أدب الرعب والعام

كنت بخير…لولا الآخرون

بقلم : حسناء الفرجاني – المغرب

كنت بخير...لولا الآخرون
روحي الحقيقية تتواجد خلف بؤبؤ العين

مساء ليس كسابقيه، يختلف تماماً عما مضى بإستفسارات كيان مبهمة تجتاح سبر أغوار ظلمته الحالكة، إشكالات شيئاً ما غامضة متوارية خلف ستار البحث عن الحقيقة الضائعة، ذات رغم عدم استسلامها إلا أنها ظلت تتسكع في غياهب التيه نابشة عن معنى لما تعيشه الآن بين جدران غرفة ضيقة، باردة وخالية من أي دفئ.

كانت غرفة شبه مظلمة، تتخللها إنارة خافتة تومض بشكل متقطع، وتنعكس شيئاً ما على شظايا زجاج نافذة الغرفة المتكسرة التي تلتحف بدورها بستارة ممزقة متسخة تحاكي من بعيد مخطوطة سحرية قديمة..
في هذه الغرفة ينصاع الواقع راكعاً أمام الأوهام، ويتهاوى عرش المنطق بكل قدسيته أمام رصاصة البداهة، فلا مكان للدفاع أو الهجوم… لا شيء آخر سوى الانتظار والتفكير الشارد فيما حدث أو ما قد سيحدث، علها تمطر إجابة شافية تطفئ لهيب أسئلتها المشتعلة نيرانها فيما تبقى من آدميتها…فهل ما تعيشه للتو بجل حيثياته يعكس حلم يقظة عابر؟!. أم هي حقيقة مرة لمؤامرة دنيئة نسجتها أيادي خفية في الظلام؟!

هل هو حقا واقع عفن يكبلها بخيوط وهمية صدقت وجودها؟! أم مجرد جاثوم مميت يخنق أنفاسها وسينتهي شبح وجوده عما قريب؟!.
أسئلة تتناسل كالجراثيم ويطفو بعضها فوق بعض، فتزيد من شرودها وحجم معاناتها، لترسو بها في آخر المطاف على شط اللامكان، فما الجدوى من فهم ما يحدث إن كانت الحقيقة مدفونة كُرهاً في مقابر الخضوع. وما الداعي للتغيير إن كان جثمانها قد شيعه الجميع في صمت رهيب… لتفسر ما تعيشه حلماً أضحى عالما مجنونا يحتويها.

نهضت من على السرير واتجهت صوب حديقة المستشفى، متثاقلة وبخطوات وئيدة وبنظرات ذابلة أدارت رأسها في كل الإتجاهات، بعدها أيقنت تماماً أنها قد ابتلعت الطعم على مضض وستعيش بذلك هنا ما تبقى من حياتها بين أحضان مستشفى المجانين.

مر عامين من تواجدها في هذا المكان وهي لازالت إنسانة عادية على ما يبدو، إذ لم تسمح بمرض الجنون أن يحيط بها الدوائر، ولطالما حاولت الفرار مراراً وتكراراً لكن عبثاً، فجميع محاولاتها باءت بالفشل.

ذات يوم وبعض مرور عدة أعوام، جلست كعادتها وحيدة في غرفتها، كانت آنذاك متعبة حد الإغماء، نظراً لتناولها  مكرهة لا راغبة الأدوية المقدمة لها من طرف أطباء المشفى، أصبحت نحيفة القامة، شاحبة الوجه وبعينين ذابلتين افتتحت جلسة حوار مع الذات، كان بوحاً من نوع خاص وذا طعم حزين، إذ قالت بصوت خافت بائس كسر صمتها المعتاد : “الحياة بناء يقوم أسسه وفق مبادئك، فإذا أضعتها صارت لما سواها أضيع. إبقوا على استقامة لا تحيد مهما بلغتم الدركات السفلى من الموت، وتذكروا دائماً وأبدا أن أجزائنا تتلاشى وتندثر كل يوم حينما نحكم على حياة ضميرنا بمقصلة الإعدام، وبذلك نموت رويداً رويداً إلى أن نحترق بتأنيبه. آااه ما أصعب موت الأجزاء ونحن أحياء نرزق… فلما لا نمت على استقامة لا تحيد وبنزاهة مطلقة وقيم عالية ترفض الخنوع لأي قانون جائر كان؟!.
لمَ الخوف من النهاية ونحن لن نسلم من شبح الموت مهما بلغنا من العمر عثياً؟! لمَ….ولمَ…ولمَ…..؟!”.

بعدها تعالت ضحكاتها الهستيرية في المدى ووضعت يديها على رأسها كأنما أحست بصداع شديد، وبيدين مرتجفتين مسحت جبينها من بعض قطرات العرق ثم تابعت قائلة وعيناها تحملقان في صمت المكان : “خطأ بسيط أودى بحياتي إلى نهاية غير متوقعة رُمِمَت بأيديهم… نعم خطأ جسيم كان بسبب إنسانيتي المتناهية النظير ومبادئي المشبعة بقيم الخير، وهذا ما أشعل فتيل حرب بيني وبين شياطين الإنس، فسارعوا للتخلص مني بأبشع الوسائل لكي يلهوا في ساحة المعركة كما يشاؤون”.

سكتت للحظة ثم تأوهت بحرقة شديدة وحينما أرادت أن تكمل مناجاتها مع نفسها حتى غالبها البكاء، أسندت رأسها على الحائط وانهمر الدمع على خديها كسيل جارف، ثم بدأت تضحك كالمجنونة وتابعت حديثها قائلة : أصبحت الآن أحس بأنني واحدة منهم، بعدما حاولت جاهدة نسج هوة بين عالمي وعالمهم. أجل أنا الآن في المكان الصحيح، فقد وجدت في الجنون عالم نقي خال من الظلم ويحاكي صفاء السماء… لقد عشت وتعايشت مع الوضع وليس بإمكاني إيقاف عجلة الزمن ولو لهنيهة للرجوع إلى الوراء، لكن ما يوقظ شرارة الماضي ولهيب الإنتقام في داخلي دائماً هي اللوحة المتواجدة أمام مرآي على الحائط… نعم لوحة رسمتها بنفسي على جدار هاته الغرفة لتذكرني بحق وجب علي أن أسترده… معظم الممرضين هنا رأوا في لوحتي عيناً دامعة فحسب، لكن ما لم يلحظوه بالمرة أن روحي الحقيقية تتواجد خلف بؤبؤ العين وليس هنا، نعم إنها أنا تستنجد بي وتهمس لي بيأس قائلة :
*كنت بخير…لولا الآخرون*

-النهاية-

ملاحظة
الغلاف من إبداع الكاتبة.

تاريخ النشر : 2018-06-07

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى