أدب الرعب والعام

النظرية المستدامة

بقلم : عائشة – البحرين

كنت من ضمن الفريق الاستكشافي للبحث عن الأنواع الجديدة من المخلوقات الدقيقة في سيبيريا

“يا إلهي !” قلت بصوت منخفض معبراً عن الألم الحارق في يدي، حاولت أن أزيح الصخور بحذر ولكن دون جدوى فقد كانت مجموعة كبيرة من الصخور متراكمة فوق بعضها أي حركة بسيطة وسينتهي بي الأمر ميتاً مهشم الوجه والجسد، لذا يد مكسورة أفضل من موت مريع بالإضافة إلى أن جسدي ضعيف حالياً لا أدري إذا ما كنت قادراً على الصمود بشكل أطول إلى أن تأتي النجدة – لحظة لم أطلب النجدة بعد ! أين جهاز الإرسال؟ ربما هو في جيب السترة…. كلا إنه ليس هنا ربما في الجيوب الأخرى…لنرى كشاف, كاميرا حرارية , أصداف بحر من شاطئ نيوزيلاندا لا أعلم لماذا أحضرتها , عصا قابلة للتمدد , ملعقة , حلوى بروتين…..أوه لا لا لا لا ! إنه في حقيبة المعدات ! لابد من أنها قربية في مكان ما أذكر أني أحضرتها معي حينما دخلت هنا ربما علي فقط أن … لكن يدي عالقة حركة واحدة فقط و سأكون في خبر كان.

لم أكن قادر على فعل شيء ، شعرت بالتعب و النعاس و البرودة تكاد تنهش عظامي ، أغلقت عيني ببطء “الفضول قتل القطة ” قلت بصوت غير مسموع مؤنباً نفسي المتهورة في الحقيقة كانت تلك مقولة أمي التي كانت ترددها لي في كل مره أكاد فيها أن أقتل نفسي – أو ربما كما تظن هي ذلك –

حينما كنت في العاشرة، كان في الحديقة الخلفية للمبنى السكني الذي كنا نعيش فيه أنا و والدتي شجرة ضخمه عمرها ما يقارب الـ 100 عام كما كان يقول مؤجر الشقة، كانت ضخمة ذات فروع ممتدة طويلة لأعلى و كأنها تحاول الوصول للسماء بفروعها الكهلة التي أعياها الزمن ، في كل مساء أخرج من الشقة خلسة و معي أحد كتب المكتبة و لحاف و خوذة بها كشاف صغير، كنت أصعد الشجرة بهدوء و حذر لكي لا يسمعني أحد، ثم أجلس على أحد الأجذع السليمة و أغطي نفسي ببطانية وأقرأ.

كانت الموسوعات تستهويني كثيراً وكذلك روايات المغامرات ذات الأسلوب البسيط والمليء بالإثارة، كان من الغريب للطفل في هذا العمر أن يمضي جل وقته في القراءة ويترك اللعب واللهو مع من في عمره، ولكني رأيت العكس تماماً الكتب كانت بمثابة رحلة لا نهائية مليئة بالشخصيات الخرافية والأحداث الشيقة، أحببت التنزه في بساتين الكتب مع تقلب رياح الصفحات ونسيم الكلمات الحاملة لعبق رائحة الحبر الساحر. كنت شخصاً مهووساً جداً بالكتب أو ربما بكل شيء أراه مكتوباً أمامي سواء الجرائد, الإعلانات, لافتات المتاجر , تعليمات الأدوية أو الأجهزة الالكترونية، وحتى الملصقات الموضوعة خلف منتجات الأجبان أو الشامبو.

كثيراً ما كانت أمي تلاحظ هذا السلوك الغريب ولم تشتكي منه أو تؤنبني عليه بشكل دائم فهي ترى أنها صفة مشتركة بيني وبين والدي – رحمه الله -. كان والدي رجلاً محباً للمعرفة بشكل مثير للدهشة حتى أن عمي كان يقول دائماً – مازحاً – ” أعرف تماماً أن الماء هو أكسير الحياة الذي تحتاجه خلايا أي مخلوق حي في كل حين ومباشرة إذا كان يشعر بالعطش، ولكنني لم أسمع مطلقاً بخلايا مخلوق حي شرهة و متعطشة للمعلومات أكثر من الماء ! “.

والدي كان شخصاً هادئ الطباع و حليم متأني قليل الانفعال عكس والدتي حتى قبل رحيله عنا بدقائق لم يكن يظهر أي من تعابير الخوف والرعب لمقابلة الموت كان ساكناً ممداً على السرير مغلقا عينيه بدا كالنائم ليس كشخص أعياه المرض و فتك بجسده و روحه. كان المكان هادئ لم يكن في الغرفة الصغيرة سوانا نحن الثلاثة أمي كانت نائمة على الأريكة وكنت بجانب أبي أراقب جهاز تخطيط كهربائية القلب بعيني الضيقتين و يدي متشابكتين أمام الطاولة أنظر بحذر وتوتر لتلك الخطوط ذات الحركة المضطربة الغير مستقرة ، أخشى أن تتوقف فتصبح خطاً أخضر لا حركة له، ولكن قطع تركيزي صوت مهتز منخفض “حكيم تعال هنا ” سحبت الكرسي بهدوء دون أن أصدر صوتاً لكي لا أوقظ أمي و اتجهت صوب السرير لأجلس بجانبه نظر لي والدي وعيناه تلمعان و قال :

– هل تعتقد أن شخصاً لوحده قادر على أن يتحدى العالم ؟
– من أي ناحية ؟
– من جميع النواحي.
– لا يمكن ذلك يا أبي.
– بلى إنه ممكن – قال مبتسماً –

نظرت له بشيء من الشك والفضول “ولكن كيف ذلك؟” لكنه لم يجب إلا بضحكات متقاطعة ثم نظر إلي و أمسك بيدي و قال ” يمكن لكل شيء أن يتغير في هذا العالم يا بني و ليس من الضروري أن يغيره شخص أو مجموعة من الأشخاص ؛ بل جميع ما في هذا الكون الفسيح متاح له هذا ، لا يمكننا التوقع و التنبؤ بما سيحدث ، ولا يمكننا أن نعتاد على هذا مهما حاولنا أو نمنعه ، نحن لا نستطيع فعل شيء إلا بمواكبة السير مع التيار وخلق التغير كالبقية فهكذا هذه الحياة لا شيء ثابت، هنا كل شيء مستمر في الحركة والعودة للبداية حين الوصول لنقطة النهاية، وهذا ما أعتبره كدليل واضح لوجود خالق مدبر لهذا الكون، تلك الدورة المنظمة لن تنتهي إلا حينما هو يريد سبحانه، وهناك بإمكانك أن تخبرني عن ماذا سيحدث في هذا العالم فور رحيلي.”

كانت تلك آخر وصايا والدي والتي مازالت كالمسجل تتكرر في أذني عدة مرات, تلك الكلمات تركت أثراً في داخلي، لقد غيرتني جذرياً ، أصبحت شخصاً فضولياً بشكل كبير، وتركت الكتب لمدة طويلة، لم تكن لتنفعني وحسب لتعلم المزيد أردت أن أرى الحقيقة بنفسي لا في الكلمات المطبوعة على الورق، وحينما تعتري الأسئلة كياني أذهب إلى الأجوبة مهما كان الثمن – وأحياناً أعرض نفسي للخطر لكي أحصل على الجواب المرضي – كان هذا يقلق أمي كثيراً و يضايقها، أحياناً لم تعترض أبداً حبي للبحث عن الإجابات التي تؤرق ذهني و لكنها لا تريد أن ترى ابنها الوحيد محروقاً لأنه أراد أن يجرب كيفية تفاعل الكلور مع الصوديوم في غرفة مغلقة، أو ميتاً بسبب أنه أراد معرفة المكونات الأساسية المكونة لأسنان التمساح الحي. لذا فهي دائماً تردد “الفضول قتل القطة” على أمل أن أهتم لحياتي بقدر اهتمامي لإشباع فضولي.

كان محور اهتمامي الدائم و السبب الرئيسي لحبي الشديد للمعرفة هو الكيمياء وكذلك الأحياء الدقيقة لذا عملت بجهد لكي أتخصص في الكيمياء الحيوية، ولله الحمد تخرجت منها بشهادة بكالوريوس وماجستير من جامعة القاهرة المرموقة، وقد تطوعت في كثير من الحملات المساهمة في تطوير الأدوية والعقاقير الطبية – قسم من أقسام الكيمياء الحيوية – مع أني كنت باحثاً لا طبيباً و لكني أحببت المساندة محاولاً معرفة المزيد ، و أروي عطشي المستمد من أسئلتي المتكررة.

قبل عدة أشهر ظهرت شائعة بخصوص انتشار نوع من أنواع الإنفلونزا من نوع A وهي أشد الأنواع خطورة، وأمثلته: فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي حصد حوالي 50 مليون نسمة في تسعة أشهر فقط، ولكني لم أكن أتوقع بأن الفيروس المتداول خبره حالياً سيكون أكثر فتكاً من سابقه ؛ وهو H10N7 بينما المسبب للإنفلونزا الإسبانية يدعى بـ H1N1، هذا الفرق البسيط في الأرقام قد يشكل حادثة شهدت فيها البشرية أفظع إبادة مرضية من بعد الطاعون.

ظهرت أعراض هذا الفيروس لدى البشر لأول مرة عام 2004 في مصر تحديداً في الإسماعيلية لدى رضيعة عمرهما لم يبلغ السنة والنصف , وحدثت أول فاشية للمرض في مينيسوتا في الولايات المتحدة عام 1980 حيث انتشر الفيروس في ثلاث مزارع للديك الرومي مما أدى لموت ما يقارب 31% من طيور هذه المزارع الثلاث.
لم يكن أحد ليصدق أن المرض عاد مجدداً و لكن في الأسبوع التالي من انتشار الشائعة انتقل للمشفى 44 شخصا خلال 5 أيام فقط !

كانت أول حالة مرضية لرجل إيطالي في منتصف العمر يدعى فرانسيس أورديلافي يعمل تاجراً للطيور النادرة في إيطاليا وسافر إلى مصر ليأخذ إجازة قصيرة من عمله المضنى، بعد ثلاثة أيام ظهر عليه التعب والإعياء، ولم يبالي لأنه كان يظن أنها مجرد وعكة صحية؛ نظراً لأنه لم يعتد بعد على المناخ في مصر. ولكنه بدأ يعاني من حمى غير طبيعية , وحبرة ( بقع صغيرة حمراء نتيجة نزيف الشعيرات الدموية ) منتشرة على طول الذراع , والتهاب رئوي شديد. حالته الحرجة أجبرته لدخول المستشفى، وتم إعطائه بعض المثبطات والمضادات، ولكن الأمر ازداد سوءاً ، أظهرت نتائج التحليل أن معدل الأنترفيرون وهو بروتين مضاد مرتفع بشكل خطير إذ إنه لم يعد يفرق بين الأجسام الدخيلة أو النافعة؛ مما يجعل جهاز المناعة في حاله اضطراب مستمر. بعد عدة أيام توفي الرجل دون أي جدوى لمعالجته وما زاد الطين بلة هو انتشار المرض بسرعة بعد وفاته.

ما يميز هذا النوع من الإنفلونزا هو أعراضه الأولية والتي تشبه الرشح البسيط ثم يتفاقم الوضع بسرعة بعد ثلاثة أيام وهذا يسبب هيجان في جهاز المناعة ومن المرجح أن يؤدي إلى الوفاة إذا لم يتم التصرف بسرعة. ولكن مع الأسف فقد طغى على الجميع أن الأمر قد فات أوانه فقد لقي الكثير حتفهم في أيام قليلة.

لاحقاً أخبرني صديقي عبد الحميد عن جهاز يدمر الميكروبات والفيروسات عن طريق الموجات الصوتية يدعى بـ (BCX ULTRA) وقال إنه قادر على إنهاء الإنفلونزا بمدة قصيرة، وقد استخدمه أحد أقاربه في الكويت ولاحظ تغير واضح في صحته، ولكن يبدو أن العلاج السحري لم تدم شهرته لمدة طويلة، فقد كان باهظ الثمن بشكل مفرط، وسمعت حينها أنه تم مصادرة كمية كبيرة من تلك الأجهزة والإمساك بتجارها وصانعيها، فقد تبين أن مخترع الجهاز رويال ريف من عام 1930 حاصل على براءة اختراع إذ لا يمكن لأحد أن يبيع المنتج أو يسوق له.

أصبح الأمر ميؤوس منه ، المرض انتشر بسرعة كانتشار الذباب في الهواء, أصبح الجميع فريسة سهلة لهذا الداء الفتاك، كان الموت بعينه يحمل بيده البيضاء الشاحبة بذور المرض لتنمو في أبدان الناس و تتعفن داخلهم فيأتي الموت بعدها و بيده الأخرى منجل المغطى بدماء الأرواح السوداء، لينظر لذلك الجسد الكليل الذي أعياه المرض بعينيه الغائرتين ينظر له المريض بدوره راجياً أن يأخذه للخلاص وما هي إلا لحظات تفصله عن نهايته فيرفع الموت منجله و ينزله بسرعة كدمعة المريض الأخيرة ثم ينتهي الأمر و يذهب الموت للبحث عن فريسته الجديدة.

في تلك الأثناء كنت متأهباً للسفر خارج البلاد فقد كنت من ضمن الفريق الاستكشافي للبحث عن الأنواع الجديدة من المخلوقات الدقيقة في سيبيريا، فتلك المنطقة الباردة من الممكن أن تحتوي على أنواع جديدة من البكتيريا وقد تكون مفيدة في بعض المجالات, انضممت لفريق مكون من أربعة أعضاء وأنا خامسهم، جميعهم مختلفو التخصصات بشكل قد يفيد الرحلة. كان جميع من في الفريق من الدول العربية، وهذا ما جعلني مرتاحاً ، فلم أكن أجيد اللغة الإنجليزية كثيراً أو أي لغة أخرى سوى بعض الكلمات البسيطة والتي بالكاد نطقتها بالطريقة الصحيحة.

تم تعيين أعضاء الفريق كالتالي : القائد عبد القادر وهو شخص مسؤول وجاد في عمله ومتعاون و نرجسي قليلاً , حسن وهو المسؤول عن المواصلات كالطائرة والسيارة الاستكشافية، إنه شخص هادئ و قليل الكلام و يبدو شخصاً ودياً لكن قيادته تعكس كل شيء, هشام وهو المسؤول عن الأجهزة الإلكترونية والعمل عليها وتصليحها إذا ما تعرضت لضرر، هشام شخص متفائل وطيب القلب ومتساهل بشكل كبير، أذكر حينما تعطل نظام الخرائط وتهنا في وسط المنطقة المتجمدة اضطررنا للبقاء هناك لمدة ساعة ونصف ننتظره لكي يصلح الجهاز، ولكنه لم يفعل كان يتصفح الجوال بحثاً عن طريقه لإزالة العلك الملتصق في مخرج سماعات هاتفه ! تم إعادته إلى وعيه بعدما هدده حسن برمي الجوال في الماء البارد ( لعل المياه الباردة تكون قادرة على تخليصه من العلك) , وأخيرا الثنائي المرح عبد الحميد وأنا كنا العاملين في المختبر المتنقل نقوم بتحليل العينات, والبحث عن الفصائل , كشف الخصائص الجديدة للمخلوقات الدقيقة…الخ و أعتبر نفسي محظوظاً لأن عبد الحميد معي فهو صديقي و رفيقي من أيام الجامعة كما أنه الوحيد الذي يجيد الطهو واستخدام الفرن دون حرق المقصورات وتتسبب في تحويلنا لعيدان ثقاب متفحمة.

كان العمل في الأيام الماضية روتينياً لا شيء جديد سوى مخلوقات دقيقة جديدة أو كارثة طبيعية، ولكن هذا اليوم قلب الموازين رأساً على عقب. كانت الساعة الثامنة صباحاً ، كنت أذهب للخارج لتفقد المعدات والمؤونة، فتلك كانت مناوبتي اليومية صباحاً ، وحينما انتهيت قررت أن أتمشى في هذه الغابة المتجمدة أمضيت وقتاً طويلاً و أنا أمشي وسط تلك الأشجار المتشابهة إلى أن لفت نظري فجوة سوداء في وسط تل صغير متثلج، دفعني الفضول كالعادة فذهبت لأنظر عن كثب ، اقتربت من الفجوة واستخدمت الكشاف لأرى بوضوح ويا للعجب! كان يوجد درج مصنوع من الحجر مؤدي إلى الأسفل، نزلت بخطوات حذرة جداً لأنني شعرت باهتزازات الحجر الدالة على عدم استقراره، وحينما وصلت إلى أسفل كان أمامي باب مصنوع من الألمنيوم مع مقبض قد تصدأ. أدرت المقبض وفتحت الباب فإذا بي أقف في غرفة واسعة ومتهالكة، يوجد بها طاولات ورفوف بها أكواب وأطباق بترية، وعدد كبير من نوع قديم من المجاهر، بدا المكان وكأنه مختبر بحوث سري، ولكنه كان في حالة فوضى مريعة

هنا بدأت روايات الخيال العلمي تشن هجوماً مباغتاً على أفكاري” لابد أنهم كانوا يصنعون أسلحة بيولوجية…أو هنا يتم تكوين فيروس جديد فتاك !” قلت في نفسي، ولكن سرعان ما رميت تلك الأفكار جانباً و ذهبت لوضع حقيبة المعدات على أحد المقاعد و بدأت أبحث عن أي شيء يفسر لي ماهية هذا المكان، ولحسن حظي وجدت بعض الظروف والمستندات والأوراق القديمة السليمة، بعد مدة من محاولات الفهم والعصف الذهني استنتجت أن هذا المكان مختبر بحوث في خصائص المخلوقات الدقيقة تابع للإمبراطورية الروسية (افترضت هذا من الشعار الموجود أعلى الورقة و بعض الرسومات للبكتيريا) ولأنني لا أجيد الروسية أيضا فلم يكن بمقدوري فهم أي كلمة لكنني أظن أنها نتائج تحاليل وبعض التقارير الموجزة لآخر المستجدات.

فكرت أنه من الأفضل استكشاف المكان كجماعة فالمكان كبير وبه العديد من الأدوات التي ربما يعرف هشام أو حسن طريقة عملها، ولهذا هممت بالخروج بسرعة و لكن مع الأسف
ليس في كل مرة تسلم الجرة، فقد كنت أصعد الدرج بسرعة و بدوره لم يتحمل وزني وفي ثانية تحول إلى ركام ضخم من الصخور وهائنذا ساقط بجانبه و يدي عالقة بين الحجارة وفي حالة يرثى لها وكأي شخص عادي فإن أول فكرة ستطرأ في عقلي هي الموت والاستسلام للقدر، ولكنني عكس الناس تماما فكرت بأنه لن يكون بمقدرتي تناول كنافة أمي العزيزة في رمضان بعد اليوم ، و لهذا ربما….لا أدري حقاً…..استعدت معنويتي مجدداً بسبب حلوى ذات لون برتقالي فاقع مشربة بماء السكر والورد وقوام جبني، وطعم متوازن بين الحلو والمالح بشكل لا يقاوم. وهنا عقلي بدأ يفكر كعقل رجل الطبيعة الذي لا يقهر, أمسكت بالأصداف التي في جيبي وفكرت بما أنها متوسطة الجحم تقريباً ربما يمكنني حشرها في فجوة التي تتواجد بها يدي ثم سحبها بسرعة، وربما لن ينهار الركام إذا ما ملأت الفراغ و بالفعل وضعت الصدف في الفجوات الصغيرة حول يدي و سحبتها بسرعة ثم وضعت آخر صدفة ولم أصدق حقا إنها نجحت !

ثم أخذت حلوى البروتين و تناولتها على عجل و بتثاقل وقفت على قدمي و اتجهت إلى الحقيبة ولحسن حظي أنها سليمة وكذلك الغرفة أخرجت جهاز الإرسال لأعلمهم بوجودي,” سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً ” قلت في نفسي، قضيت بقية الوقت أضمد جراح يدي إلى أن جاء جميع الفريق، أخبرتهم بما جرى وعن هذه الغرفة فانتشر بقية الفريق و شرعوا في البحث حتى هتف عبد القادر بصوت عال “عبدالحميد تعال هنا” التفتنا وذهبنا جميعاً قبل عبدالحميد فوجدنا القائد محدقاً لعلبة صغيرة اسطوانية شفافة ونصف متجمدة وعلى وجهه إمارات التساؤل قال حسن “ربما من الأفضل أخذه معنا” أومأ له عبد القادر و أخذنا معداتنا و خرجنا.

بعد بضعة أيام كان الجميع في مقصورة هشام ما عدا عبدالحميد ,كنت أقرأ رواية الحالة الحرجة للكاتب عزيز محمد والبقية انشغلوا بالدردشة أو الأوراق التي أخذناها من تلك الغرفة إلى أن استوقفنا صوت طرق حاد على الباب و كأن أحداً يريد أن يقتلعه، فتح هشام الباب بحذر، فدخل عبد الحميد إلى الداخل و الابتسامة تشق وجه و بدا متحمساً وثائراً بشكل لا يصدق، صاح بنا جميعاً “لا وقت نضيعه تعالوا إلى مقصورتي الآن!”

ذهبنا معه دون ارتداء المعاطف، فتح لنا المقصورة وأدخلنا بسرعة ثم أجلسنا أمام شاشة حاسوب متصلة بالمجهر ووقف أمامنا و بدأ يتكلم كعالم حصل على جائزة نوبل يلقي خطابه أمام المسرح المليء بالناس (حسناً لنقل في مقصورة مختبر مصغرة أمام أربعة اشخاص ينظرون ببلاهة وتساؤل لرجل يحرك يده يميناً و شمالاً ويتحدث بسرعة بصوت متحمس ومرتعد كالمجنون) قال لنا ” لابد أن يدهشكم هذا…حقا إنه لشيء عجيب بحق، لقد كنت أفحص العلبة التي أحضرناها من هناك وتبين أن في داخلها طبق بتري لنوع من البكتيريا كروية الشكل وقد تم تجميدها لمدة طويلة وهذا يفسر سبب أنها كانت خاملة و لم يتسن لي التعرف عليها بسهولة، ولكن إليكم ما هو المدهش، بعد فترة من التحاليل والاختبارات التي قمت بها اتضح لي أن لها بعض خصائص فيروس الإيدز—

لا تفجعوا هكذا ! لم أكمل كلامي بعد ! كما تعلمون فإن للإيدز القدرة على الدخول للخلايا الحارسة في الجهاز المناعي وتثبيطها بشكل يسمح له الانتشار في جسم الإنسان سريعاً ، وهذا ما استفاد منه بعض الأطباء في أمريكا، حيث تم استخلاص هذه الخاصية والاستفادة منها في علاج اللوكيميا وهذا من الممكن أن يساعد في علاج أمراض أخرى، ومنها الإنفلونزا إن صح التعبير عن طريق تثبيط عمل جهاز المناعة لمدة بسيطة، وفي نفس الوقت استخلاص تلك الخاصية من البكتيريا وإدخال مواد مفيدة محاربة للفيروس، سيتم نقل هذا العلاج مباشرة للجسم عبر الدم، وسيكون الأمر مثل إنتاج خلايا أكولة مختصة فقط في القضاء على الإنفلونزا.”
توقف عبدالحميد ثم تنفس بعمق لمدة بينما نحن ننظر لبعضنا بعيون مفتوحة على مصراعيها، ثم نظرنا له مجدداً كان يبتسم منتظراً منا قول شيء ما

” ما بكم ؟ هل صرعت الصدمة أدمغتكم؟” قال عبد الحميد
نظر هشام له وقال ببطء:” أنت تعلم تماما أن ما قلته حقيقه وليس نسج من خيالك؟”
أردف عبد القادر:” لو كان كلامك صحيحاً فأنت قد تنقذ حياة الملايين هكذا”
نظر لي عبدالحميد و قال: ” لا, بل ربما فضولك يا حكيم قد جلب منفعته أخيراً “
-“لا أظن أن هذا ممكن يا صاحبي إذا كان قولك صحيحاً فلماذا لم يتم استخدام هذا العلاج في أيام الإنفلونزا الإسبانية مع العلم أن ذاك المختبر أنشئ في ذلك الوقت؟ ” قلت مشككاً
-“كانت لهم أسبابهم” أجاب حسن
– “ماذا تعني؟” قلت
-“إن الورقة تفسر كل شيء ” رفع يده التي بها الورقة ثم أردف قائلاً :

-“كما تعلم فإن انتشار الإنفلونزا موافق لأيام الحرب العالمية الأولى و في ذلك الوقت ضعفت كلا من الأطراف المواجهة ومات الكثير من الناس وهذا كان يهدد سلطات البلدان المواجهة ويجعلها قريبه من الهلاك وفي ذلك الوقت روسيا أنشأت مختبر بحوث مختص بالمخلوقات الدقيقة يقع في سيبيريا، كان العمل يجرى بسرية تامة لمدة أشهر و قد قاموا بتحليل و اختبار العديد من أنواع الفيروسات والبكتيريا، ومنهم التي أخذناها معنا و لقد وجدوها بالقرب من الأنهار المتجمدة القريبة من هنا، وبما أن المعدات عندهم لم تكن كافية لتعرف على خصائص هذا النوع أو معرفة أشباهه، فقد تم وضعه في اسطوانة محمية على أمل أن يستطيعوا يوم ما معرفة خصائصه بشكل أكثر وضوحاً ، ولكني أعتقد أن الوقت لم يكفيهم فقد شعروا بتحركات مشبوهة قريبة من موقعهم، فقام أفراد المختبر بحرق بعض الأوراق وتدمير بعض الأدوات خشية أن يستفيد منها العدو، ثم خرجوا بسرعة إلى الغابة ولا أحد يعلم ما حدث بعدها لهم ” صمت وأغلق عينيه وأردف قائلا:

“ولكن من كان يدري ماذا كانت روسيا لتفعله إن علمت أن هذا المخلوق الصغير قادر على القضاء على الإنفلونزا التي حصدت حياة الملايين ربما كانت ستستخدمه لصالحها وهذا من الممكن أن يغير شيئاً في صفحات التاريخ”

فتح عينيه ونظر لشاشة وبدورنا اتجهت أعيننا لتلك الكرة الزرقاء ذات الأهداب القصيرة الموجودة في شاشة الحاسوب وفي هذا الوقت عاد بي شبح الذاكرة إلى تلك الغرفة الصغيرة أمام والدي الممدد على السرير وهو ينطق بأخر كلامته لي.
“نعم يا أبي” قلت وأنا أنظر بعينين ضيقتين للشاشة
“كل شيء يمكنه أن يخط معالم تاريخ هذا العالم بتغيره “

– تمت –

تاريخ النشر : 2018-07-21

عائشة

البحرين
guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى