أدب الرعب والعام

ذلك المواء

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

ذلك المواء
الجو صقيع ، و الظلام دامس و صوت المواء يستمر ..

في نهايات شهر ديسمبر القارس أمر في ذلك الزقاق كعادتي عائداً إلى بيتي القابع في نهايته ، تداعب نسمات الصقيع وجهي و قد بلغ الظلام أشده ، لا تضيئه إلا تلك المصابيح الصفراء العتيقة .
صوت مواء قادم من نهاية الزقاق و ما أجمله من صوت ، مواء كنغمات موسيقى رنانة أو ككلمات ملاك رقيق ، اقتربت فإذا بقط أبيض اللون يظهر أمامي قد ملأه الغبار حتى لا تكاد ترى من بياض جسده شيئاً ، ينظر لي في حزن غير مصطنع و يزيد من المواء .

رميت له بعض الطعام و أكملت طريقي ، لكن صوت المواء لحق بي ، كان ذلك الصغير الذي لم يتعدى شهراً ما يزال يلحق بي ، حاولت تجاهله لكن كيف و ذلك المواء مايزال يلحق بي ! هل أحضره إلى المنزل فيغضب القوم هناك و يطردوه شر طردة أم أتركه مع القطط الأخرى على سلالم المنزل فلا أقلق عليه بعدها ؟ لكنني أخاف عليه شر أصحاب السلالم من القطط ، قد يضربوه فيقتلوه أو قد يهاجمه كلب أحد السكان .

الوقت مساءً ، و الجو صقيع ، و الظلام دامس و صوت المواء يستمر .. أيطاوعني قلبي أن أتركه هنا مواجهاً الصقيع و الجوع و أطفال الزقاق اللعناء ؟؟
أدرت رأسي عنه و أكملت طريقي حتى وصلت إلى باب منزلي و كان ذلك الصغير هناك ينتظر أمري له باللجوء لكنني أقفلت الباب الحديدي مستمعاً لصوت البكاء أقصد المواء ، و قد عزمت أن أتصل بإحدى ملاجيء الرفق بالحيوان ، كان ذلك قبل أن أعرف أن كل أرقام الملاجئ (مروفوعة من الخدمة)

عند دخولي إلى المبنى حاصرتني خمسة قطط أو تزيد مطالبين بنصيبهم من طعام اليوم ، هذا ما كنت أخاف منه على ذلك الكيان الضعيف المسكين ، الراقد في الخارج ، قد يأكلونه حياً و من ثم يمثلون بجثته حتى لا أجد منه إلا بضع بقايا في اليوم التالي ، المسكين كان ليعاني من هذا كثيراً .

استغرب قدرتي على النوم تلك الليلة وسط صوت المواء الحزين المستمر و قد بقي صباحاً حتى بدأ يتلاشى عند حلول المساء التالي ، أيكون قد ذهب تاركاً لي بعض الهدوء بعد أن أدرك فشل محاولاته الناجحة صراحةً ، فقد خرجت لأرى ما جرى .
كان جسده الأبيض الضئيل راقداً على الأرضية الترابية ينزف الدماء من فمه الدقيق ، كان مصاباً و يكاد الناظر إليه يظن أنه قد فارقته الروح ، لكنها مازالت متشبثة بالجسد تأبى الخروج ، كان المسكين الصغير يحاول الصمود بالتنفس من فمه ، كان جسده يرتعش و قد بدى عليه أثر الضرب ، إن أحد الساديين من سكان الزقاق أخرج شهوته المكبوته في جسد هذا الصغير .

كان الوقت يتجاوز منتصف الليل بقليل و لم أجد مشفى بيطري تفتح أبوابها في هذه الساعة ، هذا إن وجد هذا النوع من المستشفيات في هذه المدينة ، ذلك المجال مدعاة للسخرية في مجتمعنا ، فمن سيبالي لو مات قط أو مائة ، في نظرهم هي أداة للضرب و التنكيل و السحق و الدهس و التمثيل و اللهو و اللعب و الذبح ، و هذا القانون يسري على الجميع ، كم من مرة سرت في إحدى الشوارع و الأزقة لتجد قطاً مفقوء العينين أو مقطوع الذيل أو الأذن أو كلاهما أو مسحوقاً على جانب الطريق ، بل ربما ما هو أفظع من هذا متناسين أن الأخلاق و القيم و الرحمة تأبى هذا بل و حتى الدين الذي يتشبث به الجميع و يرفضون المساس به يرفض هذا ، و مع ذلك يتناسون أنها مخلوقات خلقها خالقهم و حرم إيذائها بل حتى الفطرة ترفض ذلك .

حملته بين ذراعي ، كان يرتعش بشدة ، و عدت إلى بيتي أبحث عن إحدى العيادات أو المستشفيات لكن أياً منهم لم يرد ، حتى جمعية حقوق الحيوان كانت (خارج نطاق الخدمة مؤقتاً ) إنها هكذا منذ العام الفائت ، ظللت أبحث و أتصل متناسياً أشغالي في الغد ، حتى ردت علي إحدى العيادات و قد كانت تلك لحظة فرح و سرور كرؤية الضوء في آخر النفق ، ربما ضوء الحياة قبل أن يُطفأ و يعود الظلام

***

وصلت إلى العنوان المذكور ، شقة صغيرة مجهزة كعيادة بيطرية مثل تلك العيادات المنتشرة و التي تشوه يافطاتها واجهات المباني .
كان الطبيب شخصاً لطيفاً لم يغادر العيادة و بقى حينما اتصلت به ، و قد كان على وجه الاستعداد للرحيل ، فضّل حياتها على راحته ، ربما هو من القليلين الذين يدركون ماهية الحياة و قيمتها ..
و كانت نتيجة الكشف كالآتي ، نزيف داخلي و انشقاق في سقف الفم ، حرارة منخفضة و شلل يحتمل كونه مؤقت في الجزء السفلي من الجسد بسبب الضرب على العمود الفقري ،
سلمها لي و قد قام بوضع رقعة قماش نظيفة لتدفئتها قائلاً أنه يحتمل موتها كما يحتمل نجاتها ، أخبرني بأنها تحتاج عملية لكنه لن يقوم بها لصغر سنها و لاحتمالية موتها ، و لم يرد أن يكلفني فوق مقدرتي بدون فائدة ، فقط حقنها بأبرتين واحدة لخفض حرارتها و الأخرى لإيقاف نزيفها ، لو عاشت للغد مساءً .. إن حياتها تعتمد على يوم واحد ، يوم واحد فقط لتعيش

***

استيقظت في اليوم التالي على صوت المواء ، تلك القيثارة الملائكية الحزينة ، كان يطل علي من صندوقه المهترئ بشبه أعين مغلقة ، لقد ظل حياً كما عاد إليه صوت المواء ، لم أذهب إلى عملي اليوم لأظل بجانبها ، و قمت بإطعامها بعض الحليب .
حل الليل و مايزال صوت المواء يدوي ، أعلم يا رفيقي الصغير أنك تحملني الذنب ، أنا أعلم أنني السبب ، إنني أتحمل مسؤولية ما حدث لك ، لو سمحت لك فقط بالبقاء عندي لليلة واحدة فقط لما حدث لك هذا ، ألا قبلت اعتذاري التافه ؟ أعلم أنك تريد العودة للعب و النوم دون ألم ، أعلم أنك تعاني و قد تموت ، أعلم أنك تريد أن ترتاح ، لكن قلبي لا يتحمل الفراق مثلما لا يتحمل القتل ، كيف و قد نظرت إلي تلك النظر المأساوية من الصندوق الراقد على الأرضية ، لقد اقترب وقت ذهابنا للطبيب فهل أنت جاهز ؟

***

ذهبت إلى الطبيب برفقة رفيقي الصغير و قد أخبرني الطبيب بأنه سيقوم بالعملية و سيحجزه عنده ، و قد ودعت الصغير بقبلة على قمة رأسه و خرجت تاركاً إياه بين رحمة الطبيب

***

بعد يومين أتاني اتصال يؤكد موت الحالة ..

لقد انقطع عني صوت المواء و ذهب بعيداً تاركاً إياي بين انقباضة قلبي و الشوق لرؤيته ثانيةً ، لكن كيف و قد انقضى أجله و اختفى النور في آخر النفق مثلما اختفى صوت المواء حتى و لو ظل يدوي في أذني ، لقد كنت السبب في موتك و إن كنت طرفاً صغيراً في هذا ، أعرف أنني أطلت في آلامك و معاناتك ، قد تسلمت جثتك الصغيرة و دفنتها قرب موقع العيادة .

أعلم أن كل هذا قد يبدو تافهاً و قد يكون محلاً لسخرية الأغبياء لكن إن أحداً من الساخرين و قساة القلوب ما كان ليحتمل ما عاناه القط أبداً ، كلنا أرواح خلقها الخالق فلما هذه المعاملة ؟ ما يزيد الحزن حزناً معرفتي بقاتلك ، قد وجدت شاهداً أرشدني إليه لكن ما عساي أفعل له ، فلا قانون هنا يحميهم و لا رحمة تساعدهم ، و منظمات حقوق الحيوان مرفوعة من الخدمة .

عندما عدت وجدت قطاً جديد الولادة ملقى قرب والدته المقتولة مثلما إخوته الصغار ، و قد حاول التعلق بجثة والدته ، قد أرضيت ضميري و سلمته لإحدى ملاجئ الحيوانات الصغيرة ، فربما تكون كفارة لما جنيته في حق ذلك الصغير .

ملاحظة :
هذه القصة عبارة عن موقف حقيقي حدث معي شخصياً مع تغيير في بعض التفاصيل الطفيفة ، هي لا تعتبر تجربة شخصية هي فقط مستلهمة .

تاريخ النشر : 2018-06-09

guest
39 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى