أدب الرعب والعام

البعث الجديد: قرابين الشيطان

بقلم : Samer Salah – here

البعث الجديد: قرابين الشيطان
البعث الجديد أمر لا رجعة فيه و لا فرص ثانية لتداركه

وضعت حبيبة سماعة الهاتف و ركضت إلى الحمام مسرعة لتفرغ ما في جوفها. رفعت رأسها و نظرت إلى المرآة أمامها و هي تمسح فمها بكم قميصها الذي لم تغيره منذ ثلاثة أيام.
هالتها صورتها المنعكسة، فتاة نحيلة، إصطبغ وجهها باللون الأصفر الشاحب، وغرقت عيناها وسط هالتين سوداوين حالكتين. تراجعت مرتعبة كمن رأى شبحا ثم ركضت إلى غرفتها و أغلقت الباب.

كانت تظن بأن هروبها سينفي حقيقة ما وصلت إليه .. لقد تدحرجت إلى الحضيض، و كانت أربعة شهور فقط كافية لتحولها من طبيبة مقيمة ناجحة و جميلة إلى بقايا فتاة تعاني الإكتئاب و إدمان أدويته. ويأتي خبر زواج راضي و يجهز عليها.

أخذت تدور في حلقات ضيقة و تحدث نفسها مؤنبة “أنا السبب، أنا من سمحت له بإستغلالي و التسلق على كتفي.. أنا من جنيت على نفسي و دمرتها لما قدمتها قرباناً لمذبح حبه اللعين.. أنا بلى أنا”.

إرتمت على فراشها تنتحب لساعات، و كانت تلك عادتها التي لم تفارقها منذ شجارها الأخير مع راضي، عندما لم يجد في نفسه حرجاً أن يصارحها بأنه “لا يتزوج فتاة جمعته بها علاقة من قبل”. ليرحل إلى موطنه في رحلة قصيرة ظنتها المسكينة فرصة لمراجعة حساباتهما، فيما عقد هو عزمه أن تكون رحلة بحث عن عروس تستجيب لشروطه الكثيرة و أولها ألا تكون كحبيبة.

قبل سنتين فقط من اليوم، تعرفت حبيبة على راضي في حفل صغير أقامته السفارة بمناسبة أحد الأعياد الوطنية، و لم تكن لتنتبه إليه لولا محاولاته المستميتة في التعرف إليها. بل إنه لاحقها لأسابيع بعد لقائهما الأول، و ككل أنثى حالمة بالحب وقعت في فخ إهتمامه المزيف ففتحت له قلبها و منزلها.

نهل راضي من رحيق عشق حبيبة و جسدها و لم يمنحها في المقابل سوى الوعود. وعود بالزواج و الأطفال و السعادة الأبدية.. كلمات معسولة ينساها ما إن تغادر فمه المخادع.

مرت الشهور و حبيبة تنتظر أن يفي راضي بوعوده و لم تعلم بأنه وككل الكاذبين يمنح الوعود دون الإيفاء بها. كانت عمياء في حبها له فلم تميز القناع الذي يغطي وجهه و لم تكتشف زيف وعوده حتى جاء ليعلمها بحكمه، لقد قرر هجرها.. فهي ليست صالحة للزواج.

ركعت عند قدميه، توسلته و بكت بين يديه عله يرحمها و لكنه كان قاسياً و بارداً كلوح ثلج في يوم عاصف فتركته يرحل و هي تُمني نفسها بعودته القريبة.. أمل إنهار بمكالمة هاتفية من صديقتها تعلمها بأن راضي قد زهدها إلى الأبد و تزوج، بعد أن داس زهرة شبابها و حطم أحلامها الوردية فغدت كوابيس مفجعة.

يقال بأنك عندما تصل إلى القاع لن يكون أمامك من خيار سوى الصعود إلى القمة، و هو ما آمنت بحبيبة و هي ممددة على سريرها عاجزة و منهارة. نظرت إلى قوارير الأدوية المرصوفة على طاولة قرب سريرها، و رأت في كل منها خيال راضي يبتسم لها في سخرية و شماتة، فقفزت نحوها و بعثرتها صارخة “لم ينتهي الأمر بيننا بعد أيها الحقير.. “. و أسرعت إلى حقيبتها المرمية على الأرض، أفرغتها و بحثت على عجل بين محتوياتها، إنفرجت أساريرها قليلاً عندما عثرت على ضالتها أخيراً ، بطاقة كبطاقات الأطباء و المحامين. ضغطت عليها بقوة و قد عزمت على تنفيذ أمر طالما أجلته رجاءً أو خوفاً.

وقفت حبيبة أمام باب منزل منعزل يلفه الظلام من كل جانب، و أمسكت مقبضه ذا الشكل الغريب و طرقت ثلاثة طرقات متتالية كما أوصتها صديقتها التي أعطتها البطاقة..
و بعد بعض الوقت فتح الباب ليطل من خلفه عجوز ذو سحنة مرعبة زادتها اللحية الكثيفة البيضاء و الشاربين المشتعلين شيباً رعباً، تأملها بعينين صغيرتين غارتين ثم سألها بصوت أجش و جاف :
ـ ماذا تريدين؟.
ـ أريد مقابلة السيد رفيسول لأمر هام.
ـ عودي غدا صباحاً.
هم الشيخ بإغلاق الباب، و لكن حبيبة منعته بيدها و قالت:
ـ إنها مسألة حياة أو موت يا سيدي. 
و سحبت من حقيبتها كومة من الأوراق النقدية، هي كل مدخراتها و ما عملت من أجل تحصيله سنوات في بلاد الغربة. لمعت عينا الرجل و فتح الباب و فسح لها المجال للدخول و قبل إغلاق الباب تأمل المكان من حوله بحذر.

إقتاد الشيخ حبيبة إلى غرفة معتمة، لا ينيرها سوى شعاع خافت من فانوس شيطاني أحمر، تتوسطها طاولة مستديرة عليها أوراق لعب و بلورة من الكرستال.

إتجه رفيسول إلى الطاولة و أشار إلى حبيبة بالجلوس قبالته :
ـ إذا ما هي حاجتك؟
ـ الإنتقام.
إبتسم الشيخ لما قالته الفتاة، و مد يده ليسحب أوراق اللعب و لكن حبيبة قاطعته قائلة:
ـ لا حاجة لي بورق اللعب.. جئت من أجل البعث الجديد.
سحب الرجل يده و نظر إلى الفتاة أمامه و قال مزمجراً:
ـ البعث الجديد أمر جلل و خطر لا يتحمله أمثالك.. غادري.
سحبت حبيبة رزمات المال و وضعتها على الطاولة و قالت:
ـ هذا ثمن البعث و تأكد بأني مدركة تماما لخطورة ما أطلبه، و بأني أطلبه دون خوف أو تردد.
ـ إنه أمر لا رجعة فيه و لا فرص ثانية لتداركه.
ـ أعلم ذلك جيداً.. فإنتقامي أيضا لا رجعة فيه.. أريده أن يكون هائلاً و قاسياً كقساوة الألم الذي أعانيه.
مسح الشيخ لحيته بيده و قد إرتسمت على شفتيه إبتسامة خبيثة، و قال للفتاة:
ـ المال جزء بسيط من الصفقة يا عزيزتي، في الواقع هو جزء من أتعابي و لكن ما تطلبينه عظيم جداً، نحتاج فيه إلى بعض المساعدة، التي قد تكلفنا أتعابا إضافية.
ـ حسنا موافقة .. لا تقلق أعلم كيف يسير الأمر.

نهض الشيخ و أشار على حبيبة أن تتبعه، أوقد فانوساً و سار به في ممر ضيق طويل تتبعه الفتاة. نزلا السلم المؤدي إلى قبو المنزل المعتم ثم وقفا عند جداره عند الزاوية الغربية. بدأ الرجل يتمتم ببعض كلمات مبهمة و فجأة سحب خنجرا من كمه و جرح حبيبة فتناثرت قطرات دمها على الجدار، فسمعت له زمجرة مرعبة، جعلتها تتراجع إلى الخلف.

فتح الجدار أمامهما فإنبعثت رائحة تشبه رائحة الحطب المحروق، و صدر عن الحفرة صهد ساخن و كأنهما فتحا باب من أبواب الجحيم المستعر. سحب الشيخ حبيبة من يدها و دخلا و أُغلق ورائهما الجدار .

قبيل الفجر، إنشق الجدار الغربي للقبو و خرج منه الشيخ رفيسول ثم أُغلق دونه. صعد الساحر إلى الطابق الأول، و نزع رداءه المغطى بالدماء، و وضع خنجره على الطاولة و مسح يديه بخرقة بالية و جلس يعد النقود على ضوء المصباح الأحمر متمتماً “شكراً لوسيفر على منحتك العظيمة و تقبل قرباني يا سيد الشر و الشرور”.

بعد سنة من تلك الليلة المشؤومة التي إبتلع فيها الجدار حبيبة، و في غرفة مستشفى إقترب راضي من زوجته و مد يده يلاعب طفلته في حضنها مهنئاً:
ـ مبارك يا عزيزتي.. ماذا سنسميها ؟
نظرت الزوجة إلى رضيعتها و أجابت دون تردد:
ـ حبيبة، سنسميها حبيبة.
ألجمت الصدمة راضي فعجز عن الرد، بينما طالعته حبيبة بنظرة غريبة و كاد يجزم بأنه رآها تبتسم إبتسامة شيطانية مرعبة.

تمت

ملاحظة

البعث الجديد: فكرة خيالية من إختراعي أساسها أن تبعث روح شخص ما في جسد شخص آخر؛ فيما يستولي الشيطان على روح الشخص الثاني كثمن لهذه العملية . و لكي ينجح البعث الجديد، فإنه يحتاج إلى ظرف ولادة أو وفاة، بمعنى ظرف تنقل للأرواح. ففي القصة بعثت حبيبة في جسد إبنة راضي الرضيعة فيما إستولى الشيطان على روح الطفلة كثمن و على جسد حبيبه كقربان.

تاريخ النشر : 2018-06-03

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى