أدب الرعب والعام

تحت قناديل الشارع

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
للتواصل : [email protected]

تحت قناديل الشارع
يكسو الظلام الأزقة ويتمزق قليلاً بتوهج قناديل الشارع

أستدير برأسي بعسرٍ شديد كمن يدفع صخرةً تزن الأطنان ، لألقي نظرة من هنا وهناك ، لأبحث عن الخلاص في جوف الليل ، الخلاص الذي يتجلى في الموت ، وما أصعب تلك اللحظة التي يتمنى فيها الإنسان الموت ولا يدركه ، وحينئذ يتغزل به الموت من بعيد ، يستفزه ، يسخر منه .. – هل تطلب ودي يا هذا  ، ليس اﻵن ، عليك الانتظار .. إنه ينفر عند الحاجة ويحضر على فجأة …..

                                       **

يكسو الظلام  الأزقة ويتمزق قليلاً بتوهج قناديل الشارع ، يتلاشى ضجيج البشر والمحركات ، إنها ليلة شتاء حزينة وسنفونية المطر تُعزف على مسامع أهل المدينة ، ويحتسي الناس الأكواب الساخنة قرب المدافئ ويتذمرون من شدة البرد ، ويستحضرون ذكريات ويتحسرون على زمن لقب بالجميل ، وتلك الفتاة المراهقة ترسم قلباً مجروحاً في زجاج غرفتها الذي أظلمه الزمهرير ، وتتأمل فيه حبيها الخائن .. – آه يا قلبي الصغير ، كيف سمح لنفسه أن يرميك بالجمرات . ثم تمسح دموعها وهي قامعة لأنينها و تفتح هاتفها لتكتب في صفحتها الاجتماعية ” أريد أن أموت فقد بلغ بي العذاب حدود السماء ، ولن أسامح من خانني يوماً ” وتغلق هاتفها بانتظار الردود يوم غد ، ثم تتوجه إلى فراشها الناعم الذي يلتهم العظام بملمسه

                                      **

قالت لمن كان أبي يوماً :
– إياك عني يا هذا الرجل
– أرجوكِ يا أمي
رد ذاك الأب :
– لا أعرف كيف قبلت بك زوجة يا هذه
– أرجوك يا أبي
انفعلت تلك التي كانت أمي :
– ولا أنا أدري كيف سوغت لنفسي أن أكون لك يا هذا

وأنا بينهما كحكم التنس جالساً خاشعاً باكياً متوسلاً .. لا قلب هذا ولا ذاك دبَّت فيه نسمة من الحنان لهذا الصغير المتضرع ، وهكذا -أرجوكما-  -أرجوكما- حتى  وجدت نفسي ألعن زماني وأبصق على سبيلي بين الشوارع والدروب ، أبحث عن زاوية أقل برداً وتكون سلاماً على أخرى ، لألقي عليها جسدي الملعون ، وليكون الأرض فراشي وسماء الدنيا غطائي ، والضمير مغروس في الحرير ومدفون في أفخم القصور ..

أغيب عن الوجود حتى أستيقظ لأجد نفسي في جحيمي المعهود بعدما كنت في حلم بديع ، لولا الأحلام لانفجر رأسي .. الرياح تئن في الشوارع ، والصقيع يفقذ صوابه ويجن جنون الزمهرير . أقف كالمجنون ، ألتفت ذات اليمين وذات الشمال ،أبحث عن المفر المفقود ، الدماء تحولت إلى كتلة ثلج في جسدي ، أرتجف بشدة ، لا أجد أي حل ، حتى تفكيري أصابه الصقيع ، ثم أسقط منهارﺍً ، مستسلماً ، منهزماً ، حتى توقظني أصوات السيارات ، لقد عاد البشر إلى الحياة ..

أقف من مكاني ، أنظر إلى السماء ، إنها مازالت ملوثة بالغيوم السوداء وتنذر بقدوم الأمطار . لقد بدأ فصل الشتاء ، ومعه تفتح أبواب الجحيم على معشر طبقة غير محسوبة من الإنسان .. أسير في الشوارع والناس تسترق نظرات خاطفة إلى شخصي ، وبعضهم يرميني بنظرات شفقة لا تسمن ولا تغني ، وآخرون ينظرون إلي باشمئزاز كما لو كنت شيطاناً ، بلى ، أنا الشيطان ، فلو مت ساعة ولادتي المشؤومة لكنت الآن ملكاً ، لقد فاتني ذلك ..

إنه صباح آخر تعيس من صفحات أيامي الملعونات  ، وها هي فتاة صغيرة تظهر لي هناك وهي مثقلة بكتب على كتفيها وتقصد المدرسة في سبيلها ، ودوام حالها يتكرر كل يوم ، والزمان وراءها يتساءل :
– هل سينبثق مستقبل وردي في تلك الكتب التي أرهقت خطواتها ؟ .. أرميها بنظرات تعلن التمني لو كنت مكانها ..  – أمشي صباحاً إلى المدرسة ، أحلم كما يحلم الصغار ، أعود في المساء ألعب في الطريق ، أشاكس الفتيات ، أتباهى بمنصب والدي ، وعائلة أمي ، لا ، بل أفتخر بحذائي أيضاً .

لاحظت الصغيرة نظراتي لها , ثم أسرعت بخطواتها وهي منحنية الرأس و ترمق الأرض ، إنها مرعوبة من شخصي ولا تلام على ذلك .. – من حقك الخوف يا فتاتي ، فأنت الملاك وأنا الشيطان

صباح هذا اليوم أطل علي أكثر بؤساً ، وجيبي فارغ من درهمٍ واحد ، فلم أعمل مند قدوم الشتاء ، فبيع الخبز اليابس والمناديل يتلاشى في جو الصقيع ، لتتجدد معركتي الأزلية مع الجوع ، إنه عدو الإنسان الأول ، لكن هناك من لا يعرفه ، كتلك المرأة التي نزلت من سيارتها وهي تلبس قطعة قماش تتوقف عند ركبتها . إنها تسير ولا تلتفت ، فلم تتعلم الالتفات ، بل السير إلى الأمام نحوى مستقبل أُعد لها سلفاً ..

تجلس في المقهى ، ومازلت أنظر إلى ساقيها العاريتين في ديسمبر ، لا بأس ، إنها سيدة البلد ومن حقها ذلك ، أنظر إليها وهي تحتسي قهوتها الصباحية ببطء يثير جنوني .. رشفة ، رشفة ، رمقة هنا ، رمقة هناك ، حتى لاحظت وجودي أو تجسسي عليها  ، نظرت بشيء من الشفقة ، أو ربما في نفسها تشعر بالبذخ التي فيها .. رشفة ، رشفة ، ثم عادت ونظرت إلي  – إنه بؤس العوام يا سيدة البلد .. 

أصبحت عيناي راسخة في جسدها دون إذن مني  ، حتى أحرقت بنيران خيالي ما تبقى من قماش الساتر لها .. ثم أفقت من غيبوبة خيالي لأضحك على نفسي ضحكة الآلام ، ضحكة الفقر ، ضحكة الكبش المذبوح – يا لني من بليد أحمق ، كيف نسيت الجوع والخبز اليابس والمناديل ، لأسرح بكلاب أوهامي  في جسد سيدة البلد .. كنت أعتقد أن بيني وبين تلك السيقان العارية أمتار قليلة  ، لكن في الحقيقة بيننا جبالاً وأنهاراً .. إنما الحياة مثل العسكر ، لا يؤمنون بالعدل لكنهم يعبدون القوة

أواصل السير حتى وصلت إلى باب سوق ممتاز ، أقف وأنتظر لعل أحداً من خلق الله يستفيق فيه الإنسان ويمدني بدرهم أشتري به خبزاً ، درهم واحد سأعتبره قمة البذخ وأرمي به عدوي الأزلي – الجوع – لا ، لا أحد يحن ، ولا أحد يدب في النفس ، لقد سُحق الضمير ، وماذا بي فاعل إذاً سوى البحث عن القمامة ، فنحن أبناء المزابل ، بل سنسحق معها ذات يوم لنرحل ونحن مكتظين بالحسابات ، فمعشرنا غير نافع ولا ينتج ما يستهلك ، ولهذا أسير وأحمل الموت على أكتافي ، وفي اللحظة التي سأسقط فيها سأدفن في مكاني ،  .. الجوع يؤلمني ، وحلقي جاف كما لو بلعت التراب ، آه من عذابي ، آه من ألمٍ يسير داخل جسمي كشريط شائك فيمزق أمعائي

بين زقاق وأخرى أدفع بجسدي وأرمق هنا وهناك ، أبحث عن شيء أرميه في معدتي ، وفي الأخير ألتجئ إلى صندوق القمامة ، أبحث فيه عن قطعة خبز أو نصف تفاحة ، أو بقايا من فاصولياء أو العدس ، أو يكون اليوم عيد وأعثر على بقايا لحم في زوايا عظام ، وعندما أنتهي من وجبتي المرغومة ، أتساءل في نفسي :
– أمن أجل هذا يولد الإنسان ؟

                                           **

ذات يوم وأنا في دوامي الملعون ، لمحت فتاةً تدخن بشراهة في الحديقة .. جميلة هي ، قوامها ذكرني بصور المجلات الممزقة التي جادت بها الرياح علي. أغراني منظر الدخان المتطاير من فمها ، إنها محترفة في التذخين.  – يا له من ضباب ينبعث في تلك  الشفاه الحمراء ، وكأن في حلقها قنابيل انفجرت لتو .. توجهت نحوها وطلبت منها السجارة .. قالت الفتاة :
– أنت مازلت صغير على التدخين
-أرجوك أعطني السيجارة ودعيني أفني هذا الجسد الجاف بأي طريقة

سلمتني السيجارة ، وبدأت أدخن و شعرت بنفسي بأنني كبرت ، أصبحت رجلاً اﻵن .. – أنا أدخن يا ناس .  تلذذت  بشهق الأدخنة وزفير أخرى ، حتى انفجرت بالسعال واحمرت عيني.  – اللعنة ، إنه لذيذ وقبيح.  ضحكت علي الفتاة وأنا أستكشف أسرار السيجارة حتى قالت :
– أين تقضي أيامك ، وهل تملك أحداً ؟
– لم يعد لي أحد بعدما كان أيتها الجميلة ، وليس لي في هذا البلد سوى أزقته ، يبتلعني درب ويتقيؤني آخر

تغيرت نظراتها إلي ، وكأنها قرأت كتب الآلام في عيني ، وقالت :
– أنا اسمي زينب ، وأنت ما اسمك ؟
–  عادل

رحلت الفتاة بعدما سلمتني بعض المال وهي آسفة على حالي .. لا شك أنها مرت فيما أنا عليه اليوم ، فرغم كثرة المساحيق على وجهها ، ولباسها الظاهر عليه الأناقة ، إلا أن ملامحها ينادي فيها البؤس ويغني
كنت أنظر إليها حتى اختفت ، أحسست بشيء غريب تجاه هذه الشابة ، وتمنيت لو رافقتها في درب حياتها ، فما أحوج الإنسان إلى حبلٍ ينقض عليه كلما  اشتدت عليه أمواج القدر ، أو أُضعف الإيمان في قلب يُسمع فيه الأنين المكتوم

اختفت الشمس من السموات ، وحل سواد الليل المشؤوم ،
– يا ليت النهار يصير خالداً ، ويا ليت الشمس تستقر في كبد السماء   .. وأنا مازلت جالساً في تلك الحديقة  ، والبشر يختفي تدريجياً أمام عيني ، حتى حل صمت مدقع ، وسُحِقت الحياة ، هنا سأنام إذاً متمنياً ألا أستيقظ ، لكن لم يدم نومي سوى لحظات حتى أيقظني حارس الحديقة بعصاه كما لو كنت حيواناً ، وصرخ في وجهي الناعس :
– هيا ارحل من هنا أيها الصعلوك فستغلق الحديقة ، وإن رأيتك من جديد سأدفنك في مكانك

خرجت من الحديقة وأنا نصف نائم ولعنات الحارس تتبعني ، وتوجهت نحو المقبرة لعلي أجد عند الأموات الحنان المفقود عند الأحياء ، حتى وصلت إلى هناك ودخلت إلى العالم الصامت – مرحباً يا أيها الأموات ، ضيف الله أن أرقد بينكم حتى الصباح

بحثت عن مكان مناسب لأرمي فيه جسدي الذي صار عدوي ، حتى وجدت بين المقابر مكاناً معداً ومفروشاً بالكرتون ، لأستلقي فيه وأغلق عيوني وأحلق بعيداً نحو دنيا الخيال ، أحلام أكاد ألامسها وألقي القبض عليها قبل أن يمزقها محرك السيارات في كل تباشير الصباح. 
غبت عن الوجود وكأن لا فرق بيني وبين جيراني الصامتين ، حتى أحسست بصدمة في رأسي وبرعشة في كل أنحاء  جسدي

استيقظت لأجد شخصاً ثملاً وقد كسر زجاجة الخمر على رأسي ، وهو يصرخ :
– ماذا تفعل في مكاني أيها الكلب ؟

هربت سريعاً وأنا حافي القدمين قبل أن يوجه لي ضربة أخرى ، وخرجت من المقبرة وبالكاد أرى الطريق ، وإذا بي أحس بسائل يصل إلى ظهري وكأنه يزداد سيالاناً ، وضعت يدي لتحري الأمر وإذا به ينغمس في ذاك السائل الذي ينبثق من رأسي .. لم أصدق ما حدث لي ، ظننت أنها ضربة بسيطة ، لكن ذاك السكير فلق رأسي

ازداد الصداع في رأسي ورعشة الضربة تهز جسمي أكثر فأكثر ، والنوم يغالب عيوني ، وحلمي الوحيد في هذا العالم هو العثور على مكان صالح لنوم ، حتى وقعت أرضاً ولم أكن أدري هل أنا نائم أم فاقد للوعي ، إلى أن أطلّت علي الشمس ، واستيقظت لأجد نفسي في مشهد لا يرضاه الله للحيوان , مشهد بشع بطله صغير إنسان , مشهد لو رآه الصخر الصلد لتفتت بالأحزان – كيف يطيب النوم للمسؤولين وأبناء وطنهم مطروحين في أرصفة الطرقات حفاة وعراة !

فتحت عيني لأجد نهر من الدماء نضح من رأسي وسار في الشارع بعيداً عني ، إنها دمائي المسكينة ملّت مني وخرجت متحررة من جسدي المقعر ، من عظام متآكلة ، من بقايا إنسان
توقفت من مكاني وقد تحولت إلى مخلوق أحمر ، وفي لحظة توقفت سيارة الشرطة أمامي وبدؤوا يمطرونني بالأسئلة :
– من أنت ؟
– ماذا تفعل هنا ؟
– مع من تعاركت ؟
– هل تعرف فلاناً أو فلاناً ؟
– من أين تأكل ؟
– هل تسرق ؟

حتى ملوا مني وأكرموا علي بضمادة مهترئة لأشنق بها جرح رأسي ، ونعل بلاستيكي مبتور يقيني نصف الطريق

ازدادت أحوالي سوءاً مع ضربة السكير على رأسي التي أردت ساعات نهاري عذاباً ، كان همي في ذلك اليوم هو العثور على “زينب” لأعود إلى نفس الحديقة لعلها تظهر هناك من جديد ، انتظرت طويلاً حتى حل الليل ولا أثر لها ، وغادرت سريعاً قبل أن يأتي الحارس الليلي الذي وعدني بالدفن

في تلك الليلة سأعرف ما معنى الجحيم الحقيقي وكيف يكون العذاب الأليم .. مقامع من حديد تنفجر في رأسي المفلوق وصداها يصدح في أنحاء جسمي ، وأتقيأ ماء أصفر يحرق أمعائي قبل وصوله لحلقي ، كل جسدي يؤلمني بسبب تلك الضربة المشؤومة ولم أعد أستطيع تحريك أطرافي.  – آه كم تمنيت حينها أن أنام على الهواء.

وفي ثوران الآلام أفكر في سبب وجود في هذه الحياة ، أمن أجل كل هذا خرجت إلى الدنيا ؟ ثم أستدير برأسي بعسر شديد كمن يدفع صخرة تزن الأطنان ، لألقي نظرة من هنا وهناك لأبحث عن الخلاص في جوف الليل ، الخلاص الذي يتجلى في الموت ، وما أصعب تلك اللحظة التي يتمنى فيها الإنسان الموت ولا يدركه .. لا شيء هنا ولا هناك سوى قدري الجلاد ، وفوقي قناديل ربي في السماء شاهدة على أحوالي ، حتى الدموع تجمدت في عيني وأنا أحتاجها ، لا لشيء غير أن أغسل بها وجهي .

أفتح عيني وأغلقهم ، أغفو و أصحو ، أئن وأخرس ، حتى أطلت الشمس علي من جديد ، وأنا أنظر إليها معاتباً ، – مابك يا شمس الدنيا ؟ لمَ أراكِ مطلة على وجهي ثانية ؟
لم يعجبها عتابي وقالت :
– قم أيها الغلام ببؤسك وآلامك لتناشد الحياة ، ولترقص على حبال قدرك المحتوم
– أي حياة وأي نشدان ؟!  فإياكِ عني يا هذا القرص الملتهب

هكذا قضيت ليلة انفلتت من الجحيم ، وتركت أنينها يسمع فيما تبقى من حياتي

مر يوم ويومان ، ثلاثة قد صاروا أربعة ثم خمسة وزادوا واكتمل الأسبوع ، هدأت المطارق أخيراً في رأسي ، لأعود إلى وظيفتي في بيع المناديل والخبز اليابس ، لأكسب بضع دراهم أشتري بها سجارة ، والأكل على عاداته في المزابل يقتات ، لكن ، لعنة ضربة القبور مازلت تطاردني وجلبت معها هذه المرة مصيبة أخرى لم تكن في الحسبان ، حيث بدأ جرح رأسي يتعفن ، وفي كل أمسية أغلق فيها عيوني أشم أريج الموت في رأسي ، إنه يؤكل ببطء كما لو كان ميتاً ، لأحمله فوق أكتافي وأجول به الأزقة إلى حين

الظاهر أن الموت لبى النداء ولو كان متأخراً ، وها هو فوق رأسي يغرس شباكه بمهلٍ شديد ، وأنا أعاتب خيالاتي :
– هل فعلاً أريد أن أموت ؟
– لا
فلا يوجد إنسان عاقل يتمنى الموت ، إلا في لحظة عذاب عابرة  ، فالمنتحر غارقاً كان يصارع المياه في لحظة اختلطت فيه نوايا النجاة مع الانتحار ، وهنا تتجلى غريزة الإنسان في البقاء

اخترت الحياة رغم أن حقي فيها لا يتعدى تضاريسها الوعرة ..  أنا أريد أن أعيش ولا أريد أن يتحقق الموت الذي يبتسم ساخراً في وهمي ويدغدغ سرحاني ، لقد كنت على خطأ سابقاً ، فالحياة أكثر جاذبية من الموت ..

                                              **

بينما أسير في يومٍ ذات عصر ، ظهرت لي “زينب” جالسة وحيدة في إحدى المقاهي وكأنها تنتظر أحداً ، لم أصدق عيناي وفركتهما جيداً لعله وهم يكون ، لكن و يا فرحتي فزينب التي بحث عنها سابقاً ، ها هي أمامي الآن .
توقفت لأفكر  ماذا سأقول لها  ، فمعرفتي بها لا تتعدى لحظات عابرة ، ربما تكون قد نسيتني وأنا عابر حقير مر عليها ذات لحظة تعيسة .. تشجعت وتوجهت صوبها حتى لاحظتني وقطعت مساري نحوها بملاقاتي في الطريق ، وكأنها لا تريد أن يرها أحد معي ، وقالت وهي تلتفت يميناً وشمالاً :
– ماذا تفعل هنا يا “عادل” وماذا أصاب رأسك ؟
– كنت أبحث عنك منذ مدة ، أما ضربة رأسي فحكايتها  طويلة
– لا يمكننا الحديث هنا ، الأفضل أن نلتقي في نفس الحديقة بعد ساعة من الآن

غادرت المكان وتوجهت نحو الحديقة ، وهناك طال انتظاري ولا أثر “لزينب” – هل ستأتي ؟ أم أردات فقط التخلص مني ،
مرت الساعات كدقائق وصوت أذان المغرب يرفع في المساجد ليضع حداً  لانتظاري.  – لقد كذبت علي “زينب” ، بل استغفلتني ، كم أمقت الغدر .. – اللعنة على كل نساء العالم إذا كانو مثل زينب

غادرت الحديقة وفي نفسي ألعن “زينب” ، لماذا صدتني هكذا ؟ وغرستني لساعات منتظرا إياها ..
وفي طريقي صدفتها وهي متآسفة على تأخرها بأعذار مختلفة (فيما بعد عرفت لماذا تأخرت ) لنعد معاً إلى الحديقة
قالت :
– ماذا كنت تريد مني ؟ وماذا أصاب رأسك
صمت قليلاً قبل أن تكرر سؤالها ، ثم أجبتها :
– أعتقد أن حالي يكفيني عن جوابي
– قل لي يا “عادل”ماذا لحق بك ؟! فلم تكن بهذه الحالة عندما تقابلنا
– كل شيء حدث في الليلة التي تلت لقاءنا ، وفيها كسر سكير زجاجة خمر على رأسي بينما كنت نائماً في مكانه دون أن أدري ، وأنا أحتاج الدواء لرأسي ولم أجد أي مساعدة من أحد ، ولهذا بحث عنك

أخبرتها عن كل شيء وأفرغت أحزاني عليها ، وأمطرتها بمواجعي ، حتى بدأ وجهي يظهر في عينيها الدامعتين
عرضت علي المساعدة ، وقالت بأنها ستأخدني لمكان أفضل من الشارع .
كنت أعرف أنها الوحيدة التي تستطيع مساعدتي رغم التعارف البسيط بيننا .. طلبت مني مرافقتها لكنها أبت أن تكتشف المكان الذي نتوجه إليه ، والفضول يقتلني لأعرف مقصد هذه الفتاة بهذا الصعلوك الملعون ..  كنت أتبعها من الخلف ، حتى تركنا الشوارع الكبرى ودخلنا إلى الدروب الحقيرة ، هذا ما كتب علينا ، أن نعيش في كل ما هو حقير ، ربما الشارع أفضل من هذه الأزقة الضيقة البئيسة .. وجوه الناس هنا وملامحهم تشيان على واقع مرير ، هنا يحيا الفقر ، هنا البلد المنسي ، هنا جحيم الأرض .. توقفت “زينب” أمام باب صغير وقالت لي :
– سأطلب من صاحب هذا المكان أن تعمل عنده ، لكن لا ترتكب أي حماقات
– وما هذا المكان ؟
– ستعرف اﻵن

دخلنا إلى الداخل ، لقد تغير كل شيء ، الداخل غير الخارج ، إنه كهف مفروش بالحرير يسبح فيه ضباب السجائر .. زينب تجردت من جلابيتها الفضفاضة لتتحول إلى عارضة أزياء مغرية .. قالت :
– اجلس هنا حتى أعود

كنت أنظر إليها حتى صعدت إلى الفوق ، إنها عاهرة ومن غيرها ستكون ..  المكان جد غريب ، أصوات الهمسات ورنين الضحكات تصدر من هنا وهناك ، وأصداء قرع الكؤوس يعبر عن المقام ، و حدقة عيناي تتسع أكثر فأكثر  وهي تكتشف هذا الكهف الغريب ، وفي لحظة ظهرت لي شابة ترقص هناك ، توجهت قربها وجلست أفترسها بنظراتي
– يا له من مشهد يثير الرعشات في أنحاء جسمي .. عيونها تنسف ، شفتيها تلسعان ، ابتسامتها تحرك أطراف القتيل .. – ماهذا الشعور الغريب ؟! أصابني في جسمي ألم لذيذ ، ثقل غريب ، أنفاسي حارة كما لو كان الجمر في حلقي ، ونسيت آلام رأسي المفلوق  وتخيلت الوجود كله يرقص , الجبال تميل ذات اليمين وذات الشمال ،  النجوم تسقط من السماء ، الخمر يهيج في الكؤوس .. إنها مازالت ترقص ، بل الشيطان يرقص فيها .

عادت “زينب” طلبت مني مرافقتها عند صاحب الكهف ، قالت له :
– هذا هو الولد الذي حدثتك عنه ، إنه لا يملك أحداً
نظر إلي مطولاً وهو يكتشف كل زاوية من جسدي ، حتى قال :
– إنه مازال صغير على العمل ، لكن لا بأس يمكنه البقاء هنا ليقوم ببعض الأعمال ..

تساءلت في نفسي عن مقصده بتلك الأعمل ، وأنا أسترق النظارات إلى التجاعيد التي نحتها الزمان في وجه هذا العجوز الذي تناديه “زينب” بـ الحاج .. – أي صنف من الحجاج هذا ؟! فأنا سمعت أن من يناديه الناس بهذا اللقب  ، يلبس الجلباب والطربوش ، ويقصد أبواب المساجد .. لقد فاتني الكثير إذاً !

تبادل “الحاج و زينب” الحديث على انفراد ، وأنا مازلت أستكشف المكان حتى قطعت “زينب” استكشافاتي ، وقالت :
– هيا إلى الفوق لتغيير ملابسك الرثة هذه
– ماذا سأشتغل هنا
– ليس الآن ، ستعرف كل شيء لاحقاً

أصبحت “زينب” أكثر جدية معي ، والمكان بدأ يخيفني بعدما كان يثير مشاعري الميتة .. صعدت إلى الفوق لأغير ملابسي ، وأنا أتساءل في نفسي عن طبيعة تواجدي في هذا العالم الغريب ، وأي صفحة أخرى هذه التي سيفتها القدر في كتاب حياتي المطارد بلعنات الدنيا منذ إصداره بصرخة مشؤومة أعلنت بصدحها قدوم إنس من الجحيم  ..

استحممت و غيرت ملابسي الرثة إلى أخرى تليق بأجواء المكان ، وفجأة صعدت “زينب” ومعها بعض الأدوية التي غطت بها جرح رأسي المتآكل وغيرت ضمادة إلى أخرى ،  وسألت “زينب” مرة أخرى  :
أرجوك أخبريني ما طبيعة العمل التي أشار إليها ذاك العجوز
أجابت زينب بصوت أقرب إلى الهمس زاد من توتري :
العمل هنا ليس بالشيء الصعب ، ولا تقلق حيال ذلك ، غداً سأخبرك بكل شيء ، أما اﻵن فيمكنك النوم ولا تشغل بالك

خرجت “زينب” على استعجال ، وتركتني أفكر في هذا العالم العجيب .. أشعر بتعب شديد ، وتذكرت الشوراع والمقابر و النوم تحت النجوم ، وكأنهم من الماضي السحيق ، الآن أنا مستلقٍ في فراش كان كل أحلامي في الأمس القريب ، لكن النوم لم يطب هنا والخوف من المجهول يقمع النعاس في عيني  – من هي زينب ؟ إنها عاهرة ولا ريب في ذلك .  ومن هو ذاك الحاج ؟  وماذا يريدون مني ؟ا توقفت خيالاتي حائرة تائهة حتى نمت أخيراً ومتأخراً ، وفتحت عيني في الصباح لأجد نفسي على غير العادات والتقاليد ، مستلقي في فراش ناعم وفوقي سقف يحجب السماء عني وجنبي أربعة حيطان  – أين الأرض ؟ أين السماء ؟ أين السيارات ؟ أين أنت يا “عادل”؟

انتفضت من الفراش وجلست أتأمل السقف حتى عاد بي شريط أفكاري إلى مساء أمس ، وأنا أحاول أن أجمع أفكاري المنثورة حتى سمعت دقاتٍ على باب الغرفة ، قمت من مكاني لأستكشف من الطارق ، وإذا به سيدة بلغ بها العمر عتياً ، بدت كئيبة وبائسة وهي تحدق في وجهي بعينها الناعستين حتى قالت :
– هل أنت “عادل”
– اللعنة ، من هي هذه الشمطاء ؟ وكيف سيمر هذا اليوم وقد بدأ هكذا :
– أنا ذاك المدعو “عادل”يا جدتي
– أنا لست جدتك يا فتى ، ولا يرضيني أن أكون
– ماذا ؟ لا يرضيك ، وماذا يرضيك أيتها العجوز ؟
– في آخر عمري سأصبح جدة أبناء الشارع
– أنا لست ابن الشارع أيتها العجوز ، فأنا خرجت إلى الدنيا بالحلال ، لكن قدري كان أن أعاشر معشركم
– يبدو أنك ستثير المشاكل هنا يا فتى ، المهم “الحاج” ينتظرك في الأسفل

غادرت العجوز وتبعتها إلى الأسفل ، وهناك رأيت “الحاج” جالس في إحدى الطاولات ويتناول الفطور ، المكان يبدو هادئا عكس ليلة أمس
ناداني “الحاج” لتناول الإفطار معه ، وفي أثنائه بدأ يسألني :
– أخبرتني زينب أنك لا تملك أحداً
– لم تكذب عليك
– يمكنك البقاء هنا لتقوم ببعض الأعمال
– وما طبيعة هذه الأعمال
– العمل هنا يحتاج إلى الكثير من العقل والقليل من الجهد
– لكنك لم تجب عن سؤالي
– يبدو أنك متسرع يا هذا
– لا ، إنما من حقي معرفة ذاك العمل
– وهل خيار الرفض وارد عندك

لم أبديها له وأنا أفكر في هذا المكان وذاك العمل اللغز ، والحاج المزيف ينظر إلي و كأن ليس من حقي الرفض ، أو ربما لا رأي لمن لا يطاع ،و أنا من معشرهم ..
تغيرت ملامحه فجأة وهو يوقد سيجارة والتفت نحوي وقال :
– نحن نعمل في الليل وفي أثنائه نستقبل الزبائن ، والمطلوب منك هو تجهيز الطاولات والتبضع في النهار ، وفي الليل تجلس قرب الباب وتحرس المكان وأي شيء غير عادي ، أخبرني به ، هذا كل شيء

ارتحت أخيراً بعدما كشفت ظروف العمل ، وتأكدت من عمل “الحاج”
كنت أنظر إليه بابتسامة وفي نفسي ألعن حجاج العالم إذا كانوا مثله

في ذلك اليوم كانت أفكاري تتصارع فيما بينها ، وكأن شخصين في داخلي ، أحدهم يأمرني بمغادرة المكان ويصرخ في وجهي :
– الأفضل لك يا “عادل”أن تقتات من المزابل وتنام تحت النجوم وفي مختلف فصولها ، على أن تعيش خادماً في وكر السكارى ويكون رب عملك ذاك المنافق المدعو “الحاج”

الآخر يترافع أمامي :
لا يا “عادل” ، يكفي من حياة الشوارع ، والمبيت في المقابر ، ابقَ هنا حتى تكسب بعض المال وتكبر قليلاً وحينها يمكنك الرحيل

صدقت الثاني وقررت البقاء ، وفي الليلة الأولى ، سأكتشف عالم آخر كنت في غفلة منه ، عالم آخر لا يفقه فيه معشر النيام شيئاً ، كنت جالساً قرب الباب ، وبنات حواء على اختلافهن يمرين جنبي ، طويلات وقصيرات ، نحيفات وبدينات ، شبه عاريات وحتى المنقبات ، والرجال في مختلف الأعمار ، من مراهقين طائشين إلى شيوخ أضاعوا طرق المساجد ، وكل في نفسه غاية يعقوب ، وكل على  ليلاه يغني ، وتصير للحياة بين الكؤوس والعيون طعم الخلود

– هكذا إذا !     هكذا إذا !    اللعنة على “الحاج”      اللعنة على “الحاج”

مرت الأيام بلياليها السكارى ، ومعها بضعة أشهر تعودت فيه الحياة الجديدة ولم أرضَ عنها لحظة واحدة ، وفي ذات ليلة أطل علي ضياء القمر بنحسه العتيق ، أو كنت محظوظاً لابتعادي حينها عن الحانة .
فبينما كنت عائداً إليها ، ظهرت لي سيارات الشرطة واقفة قرب الباب ، وقفت في صدمتي متسائلاً ماذا يحدث هناك ؟ والناس تجمهرت على المكان ، وكأن جريمة حدثت هناك أثناء غيابي .. لقد قبضت الشرطة على الجميع ، لكن “الحاج” المطلوب الأول عندي لم يظهر معهم ، وظهرت لي “زينب” يجرها شرطي من شعرها ، أحسست بضعف وأنا لا أستطيع أن أفعل لأجلها شيئاً ، “زينب” الوحيدة في العالم التي أحست بي وانتشلتني من براثن الأزقة ، ها هي تهان أمامي الآن ، رغم أنني أكره ذاك العالم ومن فيه ، لكن زينب لا أحسبها معهم ، ولم أرضَ لها هذه الحياة

غادرت المكان حتى لا يكشفوا أمري ، وعدت في الغد لأجد المكان محطم ، لقد أفني الكهف وأصحابه ولم يبقى سوى “عادل” وباب الأزقة يُفتح أمام أنظاره من جديد  ..

حنيت برأسي وتركت ورائي صفحة أخرى ملوثة بحبر تعيس ، لأستجيب لنداء  قدري ، ذاك القدر المحتوم أن أقضي زهور طفولتي ومراهقتي  كسندباد ضائع في أزقة بلدي ، ولتحيا الحياة مرغمة وسط الدروب والمزابل ، وأعود لأفترش الأرض وألتحف بالسماء ، والقصور فوق جبال الذهب القاني لولاة أمورنا ، و حفنة من التراب هي كل  حقنا ..  هأنذا يا معشر عشيرتي عائد إلى رحابكم ، لنسير معاً في سبيلٍ لا ينتهي تحت قناديل الشارع .

                                         **

ومازال صوت من كانت أمي أسمعه على حين غفلة وهو ينهرني ، وأرى عيون من كان أبي في الظلام تأمرني بالصمت  .. إنها مازالت تمطر , وزمجر الرعد يصم أذن المدينة ، والآن سأغلق نافدتي وأترك الأمطار تغسل ما تبقى لها من أثر عاري في أزقة بلدي ، وسأعود لسريري الذي مازال يشتكي من كثرة أنيني في كل ليلة شتاء حزينة توقظ بكآبتها كل أشجاني ، و تنفخ الروح في مقبرة ذاكرتي ، و ترى النيران تشتعل في مزبلة أيامي الساحقات ، لتفوح منها روائح نتنة من عبير الأماسي ..

آه من ذكرياتٍ تأبى أن تلتف بثوب النسيان ، وتغدو كغيرها من الومضات ، بل صارت جمرات تحت رماد الأزمان لا يطفي توهجها ماء ولا تراب ، ولا ترضخ لقوانين السنن ولا الفروض .. انتهى كل شيء ومازال لم ينتهِ ، و الصواعق تطعن الأرض في يوم ربيعٍ ذا شمس ، و البحر ساجي تحت عواصف أمطار  هوجاء ، والجنائز تسير مع مواكب الأعراس ، والحروب تعلن في مواثق سلام ، والأفراح آتية هاربة كعصافير السطح ، والسعادة تظهر هنا وتنفلت هناك  .. هكذا هي حياتي الآن :  – أموت وأحيا في اليوم الواحد ألف مرة ، فأنا من سبحت ذات دهر في دماء الدنيا ، فمن هذا الذي يحق له الحديث عن الجراح من بعدي ؟!.

fin

” تحت قناديل الشارع “

بنصالح …

                     

تاريخ النشر : 2018-05-07

guest
43 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى