تجارب واقعية من أرض فلسطين 15
كان يتجول بين الأشجار أمامي |
اليوم سوف أروي لكم قصةً جرت أحداثها في بداية ثمانينات القرن الماضي ، بالقرب من إحدى المؤسسات التعليمية الفلسطينية .. المحاطة بحدائقٍ و أشجارٍ كثيفة ، و قد وقعت في هذه المنطقة أحداثاً غريبة .. أحكيها لكم على لسان صديقٍ لي ، سمعها من أصحابها .. فهيا بنا إلى التفاصيل ..
يقول صديقي أنه التقى برجلٍ يدعى “أبو سامي” ، و كان يعمل طباخاً في إحدى المستشفيات .. و كان مكان سكنه قريبٌ من المؤسسة التعليمية ، حيث حدث معه في أحد الأيام موقفٌ غريب .. لم يصدقه أغلب من أخبرهم به ، و لكنهم في نهاية المطاف صدقوه .. بسبب توالي الأحداث الغريبة في هذه المنطقه فيما بعد ..
يقول “أبو سامي” في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، كنت أعمل طباخاً في إحدى المستشفيات .. و أذكر أنه في أحد الأيام كنت قد تأخرت في العمل حتى المساء ، بعدها قررت إنهاء العمل .. و العودة للبيت و لكنني حين وصلت للشارع ، كان فارغاً من السيارات تماماً .. فانتظرت طويلاً و لكن دون فائدة ، فقررت العودة للمنزل سيراً على الأقدام .. و كانت المسافة بين مكان عملي و المنزل حوالي خمسة كيلومترات ..
المهم بدأت بالمسير نحو المنزل ، و بعد مدةٍ من الزمن .. وصلت إلى مشارف البلدة ، و كان عليَّ أن أمر بجانب المؤسسة .. و كان التعب قد نال مني ، و فجأة إذ بي أرى مجموعةً من الرجال يقفون أمامي .. فحسبتهم في بادىء الأمر من حرس المؤسسة ، فاتجهت إليهم لألقي عليهم السلام .. و لأتبادل معهم أطراف الحديث قبل أن أواصل سيري ، و لكنني و قبل أن أصل إليهم .. هالني ما رأيت ، فالذين أمامي لم يكونوا حراس المؤسسة .. و إنما كانوا عبارةً عن مجموعةٍ من الجنود ، و الغريب أنهم يشبهون جنود الجيش البريطاني وقت الاستعمار للبلاد ..
لم أصدق ما رأته عيناي ، يا إلهي إنهم جنودٌ إنجليزٌ بالفعل .. أنا أعرف زِيُّهُم و أسلحتهم جيداً ، فقد عاصرتهم في شبابي .. و كثيراً ما قاموا بتفتيشي على الحواجز ، و لكنهم خرجوا من البلاد منذ مدة طويلة .. إذاً كيف أراهم أمامي ، ما الذي يحدث .. يالغبائي يبدو أنهم مجموعةٌ من الممثلين قد حضروا للمؤسسة ، لتمثيل مسرحيةٍ عن فترة الاستعمار .. حسناً لأذهب و أتحدث إليهم ، السلام عليكم أيها الشباب .. و لا أحد يجيب ، إنما اكتفوا بالنظر إليّ .. يبدو أنكم إنجليزٌ حقاً ، لذلك لم تفهموا كلامي .. حسناً good evening و لكن أيضاً لا يوجد رد ، هنا لاحظت أمراً غريباً ..
هؤلاء الجنود ثيابهم ممزقة و ملطخة بالدماء ، و يبدون في حالةٍ من الغضب .. إن من ألبسكم هذه الملابس ، و عمل لكم هذا المكياج حقاً بارع! .. و كأنكم جنودٌ حقيقيون قُتِلُوا في المعركة ، و لكن لم يجبني أحدٌ منهم .. و إنما اكتفوا بالنظر فقط ، هنا بدأ الخوف و الشك يدخل في قلبي .. من هؤلاء و لماذا ينظرون إليَّ بغضبٍ هكذا ، فقررت الابتعاد عنهم و مواصلة المسير .. و قبل أن أترك المكان ، إذا بالجنود ينتظمون في صفٍّ واحد .. ثم بدأوا بالسير نحو الأشجار ، ليختفي بعدها الواحد تلو الآخر أمام عيني إلى داخل الأرض .. و كأنه لم يكن هناك أحد ..
طبعاً كدت أن أفارق الحياة من شدة الخوف ، و انطلقت كالمجنون نحو المنزل .. و ما أن وصلت إلى هناك حتى شرعت على الفور أحدث أهل بيتي ، و أقاربي بما رأيت .. و صاروا على الفور يضحكون عليّ ، و يستهزؤون بي إلا رجلٌ عجوز فقد بقي صامتاً .. ثم بعد برهةٍ قال أيها الناس يبدو أن ما شاهده “أبو سامي” فعلاً حقيقي ، هنا ذُهِلَ الحضور و قالوا للعجوز كيف .. فقال العجوز في فترة الاستعمار قام مجموعةٌ من الثوار بنصب كمينٍ محكمٍ لمجموعةٍ من الجنود الإنجليز ، و أوقعوا بهم خسائر فادحة بالأرواح .. و بعد نهاية المعركه تم دفن البعض منهم بين الأشجار الواقعة بالقرب من المؤسسة ، و التي قمت بالمرور عليها يا “أبا سامي” .. و يبدو أن من شاهدتهم هم قرناء هؤلاء الجنود من الجن ..
استغرب الحضور مما سمعوه ، و انقسموا ما بين مكذبٍ و مصدق .. و صرت أحرص بعدها على أن أعود للمنزل باكراً ، لئلا أجدهم مرةً أخرى و إلى هنا تنتهي قصة “أبو سامي” .. و تمر الأيام و ينقضي من الزمن سنتين من بعد حادثة “أبي سامي” ، حيث تحدث قصةً أكثر رعباً .. و هذه المرة على لسان “أبي جميل” ، و كان يعمل حارساً في المؤسسة .. حيث قال أنه في يوم من أيام دوام الطلبة في المؤسسة ، كنا نجلس بين الأشجار نحتسي الشاي .. و فجأة إذا بأحد الطلاب ، و يدعى “عدلي” قد حضر إلى الكلية بسيارته .. و يقودها بسرعةٍ جنونية و صوت الأغاني يصدر من السيارة بشكلٍ مزعج ، و بحركة التفافية استعراضية جنونية قام بها على منعطف خطر .. أراد منها التوجه نحو مدخل الكلية ، و لكنها للأسف أفقدته السيطرة على السيارة .. و بدل أن يتجه نحو مدخل الكلية اتجه نحو الأشجار ، ثم احتضنت سيارته تلك الشجرة الضخمة .. ليطير هو من الزجاج الأمامي و يسقط على الأرض جثةً بلا روح ..
بالطبع أخذتنا الصدمة جميعاً ، و اتجهنا نحوه بسرعةٍ كبيرة .. عَلَّنَا نجد به رمق ، و لكن ما وجدناه حين وصولنا كان منظراً تقشعر منه الأبدان .. المهم استدعينا الإسعاف ، و قمنا بمنع أي طالبٍ أو طالبة من الوصول للمكان .. ثم غطينا الجثة إلى أن حضر الإسعاف لنقله إلى المشفى ، و بعدها قام أهله بإحضاره .. و دفنه في مقبرة البلدة رحمه الله ، و قد كانت هذه هي نهاية الرعونة و عدم الشعور بالمسؤولية .. و تمر الأيام و ينسى الناس الطالب “عدلي” ، و ما حدث له و ينتظم الدوام كالمعتاد .. و لكن في أمسية أحد الأيام ، و بينما كنت جالساً مع زملائي الحرس نتبادل أطراف الحديث .. و نستعد للمناوبات الليلية ..
سمعنا فجأة صوت رجلٍ مذعور قادم من مكانٍ قريبٍ من الحادثة ، فهرعنا على الفور إلى الخارج ننظر ما الأمر .. فإذا بنا نرى رجلاً يركض بجنون ، و يلتفت خلفه باستمرار .. فعجبنا من أمره و قمنا بمناداته ، و على الفور سمعناه و كأنه يتوجه نحونا .. و عندما وصل بدا على وجهه الخوف الشديد ، فاستغربنا من أمره و أخذناه إلى غرفتنا .. و سقيناه ماءً و هدأنا من روعه و بعد أن هدأ ، قلنا له ما الذي حدث معك .. و لما أنت خائفٌ كل هذا الخوف ، فقال الرجل لقد حدث معي أمرٌ غريبٌ مرعب .. أخشى إن حكيته لكم أن لا تصدقوني ، فقلنا له تحدث يا رجل لا عليك فقد أثرت فضولنا .. فقال أنا أُدْعَى “أبو عبدالله” و قد كنت اليوم في سهرةٍ مع أصدقائي ، ثم قررت بعدها الذهاب للمنزل فلقد تأخر الوقت ..
المهم و في طريق عودتي و أثناء مروري من منطقة حادثة “عدلي” رحمه الله ، إذ بي فجاة أسمع صوت رجلٍ ينادي عليَّ من بين الأشجار القريبة مني .. فظننته أحدكم ينادي عليّ و يريد مني القيام بأمرٍ ما ، فذهبت إلى مصدر الصوت .. و قلت له ما الذي تريده يا أخي ، و لكنني لم أسمع إجابة ثم فجأة سمعت الصوت ينادي عليَّ مجدداً .. و لكن هذه المرة من مكانٍ أبعد ، فتوغلت بين الأشجار أكثر .. و قلت أين أنت يا أخي و ما الذي تريده ، و لكن لا جواب بعدها شعرت بالملل .. و قلت يبدو أن هذا الرجل قليل الحياء ، و يمازحني مزاحاً ثقيلاً ثم هممت بالانصراف .. و فجأة سمعت الصوت هذه المرة يأتي من المكان الذي يقع على يميني ، ثم من المكان الذي يقع على يساري .. ثم فجأة من المكان أمامي ..
و هنا أدركت أنني أواجه كائناً ليس ببشري ، فشعرت بالرعب الشديد .. و قبل أن أبدأ بالرحيل إذا بصوتٍ يأتي من بين الأشجار ، و يقول لي إذا لم ترد أن تأتي إليّ .. فإنني سوف آتي إليك ، ثم سمعت خطواتاً ثقيلة تتجه نحوي يرافقها صوت تكسير لأغصان الأشجار .. و كأن ثوراً هائجاً يتقدم نحوي ، هنا شعرت بأن كل خلية من خلايا جسمي تنصحني بأن ألوذ بالفرار .. و بالفعل أطلقت ساقي للريح ، و أنا في غاية الخوف و الرعب صرت أجري بسرعةٍ جنونية فاقت سرعة غزالة حصلت على الميدالية الذهبية في سباق الأوليمبيات! .. و أنا أسمع خطوات تطاردني ، و بلحظة وصلت للشارع .. و أصبحت أجري و أجري ، و فجأة سمعت صوت ضحكات مخيفة قادمة من خلفي ..
هنا توقفت و قررت النظر خلفي ، و إذا بي أرى رجلاً يلبس بدلة .. و يبدو أن أحد يديه مفقودة ، هنا قلت في نفسي يا لغبائي .. لقد ضحك عليَّ هذا اللعين ، و تسبب في إرعابي فقررت أن أعود إليه .. و أثأر لنفسي منه ، و لكنني ما إن اقتربت منه حتى أدركت أن الذي أمامي هو “عدلي” رحمه الله .. هنا أصابتنا الصدمة و قلنا له من ، فقال “عدلي” ما الذي تقوله يا رجل .. يبدو أنك قد جننت ، لست مجنوناً أقول لكم لقد رأيت “عدلي” .. لقد قلت لكم سابقاً بأنكم لن تصدقونني ، هنا نظرنا لبعضنا البعض .. و قلنا له لا بأس عليك “عدلي” أم غيره ، المهم أنك بأمانٍ هنا و سوف يصحبك الآن اثنان منا لإيصالك إلى منزلك ..
و حين ذهب الرجل ضحكنا عليه سخريةً منه ، و قلنا اللهم ثبت علينا العقل و الدين .. لقد جُنَّ الرجل و يقول أنه تقابل مع رجلٍ كان يعول الديدان بلحمه! و قد صار عظاماً نخرةً في قبره الآن ، بعدها خرجنا إلى دورياتنا للحراسة .. و كأنني لاحظت شيئاً أو ظلاًّ يجري بين الأشجار ، فقلت في نفسي ما بك يا “أبا جميل” .. كأن قصة “أبو عبدالله” قد أثرت عليك ، المهم أنهيت مناوبتي و عدت للمنزل .. و غرقت في نومٍ عميقٍ إلى العصر ، بعدها استيقظت فقد اقترب وقت مناوبتي .. و لكن في هذه الأثناء ، طلبت مني زوجتي أن أرافقها لمنزل أهلها .. فقد اشتاقت إليهم ..
المهم جهزت نفسي و خرجت أنا ، و زوجتي حتى وصلنا إلى الكلية .. فقلت لزوجتي أمكثي هنا ريثما أضع أغراضي في غرفة الحراسة ، و عند عودتي ناديت على زوجتي .. و لكنها لم تجب فناديت عليها مرةً أخرى و لكن بصوتٍ أعلى ، فانتبهت لي هذه المرة .. و بدت لي مصدومة ، فقلت لها ما الذي حدث معكِ .. فقالت لقد رأيت رجلاً يرتدي بدلةً بيدٍ واحدة ، كان يتجول بين الأشجار أمامي .. و حين أتيت أنت اختفى فجأه ، هنا شعرت بقشعريرةٍ تجوب جسدي الذي ارتجف رعباً .. ثم تمالكت نفسي و قلت لا بأس ، لقد رأيتي أحد الحراس الجدد .. و نسيت أن أخبرك عنه ، هيا لنواصل سيرنا ..
أوصلت زوجتي و عدت بعدها إلى عملي ، و جلست أفكر بما قالته زوجتي .. أمعقولٌ هذا أيكون هذا الرجل الذي شاهدته زوجتي ، هو نفس الرجل الذي شاهده “أبو عبدالله” .. أيعقل أن تكون هذه صدفة ، مستحيل أيعقل أن “عدلي” بات حياً .. أو أنه شيءٌ آخر ، ثم ما هذا الظل الذي رأيته يقفز من أمامي .. و فجأه يقطع حبل أفكاري ، صوت رئيس العمل .. هيا يا “أبا جميل” أنه وقت مناوبتك ، آه حسناً إنني قادم .. و كان مكان مناوبتي في أبعد مكانٍ في الحديقة ، و لسوء الحظ مناوبتي ستكون في موقع الحادثة .. فقلت الله المستعان ، و ذهبت إلى مكان مناوبتي .. و أنا متوجسٌ و خائفٌ بعض الشيء ، فصرت أحدث نفسي انظر يا “أبا جميلٍ” إلى البدر ما أجمله .. و إلى المكان كم هو هادئ ، لما الخوف إذاً لا يوجد شيءٌ يخيف إلا شر الإنسان ..
فشعرت بالاطمئنان قليلاً و عند اقترابي من الموقع ، إذ بي أسمع صوت ارتطام شيءٌ ما بالأشجار .. و كأنه حادث سيارة ثم سمعت صوت أنين شخصٍ مرعب بين الأشجار ، فأصابني الرعب الشديد .. و ناديت على رفاقي هلموا حادثٌ آخر ، و انطلقت أجري نحو مكان الحادث .. و لكن عند وصولي تفاجأت بعدم مشاهدتي ، لأي سيارة ما هذا أين الحادث .. و لكنني سمعت أنين الرجل ، و لكن هذه المرة صرت أقترب ببطئٍ شديد .. و حينها بدأت أشاهد الدماء منتشرةً على الحشائش ، و بدأ أنين الرجل يعلو شيئاً فشيئاً .. و أنا أقول له اصبر يا أخي سوف تأتي النجدة بعد قليل ، و ما هي إلا لحظةٌ بسيطة حتى شاهدت منظراً لم أتخيله حتى في أسوأ كوابيسي ..
فقد رأيت رجلاً ممداً على الأرض غارقاً في دمائه ، و قد بُقِرَت بطنه و خرجت أمعائه منه .. و يده مبتورة و قد مُزِّقَت رأسه ، و حين أمعنت النظر جيداً في هذا الكابوس الماثل أمامي .. نعم أعرف هذا الشخص أجل لقد صدق “أبو عبدالله” ، إنه “عدلي” يا إلهي أنت “عدلي” .. كيف ذلك لقد تم دفنك أمام عيناي كيف ، أرجوك أنقذني يا “أبا جميل” .. إنني أموت أرجوك ألا ترى حالتي ، أرجوك أنقذني اقترب مني .. لماذا لا تقترب مني ألا تريد إنقاذي ، حسناً سوف أقترب أنا منك .. ثم رأيته ينهض و صار يتقدم نحوي ، و أمعاؤه تتدلى إلى رجليه .. ألا ترى ما أنا فيه يا “أبا جميل” ، اللعنة لقد مت قبل أن أكمل مشوار حياتي .. لقد كان أمامي مستقبلٌ باهر ، و حياةٌ سعيدة و لكن الموت أضاع مني كل شيء .. لذلك لن أدع أحداً يسعد بحياته ، سأقتلكم أجمعين إستعد للموت يا “أبا جميل” .. و هو يتقدم نحوي و الدماء تُنْزَف منه بغزارة ..
لقد كان منظراً مرعباً للغاية لدرجة أنني لم أستطع الهرب ، و ما كان مني إلا أن صرخت صرخةً عظيمة .. بعدها خُيِّلَ إليّ أنني سمعت صوت رفاقي يهرعون إليّ ، ثم لا شيء بعدها استيقظت .. و إذا بي في المستشفى محاطٌ بالأطباء ، يقولون ها قد استيقظ أخيراً .. فرأيت أهلي يسرعون نحوي ، فقلت أين أنا فقال الأطباء أنت في المشفى .. و قد مكثت في غيبوبةٍ لمدة أسبوعٍ كامل ، لقد تعرضت لصدمةٍ عصبيةٍ عنيفة كادت تودي بحياتك .. و لكن الله سلم و بعد أن شُفِيت كان أول ما فعلته هو الاستقاله من وظيفتي ، و اتجهت إلى مهنة البناء .. و لم أَنْسَ أن أغير البلد بأكملها ، و أسكن في بلدةٍ أخرى قريبة .. لا جعلك الله مكاني ..
و هنا كالعادة تنتهي القصة التي رواها لي صديقي ، فأرجو أن تنال إعجابكم ..
و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته ..
تاريخ النشر : 2018-08-20