أدب الرعب والعام

العقل الخائن (1)

بقلم : Akuma By Angel – KSA

العقل الخائن (1)
كان رواق بلا نهاية وكان عدد الغرف متماثل عن يميني وعن شمالي

العقل هو الخائن, هو من يبنيك ليهدمك. من اللحظة التي يلامس فيها جسدك الحياة يقوم بتجديدك. هو الذي يقرر متى تخطو خطوتك الأولى ومتى يحين وقت كلامك. العقل مفتاحك للعديد من المعارف. يوهمك بأنك المسيطر وأن لا أحد يشبهك. هو من يجعلك تشعر ويلهمك الإحساس بالخطأ من الصواب. يتحكم بكل جزء منك على التوالي. تعتمد عليه في أصعب المواقف لينصفك تارة ويخذلك تارة أخرى. يكن لك تارة من نعم الخالق وتارة أخرى من النقم. العقل عالم للعديد من الأشياء ومن ضمنها هلاكك. تراه مبتسماً لك الآن ليطعنك من الخلف لاحقاً.

العقل شديد الذكاء ليتلاعب بك كما يرغب. لا يعير أهمية لمنزلتك بين المنازل. لا يهمه إن كنت ملكاً طبيباً أم مزارع. من الممكن للشخص الذي تنظر إليه الآن في المرآة أن يصبح شخصاً آخر هذا المساء. فصاحتك وبلاغتك قد تتحول في نظر الآخرين ازدراء. حسن أخلاقك قد تتحول في نظر الآخرين قلة حياء. انفرادك بذاتك المميزة قد يذهب هباء. العقل الذي جعلك ما أنت عليه الآن بكل ما فيك من حسن المعشر و فصاحة اللسان سيخذلك يوماً ما. عقلك هو الخائن فاحذر على نفسك منه فكما فيه نجاتك, فيه بالتأكيد هلاكك.

1

هل شعرت من قبل أنك تريد شيئاً ما بشدة ولكن حينما تحصل عليه تشعر بالملل؟ تمنيت حينما كنت في السادسة عشر من عمري أن أصبح طبيبة نفسية وبذلت جهداً في الدراسة لأصبح أخيراً واحدة. ولكن ما استمع إليه من أفواه المرضى قد حول حياتي إلى جحيم و جعل من أحلامي الجميلة كابوساً يطاردني كل ليلة. أخبرني أحدهم ذات مرة أن أحذر حينما أتمنى أمنيةً ما وأنه ليس من السهل علي أن أتحمل العبء الذي تحمله وظيفة أحلامي. أخبرني أنني سأشعر بالندم يوماً حينما أصبح كبقية المرضى و واحدة منهم. لم أعر ما قاله أي اهتمام فلطالما كانت فطرتي الالتزام بما تمليه عليَّ الحواس من إلهام مهما كانت الصعاب. لن أدعي أنني الأفضل في هذا المجال ، ففي الحقيقة لا أحد يستحق لقب الأفضل ، فقد خذلت البعض وإن أنقذت البعض الآخر.

من الصعب أن أصف لكم ما أشعر به حينما أساعد المرضى في العثور على ذواتهم والتغلب على مخاوفهم ليعيشوا حياةً أفضل. يصبح الكره فيها حباً ويصبح العالم فيه أكثر رخاءً . حينما أستمع إلى أحاديثهم أدرك أنهم ليسوا حقاً مصابين بالجنون كما يقول عنهم البعض. في الواقع, لم يخطر ببالي قط أن الجنون نقص و اختلال فأنا أرى أن الله أنعم على من فقد شيئاً من عقله بنعم أخرى ، كالإبداع والتمييز. إن لم يكن هناك نزعة من الجنون فلن يصبح الفن فناً ولن يصبح العلم علما. يرى الجميع أن أي خلل في وظائف الدماغ قد يعيب كل ما في الانسان ولكني أرى غير ذلك. كيف لك أن تحكم على كل بسبب مجموعة صغيرة من الخلايا التي أضلت طريقها؟ ألم يخطر ببالك أنه من الممكن أن تلك الخلايا الضالة كانت تبحث عن شيء ينقصها؟ ألم يخطر ببالك أنه من الممكن أن تكون نتيجة للعديد من الضغوطات النفسية والجسدية التي جميعنا نمر بها على حد سواء ؟

” اليوم دورك في المناوبة الليلية. أليس كذلك؟ “
سأل الطبيب ويليام بينما كان يبحث عن ملفٍ لمريضٍ ما بين الملفات.
” نعم بالتأكيد. “
أجبته وأنا أشرب آخر قطرات تبقت في فنجان الشاي.
” لا تنسي توقيت المنبه وكوني حذرة. أنتِ تعلمين كم هو مخيف قضاء ليلة كاملة بين المجانين.”
قال لي بعدما وجد الملف الذي كان يبحث عنه واتجه نحو الباب للخروج.
” ليسوا مجانين, إلى جانب أنني لا أخافهم.”
قلت له بصوت عال وسمعت صدى ضحكاته عبر الرواق قائلاً :
” لقد حذرتك أيتها العنيدة.”

وليام غوستييل طبيب من أفضل الأطباء في علم النفس. يملك قلباً من ذهب بغض النظر عن قسوته على المرضى في بعض الأحيان. فقد رأيته مرة عندما استطاع أحد المرضى أن يتسلل إلى المطبخ ليسرق سكينا ويقتل به نفسه يبكي بحرقة عليه. كان لي كالأب من اليوم الذي بدأت فيه تدريبي إلى اليوم الذي أصبحت فيه جزء من فريق العمل. لطالما كان حديثه شفاءً لي وقت إحباطي. الطريقة التي يستطيع من خلالها قراءتي تفاجئني في بعض الأحيان. فهو يعلم ما أحب وما أكره, يعلم جيداً ما يخطر في بالي وما أخطط له. أعتقد أن حدسه القوي هو ما يجعل منه ذلك, إقامته الطويلة مع المرضى و ما توجب عليه من فروض الاطلاع على ما يدور في أذهانهم جعل منه شخصاً ذكياً وسريع البديهة.

تحيرني حقيقة أنه لم يتزوج حتى الآن وليس لديه أطفال. هل كان ذلك بسبب واجبات وحقوق العمل عليه أم أنه لم يجد للآن نصفه الآخر. على الرغم من أنه وسيم لرجل في سن الخمسين, فهو طويل القامة وجسده رياضي وفوق كل هذا تنعكس زرقة المحيط في عينيه. وأكثر ما يميزه هو برجه الفلكي, فهو من مواليد برج الحمل مثلي. نعم, أعترف بعشقي لعالم الأبراج الفلكية خاصةً حينما يتعلق الأمر ببرج الحمل. فأنا أرى أن مواليد هذا البرج استحقوا أن يكونوا في أول القائمة. فهم أقوياء, محاربون ولديهم روح المنافسة. هم رمز للكمال فعيوبهم أيضاً تميزهم.

” حسناً, قد حان الوقت الآن لأذهب وأتفحص المرضى قبل أن أبدأ عملي. “
همست بذلك في نفسي وارتديت معطفي. لم أستطع مقاومة رغبتي في إلقاء نظرة على المرآة لأرى مدى جمالي. ألم يكن من الأفضل لي أن أصبح عارضة أزياء أو نجمة غناء؟ لطالما تردد ذاك السؤال في مخيلتي. أخبرني العديد من الناس بأنني أشبه إحدى المغنيات العالميات وأنه كان من الأفضل أن أكون على خشبة المسرح لا في مستشفى للأمراض العقلية.

سرعان ما وصلت إلى الطابق العلوي, بدأت أصوات المرضى تجتاح سمعي شيئاً فشيئاً. كانت أصواتهم تخيفني سابقاً ولكني الآن لا أهابها. من الصعب أحياناً أن تتواجد في مكان يدعي فيه الجميع بأنهم عقلاء. كنت في بعض الأحيان أصدق ما يدعيه بعض المرضى لما يبدو عليهم من صحة العقل وسلامة المنطق. هناك خط رفيع بين العقل والجنون, من الحَكم في التصنيف ؟ من لديه الحق في تقسيم المرضى إلى مجموعات بناءً على المرض المشترك بينهم؟ إنه نحن الأطباء النفسيون. كباقي البشر, قد يبدر منَّا خطأ في نقطة ما. قد نصف جرعة خاطئة تسيء من حالة المريض بدلاً من أن تصلحها. في بعض الأحيان نكون نحن المرضى ومرضانا أكثر عقلانية منا. في بعض الأحيان تبهرني قدرتهم في التحدث عن أنفسهم بطريقة نفشل نحن بكل ما أوتينا من علم أن نتحدث بها. يتملكني ذاك الشعور بأنهم هم العقلاء خاصة عندما أواجه العالم الخارجي وأرى أن العقلاء ليسوا من بعد الآن أتقياء.

” صباح الخير عزيزتي.”
قالت الممرضة ليلي والابتسامة تعلو وجهها. الممرضة ليلي رمز للأمومة والصبر في هذا المكان. فقدت طفلها الوحيد في حادث مريع. كما سمعت من البعض, كان زوجها طبيباً واستشهد في الحرب مخلفاً وراءه أرملة وطفلها ليعانيا الفقر. فلم تكن الممرضة ليلي ممرضة حينها ولم تكن في الأصل واحدة. أجادت من زوجها مهنة التمريض وتعلمت أصولها من الألف إلى الياء. ولكن كان المجتمع رافضاً لممارسة المرأة مهنة التمريض ادعاءً منهم أنها غير مؤهلة. إلى جانب ذلك لم يكن لديها ما يثبت تعليمها من أوراق وشهادات فكانت مرفوضة بالكامل فالجميع يؤمن بما تنص عليه الشهادات وإن كنت في الحقيقة أفضل ممن لديهم العشرات.

” صباح الخير عزيزتي, أتمنى أن تكوني مستعدة فلدينا العديد من المهام لنقوم بها قبل وصول السيدة فاليريوس وابن زوجها.”
قلت للمرضة ليلي.

” تلك اللعينة هي من يجب أن تصبح المريضة الجديدة لا ذاك الطفل البريء. لا أعلم كيف لامرأة أن تكون بهذا الخبث والدهاء وقد فطرها الله على الحب والحنان. الأشرار يُعرفون بسيماهم, وكأم, لقد رأيت الشر يستوطن أحداقها ويسكنها. لم يكن من الكافي لها أن تسمم زوجها لترث أمواله والآن تدعي أن طفله اصيب بالجنون وحاول إدلاع النار في منزلها ليقتلها. ليتها ماتت تلك اللعينة.”
قالت الممرضة ليلي بصوت ممزوج بالحقد والحزن والألم.

” لا يعنينا ما تنص عليه الشائعة, كل ما يجب علينا القيام به هو أن نشعر الفتى أنه في منزله وأن لا شيء ينقصه. إلى جانب أننا لا نعلم حقيقة ما حدث في ذلك المنزل وحقيقة السيدة فاليريوس.”
قلت بينما كنت أحاول فتح الباب المؤدي إلى غرف المرضى.

” يا عزيزتي, أنت ما تزالين طفلة لتقرئي ما بين السطور وتري ما خلف الأقنعة من تزييف وخداع. مازال أمامك الكثير لتتعلميه من الحياة فاحذري ولا تجازفي حتى في القاء الأحكام.”
كان ذلك ما قالته الممرضة ليلي بعدما مررت أناملها على شعري وداعبت بيدها الدافئة وجهي.

في اللحظة التي دخلت بها ذاك الرواق شعرت أنه وطني. كان رواق بلا نهاية وكان عدد الغرف متماثل عن يميني وعن شمالي. كان كل مريضين يسكنان غرفة واحدة إلا إن وجِدت أسباب للتفريق بينهما. وكانت الموافقة على تلك الأسباب من اختصاص الطبيب ويليام. فهو الذي يقرر ونحن كالدمى ننفذ رغباته.
في الغرفة الأولى على اليمين, يقطن ما اسميه القدر الأسود. رجل عجوز وزوجته سكنا تلك الغرفة. يا له من قدر جمعهما في الصحة والمرض, في العقل والجنون. كان الرجل مصاباً بمرض تعدد الشخصيات ولم تتحمل زوجته ما آل إليه من حال. لم تتمكن من التحكم في غضبها حتى أنها قامت بمحاولة إسكات طفلها الذي كان يقلد ما يفعله والده بوضع وسادة على فمه. الطفل ليس ملام فهو طفل في الأول والآخر وكان فقط يلهو بتقليد والده, لم يكن يعلم الحقيقة خلف ما يفعل.

في الغرفة الثانية توجد الفتاة ذات الشعر الأزرق. كانت عضوة في فرقة غنائية صاخبة ولكن الشهرة لم تنصفها فقد باتت ما هي عليه الآن. أنا لا أقلل من شأن ما كانت عليه, على العكس تماماً. كل ما في الأمر أني أرى سخرية القدر في ما أصبحت عليه الآن. كان لديها ما تحلم به كل فتاة, الشهرة, المعجبون والرخاء. وفوق كل ذلك كانت و مازالت جميلة جداً ليتها كانت ممن أنصفتهم الحياة. ليتها أنصفتها لتحيا كما ينبغي لا كما هي الآن. هي المفضلة لدي, لوحت لها بيدي تحية الصباح ونسيت أننا فقط من نستطيع أن نرى خلف الأبواب الزجاجية وأن المرضى لا يمكنهم رؤية ما يدور خارج جدرانهم.

الغرفة الثالثة فالرابعة فالخامسة, تفقدت جميع من بالداخل إلى أن وصلت إلى الغرفة السادسة لأكون أول من يتلقى الصدمة. فقد كان الباب مفتوحاً ولم يوجد أحد بالداخل. شعرت بالخوف وحاولت أن أتذكر من كان يقطنها ولكن الخوف تملكني ليقطع حبل أفكاري. عدت مسرعة لأحذر الجميع أن هناك مريضة شقت طريقها إلى الخارج وأنه ينبغي علينا أن نغلق المكان.
حينما وصلت لم أجد أحداً في الاستراحة. تملكني الخوف وتساءلت عن مكان وجودهم. تفقدت ساعتي فاطمأن قلبي, فقد كان وقت الظهيرة وعلمت أنهم في الحديقة خارجاً لقضاء وقت فراغهم.

” مهلا أليكس, لماذا ارتابك الجزع؟ “
همست لنفسي بذلك وتذكرت ما اعتدت قوله للجميع ولنفسي.
” أنا لست خائفة من المرضى.”
لطالما قلت ذلك فلماذا جزعت الآن فقط لأن إحداهن شقت طريقها إلى الخارج ؟ سأجدها وسأعيدها إلى مكانها. لا داعي لأن تعم الفوضى المكان فقد أوشكت السيدة فاليريوس على الوصول. سأجدها وأعيدها إلى مكانها, سأتحمل وحدي مسؤولية ذلك.

عدت باتجاهي إلى غرف المرضى ولكن قبل ذلك توجب علي الذهاب إلى مكتب الطبيب ويليام لأجلب المفتاح. كان لديه مفتاحاً لجميع الأبواب لحالات الطوارئ. وقفت أمام الغرفة السادسة التقط أنفاسي وأمسح قطرات العرق من على وجهي. كنت خائفة جداً وكانت ضربات قلبي في تزايد. نظرت حولي لأتأكد أنه لم يكن هناك أحداً بالجوار وأغلقت الباب.
في طريق عودتي وقف جميع المرضى يحدقون بي من خلف أبوابهم المغلقة. شعرت بأنهم يستطيعون رؤيتي رغم أنه محال أن يمكنهم ، فقد كنت أنا فقط من أراهم. كنت خائفة جداً حد الموت.

2

دقت أجراس الساعة الثالثة ظهراً وكان صوت أجراسها مثل جرس الإنذار في باطن عقلي. كان يجب علي أن أجمع أشتاتي وأن أنتظر في مكتبي وصول السيدة فاليريوس. طرقت الممرضة نينا الباب لتعلمني بوصول السيدة فاليريوس وابن زوجها وتمنيت حينها ألا يحصل شيء سيئ إلى وقت رحيلها.

” ” مساء الخير دكتورة اليكس.
قالت السيدة فاليريوس والابتسامة تعلو وجهها.
” مساء الخير سيدة فاليريوس, تفضلي بالجلوس.”
أجبتها بينما استرقت نظرة على الفتى الصغير توم الذي بدت عليه البراءة والطفولة.
” أشكرك عزيزتي, أتعلمين؟ أنت لا تشبهين أبداً الصورة التي رسمتها لكي في خيالي.”
قالت السيدة فاليريوس وضحكت بطريقة أحسست بأنها غير لائقة.

لم أستطع إخفاء تعابير وجهي الذي علاه شيء من الجدية والغضب فقلت لها :
” وما هي الصورة التي كنت أجول بها خيالك سيدة فاليريوس؟”
” لا أقصد الإساءة عزيزتي ولكنني ظننت أنك ستكونين كبقية الأطباء النفسيين. تقليدية في طريقة لباسك و تسريحة شعرك ولكنك على العكس تماماً فأنت تسرين الناظرين. كان من الأفضل لكي أن تكوني نجمة سينمائية أو عارضة أزياء.”
أجابت السيدة فاليريوس بصوت يملأه التعجب كما لو أنها توحي بكلامها بأني لست جيدة بما فيه الكفاية لمنصبي أو ربما هذا تأويل سولت لي به نفسي.

لم أرد لتلك المحادثة أن تستمر أكثر من ذلك فقد شعرت بأنها مضيعة للوقت وبأننا لن نصل بها الى فائدة ما ، فوقفت وأخبرتها:
” ما رأيك بأن نأخذ جولة حول المكان قبل غروب الشمس؟”
مع العلم بأنني كنت متأكدة بأنها سترفض ولن يهمها الأمر فليست هي التي ستقيم هنا بل ذلك الفتى الصغير يا لسوء حظه.
” أرغب حقاً في ذلك ولكن المكان كبير للغاية ولدي عشاء عمل يجب أن أعود إلى المدينة على الفور.”
قالت لي ما توقعت سماعه.
” كما تشائين سيدة فاليريوس ولكن قبل رحيلك أرجو منك التوقيع على بعض الأوراق.”
قلت لها وأخرجت الأوراق من الدرج بجانبي. لم تكلف نفسها عناء إلقاء ولو نظرة خاطفة على ما كتب على الأوراق فكما قلت مسبقاً ليست إقامتها فلا يعنيها الأمر.
” انتهيت, تفضلي.”

قالت السيدة فاليريوس واقفة لتستعد للذهاب بينما دخلت الممرضة ليلي وكانت عيناها مليئة بالكره والحقد.
” يا لسوء حظي !! كنت أتجنبها طيلة الوقت ودخلت متى؟ حينما قررت تلك اللعينة الذهاب.”
قالت الممرضة ليلي بصوت يملؤه السخط.

” قالت بأن لديها عشاء عمل لذلك كوني شاكرة وإلا بقت لفترة أطول.”
قلت للممرضة ليلي.

” عشاء عمل؟ كفي عن المزاح. فمن الواضح جداً مما كانت ترتديه أن لديها موعداً غرامياً لا عشاء عمل.”
قالت الممرضة ليلي ثم ألقت نظرة على توم وسألته:
” ما اسمك عزيزي؟”
أخبرها بأن اسمه توم وكانت عيناه واقعة على الأرض في حالة من الشرود.
” لا تقلق توم, فأنت من اليوم واحداً من هذه العائلة.”
أخبرت الممرضة ليلي توم بذلك لتطمئنه. اكتفى توم بالصمت ولم يقل شيئاً بعد ذلك.

قامت الممرضة ليلي باصطحاب توم معها لتقوم بواجبها المعتاد تجاه كل مريض. ابتداءً بتفحص جسده كاملاً بحثاً عن أي علامات قد تدل على إيذائه لنفسه أو شيئاً من هذا القبيل. كما وجب عليها تفحص ما بحوزته فمن غير المسموح حيازة ما قد يؤذي به المريض نفسه وإن كان قلماً . وأخيراً مساعدته على الاغتسال وارتداء الزي الموحد للمرضى ليصبح مؤهلاً للسكنى. بالحديث عن الغرف, لقد كدت أنسى أمر المريضة الهاربة والخطر الذي شق طريقه خارج جدران الغرفة السادسة.

” يجب أن أجدها مهما كلفني الأمر.” همست لنفسي.

قبل أن ابدأ رحلة بحثي توجب علي التفكير في العديد من الأشياء. وضعت نفسي في مكان المريضة الهاربة لأرى خطواتها. أين من الممكن لمريض في مستشفى للأمراض العقلية أن يختبئ ؟ بغض النظر عن الطريقة التي استطاعت بها أن تحرر نفسها, أين تكون الآن؟ لا يمكن أن تكون طليقة فمازالت محتجزة في داخل هذا المكان. من الممكن أن تكون خائفة جداً خارج غرفتها. ماذا لو أصيبت بالأذى؟ يا إلهي لماذا أخفيت أمرها وتحملت مسؤولية اختفائها؟ كان يجب أن أخبر الشرطة أو أخبر الممرضة ليلي على الأقل ولكن قد فات الأوان يجب أن أجدها في الوقت المناسب.

كانت الساعة تشير الى السادسة وخمسة عشر دقيقة, تبقى خمسة وأربعون دقيقة لتبدأ مناوبتي ويذهب الجميع إلى منازلهم لذلك لا داعي للقلق لن يصاب أحد بالأذى وإن أصيب أحدهم فسيكون أنا.

خرجت من مكتبي وتوجهت بلا هدف نحو الرواق الذي لا نهاية به. وفي طريقي التقيت بالممرضة ليلي و أخبرتني بأنها أتمت واجبها بما يتعلق بتوم وبأنه في غرفته الآن. سألتها في أي غرفة هو لكي أقوم بتسجيل جلستنا الأولى لاحقاً فقالت:
” كنت أنوي وضعه في الغرفة الثانية مع الانسة فيرونيكا ولكنه احتج بشدة فلم يرغب أن يشاركه أحداً غرفته. وعندما وجدت أنه لا يوجد أحد في الغرفة السادسة وضعته بها.”
لا أعلم ماذا حصل لي عندما ذكرت الغرفة السادسة. وقفت ساكنة في مكاني واعتلى وجهي الخوف والرهبة والشحوب.
” ما بكِ عزيزتي؟ هل أنت مريضة؟”
سألتني بنبرة خوف وقلق.
” على الإطلاق, أنا بخير أشعر بقليل من الدوار فقط سأصبح على ما يرام.”
أجبتها محاولة خداعها.
” اذهبي إلى المنزل ونالي قسطاً من الراحة سأقوم أنا بالمناوبة بدلاً عنك.”
قالت الممرضة ليلي واضعة يدها على كتفي.
” لا داعي لذلك أنا حقاً بخير أستطيع الاستلقاء هنا والمشاهدة فقط فإنها مجرد مناوبة.”
قلت لها.
” حسنا كما تشائين, لا تنسي تناول الطعام و لا تترددي في الاتصال علي إن احتجت شيئاً .”
كان ذلك آخر ما قالته الممرضة ليلي قبل أن تغادر.

كانت الساعة تشير إلى السادسة وخمسين دقيقة, تبقى عشرة دقائق فقط قبل أن أصبح آخر من تبقى في هذا المكان إلى جانب المريضة الهاربة. لم أعلم ما الذي يدور في فكر تلك المريضة. لم أعلم من أين أبدأ البحث جلست فقط على الأرض الباردة وحوطت أعضائي بذراعي.

3

هل تتذكر المرات التي استمتعت بها في اللعب مع أشقائك عندما كنت صغيراً ؟ قواعد اللعبة في غاية البساطة, يكون أحدكم معصوب العينين ويتوجب عليه العد التنازلي. وبعدما ينتهي من مهمته الأولى كل ما عليه فعله هو أن يخرجكم من مخابئكم. يمشي ببطء ويحاول أن يستمع إلى ضربات قلوبكم. تعتمد مهمته على اتباع حدسه في معظم الأوقات فهو يعلم كل واحد منكم جيداً. يعلم أنكم أذكياء وأنكم لن تختبئوا داخل الخزانة أو تحت السرير. يبحث عنكم في أقل الأماكن توقعاً, يبحث عنكم في داخل الموقد أيضاً. يعلم جيدا قواعد اللعبة كما علمتموها أنتم ومع ذلك فانه باللحظة التي ينزع بها عصبة عينيه يصبح شخصاً آخر. تصبح رؤيته للأشياء مختلفة وتجتاح رغبته في معرفة الحقيقة بصره فينسى أنها مجرد لعبة لقضاء الوقت. يبدأ في البحث عنكم ليثبت أنه قادر على إيجادكم. تصبحون فريسته ويصبح الصياد, يصبح المسيطر بينما أنتم ما تزالون عالقين في مكان ما.

قررت أن ابدأ رحلة بحثي عن المريضة الهاربة في غرفة الخزائن أولاً . حيث لكل مريض خزانته الخاصة, خطر ببالي أنه من الممكن أن أجد شيئاً يدلني على مكانها. غرفة الخزائن واحدة من بين العديد من غرف الطابق الأول. الطابق الذي به أيضاً غرف الممرضين والممرضات وصالة استراحة الزوار. الطابق الوحيد الذي يستوطنه العقلاء فقط.

حينما وصلت إلى الغرفة وجدت الباب مفتوحاً وكان ذلك من الطبيعي فهو ضمن المساحة الآمنة. أشغلت الضوء وأخذت أتفقد المكان. كان مرتباً ونظيفاً, لم أجد ما يدل على اقتحام أحد ما. بحثت عن الخزانة التي تخص الغرفة السادسة وكان من السهل إيجادها. لم أجد شيئاً بداخلها فقد كانت فارغة كأن لم تستخدم قط. لم أعر ذلك أهمية فربما لم يكن لتلك المريضة شيئاً تبقيه.
في اللحظة التي أغلقت فيها الخزانة, أحسست بأن أحدهم يغلق علي الباب فركضت مسرعة لأرى من هناك ولكن لم يكن هناك أحد سواي. كنت خائفة جداً تمنيت أن تكون المريضة الهاربة لأجدها ولكن كنت أشعر بالخوف. شعرت بالخوف من وجودي في مكان كبير للغاية. شعرت بالخوف من البقاء وحيدة وأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني.

كان يجب أن أعود لأسجل جلستي الأولى مع توم وفي طريق عودتي لم أكف عن التفكير في مكان تواجد المريضة الهاربة. تساءلت هل من المعقول أنها تختبئ في مكان ما. كيف يعقل لمن كان حبيساً في سجن كما يدعونه المرضى أن يستمر في الاختباء بعدما ذاق جزءاً يسيراً من الحرية. لابد أن تكون المريضة الهاربة خارج حدود هذه الأسوار أو أنها تجد طريقها لذلك. الحرية ثمينة لكل شخص وإن كان لا يفهمها. من يريد أن يكون حبيساً بلا حقوق ؟ من يريد أن تسلب منه حرية الاختيار وأن يطعم من تجويف أسفل الباب؟ من يريد أن ينظم له وقته ولا يكون له الحق في أن يكون إنسان؟ من يريد أن يعيش ليأكل فقط وكل ما يعيشه ليس بحياة ؟
كان يجب علي أن أطلع على ملف توم قبل أن أبدأ معه جلستنا المسجلة وإن لم يكن به الكثير فقد وصل ظهر هذا اليوم.

” هذه الجلسة المسجلة الأولى مع المريض توماس آدم فاليريوس بتاريخ الرابع من نيسان لعام 2016تحت إشراف الطبيبة اليكس كاميليون.”
كان ذلك ما قلت بعدما بدأت التسجيل. كان توم يجلس في المقعد أمامي ويحمل دميته التي بدا أنها دمية لفتاة وكانت ممزقة. استمر في اللعب بخصلات شعرها وبالضغط بإصبعه على عينها.

” مرحباً توم.”
قلت له بصوت منخفض لأجذب انتباهه.
” لا أحب هذا المكان, لماذا يجب علي البقاء هنا؟ أريد أبي “
قال توم بصوت يملؤه الخوف.
” لا تخف توم, سأخرجك من هنا ولكن لابد أن نلعب لعبة ما قبل ذلك. سأسألك العديد من الأسئلة وأريد منك أن تجيبني بصدق لكي أعيدك الى المنزل.”
 
قلت له وأضفت بعضاً من الأكاذيب. فكيف لي أن أعيده إلى منزله ! ففي الحقيقة لم يدخل أحد هذا المكان من قبل ليخرج منه. وإن كان سليم العقل سيصبح عليلاً بسبب ما نفعله نحن. أشار لي توم برأسه ليعلمني بأنه موافق على ما قلت.

” يا لك من فتى جيد. أخبرني الآن إذاً لماذا حاولت إشعال النيران في منزل السيدة فاليريوس؟”
سألته وانا انظر مباشرة اليه.

” لم يكن أنا.”
أجابني باختصار فسألته أيضاً باختصار.
“من كان؟”

لم يجبني واكتفى بالصمت عدة دقائق ليقول أخيراً : ” لقد كانت ريتا.”

” من هي ريتا؟”
سألته بتعجب.

أشار لي نحو دميته وقال: ” هذه ريتا.” واستمر بالنظر إليها.

” ريتا لا تستطيع القيام بأي شيء وحدها فهي مجرد دمية.”
أخبرته وكان ما يزال يحدق بها ويهمس لها ما لم أستطع سماعه.

” ما الذي تقوله لريتا توم ؟ هلا تحدثت بصوت أعلى لأستطيع سماعك؟”
قلت له فأجابني:
” لقد وعدت ريتا ألا أخبر أحداً بشأنها وهي الآن غاضبة لأنني أخبرتك. تقول بأن من يعلم بشأنها يجب أن يموت فقلت لها ألا تقتلك فقد أحببتك.”

بدت عليه علامات القلق فأخبرته ألا يقلق وبأن ريتا لا تستطيع أن تؤذي أحد ولن تستطيع إيذائي ولكن لا شيء مما قلت كان كاف ليجعله مطمئنا فقد اعتلت نظرة القلق وجهه وكان ذلك قاس جداً لطفل صغير وصعب تحمله.

شعرت بحاجة لأن أكون أكثر صرامة فقد سئمت ألاعيبه فسألته مجدداً :
” توم أخبرني الآن لماذا أشعلت النيران في منزل السيدة فاليريوس ولا أريد المزيد من الألاعيب.”
صرخ بصوت عالي وامتلأت عيناه بالدموع قائلاً :
” أخبرتك بأنها ريتا لمَ لا تصدقيني؟ أنا لست كاذب.”

نفد صبري في تلك اللحظة مع أنني اعتدت أن أتمالك نفسي مع المرضى. لم أستطع تمالك أعصابي فقد كنت أشعر بالخوف والقلق من حقيقة أن هناك مريضة طليقة ولا أستطيع إيجادها. وقفت من مقعدي وضربت سطح المكتب بباطن يدي وصرخت قائلةً :
” استمع أيها الفتى المدلل, لا وقت لدي لألاعيبك من الأفضل لك أن تخبرني بالحقيقة الآن و إلا اقسم بالرب أنني سأ……..”
لم أستطع إكمال تهديدي فقد أوقفني صوت ارتطام شيء ما في الخارج, بدا لي أن مصدر الصوت من الأعلى. شعرت بالهلع وأسرعت نحو الباب.

” لا تستطيعين إيقافه.” قال لي توم وضحك.
” ابقى حيث أنت سأعود على الفور.”
قلت لتوم ثم خرجت وأغلقت الباب من خلفي.

كنت متأكدة أن مصدر الصوت سطح المبنى. صعدت السلالم إلى أن وصلت, حاولت إشعال الضوء ولكنه لم يعمل. كان الصمت والظلام ما وجدت في الأرجاء. ترددت في البقاء ولكن شيء ما ألزمني.
” هل من أحد هناك؟”
سألت الفراغ ولم أنتظر منه الإجابة. سألت بصوت تملؤه الشجاعة ولكني كنت خائفة جداً . كان صوت ضربات قلبي يعم المكان وصدى أنفاسي يتردد في الأركان. كان سطح البناء شديد الاتساع ومخيف ولكني لا أستطيع أن أنكر أنه كان في غاية الجمال. فقد كان بلا جدران وأبواب مغلقة, وقفت لأستشعر قرب السماء واستنشق الهواء النقي.

بعدما تفقدت السطح ولم أجد به ضالتي قررت الرجوع إلى مكتبي لاستكمال ما بدأت سابقاً . حينما وصلت وجدت الباب مفتوحاً وتوم لم يكن حيث تركته. كان ذلك مخيف جداً, بربكم لقد أوصدت الباب خلفي كيف له أن يخرج؟ أم هل أحتاج أن أعيد صياغة السؤال لأسأل عن الشخص الذي قام بفتح الباب له ؟ السؤال الأخير بدا لي أكثر ملاءمة ومنطقية ولكنه في ذات الوقت الأكثر إخافةً . فقد كان يعني وجود شخص ما غيري في هذا المكان, هل من الممكن أن تكون المريضة الهاربة؟ لماذا قد تفعل ذلك؟ هل هذا نوع من التلاعب بي لأفقد أعصابي؟

يتبــــــــــــع ..

تاريخ النشر : 2018-08-12

Akuma By Angel

السعودية
guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى