أدب الرعب والعام

الطريق إلى الخيانة

بقلم : وسيم زبيش – الجزائر
للتواصل : [email protected]

لم أعد أقوى على النظر فيها أو حتى منح كلماتها المنتحبة التي أصبحت تئن بها الآن أي قيمة.. لقد انكشف كل شيء

قبل أن أبدأ قصتي هذه أود أن أقدم لكم حكمة صغيرة, ربما يعرفها الكثيرون لكن أغلبهم لا يعمل بها عندما تكون اليد العليا لصالحه, و هذه الحكمة تقول أن تضع نفسك مكان الشخص الذي توشك أن تتخذ ضده قراراً ما, وضعك لنفسك مكان ذلك الشخص من أهم الشروط التي عليك بتذكرها جيداً قبل أن يفوتك الأوان, عليك أن تتعمق في شخصيته, وتفكر فيما يفكر فيه, و تحس فيما يحس به, وفي كل جوانبه الأخرى.. و عندها ضع القرار الأنسب و الأحق إليه .

و الآن تبدأ القصة عندما قرر رجل عربي الذي هو أخي الأكبر زين و يبلغ من العمر 29 سنة أن يتقدم لفتاة بعد أن رأى نفسه مؤهلاً أكثر من كفاية للزواج. أخبر أمي و التي بدورها ذهبت لتختار له واحدة تليق به كما يفعل أهل مدينتي هذه الذين يؤمنون بالزواج التقليدي.

كانت هذه الفتاة تدعى حنين, جميلة للغاية و قد بلغت 24 من العمر, و كانت راضية بالحياة التي هي متجهة إليها, لم تفلح كثيراً في الدراسة و لم يكن لها مخططات كبيرة كبعض صديقتها.. إضافةً إلى أنها على علم أن عائلات هذه المدينة تفضل أن تكون الزوجة ربة منزل عندما يكون مستواها الدراسي لا يتجاوز المتوسط.
عائلتها لم ترغمها على شيء طبعا لكنها راضية بذلك من البداية, و مازاد راحتها في هذه النقطة هو أن أخي الذي تقدم لها لديه ما يكفي من المال كي تعيش حياة رغيدة لا تحتاج فيها عمل أي شيء.

اخي لديه منزل كبير ذو طابقين بثمان غرف واسعة,  إضافة للديكور الاستثنائي الذي سيعمي بصر أي فتاة لديها حب لجمال المنزل و التباهي به, لذا فقد وافقت على الفور بعد أن رأته و سمعت بما يملكه.
حتى بعد أن أخبروها بطبيعة عمله لم تكترث للأمر كثيراً ! إن عمله يكمن في الشراكة مع مجموعة صغيرة لديها شركة في بلد أجنبي, و هذا العمل يحتم عليه أن يظل فترات طوال تقارب الشهر كل مرة يذهب إلى العمل, و بالمقابل لا يرجع إلى بيته لمدة وجيزة قد لا تتعدى أسبوعاً .

حنين لم تتأمل في العمل كثيراً و لم تحاول التمعن إلى أين ستؤول الأمور.. بل على العكس ترى أن الجلوس وحيدة لن يضرها بشيء طالما بحوزتها ما تريد من رفاهية و متعة, ترى نفسها في جنة و ستفعل ما سيحلو لها في بيت كبير كهذا, تدعو صديقاتها كما تريد و تنام و تأكل كما تحب دون أي قيود, على عكس ما تراه و ما تعرفه عن الزوجات الأخريات في هذه المدينة, حتى نظافة البيت فأخبرها زوجها أن تستأجر عاملة نظافة كل بضع أيام لإعادة تنظيف البيت بأكمله.
و بالمقابل كل ما طلبه أخي منها هو أن تلتزم بمنزلها و لا تطيل الخروج لأن أهل هذه المدينة محافظون و سمعة المرأة بالنسبة لهم تعكس الكثير عن زوجها و عائلتها, فكانت رسالته إليها أن لا تلطخ شرفه أبداً و في المقابل تحصل على كل ما تريد, هو طبعا لن يقولها لها بشكل مباشر بل لمح لها بالأمر فقط و هي استوعبته بسرعة.

**

بعد إمضاء الزوجين معاً 3 أشهر من الزواج, و قبل أن يهم أخي بالرحيل للعمل أخيراً , بقي شيء واحد فقط عليه إخباره بها, وهو الذي لم تتوقعه منه زوجته إطلاقاً , لقد أخبرها أنه سيترك معها أخاه الأصغر فهد في غيابه. فهد الذي هو أنا.

في البداية هذا أفزع الزوجة و حيرها لأن ليس له أي معنى تقريباً , وحينئذ أكد لها أن هذا ما سيحصل لأن المنزل قريب من الكلية التي سأدرس بها أولاً , و ثانيا لكي أشتري لها كل لوازم البيت إذا أرادت شيء مني فهو لا يريد منها أن تخرج إلا للضرورة, و بالمقابل سيدفع لي أجراً شهرياً يكفيني للتأقلم مع مصاريف الجامعة و غرفة أنام فيها.

في البداية أحست حنين بانزعاج شديد لكوني سأكون في البيت و هذا سيمنع عليها الكثير من المتعة مع صديقاتها, لأنه و على حسب الظاهر كان من أهم طموحاتها أن تتفاخر أمام الأخريات بما تملكه من أشياء قد تحلم بها بعضهن, وهذا يلهبها من الداخل ككثير من بنات مدينتي الأخريات. لكنها وضعت هذا التفكير جانباً عندما ركزت مع كلام أخي و أدركت أن الحقيقة لجعلي هنا معها هو لأنه يريد وضع حدود لها و أعين تراقبها, أي أنه لا يثق بها.

أنا أصغر أخي بـ 6 سنوات, و أنا على عكس ما توقعت حنين شاب لطيف خجول مرح, أو هذا ما يقولونه لي على الأقل, فأنا شخصياً كل ما أراه في نفسي هو أني أنفعل بسرعة.. وأنجرف وراء انفعالي بصورة لا يمكنني مجاراتها.
منحني أخي غرفة في الطابق الأسفل لأقيم فيها, رغم أني لا استعملها إلا للنوم ليلاً , كنت دائماً بالجوار مع أصدقائي, لا أحب التدخل فيما لا يعنيني, وأدخل البيت عندما تتصل بي حنين لشراء شيء ما فقط, و أحياناً تدعوني للأكل معها إلا أني لا أفضل ذلك, فكنت أرفض طلبها بتواضع, إلا إذا أصرت علي كما تفعل أحياناً , فمرة أخبرتني أن لا أخجل فأنا سأكون عم أطفالها و سيكون من اللطيف التعرف علي و على طباعي, فحينها قبلت دعوتها لكني لم ألبث أن أخرج سريعاً .

**

مرت الحياة على هذا المنوال لثلاثة أشهر أخرى, بدأت علامات الضجر تتجلى و تتجاوز حدها فعلياً بالنسبة لحنين, لكنها دائماً ما تذكر نفسها أن هذه هي الحياة التي اختارتها و لم يحتم عليها أحد ذلك, فعليها أن تصبر و تغلق فمها. كانت لا تفعل أي شيء قد يسيء إلى زوجها أو يزعجه, كانت تطيعه تماماً و تنتظر عودته بشوقٍ حار, تخبره ما حدث في أيامها بدونه و دون أن تنسى طبعاً إخباره عني و عن مدى حرصي على المنزل و حاجياته, تخبره أني شاب مثالي كوني أقوم بكل هذا لأجل أخي, هذا يخجلني صراحة و أتوقع أنها ليست أكثر من مبالغة منها, إلا أن أخي لا يخبرها بكامل الحقيقة التي هي أني لا أقوم بهذا عن رضى تام, بل لأن أخي توسل إلي و أصر والدي أن أفعل هذا و علي أن أطيعهما كي آخذ رضاهما, أو أختار أن أعصيهما و أكون ولداً عاقاً . وهذا لن يحدث أبداً مادمت عاقلاً .

**

رحل أخي مجدداً و حنين تودعه و قلبها يصارع للبقاء في صدرها, لا تدري كيف ستمضي شهراً آخر وحدها, فقط الآن بدأت تحس بتبعيات و عواقب القرار الذي اختارته, بدأت تحس أنها ارتكبت مصيبة في حياتها لن يخرجها منها أحد. زوجها رجل ملتزم إذا خرجت عن طاعته الدينية فسينبذها, و أنا تحسبني بالمرصاد أراقبها في الخارج دوماً , فما الذي عليها فعله ؟ تفكر هل الحل سيكون بعد أن تنجب طفلاً يجعل والده يلزم حدوده ولا يطيل الغياب؟ أم أن طموح أخي لن يردعه أحد حتى طفل بحاجة لأبيه ؟ ثم من قال أنها ستنجب معه أصلاً وهي في الشهر السادس ولم تحقق أي تقدم ؟ لقد كانت في ذلك الوقت في حيرة من أمرها فعلاً .

قررت بعد يومين من رحيل زوجها أن تدعوني للغداء مجدداً , إلا أني وجدت عذراً للإفلات, و لم يمضِ سوى يوم واحد حتى دعتني مجدداً , فحاول الإفلات إلا أنها سألتني بجرأة هذه المرة :

– “متى تنتهي أعمالك الشاقة هذه التي تجعلك غير قادرٍ على إمضاء 10 دقائق معي؟”

أحسست بالخجل من نفسي و ذهبت لأتعشى معها. إلا أن المنظر الذي وجدته هناك صرعني, كنت أدري أن هذا اليوم قادم دون أدنى شك في مثل هذه الحالات, إلا أن عائلتي كانت عمياء كفاية كي لا ترى ذلك.

دخلت فوجدت الصالة مضاءة إضاءة خافتة و الزوجة الكريمة ترتدي فستاناً قرمزياً مخطط بخطوط متقطعة ذهبية رقيقة. و تضع أحمر شفاه بنفس اللون تناسقاً مع الفستان, كما تضع رجلاً على أخرى و تقول لي بابتسامة وديعة جداً :

– “تقدم يا فهد و اجلس, لماذا علي الإصرار كل مرة من أجل مشاركتك العشاء ؟ ألا تراعي شعوري؟”

أحسست أني جمدت في مكاني من فرط الإحراج, لم أجد ما أرد به, بينما هي ألقت ضحكة خفيفة مرحة و أضافت:

– “ههه إني أمزح, أنا فقط أتمنى أن نكون أسرة متماسكة بعض الشيء, ألا توافقني الرأي ؟ أنت تعرف وضعي كيف هو, ثم ما الذي يدعو للقلق ؟ كلانا مسلمين و كلانا يعرف الآخر, كلانا يعي العواقب و كلانا يعي نظرة المجتمع, لكن أن تجلس مع زوجة أخاك على الأكل فلا يوجد أي أحد لديه الحق لمنع هذا ! “

لم أتوقع هذا منها, كلامها جعلني أحس براحة عميقة جداً, فابتسمت و قلت :

– “نعم معك حق, أرجو المعذرة على تهربي, كانت نظرتي متسرعة, قللت من تقديرك, أتمنى أن تتقبلي اعتذاري فعلاً “

– “أنت أيضاً اعذرني, أرجو أنك لا تمانع في لباسي هذا, لم أكن لأرتديه لو كنت خارج بيتي”

أخذت نظرة خاطفة عليها ثم أعدت تثبيت عيني على الطاولة وأسرعت أقول كي لا أحتم عليها التفسير أكثر :

– ” لالا على الإطلاق, لا يوجد أي مانع, هذا لباس مستور وأنت في منزلك”

و بدأنا الكلام الذي سحب معه حكاياتنا القديمة, كان الخجل ينزاح شيئاً فشيئاً , وكان بالنسبة لي تطوراً غير مرغوب فيه, إلى أن انتهى اللقاء باحترام هائل أصبحت أكنه لها و أظن أنها بادلتني إياه أيضاً , ثم طلبت مني الصداقة و المشورة كلما تسنى لي الأمر. فوافقت طبعاً ثم استأذنتها و خرجت و كلي يقين أن أخي اختار الزوجة الصائبة الصالحة التي تدرك ما تفعله.

**

مر شهر كامل بعدها دون انقطاع دعوات حنين المستمرة لي على الأكل, إفطار, غداء, عشاء.. بل و أصبحت تدعوني في كل مرة تسنح لها الفرصة مختلقة أتفه الأسباب لفتح حوار, إلى أن رجع أخي فطلب مني البقاء للغداء معهما اليوم, فهو لم يكن يمانع أن أبقى معهما على الإطلاق أثناء وجوده و أن أتواجد معهما في كامل الأوقات, لم يكن يرى في ذلك إفساداً لخصوصيته أبداً , وكان يقول لي أمام زوجته :

– “أخي الصعلوك هه, لماذا ترفض أن تأكل مع أخيك, يا للتخلف !”

كانت عقلية أخي يغلب عليها الطابع الأجنبي المتفتح كما يقولون, فهو قد قضى الكثير من السنوات مع هذه الشركة, وقد كانت طموحه من البداية, بينما الزوجة لا تحس إلا أنه غير مهتم لانفراده معها كثيراً , و ترد بطلف :

– “فهد دائماً هكذا, لا أدري لماذا لا يحب الأكل في منزلنا”

أقول أنا ضاحكاً مرتبكاً :
– “لالا..”

لم أجد ما أقول فخاطبني أخي قائلاً بجدية :

– “يجب عليك أن تأكل مع زوجتي كلما دعتك, البيت بيتك فلا داعي للخجل, اتفقنا؟”

أومأت برأسي فراح يخاطب زوجته :
– “المهم أنك مرتاحة وهو في الجوار, لا شيء ينقصك على الإطلاق, أليس كذلك؟”

– “بالطبع عزيزي, تنقصني أنت فقط, أقصد أني أشتاق إليك عندما تكون غائباً “

فيبتسم متفاخراً بنفسه, و بعد الغداء وبعد أن ارتاح من سفره قليلاً حان الوقت أخيراً لكي آخذه معي و أتحدث معه بانفراد, طلبت منه القدوم فلم يمانع, ففي الواقع سبب بقائي هنا و انتظاره ريثما نأكل سوية كان لغرض واحد, وهو أن أخبره بوضوح عن الحالة التي أنا فيها, فلقد رأيت أنه طفح الكيل و من واجبي أن ازيح الخجل و أساعد نفسي و أسدي خدمة لزوجته في نفس الوقت قبل أن يفوت الأوان و يصبح الأمر خطراً حقاً على كلينا.

فشددت كل ما لدي من عزيمة و أردت إخباره بصدق عن شعوري, يجب أن لا أضيع الفرص هذه المرة. لكن.. لكن بمجرد أن وضعت عيني في عينيه توقفت, تبكمت ! انتابني قلق رهيب لا أدري من أين ينبع, و حتى رجعت إلى بيت أهلي و فكرت في الأمر بتمعن و حينها عرفت.
ظننت في البداية أن سبب توقفي هو احترامي الكبير له كونه أخي الأكبر الطيب. لكن بعدها أدركت أن مصدره كان قلقي أن يشك أن زوجته قامت بشيء غير مرغوب أمامي و يبدأ في الوسوسة تجاهها و مراقبة تصرفاتها.

قد كان هذا هو سببي الوحيد للبقاء معهما على الغداء كما قلت, و بعده هممت بالرحيل فوراً فلم أكن أريد أن أفسد وقتهما الثمين بحضوري حتى لو لم يكن هو مكترثاً لذلك, فذهبت لأزور والدي و أبقى معهما في بيتنا حتى يرحل أخي مجدداً , وذلك حدث بعد أسبوعين, ودعها بحرارة كما يفعل عادة و قامت بواجبها هي أيضاً , إلا أنه عليها عدم الكذب حيال هذه المرة فالوداع لم يخلف وراءه اشتياق يذكر, و اتضح حينها أن أكثر مخواف الزوجة هو أن يجف حبها لزوجها نهائياً و تبقى ضائعة في هذا العالم دون أي اهتمام تمنحه لأي أحد أو لأي شيء, ترى أن الحياة ستصير مجردة من أي طعم يمكنها أن تحس به بعدها, و تصبح حاوية فارغة ثم تقتاد للكآبة التي ربما ستتفاقم بدورها و تقودها إلى ما هو أفظع من ذلك, لاسيما وأنها لم تحمل بطفل تضعه نصب عينيها لترعاه على الأقل.

صحيح أنها تزور أهلها بين الفينة و الأخرى, صحيح أنها تتحدث مع صديقاتها كثيراً على مواقع التواصل الاجتماعي, صحيح أنها تدعوهم عندما تتوفر الفرصة دائماً, إلا أنها كانت تحس بفراغ عاطفي كبير يمزقها من الداخل.

**

رجعت مجدداً بعد رحيل أخي, ومنذ أول يوم دعتني للعشاء بعد أن طبخت لي الكثير من الطعام الشهي, كثير من وصفات السمك, أشهى أكلة لدي, كيف عرفت هذا؟ و متى تسنى لها الوقت لتتعلم كل هذا؟ لم تكن تطبخ شيء كهذا و أغلب أكلها كانت من الوجبات السريعة التي أشتريها لها أنا من الخارج .
دخلت إليها فوجدت آثار البهجة متجلية على وجهها, هل يعقل أنها كانت تنتظر رحيله لأجلي ؟ عقلي عجز عن استيعاب الفكرة.

جلسنا فسألتها لما لم تعد تنادي صديقاتها كما كانت. فأخبرتني أنهم سئموا من المجيء . كان في البداية لهم شعف بمجاورة صديقتهم المتزوجة الثرية لكن كل ما أصبحوا يرونه فيها الآن هو إنسانة مملة مبتذلة ليس هناك أي تغيير فيها.
لكنها ظلت تتحدث عني, و أنا قد توترت في هذا اللقاء صدقاً , أحسست أنها تحاول أن تجذبني لكنها هي نفسها تجهل ذلك ! تجهل ما الذي تفعله, فحاولت اختصار اللقاء قدر الإمكان, أكلت بنهم و بسرعة قدر استطاعتي و أخبرتها أني ذاهب إلى غرفتي من أجل الدراسة, فطلبت مني قائلة بصوت جعلني حائراً متعجباً :

– ” أرجوك, ابقى معي أكثر”

هنا و لأول مرة أدركت بوضوح أن هذه الفتاة تخشى الوحدة فعلاً , لكنها كانت تقاوم طوال الوقت و تدعي أن هذا ليس من صفاتها, لم أجد ما أرد به خوفاً من جرحها, لكن في النهاية اضطررت للتملص منها قائلاً :

– “لا أستطيع, علي أن أنصرف لأراجع دروسي, الامتحانات على الأبواب”

نظرت إلى عيني بنظرة توحي تماماً أنها مدركة أني لست سوى أتهرب منها قائلةً بأسى و حسرة على نفسها :

– “كما تريد”

**

ربما إنها زوجة صالحة فعلاً , لكنها ليست بتلك القوة, فلقد أتت تلك الليلة أخيراً , والتي أطلقت عليها فيما بعد اسم ليلة الصحوة و الندم.. ليلة البكاء. الليلة التي يتجمع لك فيها كل شيء و يضربك دفعة واحدة حتى تحس بالألم الحقيقي, تحس بضغط جامح في رأسك.

قبل هذه الليلة ستحس أن تغير مجرى شعورك هذا ليس إلا تغير طفيفاً , و تظل تتجاهل الأمر بحجة أنك مسؤول و عليك بالترفع عن مثل هذه الأحاسيس, و سيظل ذلك التجنب فعالاً طالما مازالت تلك الغشاوة على عينيك, إلى أن تأتي هذه الليلة التي تنفجر فيها و تحس بحجم الخطأ الذي اقترفته, الخطأ الكبير الذي كان غفلتك و عدم تساؤلك و تدقيقك في الأمر من بدايته و نظرتك إليه بشكل سطحي جداً, أجل إنه ذنبك وحدك ولا أحد يشاركك حمله, فتتلوى من الألم ساعات طوال.

و ربما يحدث أن تعيد التفكير من جديد فتجد أن الذنب ليس ذنبك ! أنت لست عرافاً يتنبأ بالمستقبل لتعرف ما ستؤول إليه الأحداث, و لم ينصحك أحد أو يطلعك على ما سيجري. وهذا سيزيد بؤسك و كراهيتك لكل شيء أكثر و أكثر.
و هذا ما يحدث مع حنين الآن, نعم إني أسمعها تبكي الآن في الطابقي العلوي, و إني أحاول التفكير مكانها و هذا ما استطعت التوصل إليه لحد الآن, أرجح أنها الآن تغوص في بئر من الأفكار السلبية التي ليس لها نهاية, أرجح أنها تحاول فهم هذا المنطق الغريب لكنها لم تستطع, فكيف لم تحس قبل أن تتزوج بشيء وكانت ترى نفسها مستقلة في غير الحاجة لشيء.. بينما الآن تحس أنها بأمس الحاجة إلى الحب و العاطفة ؟ أتساءل متى يصبح الفراق أمراً شاقاً جداً في هذه الحالة ؟ هل الأمر متعلق بافتقادها لأحضان زوجها و ما يمنحه إياها من حب و عناية و اهتمام.. أو أن الأمر متعلق بي و كوني دخيلاً عليها غير من تفكيرها؟ أنا أيضاً مثلها لا أدري .

**

نهضت صباح اليوم ظنا مني أنها قد تتراجع خطوة أو خطوتين بعد ليلة أمس و إدراكها بشكل واضح أني لست سوى أتهرب منها, إلا أنها فاجأتني منذ الصباح بحملها صينية الإفطار و التوجه بها إلى غرفتي, طرقته و دخلت تسأل إذا كان بوسعها الإفطار معي, و في هذه اللحظة عجزت عجزاً تاما و تمنيت لو أني فعلت ما بوسعي لأتحدث مع أخي في ذلك اليوم عن الحالة التي أنا فيها .

و تطورت علاقتنا حتى أصبحت تأتي إلى غرفتي يومياً بينما أنا منهمك في دروسي, لقد كانت تجلس ساعات قربي و تثرثر دون توقف, و أنا أعجز تماماً عن دفعها أو الإساءة إليها بأي تصرف, حتى أن جملة “لدي الكثير من الدروس لأراجعها فهلا عذرتني” أصبحت ثقيلة علي!

أجل كان علي أن أضغط على نفسي و أخبر أخي حينها مهما كان الثمن.
فأنا لم أتوقع أني ساقع في ورطة بعدها و أصل لدرجة الانجذاب إليها ! أنا لن أكذب و أقول أني لم أنجذب إليها بدوري, فبعد فترة أصبحت أذهب إليها كلما دعتني دون أي اعتراض, و بعدها تطور الأمر و تفاقم بصورة لم أستطع تفهمها لدرجة أني صرت أتحرق شوقاً أن تناديني أو تأتي إلي!
هذا بالتحدث عني فقط, أما بالتحدث عنها فقط وقعت تماماً لدرجة لم تعد تفارقني فيها. و انغمس كلانا مع هذه العلاقة بشكل أعمى, إلى أن مرت ثلاثة اسابيع تقريباً و أتت تلك الليلة..

الليلة التي كانت فيها معي في غرفتي بفستانها القرمزي المثير الذي ارتدته قبل فترة, هذه ثاني مرة ترتديه أمامي, أنهينا العشاء و رحنا نتكلم و نضحك غير مبالين لأي شيء حولنا, كنا سعيدين كلينا بهذه التطور للأحداث و بدأ عقلي يتوهم أن هذه ليست إلا مجرد صداقة فعلاً . و رغم شكلها المغري و ضحكاتها الخافتة المثيرة إلا أني أظل أوهم نفسي مراراً و تكراراً بأن هذه ليست مشكلة, قلت مبتهجاً :

– “إذاً فقد بقي 4 أيام فقط و يرجع أخي, هذا رائع !”

لكن تلك الروعة لم تبدُ على وجهها إطلاقاً , بل إنها كانت أشبه بالتعاسة لانتظار عودته, كأنها لم تعد تريد حضوره بجانبها, أو لم تعد تبالي أصلاً . فرحت أكمل كلامي ضاحكاً :

– “ما الذي تخططين لفعله مع زوجك هذه المرة أيتها المشاكسة؟ هل ستخرجان لرحلة ما أو أن المنزل سيكون حليفكما؟”

ثم انتبهت لسخافة ما أقول, لقد كنت في طور الأبله المنتشي الذي يقذف بالكلمات دون تفكير.. فردت علي قائلة:

– ” أتمنى أن لا يرجع بسرعة”

فتحت عيني ذهولاً ثم قطبت حاجبي و قلت بمرح :

– “ههه ما الذي تقولينه يا حنين ؟ إنه زوجك ! ألم تقولي بنفسك أنكِ لا تتحملين بعده عنك”

اقتربت مني هامسة :

– “لا أحتاج إليه”

و إذا بي أفتح عيني فأجد شفاهها على شفاهي, قبلتني بشوق كبير كأنما كانت تتعطش إلى هذه اللحظة منذ زمن, ولوهلة من الزمن أحسست أني انغمست معها و وقعت في براثنها, لكن أجراس الإنذار في رأسي كانت أقوى من شهوات نفسي, و هذا الأمر الذي حمدت الله عليه لاحقاً أنه ميزني به عن الكثير من خلقه, ليس لأن غرائزي الجسدية ضعيفة أو شيء من هذا القبيل, بل لقدرتي على تدارك نفسي في أشد الأوضاع حساسية و إغراءً , فقمت بإبعادها عني فوراً قائلاً بكلمات سريعة :

– “اعذريني يجب علي أن أنصرف”

بعد إبعادي لها عني أصبحت ترى نفسها حثالة الأرض, تيبست في مكانها. أما أنا فقد اتجهت إلى الباب صامتاً دون قول أي كلمة, ثم أسرعت هي بإدراك ما يمكن أن يحصل إذا لم توقفني, فأسرعت تجري خلفي متوسلة متضرعة أن أرجع, لكن دون جدوى فقد كنت غادرت ولم أعد أقوى على النظر فيها أو حتى منح كلماتها المنتحبة التي أصبحت تئن بها الآن أي قيمة.. لقد انكشف كل شيء, هكذا تكون نهاية أي قصة من هذا القبيل .

**

و منذ هذا الصباح لم أرجع إلى البيت إلا في آخر الليل, و هذا ما لم تتوقعه هي أبداً ظناً مني أني سأتركها للأبد.. لقد كانت مستيقظة و فور أن رجعت هرعت إلي تقرع الباب و تناشد أن أتحدث معها, فتحت الباب سريعاً فتفاجأت لسرعة استجابتي, فهي لا تعرف أن سبب عودتي الآن لم يكن سوى لأنبئها أني سأغادر صباح اليوم و أؤكد لها أنه ما من داعي لتتوتر أو تخاف إذا ما كنت سأطلع زوجها على شيء مما حصل.

دخلت ترتعش بشدة.. تتكلم مترددة متوترة خائفة بكلمات مبعثرة:

– “لا..لا.. لا أدري ما الذي كنت أفكر به”

– “لا تخافي, لن أقول شيء, لن أتلفظ بشيء, أقسم بذلك”

رغم هذا فلم يرحها الأمر.. و هنا أردت المبادرة و شرح خطأنا الفعلي لها.. يجب طمأنتها من الداخل:

– “اسمعي يا حنين.. هل تعلمين لماذا أوقفتك؟ لأني وضعت نفسي مكان أخي ! هل تتوقعين مني أن أرضى لو كنت لأعمل و أجلب رزقي بينما أترك أخي مع زوجتي ليعبث معها ؟ تتوقعين ذلك ؟ أنا لا ألومك أبداً , كل ما أطلبه منك أن تضعي نفسك مكانه أيضاً “

و هنا فاجأتني بأن صاحت علي دون إرادة منها, انفجرت و كأنها كانت تريد وصول منحى الأحداث إلى هذا المستوى منذ زمن طويل قائلة :
– “ماذا ؟! أضع نفسي مكانه ؟! مكان شخص لا يهتم لي؟! شخص يتركني وحيدة لأشهر.. شخص لا يعلم أحد ما الذي يفعله في بعده عني في بلاد كل شيء فيها مباح ؟! أنت من عليه إعادة التفكير أتفهمني ؟!”

الآن فقط انتبهت لمدى تشكيكها فيما يفعله زوجها لأشهر ينامها وحده في الخارج, لم أتوقع هذا منها, الآن فقط علمت أن الأمر يؤرقها منذ مدة ولم تعد تقوى على كتمانه في صدرها أكثر من ذلك, فأشرت بيدي إليها طالباً الهدوء وعدم الصياح تجنباً لأي مشكلة قد تفتعلها العصبية بيننا, ثم أخذت نفساً عميقا و رحت أتكلم محاولاً إبطاء تدفق جريان الأمور :

– “حنين.. أنا لا أوافقك في النقطة الأخيرة , فهي لا تخصك, فإذا فعل أحدهم شراً معك فهل عليك بمقابلة المثل بالمثل؟! هذه فكرة خاطئة عليك استئصالها من رأسك..”

قاطعتني مغتاظة:

– “بالطبع ستقول هذا لأنه اخوك, أو ربما لأنه رجل و الذكور معصومون عن الخطأ بينما الإناث يأخذن كل اللوم !”

ومن جديد رحت أهدئها :

– “لا أبداً , يستحيل أن أقصد ذلك, هل تتوقعينه مني حقاً ؟ أنا فقط أحاول أن أقول أنه عليك تعلم أنه إذا فعل بك شراً و أحسست به فقط فعليك بالدعاء, أما إذا تيقنتي و كان لك دليل فمن حقك الدفاع عن نفسك بالطريقة التي تريدينها, لكن بغض النظر عن هذه النقطة, فإني أوافقك فيما قلتيه في أول الأمر, و الآن فقط عرفت بما تحسين به, فقط بعد اعترافك, وأنا آسف لأني لم أدرك هذا في وقت مبكر, إذا كنت لا تستطيعين إكمال مثل هذه الحياة, فعلي نصحك بالتالي.. يمكنك الاتجاه إلى الطلاق ! قد أصدمك لكوني أقول هذا في غياب أخي, لكن لا تخطئي بالظن أني قد أريد إبعاده عنك, أنت أدرى بما يناسبك, أنا فقط لا أتفق معه بهذه الطريقة من البداية, وأنت من عليها التقرير فهذه حياتك و ليست حياتي”

أخيراً بدأت ترتاح لإدراكها أني في صفها, فراحت تقول بتعاسة و بما يشبه طلب العون :

– “لا أستطيع الطلاق يا فهد , أنت تعلم نظرة هذا المجتمع للمطلقة, فكرت بذلك من قبل بما أن الفرصة سانحة أمامي كوني لم أنجب معه بعد, لكني أتمزق من الداخل عندما أحاول استيعاب ما ينتظرني, إذا أردت أن اتطلق فيجب أن تساعدني”

– “أنا؟”
استغربت :
– “بماذا أساعدك؟!”

بخجل قالت :
– “سأقبل بالطلاق بشرط أن تتقدم لأهلي و تخطبني”

هنا أحسست أني في المكان الخطأ فعلياً . مع من أناقش أنا؟ هل هذه المرأة تتعاطى الحشيش أم ماذا ؟ و ما زاد الطين بلة هو أني عندما لم أرد ظنتني أفكر أن ذلك ممكن ! فسارعت تقول بكلمات سريعة يملؤها التفاؤل :

– “انظر.. لازلنا شابين, وأنا لست أكبر منك إلا بسنة واحدة, من يمنعك من الزواج بي ؟ ألست جميلة كفاية في نظرك؟”

و عندها انفعلت عليها بعصبية دون أن أدرك :

– “المسألة ليست مسألة جمال يا هذه ! الزواج ليس جمالاً أو بحثاً عن المادة ! المسألة مسألة مسؤولية.. مسألة التزام.. مسألة إخلاص.. مسألة تفاهم.. هل فهمتِ ؟! الجمال يلعب دوراً ؟ نعم إنه كذلك, لا أحد بإمكانه نكران هذا, لكن بدون المفاهمة بين الزوجين فإن ذلك الجمال يتحول إلى قبح ! و العكس صحيح, أريدك فقط أن تتذكري كم من عائلة تفككت بسبب اختيار الزوجين لمثل هذا المعيار بينما تركا عامل التفاهم الذي هو الأهم سطحياً فارغاً , وكم يجب أن يتكرر الأمر حتى يعي الناس ذلك ؟!”

أخبرتكم من قبل أني أنجرف وراء انفعالاتي و أظهرها بصورة لا أستطيع كبحها, وهذا ما حصل الآن تحديداً , انفعالي الطائش جعلني أتعرق و أعض على شفاهي مغتاظاً و كأني كنت أخاطب جميع البشر الذين لا يعني الزواج لهم أكثر من ذلك, لقد كانوا يثيرون حنقي لأبعد الحدود, إلا أني أسرعت بالانتباه لوجهها و إذا بي أرى عينيها ممتلئتين حيرة و ارتباكاً , فخفضت صوتي و انتقلت لأجيبها عن النقطة الأهم :

– “لم أقصد أن أصيح عليك, أنا آسف, هذا الكلام ليس موجهاً لك بالخصوص , ولم أقصد أن معايير الزواج تلك تعوزك, أنت زوجة جيدة فعلاً . أما للرد عن عرض الخطبة فسأقول لك.. أولاً يا حنين أنا مجرد طالب لا يملك أي مال, ثانياً أتعرفين نوع السيناريو الذي سيكون عليه لو اتبعنا هذه الطريق ؟ هل تتوقعين مني أن أصل لهذه الدرجة من النذالة مع أخي ؟! بعد أن يدرك أن زوجته تطلقت بسبب علاقة دنيئة جذبتها إلى أخيه الذي كان يقيم معها و يحرص عليها في غيابه, أخاه الذي سيتضح حينها أنه قذر فعل و فعل معها ! هل هذه هي الصورة التي تريدين إظهاري بها للناس ؟”

رأيت عينيها تحمران و اليأس يطغى عليها.. فواصلت القول :

– “اسمعي يا صديقتي حنين.. إن أفضل خيار لنا الآن هو الهدوء و الصمت و الابتعاد عن بعضنا, و لك الحق في اختيار ما ترضينه لاحقاً , أما مسألة اندفاعك و تقبيلك لي فإني لن أذكرها مهما حصل”

و فاجأتني بأن انفجرت علي صياحاً مما جعلني أتراجع فزعاً حيث قالت :

– “ماذا ؟! من أوهمك بهذا يا هذا ؟! متى ابتدع عقلك هذا ؟! أنا اندفعت عليك ؟! لا بل أنت من اندفع علي ! و سأخبر زوجي بهذا, أقسم أني سأفعل إذا تركتني وحدي ! ستبقى معي طوال الوقت و إلا أخبرته”

هنا تيقنت بوضوح تام أني اقترفت خطأ كبير في حقها بدوري, تأكدت من شكوكي السابقة في هذا الإطار, فلو لم أكن متواجداً معها في المنزل لن تصل أبداً إلى هذا المنحى, ربما سترضى بالحياة التي هي عليها و تكملها, أدركت أني كنت المحفز الذي أخرج فيها هذه الرغبات, و الأهم أني أدركت أنها لا تقوم بهذا لأجل الطلاق أو عدم تحمل غياب زوجها فحسب, بل لأنها تقوم بهذا لتتمسك بي و لا تسمح لي بالإفلات مهما حصل ! إنها تريد محاصرتي الآن ليس إلا, ولم تكن لتتجرأ و تفكر بالطلاق أبداً لو لم أكن موجوداً معها. ولقد كان واضحاً أيضاً أنها قالت هذا تحت وطأة خوف شديد من الجحيم القادم الذي ينتظرها وحدها, وكله بسبب أنها عرفتني ! فأجبت عليها بأسى كبير :

– “هل حقا ستسلكين هذه الطريق ؟! هل حقاً ستهددينني؟ كم سيبقى من شرفك إذا فعلتِ هذا ؟”

صاحت علي بصوت مسموم:

– “هاي اصمت أرجوك! هل تحسب أني صرت أهتم؟ لم أعد أهتم لأي شيء في هذا العالم أتفهمني ؟ انتهى أمري أتسمعني ؟”

وسقطت على ركبتيها لتجهش بالبكاء المرير, جلست تنتحب في صورة جعلتني أقشعر رغم توريطها لي معها. وبعد برهة اقتربت منها لأسمع شهقاتها فسمعتها تقول بصوت خافت باكي أشبه بالهذيان كلمات كادت أن تصدمني:

– “فهد أنا أحبك.. فهد أنا خائفة.. فهد أنا أحبك.. فهد لا تتركني.. فهد أتوسل إليك..”

و راحت تعيد و تكرر الكلام كأنما لم تعد تثق أو تدري إذا كان هناك منقذ لها, شخص يهتم لأمرها في هذا العالم.
عندها لم أجد مناصاً من توريط نفسي فجلست بقربها قائلاً :

– “حسناً .. سأتكلم مع أخي, سأجبره بالبقاء معك من الآن فصاعداً , هل هذا يرضيك؟”

رفعت رأسها لتثبت علي عينين حمراوين بائستين و تقول:

– “هذا مستحيل”

استفزني الوضع فنهضت من جديد و رحت أقول منفعلاً :

– “بل سيحدث ! ولو تحتم علي مواجهته و إرغامه على رؤية الصورة التي تركها خلفه. لن أقول أن كله خطأه فأنت تتحملين بعض الذنب عند اختيارك لهذا النوع من الحياة معه من البداية, لكن عليه الآن أن يلزم حدوده ! عليه أن يكون مسؤولاً عن عائلته هنا أو يأخذك معه, ذلك راجع إليه, وليس أنت فقط من سأجعله يحس بك.. بل سأخبره عني أيضاً , كيف له أن يضعني في مثل هذه المواقف ! لقد طفح الكيل و سأجعله يراعي شعوري هذه المرة مهما حصل, صدقيني عندما أقول لك أننا سنضعه عند حده وسيكون كل شيء على ما يرام, فلا تخافي أرجو..”

و قبل أن أكمل وجدتها ترتجف بصورة تكاد تكون شبيهة بمن تصيبهم نوبات الصرع, استبد بها الذعر كأنما أصابها مس من الجن ! هل يخيفها لهذه الدرجة ؟ أم تخشى أهلها ؟ أم ماذا؟
و بينما هي شبه غائبة عن الوعي في تلك الحالة من الجنون الهستيري, ارتمت على قدمي تقبلهم و تقول :

– ” أرجوك ساعدني.. أرجوك ساعدني.. أرجوك.. أتوسل إليك”

أسرعت بجعلها ترفع رأسها بيدي رغماً عنها, وجهت عينيها إلى عيني ففطرت قلبي ألماً , ثم لم أعرف كيف حتى وجدتها تحتضنني بقوة كبيرة, أو ربما أنا من فعلت, ربما لأنه حتى هذه اللحظة فقط أين عرفت قيمتها.

**

إلى كل زوجة اتهمها المجتمع أو شخص ما بأنها خائنة, بأنها عاهرة تجري وراء المال أو شيء من هذا القبيل, إني فقط أريد أن أعرف حقيقة ما بداخلك, وكيف بدأ الأمر معك, هل ما يقولونه هو الحقيقة فعلاً ؟ أو أن كل ما كنت تحتاجينه قبل النزول إلى هذا المستوى البذيء هو صدر حنون يضمك إليه؟ يبعد عينيك عن رؤية أوساخ الأرض, يبعدك عن الانقياد لشهوات ستضرك فقط حين تفتحين عينيك على ما تفعلين؟

بعدها بلحظات أدركت أني أهذي بأفكار لا أدري من أين حلت علي, يبدو أن هذه اللحظة أخذتني بعيداً ليس إلا, فالصواب بيّن و الخطأ بيّن في ديننا الحنيف, لكن في هذه القصة.. أين الصواب من الخطأ بعد كل هذا ؟ وكيف من الممكن أن يتم إصلاح الأمر ؟ كيف سيتم حل هذه المعضلة التي راحت ضحيتها فتاة شابة كل ما أرادته هو إنشاء أسرة صالحة ؟ أنا فعلاً لا أدري أين الطريق ! و كل ما يبدي هو أن أستغل الثلاثة أيام المقبلة قبل رجعة أخي لعلي أجد حلاً ما يخرجنا جميعاً من هذه الورطة.

**

مرت الثلاثة أيام بسرعة, و بعد أن فكرت فيها ملياً تم إيجاد و بفضل الله طريقاً جيدة لنا جميعاً . لقد اتخذت قراري هذه المرة, قراراً صارماً لن أحيد عنه مجدداً , ومهما كان الضرر الذي سأتلقاه من مواجهة أخي فإني هذه المرة لن أتراجع أبداً .

وصل أخي بعد غياب شهر و دخل الصالة فوجدني مع زوجته في غرفة الاستقبال جالسين قرب الطاولة, مما أطلق ضحكة سخرية و قال مازحاً :

– “أوه من كان يتوقع هذا ! أخي الصغير قرر أخيراً أن ينزع قناع خجله ههه”

أزعجني كلامه جداً , إنه لا يشعر بشيء مما هو يحصل, إلا أني لم أظهر ذرة واحدة من انزعاجي و رددت عليه بابتسامة مهذبة, لقد كان مزاجه صافياً مفتوحاً للكلام و الضحك, جلسنا نتحدث بعض الوقت عن أشياء عابرة فقط لأتحقق من ذلك.. وكي لا تكون مفاجأتي له بذلك المقدار الذي أتوقعه من الصدمة. أما زوجته فقد كانت باردة صامتة لا ترد إلا بنعم أو لا, مما أثار فيه الريبة بعض الشيء و اضطر ليسألها :

– “عزيزتي ماذا هناك ؟”

و هنا قررت التحدث أخيراً عن الموضوع, نظرت فيه بنظرة مغايرة تماماً عما كنا نتحدث به وقلت:

– “أظن أنه حان الوقت, حان دورك الآن لتضع نفسك مكاننا”

أجاب متسائلاً :
– “ماذا تقصد؟”

– “سأخبرك, لكن أولاً و قبل كل شيء عليك أن تعدني أنك ستظل هادئاً أياً كان ما ستسمعه مني”

زاد في حيرته :
– “ما الذي حصل؟”

– “عدني أولاً ! عدني كذلك أنك لن توجه أي نظرة عدوانية إلى عيني زوجتك بينما نحن نتحدث”

بذكر زوجته بهذه الطريقة جعل عيناه تنفتحان على مصراعيهما, إضافة للحالة التي هي عليها زوجته الآن.. فصاح تلقائياً :
– “أخبرني ما الذي حصل؟”

– “قلت عدني أولاً .. سيحق لك فعل ما تريد فقط عندما أنهي كل كلامي.. اتفقنا؟”

فكر أن أفضل حل لسماع كلامي هو أن يهدأ فقال:
– “حسناً أعدك”

أخذت نفساً عميقاً و شرعت في التحدث:

– “أخبرتني من قبل أن أتناول الأكل مع زوجتك في أي وقت دعتني أليس كذلك؟ حسناً لقد فعلت دائماً فأصبحنا نتقرب لبعض قليلاً ..”

أوقفني بأن صاح في وجهي فجعل قلبي يقفز في مكانه و حيث قال :

– “هااي ! أغلق فمك ! إياك و قولها ! لا تخبرني بأن ذلك حصل, إني أحذرك ! أنت أخي فلا تخبرني أن الذي أفكر فيه حصل, و حتى لو أخبرتني فلن أصدقك أتفهمني !”

لقد كان منفعلاً بصورة جعلتني أرتعش, بدأت فكرة البوح تمحى مني تدريجياً , إلا أني استجمعت ما لدي من قوة فليس هناك مناصاً من المماطلة و تأجيل الأمر, فقلت بصوت متقطع :

– “إن.. ليس ما تفكر فيه هو ما حصل.. لقد كانت مجرد قبلة”

رغم ذلك فقد استفظع الأمر و إذا به ينتفض من مكانه بشكل همجي و ينظر إليها بقسوة قائلاً :
– “ماذا ! أيتها الخائنة!”

أجبته دون مراعاة لغضبه :

– “هاي ! ألم تعدني أنك ستهدأ حتى أكمل؟”

فوجه غضبه إلي :
– “اخرس أنت! أتسمع ! حان وقت رحيلك من هنا و للأبد.. انقلع”

لم ابرح مكاني و استجمعت كامل ما لدي من شجاعة وقلت :

– “أخي, صدقني ستفعل شيء فظيع ستندم عليه طول حياتك إن لم نختم هذا النقاش, لذا اجلس و اسمعني حتى أكمل كلامي, رجاءً اجلس”

جلس و هو حانق للغاية, ومضت بضع دقائق وهو يرمق زوجته متجهماً حتى هدأ و أراد إكمال الحديث لوجه عائلته فقط, فقال :

– “هل في رأيك هناك ما يبرر هذا ؟ هل هناك ما يبرر خيانة شخص وثقت به و منحته كل ما يحلم به ! هل ينقصها شيء فقط أخبريني!”

– “حسناً , أولاً رجاءً لا تتكلم حتى أختم كلامي, لطالما تعودت أنك الأخ العقلاني الذي يستمع للمنطق, فلا تخيب ظني الآن رجاءً , اتفقنا”

قال مغتاظاً :
– “حسنا هات ماعندك, أرجو أن أجد مبرراً قوياً كفاية لأني لن أقوى على نسيان هذا الفعل أبداً “

أخذت نفساً عميقاً و بدأت, وكلي أمل أنه لن يقاطعني حتى النهاية:

– “لا أقول أن هناك ما يبرر الخيانة, لكن عليك أن تعرف أنك لم تمنحها سوى قفص ستموت وحيدة فيه”

لكن أملي تبخر من بدايته. أمسكني من عنق قميصي و حاول رفعه عالياً و هو يقول:
– “ماذا قلت؟ قفص تموت فيه وحيدة ! من أين لك هذه الجرأة؟ خائف أن تنتهي علاقتي بك للأبد بعد أن أكسر عظامك!”

رددت عليه ببرودة:
– “تكسر عظامي؟ هل هذا ما علموك إياه في الخارج؟ ان تؤذي أخاك الأصغر؟”

– “اخرس وإياك و التدخل بطريقة الحياة التي أعيشها مع زوجتي أتفهم!”
ثم دفعني بعيداً بقوة قائلاً :
– “انقلع من هنا!”

كنت أشعر بأسى حقيقي, كتمت غيظي و قلت بحزن شديد:

– “لماذا يا أخي؟ لماذا تعاملني هكذا ؟ أرجوك دعني أتحدث عنها فقط إذا سمحت, هي من تريد هذا و كلانا يعلم أني لم أكن لأتدخل لو لم تطلب مني المساعدة, هل تراني معتاد على حشر أنفي فيما لا يعنيني؟ أخبرتك في البداية أنه حان الوقت لتضع نفسك مكاننا, ما الذي كنت لتفعله لو كنت مكانها ؟ وسط هذا البيت الواسع الفارغ ؟ إلى متى ستستمر بإقناع نفسك أن هذه هي الحياة التي خلقت من أجلها و عليك تحملها ؟”

ضرب بيده الطاولة قائلاً :
– “اخرس! هل تحاول أن تقول لي أن أي فتاة وحيدة من حقها أن تفعل ما ترغب فيه ؟ يا لك من تافه صبياني, لا تحاول إقناعي بهذا أبداً أيها الطفل ! هل تعلم ماذا سيفعل هذا المجتمع المحب للفضائح لو سمع بما صنعته ؟ كان عليها أن تحمد ربها أنها تزوجت و تخرس ! المئات في مثل سنها في بيت أهلهم مكتفيات سعيدات.. فماذا ينقصها مع زوج مثلي؟”

كانت كلماته مؤثرة جداً على زوجته فقد ألقيت نظرة إليها فوجدت شكلها مثير للشفقة وهي على وشك الانفجار باكية, وعندما توقف أخيراً رديت عليه:

– “لا أقنعك ؟ حسنا لا بأس.. إذاً فأنت هو الذي تريد أن تقنعني أن امرأة عانس في البيت هي مثل امرأة متزوجة يتركها زوجها لفترات طويلة أليس كذلك ؟ هل أنت في عقلك لتقنعني أن لهما نفس الرغبات ؟ بل الأكثر من ذلك هل تحاول أن تقنعني أن امرأة في بيت والديها يجوز مقارنتها مع امرأة وحدها تختلي لأشهر بأخ زوجها الذي هو في مثل سنها تقريباً و الذي قلت لي أنت بذاتك أنه يجب أن أجلس و آكل معها؟ هل أنت غافل لهذه الدرجة فعلاً أو أعمى أو ماذا ؟! و هل تظن أنها ستخبرك يوماً بالمشكلة التي أوقعتها فيها ؟ بالطبع لن تفعل.. لأنك زوجها و هي تحترمك كثيراً ..”

– “تحترمني؟ لو كانت تحترمني لم جلبت العار لنفسها بهذه الصورة الكريهة”

– “دعني أكمل رجاءً ! إنها تحترمك و تقدرك, و إنها لن تتجرأ أبدا على حرمانك من عملك حتى لو كان على حسابها, كل ما بيدها هو البكاء بصمت, فهل هذه عدالة في رأيك؟”

و إلى حين سماعه لكلماتي الأخيرة رأيت تغيراً طفيفاً بدأ يتجلى في تعابير وجهه, لقد بدأت أصيبه. فهل سيحل الحزن و الأسى محل الانزعاج يا ترى؟ أخذ ينظر إلى وجه زوجته المحمر الحزين و يفكر فيما قلته بينما تركته ينغمس مع هذه اللحظة قليلاً ثم رحت أكمل بعد أن خفضت صوتي بأشد ما أملكه من نبرة مؤثرة :

– “أخي.. أنا لا أدافع عنها كلياً , هي بدورها مذنبة من البداية, اختيارها للحياة معك كانت خطيئتها وحدها, لم يرغمها أحد على ذلك فعليها تحمل المسؤولية, لكن فقط انظر اليها, لقد خسرت كل شيء, حتى صديقاتها لم تعد لهم رغبة في زيارتها, انظر إلى أين ستؤول الحال بها, إنها متضررة عاجزة لا تدري ما تفعل, أمعن النظر فيها ثم أخبرني.. لكن إياك أن تفهمني خطأ ! أنا لا أقول أن لحظة خيانتها لك كانت تصرفاً صحيحاً , ولو كانت لمدة لثانية واحدة, ذلك غير مقبول أبداً من جهة شرفها او دينها او ثقة زوجها او اي جهة اخرى, لا شيء يبرر الخيانة. لكن كل ما أقوله أنها ليست بتلك الصلابة التي تؤول بالشخص إلى الاختناق في النهاية, وليست بذلك الضعف الذي يقود الإنسان خلف نزواته و هوى نفسه دون وضع العواقب نصب عينيه, كل ما أقوله أنها إنسانة عادية بسيطة جداً فعلت ما كانت لتفعله أي أخرى مكانها. فهل حاولت وضع نفسك بدلها أخيراً ؟

والآن دوري, لنتحدث عني.. عن الاخ الذي حتمت عليه أن يتفادى فتاة طيبة و يختلق لها الأكاذيب كلما دعته, هل أحسست بهذا ؟ شعور الإحراج لدي و شعور الإحباط لديها؟ لماذا يتحتم علينا أن نمر بهذا كل مرة ؟ فقط ضع نفسك مكاني و فكر !”

أحس بحرج كبير من الوضع الذي لم يتخيل أنه تركني عليه, لكن لم يكن يهمني أمري بقدر أمرها صدقاً , فأعدت توجيهه للنقطة المهمة :

– “أكرر كلامي.. دقق جيداً قبل أن تحكم ! هل تصدق إذا قلت لك أنه من قوة بكائها أسمعها أحياناً تبكي وهو يفصل بيننا طابق كامل ؟ هل ستصفها بالضعف؟ أم ستضع نفسك مكانها فقط و تجرب ؟ إنها فتاة بعد كل شيء.. فتاة تزوجت من أجل السعادة.. قلت لي أن مجتمعنا يحب نشر الفضائح.. أجل معك حق.. لكن فيما يبهجهم فقط و يجعلهم يفرغون نقائصهم في الاستماع لعيوب الآخرين.. فهل هذا المجتمع الذي تتحدث عنه سيهتم لحالتها وهي هكذا ؟ هل سيبالي أحد ما لدموعها ؟ لا أبداً ! سيهتمون فقط لكونها تخرج كذا و كذا.. واذا كانت ستكمل حياتها وحيدة غارقة في البكاء.. فأخبرني لماذا تزوجت هي من الأساس؟ و لماذا تزوجت أنت أيضاً ؟ قالت زوجتك انها ترغب بالإنجاب لكن الله لم يوفقها لذلك, هل أجريت فحوصات لترى من هو العاقر منكما ولتقوم بالعلاج اللازم؟ أو أنك غير مهتم للأمر من الأساس؟ ما الذي تعنيه لك ؟ ما المغزى من هذا الزواج أصلاً ؟!”

أنا أعرف المغزى رغم سؤالي ، فأخي تزوج كي يثبت لوالدي أنه رجل صالح كما أراداه أن يكون, ولكي يكمل عمله بهدوء دون إزعاج, ولكي يحصل على أطفال أيضاً.. لكن ما يزعجني أنه لا مبالي تماماً بالحالة التي هي عليها زوجته و أنها لم تنجب, ومن درجة لامبالاته أنه تجاهل سؤالي و رد بطريقة يتظاهر فيها أنه لم يفهم المقصد من كل هذا قائلاً :

– “حسناً لقد سامحتها.. لكن ألم يكن من الأفضل إخفاء الأمر و التوبة عن الخطأ فحسب.. لا أفهم الدافع من إخبارك لي كل هذا ؟ لأجل تبرير قبلة ؟”

كيف له أن يقول هذا ؟ مجرد تبرير قبلة؟ لقد أحسست بالخجل مكانه ! ثم ألم ينتفض في البداية بهمجية عندما أخبرته بها, بدأت أشك الآن أن ذلك لم يكن إلا محض تمثيل ليظهر لزوجته أنه هو مهتم لأمرها. رغم كل هذا حاولت ضبط نفسي وأجبته بهدوء بارد دون أي انزعاج :

– “الغرض من ثرثرتي وإخبارك بكل هذا هو لأنه بعد رحيلي من منزلك سيتحتم عليك البقاء مع زوجتك للأبد.. ستترك عملك و تهتم لعائلتك”

رد ساخراً:
– “ههه أوه يا للأخ المهتم بعائلة أخيه التي نسي أنها لا تعنيه, حسناً لا بأس.. هل تتوقع مني إيجاد عمل ملائم لي هنا بعد كل ما وصلت إليه هناك ؟ أنت تعلم أن طلبك هذا مستحيل”

– “أجل أعلم.. لكن يمكنك أخذها معك, تدعي التفتح أليس كذلك؟ إذا كان كذلك فما العيب لتأخذها ؟ هل خائف عليها من الأوروبيين؟ هل خائف عليها لأنه لا يوجد حواجز تمنعها من التمسك بدينها في لحظة غفلتك ؟ ألا تثق بها ؟ ألا تحس بالتناقض في نفسك ؟ أو ماذا ؟ هيا أجبني؟”

– “صدقني لن يعجبك أبداً أن ترفع ضغطي”

– “أنا أعتذر, فقط أجب على هذا السؤال ببساطة, لمَ لا تأخذها معك؟”

– “لأن هذا غير ممكن.. هذا هو جوابي و لن أزيدك أكثر من ذلك”

– “حسناً.. سأعتبر الرفض جواباً أيضاً , لكن صدقني لن يسرك رد زوجتك منه, فقد اتخذت قراراً بالطلاق إذا تركتها وحيدة مجدداً “

نظر فيها زوجها ببغض شديد كأنه ضحية مؤامرة بدأت منذ مدة طويلة, فأسرعت بإكمال كلامي:

– “ليست هي وحسب.. لن يعجبك ردي أنا أيضاً , إذا تطلقتما فسأتقدم لخطبتها فوراً “

لم يتمالك نفسه و تحول الانزعاج إلى ضحك. انفجر علي ضاحكاً بصورة مقززة ثم قال :
– “أنت ستتزوجها؟ لا تضحكني رجاءً !”

– “ليس لأجلي بل لأجلها.. إذا لم تقبل بالبقاء معها و تحتم عليها الطلاق فستكون بحاجة إلى شخص يسترها من فضائح هذا المجتمع البغيض, أما أنا فأخبرتك أني لم أعد أهتم برأي أحد, سأتقدم لخطبتها فوراً و سأتزوجها العام القادم”

– “ليس هذا ما قصدته ! ما الذي تمتلكه ليخولك بالزواج بها أيها الأحمق؟!”

– “إذا كان سؤالك لتهزء بي لقلة إمكانياتي الحالية فسأطلب منك أن تغير نظرتك تجاهي من الآن فصاعداً و لا تقلل مني, أما إذا كان سؤالك كأخ مهتم بأخيه فسأقول لك أني أحترم اهتمامك و أبلغك ألا تقلق علي فأنا سأتصرف كرجل مسؤول مهما كانت عليه الظروف. سأنهي دراستي هذا العام و أعمل بجد حتى أكسب ما يكفيني لأتزوجها”

– “هه حسناً.. يا لهذا التطور المفاجئ و يا لهذا البطل الشهم الذي يريد أخذ زوجتي, حسناً حسناً.. سآخذ كل كلامك بعين الاعتبار, لكن يا عزيزي.. ألا تحس أنه ليس من حقك أن تملي علي ما أفعله؟”

كان من الواضح أنه يكتم غضباً كبيراً في داخله يكاد أن يتحول إلى حقد قوي علي. فأسرعت أجيب عليه:

– “أملي عليك ما تفعله ؟ لا لا لا.. لقد فهمتني خطأ يا أخي, أنا لا أملي عليك ما تفعله”

بدأت كلماتي تتلعثم و الأفكار تتبعثر في رأسي, لأن هذا هو الرد الوحيد الذي لم أتوقعه منه إطلاقاً منذ بداية تفكيري في نتائج هذا اللقاء مع أخي. بلعت ريقي وصمت لبرهة من الزمن, أحسست أنه يجب أن أحرص على انتقاء كلماتي جيداً هنا كي لا أخرب الأمر في النهاية بعد كل هذا العناء, تابعت بعد أن فكرت قليلاً :

– ” أنا آسف إذا جعلتك تحس بهذا, يستحيل أن أملي عليك ما تفعله, أنا فقط مجرد ناصح صغير, بل في الواقع.. أنا لم أقل شيئاً ! أنت من كان يتكلم, ذلك الكلام كان حبيساً فيك منذ مدة و ها قد خرج الآن على لساني, هذا ما في الأمر. صدقني يا أخي أني أعرف جيداً ما في داخلك, أعرف أنك تحتقر مثل هذه الحياة و هذا المجتمع, في داخلك أنت لا تريد أن تتزوج فتاة تجعلها تعيش على هذا النحو, أنت تفعل هذا مكرهاً أو لامبالياً , ألست محقاً ..؟ هل ستتأثر إذا تركتها يوماً ؟ لا أظن ذلك. أما هي فتعتبرك كل شيء! إن هذا الزواج يعني لها الكثير”

وهنا قد حاولت التركيز له قدر الإمكان عن مدى احتقاره لتفكير هذا المجتمع الذي بسببه فضل أن يذهب و يعمل في الخارج, لا أنكر أني استغلّيت هذه النقطة ضده, فرغم أني لا أتفق معه على هذا التفتح الذي يدعيه إلا أنها كانت نقطة ممتازة إذا أردت حسم هذا النقاش لصالحي.

جلس ينظر إلى السقف لبضع لحظات ثم قال :
– “حسنا, هل يمكنك أن تمنحني بضع دقائق أفكر فيها, أريد أن أختلي بزوجتي بعض الوقت”

– “بالطبع خذ راحتك “

– “ههه راحتي, يبدو أني في يوم الراحة بحد ذاتها”

خرجت من الصالة و اذا بي أسمعه يسألها:
– هل تحبينه؟
لم تجد ما ترد به, فقال:
– “حسنا لا تهتمي, المهم هو هل سيوفر لك السعادة التي فقدتيها معي؟ الن تفكري جيداً في هذا؟”

– “فكرت كثيراً , أنا موافقة على الزواج به إذا أقسم أنه لن يتركني وحدي”

– “حسناً “

هذا كل ما سمعته منهما قبل أن أغادر المنزل إلى الخارج لأريح عقلي قليلاً وكلي أمل بنجاح الأمر, و بعد حوالي نصف ساعة اتصل بي أخي فعدت للمنزل و قال لي :

– “ماذا عن المجتمع يا فهد ؟ عليك أن تفكر جيداً , هل تريد أن نجعل عائلتنا أضحوكة أم ماذا ؟ فكر في والدينا “

– “أجل فكرت فيهم كثيراً و قراري نهائي. لم تعد تهمني نظرة الناس إلي, لقد انتهى هذا الشوط فعلياً و سأقتلعه من رأسي للأبد, وكل ما بقي يهمني من الآن فصاعداً هو عائلتي.. رضى والدي و أن نحرج أنا وأنت متفقين من هنا دون ضغائن, أما المجتمع فتباً له, إذا كان لدى أحدهم رأياً فليأتي و يتحدث به في وجهي كي أرد عليه. أخبرني لماذا عسانا نخاف من مختبئين يتحدثون خلف ظهورنا ؟”

أما حنين فقد أخبرتني من قبل أنها ستقوم هي أيضاً بإقناع والديها مهما كلفها الأمر, كي يتقبلا الخطيب الجديد دون قلق على حالته المادية أو الاجتماعية أو كونه أخاً للزوج السابق الغير مناسب. عليها أن تقنعهم جيداً بما تعلمته من هذا الدرس و أن المال سيأتي عاجلاً أو آجلاً , ستخبرهم كم هي نادمة عندما حسبت في البداية أن المال هو كل شيء, فقد وجدت نفسها الآن تحب شخص لا يملك شيء سوى دراسته, و راضية بإكمال حياتها معه مهما حدث. إلا أن هذا غير مقنع طبعاً فسيتبقى عليها إخبارهم أني سأعمل بجد بعد دراستي و أحصل على ما يكفي من أجل أن تعيش معي براحة ورضى, أجل إن المال ليس كل شيء.. بل المهم أن تجد رجلاً يقف بجانبها فعلاً و لا يهجرها أبداً .

والان تبقى فقط رد أخي, فقلت له:
– “الأهم من نظرة الناس هو هل تشاورت معها جيداً لتقرر الآن؟”

– “أجل.. سأطلقها هذا الأسبوع”

– “حسنا يا أخي.. القرار يظل بيدك.. ولكي لا أجعلك تتسرع سأمنحك مهلة أسبوع تظل فيه مع زوجتك.. فنصف ساعة غير كافية للتقرير.. أو ربما من الأفضل أن تقضيه في بيتك وحدك.. أو بأي شكل تحب.. المهم أن تفكر بوضوح في طريقك.. ثم تقرر إذا كنت ستبقى هنا معها أو ترجع لشغلك ذاك و تتركها.. و صدقني عندما أقول لك أن زوجتك جوهرة لن تجد مثلها. وتذكر أن كل ما قمنا به لم يكن سوى قبلة لم تدم ثانية واحدة حتى انتبهت هي لفظاعة ما ستقوم به, و إذا كنت تشك أننا اقترفنا أكثر من ذلك فسأذهب لأحضر المصحف الشريف فوراً و أقسم عليه أمامك”

– “لا داعي لقد صدقتك.. لقد وصلت رسالتك.. ولا داعي أيضاً لإهدار الوقت أكثر من هذا لأجل القرار, إن قراري نهائي ولن أرجع فيه.. و أنت تعلم أن عملي يعني لي كل شيء.. الزواج لم يكن بالنسبة لي إلا للحصول على أولاد أعمل لأجلهم وأشاركهم المنفعة.. أما عملي هذا فهو كان و لازال طموحي الذي سأواصل الارتقاء به حتى أصل لذروته و من المستحيل أن أتخلى عنه”

عم صمت طويل لم يجد أحدنا قول شيء, ثم أراد أخي توعيتي ظناً منه أني تسرعت قائلاً :

– “هل أنت متأكد أنك لن تندم أبداً على الزواج من الآن؟ تذكر أنك قلت بنفسك أنها هي لم تفكر بعناية في البداية لهذا ندمت في النهاية, فهل أنت حريص ألا تقع مثلها؟”

– “هي لم تفكر بينما أنا فكرت ثلاثة أيام هه, ثم إني إذا وقعت يوماً فسأكون رجلاً لديه زوجة تخفف عنه على الأقل, و أهم شيء ألا تنسى وجود الله بجانبك, لذا أظن أني سأكون بخير”

– “حسنا يا أخي, بما أنك مصر على هذا فسأمنحك هذا البيت لتعيش فيه”

– “لا.. لا..”

– “تمهل, أنا لم أقل أن تأخذه للأبد, سيبقى ملكي و لكن بما أني أعمل خارج البلد فهو فارغ بلا فائدة, لذا يمكنك أن تعيش فيه حالياً و تكمل دراستك حتى تعمل و تشتري منزلاً أو شقة بنفسك, و إلى ذلك الحين سترجعه لي”

لقد أسداني معروفاً كبيراً سيسهل علي الكثير, لذا لم تكن لدي الجرأة للرفض و أسرعت فوراً لأعانقه.

انتهى العناق بيننا إلا أني أدركت أنها ليست بتلك النهاية السعيدة التامة, فقد ألقيت نظرة إلى عينيه و تفحصتهما بعناية فقرأتهما, أخي سيضمر لي بعض المشاعر السلبية من الآن و صاعداً رغم كل ما قاله و ما سيفعله, حتى لو لم تكن كراهية واضحة و مباشرة, فستكون على الأقل احتقاراً داخلياً طفيفاً لا يمكن إزالته لفترة وجيزة من الزمن. وربما سيستبد به الغضب كلما مرت على عقله ذكرى هذا الطلاق البغيض اللعين الذي مر على هذا النحو.

لكن لابأس فأنا لم أتعمد الإضرار به, سيرجع مجدداً إلى عمله خائباً محبطاً لكني متيقن أنه سرعان ما سينسى ذلك و يترفع عنه, إنه أخي و أنا أعرف جيداً نوع نظرته لمثل هذه الأمور.

**

بقي فقط سؤال واحد أخير.. و هو السؤال الذي تطرحه الآن على نفسك عزيزي القارئ :
هل ستخونني حنين مثلما فعلت مع أخي؟ و الجواب هو ربما نعم, و ربما لا.. أنا لا أعرف عنها الكثير فلا يمكنني الجزم, و لست ساذج كفاية لعدم إدراك أن موقفاً أو موقفين ليسا كافيين لتغيير جذري لإنسان بالغ مهما كانت شدة تأثيرهما. توقع أي شيء من هذه الحياة, لكن فقط كن على يقين أن تصرف الشخص نابع من تأثير المحيطين به, و كوني سأصبح زوجاً لها يعني أني أكبر عنصر مؤثر على قراراتها. لا أقول أني كل شيء و إنه إذا توفر الزوج الصالح فيستحيل على الزوجة أن تخون, بل أقول فقط أنه يبقى مؤثراً عليها, فهناك نسب أخرى من نصيب طباع لا تتغير, طباع نكسبها من ملاحظة ما حولنا منذ أن تفتح أعيننا على هذا العالم, و تنمو تلك الطباع فينا لتحدد لنا مقوماتنا الشخصية و ربما لن يستطيع أن يؤثر بنا أحد لتغييرها.

لذا فالخلاصة هي أن تكون عنصراً إيجابياً فعالاً في حياة من يهمونك و دع الباقي على الله تعالى.
و طبعا أنا لا أقول كلامي هذا كي أتهم الجنس الأنثوي بأنه الوحيد الذي يرتكب مثل هذه الحماقات و أدينهم على حساب الذكور في قصتي الصغيرة هذه, بل كلامي موجهاً لكلا الطرفين.. فكم من زوج خان زوجته و دينه من أجل عاهرة عابرة, حتى لو كان له مع زوجته أطفال فلن ينظر إليهم وكل ما سيهمه هو إرضاء رغباته الطالحة المنحطة فقط, و إذا تجرأت زوجته لتفعل مثله فسينبذها و يجعلها ضحية للفضائح بينما يظل هو الشريف النزيه أمام الناس. وأبسط مثال هو أنه و رغم كل انفعالات أخي فسيظل ما يفعله في تلك البلاد الأجنبية أمراً مبهماً غير معروف, لذا لا يمكننا الحكم أبداً .

 

تاريخ النشر : 2018-07-19

وسيم زبيش

الجزائر
guest
64 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى