكنها لم تجدِ نفعاً ..أطلق أيمن النار عليه وأرداه قتيلاً..ثم أمسك المسدس ومسح عنه البصمات ووضعه بيد ندى التي صعقت من المشهد البشع الذي حدث أمام عينيها وفر هارباً تاركاً إياها مغشياً عليها..كان كل شيء يسير كما خطط له..

٭٭٭٭

تناقلت جميع صحف البلاد نبأ مقتل رجل الأعمال” إيهاب حمدي”..وأشارت إلى أن المتهم الرئيسي بقتله كان الصحفية”ندى عبد القادر” بعد أن تم العثور عليها بساحة الجريمة وكل الأدلة تشير إلى أنها القاتلة..وقد تم القبض عليها من قبل السلطات وتمكث الآن بسجن النيابة العامة بانتظار نتائج التحقيق..

٭٭٭٭

بعد عدة شهور تمت تبرئتها والقبض على “أيمن” بعد العثور على شريط فيديو مسجل صورته إحدى الكاميرات الخفية داخل منزل المزرعة والذي يوضح أنه القاتل..

برأتها المحكمة..برأتها الأدلة..برأتها الصحف..وبرأها الناس..إلا عيني زوجها “علي”لم تبرئها.. والذي على الرغم من وقوفه جانبها بعد سجنها ووفاة والدتها إثر الصدمة التي تلقتها..إلا أنه لم يستطع مسامحتها على كل الأخطاء التي ارتكبتها فتركها…تركها مع علمه بوجود وليدهِ بين أحشائها..تركها حتى يستطيع أن ينسى و يَهَبها ” الغفران” الذي لن تناله بتلك السهولة..

النهاية..

تاريخ النشر : 2018-05-03

وفاء

الجزائر
guest
42 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى