غرائب العشق والغرام

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش

بقلم : اياد العطار
للتواصل : [email protected]

بيدرو الاول

ماذا تعرف عن البرتغال ؟ .. نظر صديقي إلي بدهشة متفاجئا بسؤالي ثم صمت لبرهة متفكرا وهو يقلب نظره في الهواء عسى أن يجد شيئا يقوله ، لكنه لم يجد سوى أن قال : “أليست بلد كريستانو رونالدو؟!” ..

في الحقيقة كثير من الناس في الشرق لا يعرفون عن البرتغال أكثر مما يعرفه صديقي ، أي أنها بلد رونالدو ولديها منتخب كرة رائع ، ومعهم حق ، لأنه عندما يدور الحديث عن شبه الجزيرة الايبيرية ، التي تضم كلا من اسبانيا والبرتغال ، فأن الكلام دائما ما يكون عن أسبانيا ، حتى عندما نستذكر الأندلس ، فأننا نتكلم عن اسبانيا عادة ، أما البرتغال المجاورة فلا نكاد نجد لها ذكرا ولا حسا .. لا نسمع عنها حتى في نشرات الأخبار .. كأنها بلد من عالم آخر! ..

اسبانيا والبرتغال
اسبانيا والبرتغال متجاورتان ..

ولهذا قررت اليوم أن أثري معلوماتكم بقصة عن البرتغال وتاريخها ، عن ملك من ملوكها سماه الناس بـ “القاسي” لدمويته وشدة عقابه ، لكنه في الواقع لم يكن قاسيا طوال حياته ، فالقسوة ليست بالضرورة جزءا من طبيعة الانسان وفطرته ، بل ربما تكون مكتسبة نتيجة تجربة مريرة أو صدمة مزلزلة ، وهذا هو بالضبط ما حصل مع بطل قصتنا ، إذ كان يمتلك قلبا صافيا يفيض محبة وحنان ، لكنهم داسوا على قلبه ، سحقوه ، فحولوه الى وحش لا يعرف الرحمة.

دعونا لا نطيل الحديث ، تعالوا معي لنذهب مباشرة إلى القصر الملكي في لشبونة ولندخل قاعة العرش حيث جلس ملك البرتغال الفونسو الرابع على عرشه المهيب وقد أحمر وجهه وانتفخت اوداجه وهو ينظر شزرا إلى أبنه ووريث عرشه الامير بيدرو الذي انحنى عند قدمي والده باستكانة وتذلل ، ولم يكن في القاعة سواهما ، وحارسين وقفا كصنمين بلا حراك عند مدخل القاعة .

الأمير بيدرو قال بنبرة رجاء وهو مطأطأ الرأس : “أرجوك يا أبي .. لا تجبرني على امر لا أريده”.

فصرخ الملك فيه قائلا : “يجب أن تتزوجها .. لا تجادلني .. هذا أمر”.

فأنتفض الأمير واقفا وقال مستنكرا : “كيف أتزوجها بحق السماء ؟ .. هذه المرأة كانت زوجة سابقة لزوج شقيقتي!”.

– “وماذا في ذلك ، لقد فسخ زواجه منها وهي متاحة الآن” .. قال الملك محاججا.

– “لكن لماذا دونا عن كل نساء الأرض تصر على هذه المرأة يا أبي ؟” قال الأمير متسائلا.

– “أريد أن القنه درسا .. ذلك الوغد زوج أختك .. الفونسو الحادي عشر .. جواسيسنا يقولون أنه يسيء معاملة ابنتي ويتخذ عشيقات علنا غير آبها بمشاعرها وكرامتها مع انها أنجبت له وريثا للعرش” .. قال الملك وهو يصر على أسنانه حنقا ثم تابع قائلا : “ولا تنسى بأن أباها يعد من اكثر نبلاء قشتالة نفوذا .. ومن الجيد أن نكسبه إلى جانبنا في أي صراع مستقبلي مع زوج شقيقتك المعتوه”.

– “أنا لا أحب هذه الامرأة يا أبي .. أرجوك أعفيني من هذا الزواج” .. قال الأمير بنبرة متوسلة.

– “محال أن أعود عن رأيي وأنت تعلم ذلك جيدا .. هذا الزواج سيتم حتى لو رغم أنفك” .. قال الملك محتدا ثم قام عن عرشه متأفئفا واستدار إلى الوراء ليلج عبر باب صغير مغطى بستارة حمراء يقع خلف كرسي العرش مباشرة ، وبقي الأمير وحده في القاعة ، وطفق يتمشى رواحا ومجيئا وهو يصفق بيديه أسفا وحسرة لا يعرف ماذا يفعل ليقنع والده بالعدول عن هذا الزواج.

وتم ما أراده الأب الصارم ، إذ تزوج الامير بيدرو مرغما من الأميرة كونستانس ، الزوجة السابقة لملك قشتالة (أسبانيا) الفونسو الحادي عشر. وأتت العروس من قشتالة إلى البرتغال لتجتمع بعريسها ، لم تأت وحدها طبعا ، بل مع جيش من الخدم والوصيفات ..

بيدرو و اينيس
الامير عشق الوصيفة

ومما لا شك فيه أن زوجا كهذا ، مبني على المصالح والأهواء ، ما كان ليثمر حبا وسعادة ، فقلب الامير بيدرو لم يخفق أبدا لعروسه ، صحيح أنهما ارتبطا بميثاق الزواج ، وأنجبا معا ثلاث أبناء ، لكن الأمير لم يحبها قط ، بل تعلق قلبه ، لسخرية القدر ، بإحدى وصيفاتها التي جلبتها معها من قشتالة ، اينيس دي كاسترو ، الفتاة رائعة الجمال ، ذات العينان الزرقاوان الواسعتان ، والبشرة شديدة البياض إلى درجة أن المؤرخون قالوا أن الجالس أمامها بأمكانه رؤية النبيذ الأحمر ينساب عبر عنقها عندما تحتسيه! ..

أينيس بادلت الأمير حبا بحب ، ولم يكن حبا عاديا ، بل متفجرا ومشتعل الأوار ، ولم يطل الوقت حتى أصبحت علاقتهما على كل لسان في عموم المملكة ، مما أوغر قلب كونستانس بالحقد على وصيفتها الحسناء فطردتها من بلاطها وامرتها بأن تغادر فورا عائدة إلى قشتالة ، لكن الأمير بيدرو تدخل وأخذ عشيقته لتعيش معه في واحد من قصوره.

في الحقيقة لم يكن أمرا غريبا في ذلك الزمان أن يتخذ الملوك والامراء خليلات وعشيقات فوق زوجاتهم ، لهذا لم يعترض الملك الفونسو الرابع في البداية على علاقة أبنه بالوصيفة ، ظن أنها علاقة آنية مؤقتة ، نزوة عابرة ، لكن الأيام سرعان ما أثبتت خطل رأيه .. فجواسيسه بدءوا ينقلون إليه أخبارا مقلقة عن التأثير المتزايد لأخوة اينيس على الأمير بيدرو ، وكان قد قربهم وعينهم في مراكز مرموقة وجعلهم موضع سره ومستشاريه يأخذ رأيهم في كل كبيرة وصغيرة ، مما أثار حفيظة الملك ، وأغضب النبلاء البرتغاليين ، فالعلاقة بين البرتغال وقشتالة غالبا ما كانت متوترة وقائمة على أساس التنافس وصراع النفوذ ، ولم يكن أي شخص في البرتغال يتمنى طبعا رؤية أمير البلاد ووريث العرش يصبح العوبة بيد مجموعة من القشتاليين.

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش
اينيس مع اطفالها تتوسل الملك الفونسو ان يسمح بزواجها من ابنه الامير بيدرو

الملك الفونسو بدء يلح على أبنه في أن يقطع علاقته بأينيس ، لكن الأمير رفض ذلك بأصرار. وشاءت الأقدار أن تموت كونستانس بعد أنجابها لمولودها الثالث عام 1345 ، فصفا الجو للعاشقين ، وعقدا العزم على الزواج ، لكن ذلك جوبه برفض قاطع وغضب عارم من الملك والنبلاء ، فكيف لوريث عرش البرتغال أن يتزوج وصيفة. ولم تجدي جميع توسلات والتماسات الأمير بيدرو في جعل والده يغير رأيه , وتفاقمت الأمور بينهما حتى وصلت حد القطيعة . وقد زاد من غضب الملك ونقمته أهتمام بيدرو الفائق بأولاده غير الشرعيين من عشيقته مقابل اهماله لاولاده الملكيين من زوجته كونستانس.

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش
اطلال الدير الذي تم قتل اينيس فيه

أخيرا قرر الملك أن يضع حدا للأمر برمته ، فعزم على قتل أينيس ، وعندما عرض الأمر على حاشيته ، تطوع ثلاثة نبلاء للاجهاز عليها ، وكان الأمير بيدرو قد خبأها مع أطفالها في دير خشية عليها من والده ، لكن جواسيس الملك اكتشفوا مكانها ، فتوجه النبلاء الثلاثة ذات ليلة مشئومة من عام 1355 إلى الدير ودخلا حجرة اينيس خلسة بينما كان الأمير بيدرو غائبا ، فقاموا بقتلها وقطعوا رأسها أمام أنظار اطفالها وحملوه إلى الملك.

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش
النبلاء القتلة الثلاثة وهم يستعدون لقطع رأس اينيس

وحين عاد الأمير بيدرو ليتفقد اينيس ، وجدها جثة بلا رأس ، وشاهد أطفاله يبكون بفزع وجزع .. فجن جنونه .. وعزم على الأنتقام ولو كلفه ذلك حياته .. وسرعان ما جمع جيشا وأعلن الحرب على والده ، ودارت رحى حرب دموية عنيفة بين الطرفين ، كان الملك المنتصر فيها ، لكن ليس لوقت طويل ، إذ داهمه الموت فجأة جراء المرض ، وتم تتويج بيدور ملكا على البرتغال تحت أسم الملك بيدرو الأول.

وكان اول ما فعله بيدرو عند تسنمه العرش هو الانتقام لمقتل اينيس ، فأرسل رجاله يفتشون تحت كل حجر ومدر عن النبلاء الثلاثة الذين قتلوا اينيس ، وتم القبض على أثنين منهم ، أما الثالث فتمكن من الفرار واختبأ في قشتالة.

بحسب المؤرخين فأن الملك بيدرو قتل الرجلين قتلة منكرة وبطريقة مبتكرة ، حيث أستل قلبيهما بيديه وهما على قيد الحياة ، أخرج قلب الأول من الأمام عبر صدره ، فيما أخرج قلب الثاني من الخلف عبر ظهره ، وقيل أنه فعل بهما ذلك لما سبباه لقلبه من لوعة وألم بقتلهما لاينيس.

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش
اجلس جثتها على العرش وامر الجميع بتقبيل يدها

الامر الثاني الغريب الذي قام به بيدور بعد تتويجه كملك هو أنه جمع وجهاء وأعيان ونبلاء البرتغال ، ثم أخرج جثة اينيس من قبرها ، وقام باعادة رأسها إلى جسدها ، وكساها بلباس الملكات ، وأجلسها على العرش إلى جواره ، ثم طلب من الجميع أن يتقدموا واحدا تلو الآخر ليقبلوا يدها ويبايعوها كملكة عليهم. وهكذا فأن الوصيفة التي أستنكفوا أن تكون ملكتهم وهي على قيد الحياة أصبحت كذلك وهي جثة متعفنة! ..

بيدرو الأول : الملك الذي حوله الحب إلى وحش
القبرين الملكيين .. سيبقيان معا إلى الابد

بيدور حكم لعشرة أعوام أخرى قبل أن توافيه المنية ، وكان قبيل موته قد أمر بتشييد قبرين في غاية الفخامة الجمال بإحدى الكاتدرائية ، واحد منهما لاينيس ، والقبر الآخر له ، وقد جعلهما في موضع بحيث يقابل أحدهما الآخر ، وكتب بينهما على الرخام عبارة : “معا حتى نهاية العالم”.

ختاما ..

أظننا وصلنا لنهاية قصتنا بسرعة على غير العادة ، لا أدري إذا ما كانت قصة مشوقة وممتعة ، لكن حتى لو لم تكن كذلك ، فعلى الأقل أصبح لديك الآن عزيزي القارئ حكاية ومعلومة لترويها على البرتغال بدلا من الأكتفاء بالقول أنها بلد كريستانو رونالدو.

المصادر :

Peter I of Portugal – Wikipedia

The Tale of Peter and Inês

تاريخ النشر : 2018-05-17

guest
94 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى