تجارب ومواقف غريبة

قابلتها في عالمي

بقلم : خالد – مصر

قابلتها في عالمي
ذهبت من أمام ناظري إلى تلك العمارة المهجورة

استيقظت في منتصف ذلك اليوم حينما شعرت بالعطش فذهبت لأشرب كأس ماء ، و في طريقي إلى المطبخ سمعت والدي و هو يتكلم في الهاتف مع شخصٍ ما .. كان جالساً في الصالة ، و عندما استمعت إلى الحديث .. عرفت أنه عمي ، و أخيراً سيعود إلى عائلته بعد غيبةٍ طالت ما يفوق الثلاثون عاماً في الخارج .. لم تكن لدي ذكرياتٌ مع عمي كثيرة لأنه لم يكن يأتي إلى مصر كثيراً ، و كان أولاده قد اعتادوا على الرفاهية .. و لم تكن مصر بلداً لهكذا أشياء ، إذ يجب عليك التعب لتتسلى طول عمرك! .. لكنه حقق نجاحه ببناء عمارة في أحد أغنى مناطق المحافظة ، لكنها كانت مهجورة .. كان يملؤها التراب و قد قضى عليها الزمن ، و حان وقت رجوعهم لتستعيد بريقها بهم ..

كنت في عامي الثالث في كلية الهندسة ، و كنت في أجازة نهاية العام .. و بسبب ظروف جامعتي التي في محافظةٍ أخرى ، أحببت الجلوس في شقتي وحيداً .. و لم أكن أخطط لاستقبال عمي ، لم يهمني الأمر إطلاقاً .. لكن مع إلحاح والداي قبلت مرغماً ..

“خالد تعالى يا بني سلم على عمك” قالها أبي و هو ينادي علي ..

ذهبت عنده فقبلت رأسه و يده .. لا يبدو رجلاً كبيراً في السن مقارنةً بعمره ، سلمت على أولاد عمي كان لديه فتاةٌ اسمها “نور” .. و أخرى تدعى “هاجر” ، رأيت “نور” كانت منتقبة لذا اكتفيت بإلقاء التحية .. و غادرت من أمامي لكن كان هناك شيءٌ ما و كأنني نسيت شيئاً مهماً ، عندما استدرت مرةً أخرى رأيت فتاةً تخرج من السيارة حاملةً حقيبة ظهرها .. و تعدل من عباءتها و نقابها الذي زادها جمالاً ..

كانت عيناها تلمع كأعين طفل بريء ، تلك العينان العسليتان أسرتني ..

لم أكف عن النظر إليها ، في حين أن أحداً لم يلمحها غيري .. نظرت إليَّ نظرةً سريعة تلاقت فيها عينانا ، و توقف قلبي للحظاتٍ بضعفٍ أمامها .. لا أدري ماذا جرى لي ..

سارت بينهم و لم تلقي التحية على أحد ، و لم يلقي أحد التحية عليها .. كانت و كأنها لم تكن تريد أن يستقبلها أحد ، ذهبت من أمام ناظري إلى تلك العمارة المهجورة .. و كلي أمل أن ألقاها مجدداً ..

يا إلهي أنا لا أكف عن التفكير بها هاتان العينان و مشيتها الهادئة ، و حركات يديها البسيطة لقد كانت مثالية ..

ذهبت عند أمي أحدثها عن عائلة عمي ، و كم كانوا حزينين عندما عادوا .. فقد أثاروا استغرابي ، و بعدها قالت لي لا عليك إنهم سعيدون لكنهم أرغموا على العودة فقط لأن عمك أراد ذلك .. و اكتفت بقول هذا و عيناها تدمعان ، لم أفهم ماذا يجري لكنني سأعرف الآن أو لاحقاً لا يهم ..

بعد ثلاثة أو أربعة أيام قالت لي أمي أن زوجة عمي تريد أن تذهب إلى السوق للتبضع ، و يجب أن أذهب معها لأريها أماكن الشراء لأن عمي .. و أبي كانا خارج المحافظة ، كانا ينهيان شيئاً ما يتعلق بشقة ..

كانت هادئةً لكنها فضولية و أعجبتني ، كانت تسألني عن عمري و عن الجامعة .. و هل أنا مرتبط و مع مرور الأيام اكتشفت أنها حافظة أسرار كبيرة حقاً ، لم أكن أتوقع هذا لكنها كانت طيبة القلب و حنونة .. قاطعت كلامي بينما كنت أتكلم لتسألني عن جامعة ل”نور” ابنتها ، قلت لها أدرست “هاجر” بجامعةٍ ما؟ لأنها الأكبر و هي الأولى؟ قالت “هاجر” متلعثمةً بصوتٍ غريب .. و انتهت المحادثة عند اسمها ” هاجر” ، و كأنني بدأت أعشق ذلك الاسم ..

تلك الفتاة أسرت كل شيءٍ بي ، بصراحة أنا لا أكف عن الحلم بها .. و لا أكف عن التفكير فيها ، لا أدري أهذا هو حبي لتلك الفتاة .. أم مجرد إعجاب و سيزول بعد فترة؟ ..

ذات يومٍ خرجنا كلنا في نزهة ، و كان كل شيءٍ مثالي .. فهناك هواء و عائلة و ضحك و لم يكن هناك شيءٌ ليعكر مزاج تلك العائلتين ، في تلك اللحظة كانت تجلس أمامي على ذلك الكرسي .. و تنظر للبحر كانت أشعة الشمس تتناسق مع تلك الفتاة الهادئة ، لم تأكل شيئاً أو تكلم أحداً .. اكتفت بالجلوس و التمشية ، و أنا اكتفي بالنظر إليها ..

أخيراً جاءت و جلست معنا كان أبوها لا يكف عن الكلام عنها ، و كأنها لا تشعر بمحبة الآخرين لها .. كان يقول بنتي “هاجر” كانت أطيب فتاة ، و أحن بنتٍ في قلبي .. و كان ينظر إلى الارض ، و يغير أبي الموضوع .. كانت تنظر إليه نظرة حنين ، و كأنها تقول أنا بجانبك .. لكن لم أفهم لا زلت لا أفهم شيئاً ..

ذات يومٍ دعانا عمي للغداء في بيته ، كان بيتاً جميلاً بحق .. غرف واسعة و رائحة عذبة ، بيتٌ يحمل كل معاني الراحة .. لكن كان هناك شيءٌ ما في الأجواء غريبٌ ، صوتٌ عجيب و في بعض الأحيان شعورٌ بالخوف .. لكنني لم أحمل عنان نفسي الموضوع ، و يعود السبب إلى أنه مهجور .. و تناسيت كل ما كنت أفكر فيه ، أريد رؤيتها أريد سماع صوتها على الأقل ..

قبل رحيلي بساعةٍ أو أكثر دخلت المطبخ لأسأل زوجة عمي عن شيء ، لكنها ظلت تضحك و تشير إلى وجهي .. و في تلك اللحظة رأيت “هاجر” ، و هي تدخل المطبخ و ظلت واقفةً .. و هي تتكئ على الحائط و فجأة اقتربت مني ، و وضعت يدها على لحيتي لتقول لي بصوتٍ متهدج أنه يوجد “فتافيت” من الكعك كنت قد أكلتها و لم ألاحظها .. كانت تقف بيني و بين أمها مع أن تلك المسافة لم تكن بالضيقة ، و لم تكن بالواسعة أيضاً .. نظرت إلي و كنت فقط أنظر إلى عينيها ، و قد امتلأ كياني بمشاعرٍ مختلطة .. ثم وضعت يدها على رأسي ، و مسحت بيدها نزولاً .. و قالت لي أنا أعلم كل شيء ، لذا لا داعي لكي تختبئ خلف قناع الخجل .. لكن أريدك أن تعرف أنني أيضاً مثلك ، لكن منذ زمنٍ بعيد ثم ذهبت ..

لقد شعرت اليوم بأكثر إحساسٍ أكرهه في حياتي ألا و هو “الخوف” ، لم أستطع النوم ليلاً .. كنت أغفل و أسترجع تلك اللحظة ، و أعود لأفتح عيني ..

منذ تلك اللحظة بدأت تحدث معي أمورٌ عجيبةٌ حقاً ، فمثلاً أراها أمامي و هي لا تنظر إلي حتى لكنني أشعر أن لا أحد يراها مثلما أراها .. كانت تظل بعيدةً عني في أي نزهةٍ عائلية ، لكنني كنت أقترب منها لأنني ببساطة واقعٌ في حبها .. كنت أحب كل شيءٍ بها ، و لم أَنْسَ شعور تلك اللمسة في وجهي .. أنا فقط أريدها أن تصبح لي ، كنت أريدها حلالي ليس أكثر .. لكنني أنتظر ذلك الوقت لأطلب من عمي هذا ..

بعد مرور عام من كل هذه الغرابة ، و ذات يومٍ عندما خرجنا لم أجد “هاجر” معهم .. فاستغربت و بعد أشهرٍ خرجنا فلم أجدها أيضاً ، هذه المرة ارتعبت فأنا كنت أنتظر الشهور فقط لكي أراها ..

و كأي شخصٍ واقعٍ في الحب تصرفت بتهورٍ ، و كنت أريد أن أراها .. لكنني لم أستطع فسألت زوجة عمي على سبيل المزاح لماذا “هاجر” لا تخرج معنا هذه الأيام ، و ياليتني لم أعرف و لم أسأل .. و لم أكن متهوراً لتلك اللحظة ، إذ نظرت إليّ و فتحت عينيها قائلةً هل تقصد “نور”؟ فقلت لا أقصد “هاجر” .. فدمعت عيناها و وضعت يدها على كتفي ، و قالت “هاجر؟!” ماذا تقول يا بني؟ من “هاجر” هذه؟ “هاجر” ميتة منذ سنتين ..

نظرت إليها باستغرابٍ و ضحكت ضحكةً ساخرة ، و قلت لها أنا كنت أراها كيف لم ترينها انتي .. فقالت كما أقول لك “هاجر” ميتة ، فقلت لها هل تتذكرين حينما كنتي تضحكين علي؟ حسناً لقد جاءت إلى و مسحت بيدها على لحيتي .. تذكرين هذا أليس كذلك؟ أنت الذي مسحت على لحيتك يا “خالد” ، و أرجوك توقف يا بني .. و لا تقلب عليَّ الأوجاع ، فسألتها قائلاً حسناً كيف ماتت؟ فقالت ماتت مخنوقة .. و أتوسل إليك يا بني أن تتوقف ، لأنني لم أعد أحتمل ..

ما الذي حصل أنا أموت داخلياً هذه الأيام ، لقد اشتقت لها و لم أَرَها حتى أو تجمعني بها أي علاقة .. لقد أحببتها من صميم قلبي ، مع أنها قالت لي إذا كنت تعرف أنني أحبك لما لم تبقى؟ أو أنها عادت لتقول لي أنها تحبني .. و أقول لها أنا أيضاً أحبكِ لكن لما لم تظلي كنت سأحميكي ، كنت سأفعل أي شيءٍ كي تكوني لي ..

ذلك اليوم استيقظت لأجد نفسي أنظر إلى سقف غرفتي ، فالتففت يميناً لأرى فتاةً جميلة .. تسليط أشعه الشمس على تلك الأعين العسلية ، ذلك المشهد الآسر أنا أعرفه جيداً .. و شعرٌ أسودٌ طويل كان يغطي نصف وجهها الصافي ، و لمسات أصابعها في وجهي إنها هي ..

لم أقدر على التكلم ، اكتفيت أن أشعر أنني بخيرٍ بوجودها بجانبي .. إنها حياتي و روحي ثم استيقظت لأجدها قد رحلت ، و تركت لي رسالة لا زال يتردد صداها في أذني إلى الآن .. عندما اقتربت مني و قالت لي “احبك” ..

تاريخ النشر : 2018-08-18

guest
19 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى