أدب الرعب والعام

لعنة في الصحراء

بقلم : فتاة الصحراء – الربع الخالي

لعنة في الصحراء
سحبنا الغطاء عن وجهها فإذا هي حسناء وجهها كفلقة القمر, ذات جمال عربي أصيل

لله در الدهر حين يخبرنا أن الحياة بلا رفاقٍ شاقٍ

تمتم سلطان بهذا البيت مرتشفاً آخر قطرات القهوة في فنجانه, بينما يتسامر هو وحفيديه..

غمدان: جدي هلا حدثتني مجدداً عن حكاياتك أنت ورفاقك قحطان ومرجان, كم أحب سماعها, لعمري أنها أشبه بأساطير الأولين, كما أن أختي جنان قررت كسر عزلتها والاستماع لقصتك لأول مرة.
سلطان: يا ولدي لقد قصصت لك هذه القصة مئات المرات حتى سأمت سردها, لكن هذه المرة سأسردها كرمى لعيني فتاتي الجميلة جنان..
جنان: هات من بحرك يا جدي ارجوك.. فقد اشتقت أن أسمعها, لما سمعت من وصف غمدان لها.

سلطان: حسناً يا ابنتي, كنا ثلاثة شبان نهيم في كل واد, نسافر ونطرق البلدان والوديان بحثاً عن مغامرة نحكيها لكم يوماً ما, سلطان وقحطان ومرجان..
أما قحطان فقد كان ذو بأس شديد, قوي ومهاب, بهي الطلعة وسيم الهيئة, شجاع مقدام, وأما مرجان فبالحكمة ملآن وبالتواضع وحسن الخلق فنان, جميل المبسم, أنيق الملبس, ذو رأي قويم وشور سديد, محب لحكي الأساطير, ذو ندبة عميقة أعلى حاجبه, وثالثهم أنا بالذكاء موسوم وبالعقل الراجح معروف وبالشعر لساني مشهور , وكنت بعكس ما ترونني الآن قوي البنية, جميل المنظر طويل الشعر ذو سمرة رائقة.
كنا ثالوث ذاك الوقت ( القوة والحكمة والذكاء), في أحد أسفارنا التي كانت دون هدف سوى قضاء الشباب في مطاردة السراب, أتجهنا من قريتنا في أرض كندة إلى أراض الهند والسند, وفي طريقنا صادفنا أنواع المخاطر والشرور تقابلها أنواع المسراتٍ والحبور, كانت رحلة ممتعة جميلة, ألا ليتها أيامً تعود.

وصلنا إلى ضفاف نهر مترامي الأطراف جاري المياه, وبينما نحن جلوس على ضفاف النهر نشرب ونسقي الخيل ونتمتع بغدائنا, إلا ومرت بنا قافلة من الفرس مالها غرض من النهر إلا كغرضنا, فتجاورنا وتحاورنا معهم فقد كان بينهم من هم للعربية ناطقون, وعندما أزف الرحيل استوقفتنا امرأة بيضاء طويلة القامة زرقاء العينين حمراء الشعر جميلة تسر الناظرين قائلة:

(أيا أيها الأقيال: إن بينكم ناجٍ وأنكم جميعاً لهالكون, فأما القوة فزائلة وأما العقل فتالف, وأما الحكمة لباقية, فسيروا في الأرض أحباب وعلى قلبٍ واحد حتى تجدوا لعنة مدفونة في الأرض ستضيع شبابكم وتفرق بينكم) .

ضحك قحطان متسائلاً: أيا امرأة ماذا تقولين وماذا تعنين؟ أني لأراكِ من المخمورين!! كيف تقولين أن بيننا ناجٍ وإنا جميعاً هالكين؟ وبلعنةٍ موعودين؟ وماذا سيفرق بيننا ونحن أخوة و على قلب رجل واحد واقفين؟ استوقفه مرجان قبل أن يكمل استهجانه ..انتظر يا قحطان لا تتعجل فدعنا نتحسس الأخبار منها وأني لأراها بداية مغامرة جديدة لنا, من أنتِ يا أختاه وماذا تعنين بحديثك هذا؟ قالت الصهباء موجهة نظراتها بحدة نحوي وهي تغادرنا متوجهة إلى عشيرتها : ماذا أقول وأنتم بينكم ضبعٌ سينهش ميتة ضرغامٍ ويردي صاحباً هجرساً..

وبعد حيرة وبلبلة من حديثها, ودعنا العشيرة وهممنا نسير حتى بلغنا مركز المدينة قبل الغروب وما لبثنا أن نسينا الصهباء وهواجسها, ومضت عدة إيام مذ وصلنا لمبتغانا بلاد الهند, تنافس فيها قحطان ضد أقوى فرسان الهند وهزمه ولقب بالأسد , ولعبت أنا الشطرنج ضد ملك الهند وهزمته ب ثلاث حركات وحزت لقب الثعلب الصغير, أما مرجان فكان يتأمل المدينة ويدرس اخلاق الناس فيها ومعاملاتهم, كان كمن يدرس ما حوله بصمت وخرج من الهند بعلوم وثقافات ومعاملات جديدة.

في طريق العودة من بلاد الهند قررنا تغيير طريقنا و اتخذنا طريقاً أطول علنا نجد مغامرة جديدة نسجل بها تاريخنا, وكان كذلك, فما أن وصلنا إلى صحراء في أرضٍ يقال لها (آرية), حتى صادفنا قافلة قومٍ بدا لنا كأنهم من الحجاز وكانوا على عجلةٍ من أمرهم , فما بدأنا لقائهم بالتحية حتى سارعوا بجيادهم يسابقون الريح فلم نعد نرى سوى غبار أحصنتهم, استنكر مرجانٌ الأمر وقال ألا أن في هذا الأمر لقصة, فلكزته قائلاً: مهما كانت فهي لا تعنينا فهلم نلحق بقحطان فقد سبقنا شوطاً لا بأس به, تسابقنا بجيادنا حتى وصلنا لقحطان, والذي كان متجمداً من الخوف رغم شجاعته ينظر لتلة غريبة منخفضة في الصحراء تبدو كَـقبر, تخرج من وسطها يدٌ تتراقص كأنها تبحث عمن تتمسك به وتجره لذاك القبر

تسرب الخوف إلى قلب مرجان أيضاً, فما كان مني رغم خوفي أنا الآخر إلا أن أطمئنهم قائلاً, أني أرى أن وجوهكم قد تصبغت بالخوف وأنها ليست من صفاتنا, وأني أرى أنه قبر شخصٍ دُفن حياً من قبل تلك العصبة وأشك أنهم لصوص سرقوه ودفنوه حياً, فما رأيكم أن نُجير من بالقبر؟ اطمئن قحطان قليلاً بعد سماع فكرتي فهو رغم شجاعته إلا أنه يخاف قصص الجن والقبور, وبادر لمساعدتي في إخراج الشخص من ذلك القبر, بينما مرجان يفكر ويقترب بحذر لمساعدتنا..

بدأنا نزيل الرمل عن ذلك الشخص ومرجان يمسك بيده ليجره بهدوء, وما كانت تلك اليد إلا لفتاة تلبس الأبيض كالكفن ووجهها مغطاً بقماش ابيض كالقناع, أخرجناها وهي بالكاد تتنفس, سحبنا الغطاء عن وجهها فإذا هي حسناء وجهها كفلقة القمر, ذات جمال عربي أصيل, وسمرة نحاسية جميلة, وشعرٍ أسودٍ فاحم, أبهرت أعيننا بالرغم من آثار حروق رمال الصحراء عليها, وما أن فتحت عينيها حتى بدأ سيل الأسئلة من قحطان: من أنتِ ؟ ولأي قبيلة تنتمين؟ ومن قبركِ ولماذا؟ لم تجبه الفتاة بشيء, وبقيت مستلقية على الرمال شاخصة نظرها للسماء وهي مبتسمة كأنها تشكر الرب على حياة جديدة كتبت لها؟

وبينما بدأت أسقيها الماء, التفتُ لأرى مرجاناً فوق تلة رملية قريبة ينظر للفتاة بريب وصمتِ قاتل؟ فبادرته ما بالك رفيقي الحكيم؟ ما سبب انزواءك عما نحن فيه من عجب؟ ألا يقتلك الفضول لمعرفة اسباب ما حدث لهذه الحسناء؟ استطرد مرجان قائلاً بالطبع ..بالطبع .. فلنطعمها أولاً ولنرى بعدها ما أصابها و نتدارسه ثم نقرر ما ستؤول إليه الأمور..

ما أن فرغت الحسناء من طعامها.. حتى بدأت بالكلام وما أعذبه من كلام وما أجمله من صوت.. أنا مسك أبنة أحد النجارين في الحجاز, كان الفقر ملازماً لي وأبي مذ ولدت حيث توفيت أمي وهي تلدني, وافتقر أبي بعد أن كان أحد أكبر تجار الحجاز, وأصابه الشلل وظل طريح الفراش, يطعمنا الجيران ما تيسر لهم, وما أن بلغت حتى قرر أن يزوجني بشيخ غني أكبر منه عمراً, فرفضت وبكيت وانتحبت, ولكن ما من مجيب, حتى أتى يوم الزفاف, وما أن أمسك العريس يدي حتى خر ميتاً أمام الجمع كله, فقرر أهل القرية أني أجلب النحس لمن هم حولي, وتوجهوا إلى أحد الرهبان الذي أشار إليهم: أن خذوها وأنتم عُصبة, ولا تذهبوا فِراداً, وادفنوها حية في صحراء بعيدة, ولا تقتلوها مباشرة حتى لا تصبكم بنحسها فتتعكر معيشتكم, وهذا ما تم إلى أن وجدتموني..

وما أن انتهت من حديثها حتى استأذنها مرجان واستدعانا لبقعة أخرى لمشاورتنا في أمرها بعد أن لاحظ امتقاع لوني ولون قحطان خوفاً من نحس مسك, فتقدم إلينا قائلاً أما النحس فلا وجود له أنما هي صدف ارتبطت ب آجال مقدرة, وأني يا رفيقاي أحمل في نفسي خوفاً آخر سرى في جسدي لحظة رأيتها.. سأله قحطان ما سببه يا مرجان وأنت الذي لا تخيفك الأهوال؟ أجاب مرجان أتذكرون فتاة الفرس الصهباء ونبوءتها ؟ تجمدت وجوهنا من الخوف, خوفاٌ أعظم من خوفنا من نحسها, فلو صدقت نبوءة الصهباء فإن حياتنا كأخوة ورفاق انتهت وشبابنا ولى؟

وقف قحطان غاضباً ..أني لقاتلها.. أوقفته قائلاً: ما بالك لسنا بقتلة ولا فجرة, ما ذنب فتاة بريئة مظلومة أن تؤخذ في جريرة نبوءة لا ناقة لها فيها ولا جمل؟ وقف مرجان موجهاً حديثة لقحطان: صدق سلطان, ولكن لو تجاهلنا تلك النبوءة أخشى أن تصدُق ونهلك.. وهنا ثار قحطان مجدداً فلنتركها هنا مالنا ومالها؟ أجابه مرجان: لا ..كيف نتركها هنا في بيداء مقفرة, ناهيك عن قطاع الطرق والموت جوعاً, أخشى أن نظلمها ونؤخذ بظلمها.. صمت مرجان لوهلة قبل أن يكمل ما رأيكم: أني متخذها زوجة لي بعد مشاورتها, فإن قبلت فقد أمنّا شرها إذا كانت هي لعنة نبوءة الصهباء, ونأمن نحسها المفترض, وبعد جدل وإصرار من مرجان قبلنا بما أدلاه على مضض, وتوجهنا ثلاثتنا نحو مسك وبادر مرجان بالكلام:

أنظري يا ابنة العرب نحن قومٌ لا نترك نساء قومٍ في خلاء, ولا نأخذ نساء قومٍ سبايا, وأننا لمن أسياد قومنا وأنه لمن العار أن نأتي القوم بفتاة من فلاة, لا يُعرف قومها ولا تربطنا بها قرابة, فما رأيكِ أن تتزوجي أحدنا؟ فيكون لك نجاة وستر وحياة , وإلا تركناكِ هنا بمأكل ومشرب وسلاح تدافعين به عن نفسك إلى أن تقرري طريقكِ؟ فماذا ترين في أمرك؟ أجابت مسك: أما البقاء هنا فهو عسير حتى بوجود المأكل والمشرب والسلاح.. وأما الزواج فلا مانع لي به شرط أن أختار فيكم من أراه زوجاً لي وإني لأراك أنت يا مرجان الأقرب لتكون زوجاً لي فماذا تقول؟ ابتسم مرجان في رضا تام بعد أن كان خائف أن تختار أحدنا لأننا كنا متخوفان منها ولم نبدِ أي رغبة بها, فقال لها تم لكِ ما طلبتِ…

وعدنا إلى بلدتنا ونعمنا بالرخاء والسلام وأنجبت مسك طفلاً جميلاً وعندها اتفقنا ورفيقاي أن نعود للترحال والبحث عن المغامرات التي تحيي الشباب, فودع مرجان عائلته ومضينا في طريقنا وهذه المرة شددنا الرحال إلى بلاد الشام, استمرت الرحلة لأشهر عديدة لم تخلو من المتعة والمغامرة والفائدة, وفي رمال الصحراء القاحلة وبينما قحطان ومرجان يتسامران ويضحكان أمام اللهب الخافت للنيران, كنت أنا أتأمل انعكاس القمر في مياه الواحة الصغيرة التي أجلس قربها, وما أن أمعنت النظر جيداً حتى رأيت طرف شيء يلمع, حاولت جره لكني لم استطع فما كان مني إلا أن ادخل للبركة الصغيرة وابدأ بالحفر بكلتا يداي حتى بان المدفون, وما هو إلا صندوقٌ ذهبي صغير يخلب الالباب جماله ودقة صنعه, مغلق بثلاثة قفول, وتحت كل قفل هناك نصوص عربية, أخذته وذهبت به راكضاً إلى رفيقاي فانبهرا وتعجبا من جمال الصندوق وبدءا في استكشافه وتساءلا عما يحتويه وعن مفاتيحه, أخذت الصندوق منهما وقلبته لتتضح الكتابة تحت ضوء النيران أنها ثلاثة ألغاز وكل حل للغز كما يبدو هو مفتاح لأحد القفول, وبدأنا في قراءة الألغاز ومحاولة حلها: فكان اللغز الأول:

يزيد زيادة وهو مقدر وينقص دون أمرٍ قد يُقالَ
نخاف علينا منه حين يقصر ونخشى أن يقل وأن يُزالَ

فكر مرجان وقحطان في الحلول الممكنة, بينما بقيت أنا ساهماً وقد عرفت حل اللغز, لكني فجأة تذكرت نبوءة الصهباء و تفاصيلها, وتملكني الرعب من أن أودي برفيقيّ وشبابنا إلى التهلكة, لكني ارتأيت التزام الصمت حتى لا أزعج صاحبيّ بلعنةٍ وهمية قد نسياها, هتفت بصوت عالٍ طارد تلك الصهباء اللعينة من رأسي: العمر…التفت مرجان وقحطان إلي متسائلين عما أعنيه.. فقلت لهم أنه العمر, حل اللغز هو العمر, وما أن نطقت الحل حتى انفتح أول قفل في الصندوق, وسط دهشتي ورفاقي, وفي التو قلبنا الصندوق لنقرأ اللغز الذي يليه بحماس لرؤية محتوى الصندوق السحري, وكان اللغز الثاني:

هي لغةُ للأموات جامعةٌ وليس لحي أن يحيا بلاهُا
إذا همست فأنت جد قاتلها ونطقٌ اسمها يبطل كل معناهُا

تحدث قحطان متسائلاً بنوع من السخرية يا إلهي ما هذا اللغز المخيف, أين نحن من لغةٍ تجمع الأموات وما أدرانا بها؟ ابتسم مرجان وأجاب بهدوء إن الأموات لا يتكلمون, وهنا نطقت أنا بالحل قبل أن يستكمله مرجان.. الحل هو لغة الصمت فالأموات لغتهم الصمت.. انفتح القفل الثاني وقد امتلأت نفسي غبطة يشوبها بعض القلق وفرحة عارمة من قحطان ومرجان, أخذ قحطان الصندوق وقلبه وبدأ يتلو اللغز الثالث:

يحيط بك دوماً دون عذرٍ ويرفض أن يبيد وأن يحيد
تعيش به وأنت له شكورٌ ودونه لا يدوم لك وجود

التفت مرجان لناحيتي قائلاً هات ما عندك واقرئنا الحل, فأني أرى من تلألئ عينيك أنك تعلمه, فأجبته بصوت مرتجف وقد بدا الخوف عليه, نعم لقد علمت الحل لكني لن أقوله حتى أشارككم مخاوفي فحياتنا جميعاً ع المحك, تفاجأ الاثنان مما قلت واخرج قحطان سيفه وبدأ يتلفت يمنة ويسرة متسائلاً عما قد يسبب خطراً على حياتهم في هذا الوقت من الليل وفي هذه الصحراء المقفرة إلا الحيوانات المفترسة أو قطاع الطرق, فنهض مرجان ووضع يده على كتف قحطان مطمئناً له, استرح يا صديقي فأظن أني فهمت ما يرمي إليه سلطان, افلا يكون قصدك نبوءة الصهباء الفارسية؟ هز سلطان رأسه موافقاً, بينما استطرد قحطان قائلاً: يا إلهي ما أسخفكما, أمازلتما تعيشان وهم تلك الصهباء؟ ثم حتى لو كان هناك خطر على حياتنا فما هو الخطر الذي سيواجهنا ويقضي علينا من صندوق ذهبي صغير لا أرى فيه غير ثروة سيتنعم بها ابناؤنا أعواماً مديدة؟

استطرد مرجان ثم يا سلطان تلك النبوءة التافهة تشير إلى لعنةٍ مدفونة في رمال الصحراء أما هذا الصندوق فوجدناه في مياه الواحة, أفلا ترى وجود اختلاف يخل بتلك اللعنة, أجبت وقد أطمئن خوفي قليلاً حسناً كل ما قلتماه صحيح وربما التعب من الطريق قد أخذ مأخذه مني وسلب مني الفكر السديد, فإن حل اللغز الثالث هو الهواء.. وسط استعداد وحماس وفرحة ممزوجة برهبة فتح القفل الثالث وفتح معه الصندوق.. وما كان داخل الصندوق إلا خنجر مصنوع من الذهب الخالص, مرصع بأنواع الجواهر والأحجار النفيسة, نظرنا إلى الخنجر بانبهار وسعادة بالغة على ما وجدنا, حتى قطع ذاك الانبهار صوت مرجان, أي رفيقاي أني أرى أنّ الله قد أنعم علينا بهذه اللقطة وأني لا أرى فيها فتنة علينا, فما قولكم في أن نبيعها في أسواق الشام ونقتسم ثمنها ؟ أجاب قحطان موافقاً: نعم القول السديد أيها الرفيق الحكيم, وتوجها بنظرهما إلي متسائلين وأنا ما زلت أتأمل الخنجر, ما رأيك يا سلطان: فأجبت اسمعوا يا إخوتي إني لأرى سراً في هذا الخنجر فانظرا إلى نصله في ضوء القمر أن فيه كتابة وأني لأراها ليست عربية , وأشور عليكم أن نذهب بها إلى أحد الرهبان ممن أوتوا علم اللغات حتى يترجمها لنا وأن لم تكن تلك الكتابة أحدى طلاسم السحر أو لعنة مكتوبة, فسنبيعها ونقتسم ثمنها. أجاب الصاحبان نعم الرأي يا سلطان.

فنمنا تلك الليلة وما أن شعشع نور الصباح حتى شددنا الرحال إلى مركز المدينة وأسواقها بحثاً عن أحد الرهبان الذين تعج بهم المدينة, وكان لنا ما أردنا.. فقد دلنا أحد الباعة إلى كبير رهبان المدينة , وعند أول نظرة ألقاها للخنجر وصندوقه, قال أنه من صنع الجن وأنه خنجر أحد ملوكهم وإن به لقوة, فهو به خادم من الجن قوي ذو بأس شديد يقال له: زاياك, يحضر عند قراءة استدعائه المكتوب بالعبرية على نصل الخنجر, فبيعوني أياه فإني له من الحافظين, حتى لا يصبكم منه أذى فتهلكوا وتُهلكوا, تحدث حينها مرجان قائلاً فانتظر نتشاور في أمرنا ونعلمك

اجتمعنا ورفيقاي في أحد الغرف المجاورة وبدأ نقاشنا, قال مرجان: لا حاجة لنا بالمال فنحن من علية القوم ولدينا ما يكفينا وأني لراغبٌ بالقوة التي في هذا الخنجر فما رأيكم أن نحفظ الخنجر ويكون ذاك الـ زاياك خادماً لثلاثتنا, فقال قحطان: لا طاقة لنا بمكر الجن ولا بخداعهم ولا بمقاتلة ملكهم أرى أن الأفضل بيعه للراهب, حينها قلت: نعم الرأي رأي قحطان, فلا أرى ما يستدعي أن نملك الجن ولا أن يتملكونا فإن لنا في قصص الأولين معهم لعبرة, ثم تقاسم خدمة زاياك بيننا ستؤدي بلا شك إلى الصراعات والفتنة والفرقة بيننا وأن رأيي لهو البيع واقتسام الثمن..

اقتنع مرجان برأينا اخيراً وبعنا الخنجر وتقاسمنا الثمن وعدنا بأمان وسلام إلى بلادنا بعد أن نجونا من فتن ما دفن في الصحاري بسداد رأينا وقوة رفقتنا وأثبتنا للعالم أجمع أن النبوءات واللعنات ماهي إلا محض هرطقات, وكانت تلك آخر رحلاتنا,, وبعدها بسنين توفي قحطان مطعوناً, وبعده أختفى مرجان وعائلته اثناء أحد زيارتهم للحجاز وقيل أن قوم مسك اغتالوها وزوجها وولدهما خوفاً من نحسها الذي كانوا مازالوا يؤمنون به, ولكنه قبل سفره أودعني بضع ابيات أمرني أن لا أقص قصتنا إلا بأن ألقيها على المستمعين كفائدة ونصيحة استنبطها من رحلاته, اسمعني أياها يا غمدان فلا بد أنك لها حافظ فقد سمعتها مني مئات المرات: أجاب غمدان بالطبع ياجدي:

قتلني الناس في الدنيا وقد رخصت جزا الله شراً من شانت نواصيهم
مرج العهود لهم عهود قد بدت من فارس حتى الديار مراسيهم
ان البحار ورغم حسنها غدرت وحكت اساطير من كانت تواريهم

وها أنا هاهنا بعد أن انتقلت من كندة إلى الشام بعد أن توفت المنية جدتكما تاركة لي والدكما, وتزوجت بعدها جدتكما زُهرة.
فما رأيك يا جنان فيما سمعتِ ؟
لم تجب جنان ذات التسعة عشر ربيعاً على سؤال جدها, وقامت من مجلسه حائرة, وتوجهت إلى مخدعها دون أن تنبس ببنت شفه, فاستغرب سلطان من حفيدته أيما استغراب فليس طبعها تجاهل الكبار, ولكنه آثر الصمت وافترض أن الفتاة ملت وغلبها النعاس..

وبعد سويعات مضت عادت جنان إلى مجلس جدها, وقالت: أيا جدي الحبيب, إذن لم تصبكم لعنة الصهباء الفارسية؟
كم أتمنى لو أني سمعت هذه القصة من سنين خلت, أذهب يا غمدان وتنبأ لنا من العشاء ثم اذهب لتلاعب أقرانك ريثما نتسامر أنا وجدي قليلاً, وانطلق غمدان دون جدال لما يعلمه من شدة أخته جنان, التفتت جنان لجدها سلطان قائلةً: إذن فإن الحقيقة كلها في تلك الأبيات: الواضح وضوح الشمس يا جدي أنها ليست لشخص ينوي السفر أنما لشخص على مقربة من الموت, فالبيت الأول يصف بجلاء قهر قائله وأنه تعرض للغدر بسبب دنيا فانية, و البيت الثاني يخفي الكثير بين أحرفه, فقد تعمد القائل ذكر فارس بوجه الخصوص رغم أنه لم يذهب إليها, ليُعلم المستمع أن نبؤة الفارسية تحققت, كما أن مرج العهود مفردة مبهمة غير واضحة, يوجد ما هو أفصح وأجزل منها, و لا يستعملها من له باعٌ طويل في الشعر والبلاغة إلا لدلالة معينة سأوصلك إليها لاحقاً, و في البيت الثالث وصف صاحب الأبيات شخصاً بأنه كالبحار تغدر وتحكي أساطير من ابتلعتهم, دلالة أن قاتله غدر به كالبحر وهو شخص يهوى رواية الأساطير ..و أنت يا جدي و في وصفك لنفسك في بداية القصة ذكرت أن لسانك بالشعر مشهور ولكني لم أسمع منك بيت شعرٍ واحد طيلة حياتي, بالمقابل أنت دائم الحديث عن الأساطير والحكايات وهذا الوصف ينطبق تماماً على مرجان كما وصفته أنت, وإذا كانت تلك النبوءة تحققت فالأكيد أنها تحققت بحذافيرها اذ قالت الفارسية: أما القوة فزائلة وتعني بذلك قحطان, وأما العقل فتالف وتعني هنا سلطان, وأما الحكمة لباقية فهي دون شك تعني مرجان, وهذا يعني أنك الضبعٌ الذي نهش ميتة ضرغامٍ وهو قحطان وأرديت صاحباً هجرساً وهو سلطان.

أخيراً أن هذه الأبيات قيلت من ميتٍ علم أنه لا محالة هالك ولم يكن ليختم حياته بقول الحكم والمواعظ أنما سيسعى لكشف قاتله , وهو مالم تدركه حكمتك طيلة سنين سردك لهذه القصة, فلو أنك جمعت الكلمات الأولى من الشطر الأول في الثلاثة ابيات معاً ستكون( قتلني مرجان), أكاد أقسم أنها ليست مصادفة, فإن كان ما ذكرته هي الحقيقية أو ما يقاربها فاسردها لي يا مرجان..

انبهر الجد من كلام حفيدته وتوسعت عيناه حتى كادتا تخرجان من محجريهما, وتردد وامتقع لونه, لكن ما لبث أن هدأ سريعاً وتدارك الأمر ولملم شتات نفسه, أجابها وابتسامةٌ هادئة لاحت في محياه.. يمكنني أن أنفي كل كلامك جملة وتفصيلاً كونكِ لا تملكين دليلاً ملموساً ولا قولاً أكيداً على ما افترضتِ, لكني لن أفعل ذلك, و نعم أنها الحقيقة يا ابنتي الجميلة..

جنان: ولأزيدك : لفت نظري في بداية وصفك لصاحبيك وصفك الندبة المهيبة أعلى حاجب مرجان ربما سهوت أو أخطأت التعبير أو أنك فقط قررت الحفاظ على جزء من شخصيتك الحقيقية بدون تزييف لا أعلم حقاً, لكني أرى بقايا أثرها فيك عالمة وإن كان الزمن قد جعلها جزءً من تجاعيدك, ولكن تلك الأبيات أكدت لي ما شككت به, وأكاد أجزم أن البداية حقيقية, وأنا متأكدة أيضاً أن نبوءة الصهباء الفارسية ولعنتها حلت عليكم ولكني لم أكتشف أين كانت بداية التحقق (مسك أم الصندوق) وأين انتهت أو كيف؟ فأخبرني من أين بدأت تكذب؟

الجد: يبدو أنك ذكية يا ابنتي, واستطعتِ سبر أغوار القصة بسهولة..

جنان: بسهولة يا مرجان بسهولة.. ف هات ما عندك.

استسلم الجد تحت إصرار جنان: فأما ما سبق حكاية مسك فهي الحقيقة, وأن ما بعدها لهي بداية النهاية.. فأنصتي:

الحقيقة أن مسك اختارت سلطان لَمَا لاحظت فطنته وذكائه ولين أسلوبه فأعجبت به و اختارته, بالرغم من أني عرضت نفسي عليها لما أخفيته في قلبي من حبٍ لها مذ وقعت عيناي عليها متجاهلاً نحسها المزعوم, وكذلك الأمر بالنسبة لقحطان, فقد شغفه حبها هو الآخر فجمالها ومنطقها ورجاحة عقلها وشجاعتها لم يسبق لنا به علم, بالرغم من كثرة النساء والجواري حولنا.. فعندما اختارت سلطان دوننا ونحن أجدر منه وأقوى, أصابنا من الحقد والغيرة ما أصابنا ولكننا كتمنا ذلك الحقد وأسكتنا صراخ الغيرة في دواخلنا درءاً  للفتنة فيما بيننا, وباركنا للعروسين وتمنينا لهما سُعد الحياة, وعاشا في هناء ورغد, بينما أنا وقحطان نرتحل في وحدة وقهر حولاً كاملاً, حتى أننا ذهبنا للحجاز في عدة أسفار علنا نجد من ريح المسك شيئاً,, وكنا نعود كما ذهبنا خاليا الوفاض

حتى أتى اليوم الذي دعانا فيه سلطان إلى بيته للعشاء والمسامرة لنحيي أيام المغامرة, فتعشينا وتسامرنا بسعادة, إلى أن دخلت مسك لتحيينا وترحب بنا, وفي حضنها طفلها ذو العدة أشهر والذي أخذ من جمال والدته الكثير, فعادت مشاعر الحقد والغيرة من سلطان والعشق والوله لمسك كنيران سعير في قلوبنا, فودعناهما وخرجنا لأحد حوانيت الخمر, وبينما نحن نشرب بدأ قحطان يهتف إنها لي, أنا من وجدتها, كان لي أخذها عنوة ولكنك ظلمتني بحكمتك يا مرجان واقتراحك المريض ذاك, وقبل أن يكمل هواجسه, أخرجته من الحانوت قبل أن يسمعنا أحد وأدخلته منزلي, وجعلت أسقيه الماء حتى أفرغ ما في بطنه وبدأ يستعيد وعيه من آثر الخمر.. فبدأت الحوار معه قائلاً: أني لنادمٌ من حرمانك زوجك, وأنا ها هنا جاهز لمساعدتك في استرجاعها, فلا طاقة لي بكرهك وحقدك.
قحطان وقد بدا كأن غضبه يتصاعد: كيف ذلك وهي تعيش بسعادة مع زوجها وولدها.

فأجبته قائلاً: سنخرج في رحلة أخيرة معاً, وسنقتل فيها سلطان, ثم نعود ونخبر مسكاً أن زوجها قتل من قبل أبناء قبيلتها في الحجاز وأنه أوصانا أن نزوجها لك حتى تدرأ عنها شر قبيلتها لِما وصِفتَ به من قوة وشجاعة من كندة حتى الهند والسند, وأنا سأكون لك شاهداً, فانظر ماذا تقول؟

نظر قحطان بأعجاب إلى حكمتي ومكري وربت على كتفي فخوراً قائلاً: نعم الخل ونعم الرأي ونعم القرار.
فذهبنا صباح اليوم التالي لبيت سلطان وقد أشرت لقحطان أن يدع الحديث لي, و استقبلنا سلطان بكل حب وفرح وحبور قائلاً : حللتم أهلاً و وطأتم سهلاً, فليس لكم مخرج اليوم من داري حتى نتغدى سويةً ونخرج للصيد معاً.. فقاطعته قائلاً: لدارك خيرٌ لنا من ديارنا ولمجلسك خير لنا من مجالس اهلنا, ولغدائك أطيب لنا من غداء ملوك الحيرة والشام, وكله لنا واصل.. ولكننا جئناك في أمرٍ سعيد ونرجو منك القبول, أجاب مرجان: إن كان مطلبكم عندي فهو لكم وإن كانت نفسي, فما طلبكما يا رفيقا الدرب؟ فأجبته باستحياء وخجل وندم لما رأيت من كرم أخلاق وطيب فيه ولما أضمرناه له أنا وصاحبي من شر ولكن هاهنا لا تراجع عما نوينا: إن قحطان قد قرر الزواج من أحد بلدان الشام ونحن هنا نرجو أن ترافقنا لنخطب له فما رأيك ماذا ترى؟ فقام من مقامه وأسرع لقحطان يضمه ويبارك له وقد انفرجت أساريره من الفرح, فقال لنا: أني معكما لمن الحاضرين, فمتى نشد الرحال إلى الشام؟ فأجاب قحطان: الليلة.. وخرجنا من عنده وقد اتفقنا على اللقاء والرحيل ليلاً..

عندما حل الغروب بدأت رحلة الموت والخيانة, وسرنا مسافة خمس ليالٍ حتى وصلنا واحة في أحد الصحاري وجاء ما سبق من حديث الصندوق بتفاصيله كما ذكرته سابقاً, وحللنا أحجيات الأقفال وسط خوف سلطان من تحقق نبوءة الصهباء التي لم يكن يعرف أنها تحققت من لحظة أنقذنا مسك, وذهبنا بالفعل إلى الراهب ولكني لم أكن راضياً عن بيع الصندوق بعد أن سمعت بوصف الراهب له, لغرضٍ في نفسي, فانتظرت نوم رفيقاي وذهبت إلى الراهب ودفعت له ضعف ما دفع واستعدت الصندوق وعدت إلى سلطان وقحطان كأن شيئاً لم يكن

في الصباح استفسر سلطان عن البلدة التي سنخطب لقحطان منها, فأجبته أنها على بعد ثلاث ليالٍ من مكاننا هذا, فأكملنا مسيرنا حتى بلغنا في ثالث ليلة مكان مقفر مقطوع قررنا أن نتخلص من سلطان فيه, إلا أن القدر أبى واقترح غير ذلك, فما أن هممنا بالغدر بسلطان حتى أُحِطنا بقطاع طرق أشداء سرقونا وهاجمونا وأخذوا منا كل ما نملك من مأكل ومشرب وسلاح وخيل وعندما حاول قحطان قتالهم اجتمعوا عليه وأصابوه في مقتل وتركوه ينزف حتى مات, فما كان منا أنا وسلطان إلا انتظار القوافل متناسياً أنني اخترت هذا الطريق المقفر لقتل سلطان لشحة المارة فيه, وانتظرنا ليلتين حتى تمكن منا الجوع والعطش و أصبحنا غير قادرين على المسير, فاقترح سلطان أن ندفن قحطان هنا ونعود أدراجنا, فقلت له وكيف نسير مسيرة ثلاث ليالٍ ونحن لا نقوى على الحركة إنا لفي دربنا هالكون, فأجابني لعلنا نصادف بعض السيارة فينقذوننا, فالجلوس هنا لا طائل منه

نظرت إلى وجه قحطان النائم بسكون بجواري, وضحكت بصوتٍ عالي وقد غاب عني عقلي من شدة الجوع والعطش, وقمت من مكاني زاحفاً حتى بلغت جثته وبدأت آكل من ذراعه واتلذذ بها وأنا بين ضحك شديد ونواح عميق حتى شبعت, وما أن نهضت حتى سقط مني الصندوق الذهبي, عندها رأيت عينان حائرتان خائفتان لائمتان تنظران إلي بوجل, فتداركت الوضع وقلت مالك يا سلطان إننا جائعون هالكون مضطرون وإن لم أفعل ما فعلت لفعلته دواب الصحراء من ضباعً وسباع, فانهض وافعل كما فعلت أنا لعلها تكن بداية النجاة..

حينها جلس سلطان ورفع ناظره إلي والدموع تنسكب من عينيه بآسى وحزن وقلق وقال: يا مرجان أنك لقاتلي.. فتفاجأت من قوله واستغربت كيف علم بخطتنا حتى أني توجست من أن يكون قحطان اعترف بالخطة لسلطان في لحظة ضعف ألمت به. ولم يتركني أكمل الأبحار في بحر الاحتمالات فأكمل كلامه هادئاً : (ماذا أقول وأنتم بينكم ضبعٌ سينهش ميتة ضرغامٍ ويردي صاحباً هجرساً.) هذا الجزء الأخير من نبوءة الصهباء أنت هو الضبع فهو متصف بالغدر وقد نهشت الضرغام وبقي أن تردي الهجرس…فمتى بدأت اللعنة حتى تنتهي؟ فأخبرته ببداية اللعنة وتفاصيل خطة موته على يدينا أنا وقحطان, حينها ابتسم قائلاً وأنت كنت ستكون الفائز بالطبع فبدون شك كنت ستقتل قحطان من بعدي وخوفاً من قوته وبطشه كنت ستستعين بخادم الخنجر آزاك؟ ابتسمت له ابتسامة منتصر, وقلت حسناً هذا ما كان مفترض أن يحصل, لكن الأفضل هو ما قررته الأقدار فمجرى الأمور حتى اللحظة تصب في صالحي, حينها قال لي إذن إني هالك لامحالة, و أنت بلا شك ستذهب إلى زوجي وولدي ياسين مدعياً الوصاية عليهما بوصية مني, حسناً.. فإني أوصيك وصية ميت لا تخنها فتندم, أن تلقي هذه الأبيات على كل من سترافقه من ولدي ياسين وولده, هي نصيحة وحكمة علها تنجيهم من الغدر ولا يقعوا فيما وقعت ..قلت له : فهي أمنية ميت ووصيته وأني لمحققها ما دمت حياً, هات ما عندك, فألقى أبياته حتى حفظتها وأصبحت ألقيها لياسين ومن بعده غمدان حتى حفظها..

جنان: وماذا حصل لجدي سلطان ؟

مرجان وقد بدأت دموعه تنسكب بيأس ومرارة وندم: بعد أن ألقى ما لديه من قصيد نهض وبدأ يهرول باستماته وهو مرهق البدن لا يقوى على الركض وأنا أمشي خلفه الهوينا, عله يتعب ويتوقف قلبه وأسلم من ذنب قتله, ولكنه ظل يجري حتى وصل تلة على هاوية ووقف عندها يستجدي الحياة ويسألني الرفق وتذكر أيام مغامراتنا وكم دافعنا عن بعضنا في وجه المصاعب والشدائد, لكني لم أستمع لتوسلاته فلن آمن غدره إذا بقي حياً بعد أن علم ما علم من خبايا نفسي, فأرديته من فوق التلة ..بعدها عدت إلى المدينة وبعت الخنجر للراهب, ثم عدت وحيداً لكندة وما إن وصلت حتى ذهبت لمسك وقلت لها قد مات سلطان وقد قتله أبناء قومك عندما علموا أنه زوجك وفي أثناء قتالهم قتل قحطان وهو يدافع عنا, فسحبني سلطان وقد أصيب في مقتل وأمرني بالزواج منك وتربية ياسين كأنه ولدي فانظري ماذا ترين؟

فخرجت مسك باكية منهارة وهي تحتضن رضيعها ودخلت منزلها وأقفلته, وما كان منها إلا أن أتتني بعد ذلك بيومين وقالت لي: أيا مرجان أما وصية زوجي فإني بها قائمة، وإني أقبل الزواج بك, فأنت الأخ لزوجي, ونعم الأب لولدي ونعم السند لي, وأما الحب فهو لرب بيتي ووالد ولدي وإن القلب لا سلطان له إلا سلطان, فلا تحملني مالا طاقة لي به, فما رأيك؟ فوافقت متأملاً أنها ستحبني في يومٍ ما, لكن ذلك لم يحدث بل استمرت في حزنها ورثائها زوجها حتى ماتت بعد زواجنا بعام, فكرهت المكان والزمان, وعلمت أني كنت مفتاح لعنةٍ أتلفت معيشتي وجعلتني أخسر الرفقة والأخوة وحتى الحب, وهنا فهمت معنى كلام الصهباء أن منكم لناجٍ وأنكم جميعاً لهالكون, فقد هلكنا جميعاً في آخر رحلاتنا وهلكت أرواحنا وبقيت أنا ناجِ بالجسد فقط, فهاجرت مع ياسين لحيث لا يعرفني أحد وأتيت للشام وغيرت اسمي لسلطان حتى لا أحرم ياسين من اسم أبيه بعد أن حرمته منه وانتحلت صفته ولسانه حتى في سردي لقصصي ..

وباقي القصة كما تعرفينها ، تزوجت زُهرة بعد موت مسك ولم أنجب فأنا عقيم, وربيت ياسين وزوّجته, وعلمته الفروسية والقتال وجعلته يجالس العلماء ليرتوي من بحر علمهم, وها هو ذا أب لطفل شجاع وابنة ذكية ورثت ذكاء جدها سلطان.

جنان والدمعة تنسدل على خدها: أنى لك أن تعيش سعيداً وتتنفس بعد كل ما فعلته, ألا ينتابك عذاب الضمير؟

مرجان: كنت أتنفس وأعيش يا صغيرتي جسداً بلا روح بعد ما فعلت, إلى أن رأيت ياسين يكبر بين يدي ومن بعده أنتِ وغمدان, تناسيت جرمي مخافة فقدانكم, ولكن لابد لشمس الحقيقة أن تبزغ ولو بعد حين, فانظري ماذا ترين فلابد أن الوقت قد حان للقصاص؟

خرجت جنان من مجلس جدها وهي بين ذهول وحزن, ودخلت حجرتها و أخذت تفكر باكية .. هل تخبر أهلها بما علمته من خبر جدها سلطان, وأن بينهم قاتل منافق اسمه مرجان, أحبته ومازالت تحبه كجد حقيقي لها, تخيلت ردة فعل والدها إذا علم أن مرجان الذي لم يعلم أباً غيره لم يكن إلا قاتل أبيه, وقاتل أمه قهراً, فكرت في الجميع الجدة زهرة وغمدان وعن صدمتهم إذا علموا الحقيقة, كم حياة ستتدمر إذا انكشف هذا السر .

بعد أن تآكلتها نيران الحيرة والحزن والغضب قامت مسرعة إلى صندوق صغير كانت تخفي فيه أشيائها وأخذت منه شيئاً وخرجت.. وبين دخول غمدان بأطباق العشاء وذهابه لإحضار الشراب, دخلت جنان إلى مجلس الجد وفي يدها زجاجة صغيرة أهدتها لمرجان وهي تبكي قائلة:

السر باقٍ ليس له طريق والذنب قاسٍ والعقاب أكيد
خذ ما لدي فأني به صديق لتلقى السماح وهو ليس بعيد

وقبّلت جبينه وخرجت, ضحك مرجان بأسى وهو يقول ما مات من ترك خلفه ولده, أحسنتِ يا ابنة ياسين ابن السلطان.

في اليوم التالي وجد مرجان وقد فارق الحياة, وافترض أهله أنه مات بسبب تعب قلبه الذي كان دائماً يشكو منه.

النهـــــاية

معاني :
القَيْلُ: من ملوك اليمن في الجاهلية، دون الملك الأعظم. وجمعها أقْوالٌ، وأَقيالٌ.
الهجرس: صغير الثعلب.
ضرغام: أحد أسماء الأسد.
آرية: مدينة هراة (هرات) الافغانية حالياً..
مات مطعوناً: أي مات بمرض الطاعون.
مَرِجَ العَهْدُ : قلَّ الوفاءُ به.

ملاحظة:
– قد لا تكون الأحجيات والأبيات الشعرية متقنة, وتفتقر للوزن الصحيح والكلمات القوية, لكنها جزء أساسي من القصة ولابد من وضعها لتصل الفكرة كما أردتها.. وأتمنى أنها أدت الغرض المراد منها.

تاريخ النشر : 2018-08-18

فتاة الصحراء

السعودية
guest
61 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى