أدب الرعب والعام

ثمن الحرية

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

ثمن الحرية
اندفع خارج المنزل يمسح آثار دموع خفية

 في منتصف إحدى الليالي الباردة كانت جالسة داخل صالة منزلها الصغيرة تحيك من الصوف رداءاً وتستمع إلى آخر الأخبار من جهاز الراديو الصغير الجاثم على الطاولة أمامها ، الثورة على أشدها والمجاهدون يحققون الانتصارات تلو الأخرى ، والعدو يتكبد الكثير من الخسائر في العتاد والأرواح، إنها تباشير النصر ولا شك سيسدل الستار أخيراً على عقود طويلة من الظلم والاستعباد.

ارتسمت على شفتيها الجافتين شبح ابتسامة وراحت تدعو الله في سرها أن يمدهم بالعون والمدد ، ولكن كان هناك شيئاً من الخوف والوجل يتسلل إلى داخلها ودمعات تنساب على خديها كلما تناهى إلى أسماعها خبر استشهاد جنود من جيش التحرير، لقد مر على آخر خبر منه سنتان , وجل ما تخشاه أنه قد استشهد, بيدَ أنها تطرد كل تلك المخاوف من تفكيرها, وتحاول التحلي بالقوة لأجل أن تنتظره, كان لها يقين أنه عائد ذات يوم.

***

عرفته منذ خمس سنوات , كانت تعمل كمتطوعة بصفوف الفدائيين, حالها كحال الكثير من الفتيات اللواتي نذرن أرواحهن فداء للوطن , فالعائلات الجزائرية آنذاك لم تبخل على الثورة لا بالمال ولا بالولد , وعلى الرغم من كونها فتاة مدنية , وُلدت وترعرعت بين جنبات أحد أحياء العاصمة الذي كان أغلب سكانه من المستعمرين الفرنسيين , لكون والدها يعمل بإحدى الدوائر الحكومية , فإن والدتها الأمازيغية ذات الأصول المنحدرة من تلال عاصمة القبائل أنشأتها تنشئة الحرائر , وغرست فيها منذ نعومة أظفارها القيم والمبادئ الوطنية والتعاليم الدينية التي جعلت منها شابة ناضجة ذات وعي و إدراك , لم يكن لديها إخوة ,وحيدة لوالديها اللّذين عانيا الأمرين حتى استطاعا إنجابها , تلك هي “فاطمة” التي علقت حبال قلبها بهوى المجاهد “مصطفى” وهي لم تبلغ العشرين ربيعاً.

***

كان يوماً خريفياً من عام1957م , قفلت عائدة إلى منزلها من المدرسة الثانوية والتي لحسن حظها كانت إحدى القليلات اللاتي درسن بها , وفيم هي تتبادل الأحاديث مع زميلاتها فوجئت بصوت يتحدث بلغة عربية ركيكة يأتي من خلفها قائلاً :

-آنسة فاطمة ,أرى أنك هنا.

تمالكت أعصابها وحاولت الظهور بمظهر اللامبالاة , ثم التفتت مجيبة بلهجة لا تخلو من سخرية:

-أووه أهذا أنت يا بيير؟, بالطبع ستجدني هنا فهذه أرضي , ماذا عنك أنت متى ستعود لوطنك ؟ لقد أطلتم الزيارة.

ابتسم ضاحكاً وأجابها:

-تسخرين كعادتك , عموما أردت أن أتحدث معك بموضوع مهم , هلا رافقتني إلى المقهى القريب من هنا؟.

فقدت فاطمة السيطرة على نفسها وصرخت فيه قائلة:

-أنت تحلم , قلت لك ألف مرة لا شيء يجمعنا حتى نتحدث, أغرب عن وجهي….

ثم تركته وحثت الخطى لتلحق بزميلاتها, ولكنه كان أسرع منها فسبقها وأمسك يدها بقوة وهمس لها قائلا:

– وردتني أخبار أنك تعملين لصالح أولئك المتمردين ممن تدعونهم بالمجاهدين ,تخيلي لو يعلم والدي بالأمر؟! , لا داعي لذكر النتائج فأنت حتماً تعرفينها ,لذا من الأفضل لك أن تتجاوبي معي ,غداً بمثل هذا التوقيت في المقهى سأنتظرك هناك.

أفلتت يدها من قبضته وصرخت به:

-أيها الحقير ، و بصقت في وجهه ثم هرعت مسرعة إلى منزلها فتتبعها بنظراته بعد أن مسح وجهه بمنديله ثم ابتسم بمكر وغمغم قائلا:

– ستدفعين ثمنها غالياً.

ركضت وهي تشد على حقيبتها بقوة وتفكر بمصير والدها الذي لا يعلم حقيقة تطوعها بالجبهة إذا ما علم الأوغاد بالأمر، وفجأة تباطأت سرعتها لما لمحت مجموعة من جنود الاحتلال قادمين باتجاهها ،  جالت بعينيها حولها علها تجد منفذاً , لم يكن هناك سوى العديد من البيوت المصطفة على حافتي الشارع وأغلبها للمستعمرين ، شدت على حقيبتها وتثاقلت بمشيتها تردد بضع تراتيل ودعوات, بدا شكلها غريباً وهي بتلك الحالة من الارتباك مما جعلها تثير ريبة أحد الجنود, فتقدم نحوها وخاطبها بلهجة آمرة:

-أعطني الحقيبة أريد رؤية ما بداخلها.

اسود العالم بعيني فاطمة وأيقنت أنها هالكة لا محالة , لم يكن لديها فرصة للنجاة , كانت ستسجن بالتأكيد , ليس خوفها من الموت هو ما يقلقها, بل تلك الفظائع التي يرتكبها المحتلون في حق المساجين وخاصة من النساء , فكم من امرأة فقدت أعز ما تملك وتعرضت لأبشع أنواع الاستغلال على أيديهم , للحظة خطرت ببالها فكرة محاولة الهرب والاستشهاد برصاص بنادقهم على أن تذوق الذل والهوان داخل سجونهم.

قُطعت لحظات شرودها على صوت صراخ الجندي:

-قلتُ أعطني الحـ….

وقبل أن يكمل كلامه علا صوت رصاص يصم الآذان آتٍ من الجهة الخلفية للشارع , فهب جميع الجنود شاهرين أسلحتهم صوب الصوت تاركين فاطمة تتنفس الصعداء وتحمد الله على نجاتها.

***

بعد أن وصلت إلى منزلها تجرعت كأساً من الماء, وحدثت أمها بم حصل , فردت قائلة:

-انسي أمر ذلك الوغد الآن لن يفعل شيئاً , سنتدبر أمره لاحقاً , خالك ينتظرك بالمكان المعهود , الرسائل التي في حقيبتك هامة جداً و يجب أن تصل الليلة , توكلي على اللّه ولا تخشي شيئاً.

– وماذا ستقولين لوالدي؟

-لا تشغلي بالك, اذهبي وتجهزي الآن.

ارتدت فاطمة الحايك بعد أن وضعت الرسائل تحت ملابسها ثم شدت عليها حزاماً كي لا تسقط , كان أملها في أن العدو لا يحفل كثيراً بالكبيرات في السن , ودّعت والدتها وتسللت بخفة من المنزل بعد غروب الشمس , ثم مشت بهدوء منسابة بين أزقة الحي , لاحظت أنه هادئ على غير العادة , كان الوضع غريباً ولكنه يبعث على الاطمئنان , واصلت مسيرها حتى وصلت إلى أحد الأحياء العتيقة والتي يتخذ المجاهدون عادة مراكزاً لهم فيها ، اتجهت إلى بيت بعينه دقت بابه دقات خفيفة فسمعت صوتا أنثويا يرد : من بالباب ؟ أدلت بالكلمة المتعارف عليها ففُتحَ الباب وولجت بعد تأكدها أن لا أحد يتبعها.

توجه نحوها معانقاً ثم قال بضحكة خفيفة:

-يليق بك هذا اللّباس حقاً ، تبدين كجدتك رحمها الله.

– وهل هذا وقت المزاح يا خالي؟.

ردت بابتسامة متعبة ثم سحبت الرسائل من ثيابها وأعطتها له متابعة:

– يخبرك الأستاذ أن التعليمات التي ذُكرت فيها يجب أن تُطبق بحذافيرها غداً عند الظهيرة ، لن تصدق يا خالي كادوا يقبضون علي اليوم لولا…..

أحضرت الفتاة التي فتحت لها الباب كأساً من الشاي , وقدمته لها بوجه بشوش تعلوه مسحة حزن.

– شكرا لكِ يا سامية ، ثم أخذته وارتشفت منه رشفة وبعدها استرسلت متسائلة:

– بالمناسبة ما سر صوت إطلاق الرصاص اليوم؟

– كانوا يلاحقون أحد الثوار , لحسن الحظ لم يقوموا بإمساكه ، أجاب خالها ثم علا صوته منادياً:

مصطفى ، تعال أود إرسالك بمهمة.

نزل من الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني ,شاب عشريني أسمر , رشيق, متوسط الطول ,عيناه سوداوان تظهران الثقة, وسمات وجهه تدل على الوقار والثبات.

-مصطفى , بطل المطاردة التي تمت اليوم , قال خالها معرفاً.

بعد تبادل التحيات طلب إليه خالها إيصالها إلى المنزل , ورغم اعتراضها أصر عليها لتأخر الوقت.

سارا على الطريق المؤدي لمنزلها بهدوء , كان الصمت هو سيد الموقف , هبت نسمات من الهواء البحري البارد فانكمشت فاطمة بردائها , ولوهلة خُيل إليها أنها سمعت صوتا هادئا رزينا ينطق:

-الجو بارد اللّيلة , إنها بوادر الشتاء.

تشجعت ساعتها وألقت سؤالها الذي ظل يدور بخلدها منذ رأته:

-هل أنت من العاصمة؟

أطلق ابتسامة خفيفة وأجاب:

– بل من الشرق الجزائري.

-أوشكنا على الوصول إلى الحي , سأكمل وحدي وإلا رآك الجنود وكشفوا أمرك.

-لن يعرفوني , كنت ملثماً اليوم , لن أترككِ حتى أوصلكِ إلى باب المنزل , أنتِ أمانة عندي.

بعد قليل كانت قد وصلت لبيتها , ألقت على مصطفى التحية وشكرته , ثم دخلت إليه ومضت إلى نافذة غرفتها المطلة على الشارع , توارت خلف الستائر ثم اختلست نظرة إليه عائداً من حيث أتى..

أشرقت شمس صباح اليوم التالي , أفاقت فاطمة من نومها وقصدت حوش الدار حيث تعود والدها على شرب قهوته الصباحية هناك.

-صباح الخير يا أبي , ثم قبلت رأسه.

أشرق وجهه غبطة برؤيتها ثم أجلسها بجانبه قائلاً:

-أهلا عزيزتي , ستشربين معي القهوة اليوم.

-تعلم أنني لا أحبها, تكرر نفس الطلب كل صباح ، ردت ضاحكة.

– كلي أمل أن تغيري رأيك ذات يوم.

دخلت والدتها تحمل صينية القهوة وقالت:

-كما آمل أن تغير أنتَ رأيك يوماً ما.

-ها نحن نعود لنفس الموضوع, إنه مصدر رزقي يا “أمينة”, كيف سنعيش؟

-بئس ِرزق مغمس بالذل والمهان ة, أخبرتك مراراً أن تتركه وتذهب للعمل مع أخي في التجارة , دخلها قليل لكنه يغنينا عن الحاجة والسؤال.

-سي أحمد ثانية , تعلمين بنشاطاته الثورية , إن طاوعتك سنفتح علينا باباً لن يُغلق.

تركتهما فاطمة يتناوشان كالعادة , كان فكرها منشغلاً بأمرين ,لا بل شخصين, صورة “مصطفى” التي لم تفارق خيالها وتهديدات “بيير ” التي لا يُستهان بها فهو أبن ضابط فرنسي , وأي كلمة منه ولو كانت من دون دليل ستفتح الأعين عليهم ,فاتخذت قراراً جريئا بالذهاب إلى المقهى..

، لم يكن مقهى بل كان إحدى الحانات التابعة للفرنسيين, أغلب مرتاديه من الضباط والعساكر , انطلقت تسير نحوه بخطوات بطيئة تقدم رجلاً وتؤخر أخرى , تسأل نفسها كيف لها أن تطأ أقدامها مكانا قذراً كهذا؟, وما الذي يريده ذلك الحقير منها ؟, همت بالعودة أدراجها و إبلاغ خالها بالأمر علّه يجد لها حلاً , ولكنها لمحت فتاة مرت بمحاذاتها متجهة إلى الحانة, راودها شعور بأنها تعرفها رغم لباسها الغربي ومشيتها التي أشبه ما تكون بالعسكرية , توقفت مكانها وظلت تتبعها بعينيها حتى وصلت أمام باب الحانة , تلفتت الفتاة يمنة ويسرة ثم دلفت إليها..

-يا ربي  إنها سامية ! ما الذي جاء بها إلى هنا؟.

هتفت متعجبة ثم عزمت على اللّحاق بها , وما كادت تسير بضع خطوات حتى أمسك يدها وصاح قائلاً:

– أركضي بسرعة!

-مصطفى ! ولكن سامية…..

– إنها تقوم بواجبها , لنسرع.

وبعد لحظات انفجرت الحانة بمن فيها.

جلسا على طرف الميناء المطل على البحر , تأملاه طويلاً قبل أن تفيق من الصدمة وتتوجه إليه معاتبة:

– ولكنها كانت أصغر مني !

– هي من تطوعت للقيام بالعملية.

– كان لكم أن ترفضوا !

تنهد قائلاً:

– إنه قدرها , علينا جميعاً أن ندفع ثمن الحرية , لم تخبريني ما الذي جعلك تتوجهين إلى الحانة؟

– قصة طويلة والآن لنعد إلى المنزل, إني قلقة على والداي.

-لابد أن الجنود منتشرون بكل مكان , من الأفضل أن نمضي للمنزل القديم لنرى سي أحمد ثم نتحين الفرصة المناسبة لعودتك.

***

-الحمد لله أنك بخير يا ابنتي , ظننتك وقعت بين أيديهم.

صاح سي أحمد بمجرد أن رآها تدخل المنزل وهرع إليها مضيفا:

-أين كنتِ؟

-كانت معي , لولا لطف الله لقضت نحبها بالتفجير ، وصلنا إلى هنا بصعوبة فجميع الأحياء محاصرة , أجاب مصطفى ثم أضاف:

-أراك قلقاً , ما الأمر؟.

جلس على كرسي ثم أطلق زفيراً خافتاً.

– ماذا حدث يا خالي ؟ إنك تقلقني،

– للأسف يا ابنتي , وصلتني أخبار سيئة , لقد ألقوا القبض على الكثير من الناس ومنهم والدكِ وأمك تحت الرقابة بالمنزل , لحسن الحظ فتشوه ولم يعثروا على شيء , ولكن أحداً من الضباط مات أبنه في التفجير يدعي أن لوالدك علاقة بالمجاهدين , كما أنهم يبحثون عنكِ بكل مكان.

انهارت تماما وهي تسمع ما قال , شعرت وكأن نوائب الدهر نزلت بها , أدركها الخوف على والدها ورثت لحال ذلك الكهل المسكين , كيف سيتحمل ما سيلحق به ؟ و والدتها ؟ ما سيكون مصيرها من بعدهما ، همست في نفسها:

-فعلها ذلك الوغد بيير.

لم يستغرق سوى لحظة لاتخاذ قراره , فوقف وتكلم بحزم قائلاً :

-مكوثكِ هنا به خطر كبير عليكِ , اللّيلة سيأخذك مصطفى إلى المركز الرئيسي بالجبل , وبعدها سنرى ما نحن فاعلون.

– ولكن لا أستطيع تركهما, إنهما بحاجة إلي.

-وجودكِ هنا لن ينفعهم , سأتدبر أنا الأمر , ثم توجه لمصطفى قائلا:

أسلكا الطريق المعتاد , إنه طويل ولكنه آمن ، واحرص عليها جيداً ، أنا أثق بك..

***

تسلّلا خفية من إحدى الطرق الريفية التي تنتهي خارج العاصمة , ثم تابعا طريقيهما جنوباً , حيث تستقر سلسلة جبلية تعد مخبأ آمنا للمجاهدين في ذلك الوقت , كانا يتوقفان للاستراحة بعد كل مسافة يقطعانها بأحد بيوت المواطنين , فقد كانت دائماً مفتوحة على مصراعيها للثوار , وبعد ساعات طويلة وصلا إلى غايتهما.

مكثت مدة تزيد عن سنة داخل الجبال تعمل في تطبيب الجرحى وإعداد الطعام وكتابة الرسائل والبرقيات , كما أنها تعلمت استخدام السلاح وشاركت بالعديد من المعارك داخل الغابات , حتى جاء اليوم الذي وردت فيه أخبار أن والدها توفي مريضاً في السجن , و والدتها غادرت إلى “بجاية” مسقط رأسها بأمر من سلطات الاحتلال بعد أن صادروا منزلهم وأصدروا مذكرة بحث في حقها.

-” كله يهون من أجل الوطن”.

رددتها كثيراً أمام كل من واساها, وكظمت دموعها كي لا تبدو ضعيفة أمام الآخرين ، أرادت أن تبقى شامخة صلبة ” لالة فاطمة نسومر” الثانية كما يقولون ، كانت تصحو كل صباح وتغادر خيمتها لتراقب شروق الشمس من مرتفع يعلو الجبل وهي تلقي بظلالها الحمراء على الأرض , فتتذكر حوش بيتهم الصغير الدافئ , وشجرة التفاح الوحيدة التي تتوسطه , ورائحة القهوة التي لا تحبها وهي تنبعث منه كل صباح , تمنت لو أنها تعود بالزمن إلى الوراء وترتشف فنجاناً منها مع والدها العزيز , أضحى حلمها مستحيلاً

 امتلأ قلبها حزناً وغماً على ما آل إليه حالهم ، ولكن كان عزائها الوحيد أن الواجب الوطني هو من دفعهم إليها , تفكر بـ “مصطفى” الصديق الذي آنس وحدتها وشد من عزيمتها , الرجل الذي ساندها و دعمها, الحبيب الذي تشع عيناه حباً وشوقاً لدى رؤيتها , لم ينطق هو ولم تنطق هي , كانت النظرات أبلغ من أي كلماتٍ تُقال, لكن أي مستقبل ينتظرهما وهما اللذان قدما نفسيهما كقربانٍ سعيا ِللَملمة ِأشلاء وطن.

ذات صباح نزلت من على المرتفع الجبلي الذي اعتادت على قصده , لمحته عيناها عائداً إلى المقر, كان يغيب كل فترة أياما طوالاً , تتملكها خلالها المخافة أن لا يرجع ، أن يصبح مجرد أسم من مجموعة أسماء ستدون لاحقاً في كتب التاريخ , وما أكثرهم ، استقبلته بملامح تعلوها السعادة والبهجة برؤيته, أبصرها فرمى السيجارة التي كان في فمه ودهسها برجله ثم نظر إليها نظرة يملأها الألم , كانت تجليات الحزن بادية عليه , استغربت لذلك فلم تعهده إلا قوياً صامداً رغم المآسي والمصائب التي مرت عليهم.

– أراك مهموماً يا مصطفى ، فما الأمر؟.

لم يرد ، خيم عليه الصمت , أعادت سؤالها بإلحاح فما كان منه إلا أن ذرف دمعات انسكبت على وجنتيه, وانهار باكياً على الأرض , وتحول “مصطفى” الذي عجز جبروت الفرنسيين على الإمساك به إلى طفل صغير , وديع, يمسح دموعه بكلتا يديه ويغمغم بكلمات غير مفهومة.

– قتلوهم..ماتوا..أبادوها…لم يبقَ أحد.

بكت لبكائه ،هي التي لم تذرف دمعةً لموتِ والدها, كان أول رجل تراه يبكي أمامها , وليس أي رجل ، أمسكت يده وضغطت عليها سائلةً:

-من قتل من ؟ لم أفهم.

أجاب محاولاً التماسك أمامها:

– عائلتي , أهل القرية , كلهم قتلوا ، كانوا يبحثون عني وعن آخرين , أبادوا القرية بمن فيها.

كيف سترد ؟ ماذا ستقول؟ وبماذا ستجيب ؟هل تواسيه أم تواسي نفسها أم تنعي وطناً بأكمله؟ ضاعت الكلمات و استسلم الاثنان لعبراتٍ أبت إلاّ أن تنسكب , علها تغسل القلوب وتخفف وجعاً مدفونا..

***

الزمن الحاضر..

مرت أشهر بعد ذلك , خرج المحتل صاغراً خائباً من أرضٍ لم ولن تكون له يوماً, تاركاً بقايا شعبٍ وتاريخاً أسود لن ينساه أحد , فُتحت أبواب المعتقلات و السجون ولاحت خيوط الشمس الذهبية للكثيرين من الذين دفنوا أحياء في غياهِبِ الزنزانات المظلمة , التي إن نطقت جدرانها لَرَوت قصصاً تقشعر لها الأبدان وتشمئز لها النفوس ، خرج معهم حاملاً بصدره أملاً وخيبة , نصراً وانتكاسة, فوزاً وخسارة.

” سأعود يا فاطمة , أعدكِ أن أعود..”

-هل سنتزوج يوما؟

– سنكلِّل فرحتنا بالنصر.

– وإذا كُتِبت لك الشهادة؟

– أحياء عند ربهم يرزقون.

دقّ باب بيتها ففتحت أمينة الباب, رأت شبح إنسانٍ ماثلاً أمامها , لم تعرفه, صاح صوت من خلفها:

-أمينة من بالباب؟ وأطل ليرى “مصطفى” يبتسم له ابتسامة باهتة ويقول:

– سي أحمد ، كيف حالك؟.

– مصطفى ! أنت على قيد الحياة ؟ وعانقه مهللاً فرحاً برؤيته ثم أضاف:

تفضل , ستطير فاطمة فرحاً برؤيتك ، كانت الوحيدة المتيقنة من عودتك.

ولج البيت يجول بناظريه بين أركانه باحثاً عن طيف أو خيال حبيبة لن تكون له يوماً.

-أود رؤيتها.

بدا الارتباك والتململ على أمينة , لكن سي أحمد أومأ لها أن تأتي بها.

بعد لحظات سمع صوت صرير عجلات حديدية , التفت ناحية الصوت فإذا بها جالسة على كرسي متحرك تدفعه والدتها ,هزيلة الجسم , شاحبة الوجه , لكن نظراتها لم تفقد بريق العزة والكبرياء, لجمَه الصمت, أدركَ أنها دفعت الثمن مثله تماماً , فبماذا عساه يتحدث؟ أمعنت فيه النظر هو مصطفى ولا شك , ولكن نظراته لم تعد واثقة كما ألفتها , هناك شيء مكسور فيها لم تفهمه.

تحت شجرة التفاح وسط الحوش جلسا يرتشفانِ فنجانيهما من القهوة.

سألها متعجباً:

 -أصبحتِ تشربين القهوة ؟!

-أدمنتها.

-كيف حصل هذا ؟, وأشار لرجليها.

-بإحدى المعارك , أصبت برصاصة في ظهري وهذه النتيجة , أين كنت غائباً ؟.

– بالمعتقل ، قُبض عليّ بعد أيامٍ من مغادرتي الجبل.

– ظننتك استشهدت.

-تمنيت ذلك.

– هناك آثار جروح على وجهك ، هل تعرضت للتعذيب؟.

أكفهر وجهه ثم قام مودعاً:

-أتيت لأطمئن عليكِ , سأعود ثانيةً.

كانت ستنطق ولمَ الرحيل ؟, ستبكي ولمَ الفراق من جديد ؟,هل لأنني أضحيتُ بقايا معطوبة ؟, ولكن أنفتها وكبريائها كانا لها بالمرصاد , فليست فاطمة من تبكي رجلاً ولو كان مصطفى ، فردت باقتضاب:

اعتنِ بنفسك ، رافقتك السلامة.

اندفع خارج المنزل يمسح آثار دموع خفية , نادماً على حضوره لرؤيتها, ستظن أنه تركها لما ألمّ بها بالتأكيد , ولكن هذا سيظل أهون عنده من أن تعلم أن مصطفى الذي عرفته لم يعد شامخاً بكرامته ورجولته التي فقدها في غرفة التعذيب, ودُهست تحت أقدام الغاشمين , مصطفى الذي عرفته اندثر ليحل محله ، حطام رجل.

 النهاية ……

 

ملاحظات :
القصة خيالية مبنية على أحداث وتواريخ حقيقية.

– الحايك: رداء تقليدي جزائري تلبسه النسوة فوق ملابسهن يشبه الملاية تقريباً.

– لالة : لفظة توقِير أمازيغية تعني سيدة.

تاريخ النشر : 2018-05-24

وفاء

الجزائر
guest
61 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى