أدب الرعب والعام

طريق المجد – الجزء الأول

بقلم : يعقوب السفياني – اليمن

كان الملك المظفر ذا رؤية ثاقبة وبعد نظر كبير

كانت مملكة “خنجر الزمرد” مملكة كبيرة تتخللها الأنهار من كل جانب وتكثر في جنباتها أشجار “الريس” السحرية ، لم تكن قلاعها الشاهقة وسورها الصلب أكثر صرامة من ملكها الشهير فاتح البلدان المظفر دوما “فخر الدين المظفر” الذي يدين له بالولاء كل شعب المملكة وحتى الشعوب التي تسكن بجوار المملكة وفي غاباتها ، أما قصة هذا الملك ووصوله للسلطة فعجيبة وغريبة يكفي أن نقول أنه بكفاحه وحنكته وذكائه أصبح من صبي يتيم كان يعيش في ضواحي المملكة يرعاه عمه إلى ملك المملكة بل إلى أعظم الملوك الذين حكموا خنجر الزمرد على الإطلاق ، فقد استطاع احتلال عشرات الممالك والبلدان ليتوسع بمملكته لمسافات شاسعة مدخلاً شعبه في رفاهية لم يألفوها قبلاً .

وضخّت موراد الممالك المستعمرة إلى مملكة خنجر الزمرد فشيدت القلاع الشاهقة والحصون الشديدة وبينت القصور الخرافية التي تترصع سقوفها بالذهب والفضة وبنيت مراكز تصنيع الأسلحة في كل زوايا المملكة لبناء جيش عرمرم لا قبل به ولا طاقة يجتاح الممالك تلو الممالك ويقطع المسافات تلو المسافات مبتلعاً كل ما يجده أمامه ، كان جيش أسطوري لا يرى آخره يتلاطم جنوده في المعركة كموج المحيط ، كانت ضجيجهم الذي يسمع على بعد أميال كفيلاً بإلحاق الهزيمة بالأعداء.

لكن كان هنالك في المقابل وفي أقصى الشرق مملكة أخرى عظيمة تدعى مملكة “الناب الفضي” يحكمها ملك ليس أقل من فخر الدين هيبة وذكاء وشهرة وهو الملك المفدى “مالك المختار” سليل العائلة الملكية العريقة “المختار” التي حكمت مملكة الناب الفضي بالحديد والنار ، وكان مالك المختار هو الابن الأكبر من بين خمسة إخوة لوالده “سلطان المختار” وإخوته الخمسة كانوا جميعا في مراكز قيادية في الجيش ووزرات المملكة يعينون أخيهم وملكهم مالك المختار في إدارة شؤون المملكة .

اما “وحيد المختار” الابن الثاني بعد الملك فقد كان القائد العام لجيش المملكة وفارسها الشجاع الذي لا يقهر ، كان مجرد حضوره في معركة ما يبث الرعب في قلوب الأعداء ، ينقض كليث كاسر على الأعداء قاطعاً رأس هذا ومنتزع أحشاء هذا وباتر ذراع هذا في وسط المعركة المتلهبة محققا أكبر الانتصارات .

والأخ الثالث “حمزه المختار” كان مستشارا خاصا للملك “مالك المختار” وكان يتتمتع بحظوة خاصة عند أخيه ويشير عليه بكثير من الأمور متمتعاً بالحكمة والذكاء حتى لقب “حكيم المملكة” ، أما الأخ الرابع “مختار المختار” فقد كان المسؤول الأول عن الموارد والزراعة في المملكة ويدير شؤون المملكة المالية كاملا ، والأخ الأصغر والأخير “زيد المختار” فقد كان قائد الحرس الملكي الموكل بحفظ أمن المملكة الداخلي وحراسة أخوه الملك وكان يتمتع بالشجاعة والفراسة مما أهله لنيل شرف هذا المنصب.

كانت أخبار مملكة “خنجر الزمرد” وفتوحاتها المستمرة وجيشها المرعب يصلان إلى مملكة “الناب الفضي” التي كانت بدورها تبتلع الممالك تلو الممالك موقنة أن المعركة الكبرى والفاصلة في تاريخ المملكتين على وشك الحدوث ، وكانت المملكتان في تسابق لاحتلال الممالك الصغيرة من حولهم وفي ارتقاب الصدام الذي يتوقعه الجميع ، كانت مملكة خنجر الزمرد وملكها فخر الدين المظفر تذهب بسرعة الريح نحو المجد بعد أن كانت مملكة صغيرة لا مجال لمقارنتها بمملكة الناب الفضي التي تسيدت منذ القدم ، كان مالك المختار ملك الناب الفضي يتابع أخبار المملكة المعادية ويبث جواسيسه في قلبها لمعرفة مدى قوة دفاعاتها وجيشها والأهم من هذا كله معرفة حقيقة ملكها الذي نسجت حوله الأساطير.

– جلالة الملك ، إن مملكة خنجر الزمرد ضربت بتهديدنا عرض الحائط واحتلت مملكة “حافة القمر” الحليفة لنا ، بل إن جيشها الذي يقوده ملكها المظفر بنفسه قام بقطع رأس ملك مملكة حافة القمر وعلقه في شرفة قصره ، إنهم يستفزوننا بشكل واضح وأرى أن موقفنا كمهاجمين سيكون أكثر قوة من موقفنا كمدافعين ، يجب علينا الإعداد لغزو هذه المملكة قبل أن يتجرأ ملكها على غزونا نحن .

– جلالة الملك ، لا أعتقد أن فكرة غزونا المباشر لها صائبة ، فنحن نعلم مدى قوة جيشها وحصونها ودهاء ملكها ، وقد نضع أنفسنا في موقف محرج إذا ما فشلنا في هجومنا ، لكن أنا أرى بتسيير وفد ملكي إلى هذه المملكة لعقد اتفاقيات صداقة بيننا ، يمكن أن نتقرب من ملكها أكثر .

هذه كانت بعض آراء مجلس المستشارين في مملكة الناب الفضي وهم في جلسة تشاورية مع الملك الرصين والغامض مالك المختار الذي استمع لها كلها متلفتا إلى كبير المستشارين أخوه حمزة المختار قائلاً : ما رأيك يا حمزة ؟
أجاب حمزة : اتفق مع الرأيين السابقين معا ! ، نظر الجميع بتعجب لحمزة الذي تابع : يجب أن نعد أنفسنا وجيشنا للمعركة الفاصلة ونستمر قوة وحزم في فتوحاتنا وبناء حصوننا كما أشار علينا المستشار مجيد ونعد أنفسنا للهجوم ولكن في الوقت نفسه نعمل بمشورة حفيظ ونرواغ في سياستنا ونحاول استمالة فخر الدين المظفر ، فإذا ما تم الأمر انتهت المشكلة وإذا فشل الأمر كنا جاهزين له ، أعجب الجميع بحكمة حمزه وابتسم مالك المختار لأخيه قائلاً : نعم المشورة يا حكيم المملكة.

أما الملك فخر الدين المظفر فقد طلب حضور مسؤول التصنيع الحربي في المملكة “جعفر ابن عامر” والذي كان مسؤول عن تصنيع كل أسلحة الجيش من السيوف والرماح والدروع حتى العربات الضخمة والمنجنيقات ، وقال له الملك فخر الدين : أريد منك يا جعفر أن تجمع أفضل السحرة في المملكة والأراضي التي احتلها جيشنا وتجمع أصحاب الخبرة أيضا وتصنع لي سلاح لم يعهده الناس في الحروب من قبل ، أريد أن يكون هذا السلاح صادماً وفتاكا وحاسما ويكون ورقتي الرابحة في معركتنا ضد مملكة الناب الفضي ، فأجاب جعفر : سمعا وطاعة جلال الملك وانصرف .

ثم استدعى الملك فخر الدين مستشاره الملكي “عباس المنتصر” وقال له : يا عباس أريد منك أن تبحث عن رجل شجاع ويتمتع بالذكاء أيضا حتى نرسله جاسوسا لنا ، إني أطمح في قلب ولاء وحيد المختار قائد جيش الناب الفضي لأخيه مالك المختار ، إني أرى فيه طموحا كبيرا في الحكم وعلاوة على ذلك فهو يحظى باحترام الجيش وقادر على أن يقوم بانقلاب سندعمه نحن ، وذهب عباس المنتصر بحثا عن رجل بالمواصفات التي اختارها الملك المظفر.

كان الملك المظفر ذا رؤية ثاقبة وبعد نظر كبير ، فإضافة لخبرته في امور السياسة والحكم كان قائد عسكري بارع يقود جيشه بنفسه حتى أنه لم يعين قائد للجيش ، وبالنسبة للملك فخر الدين المظفر أن تحكم قبضتك على مفاصل الجيش فلن يصمد في وجهك أي متآمر وستهزم كل مكيدة ضدك ، وأثبت المظفر قدرته على قيادة الجيش وتجلت هذه القدرة واضحة فهو لم يهزم في معركة واحدة منذ توليه ملك المملكة وانتصر في عشرات المعارك الضخمة ، إن لنشأته القاسية المفعمة بالحرمان والمعاناة صهرته و صنعت منه إنسان حديدي وصلب ، رغم ما وصل إليه المظفر من مجد لكنه لم يكن لينسى بالتأكيد تلك الليالي الباردة في ضاحية المملكة حيث نشأ وهو يرتجف من البرد والجوع في بيت عمه الفقير المعدم ، حقا إن المعاناة تصنع الرجال .

– جناب الملك المظفر ، وفد مملكة الناب الفضي يطلب من جنابك أن يقابلك ، إنهم في باحة القصر.
نادى الحاجب “ياقوت” الملك فخر الدين الذي أجاب : فلتجهزوا مجلسي الملكي بما يلزم لاستقبال الوفد وأخبروهم أني سأحضر بعد قليل .

دخل الوفد الملكي الذي ترأسه مستشار ملك مملكة الناب الفضي المستشار حمزه المختار ، كان أول لقاء شخصي يجمعه بملك مملكة خنجر الزمرد فخر الدين المظفر ، ودخل الملك المظفر الذي كان يرتدي لباساً عادياً بعكس ما توقعه حمزه المختار أن يكون على قدر عالي من البذخ والترف ، ولكن اللباس لم يحد من هيبة الملك ووقاره اللذان سادا المجلس .

– جناب الملك المظفر ملك مملكة خنجر الزمرد العظيمة أنقل إليك سلام وتحيات جناب الملك مالك المختار ملك مملكة الناب الفضي ، وقد أرسلني أنا مستشاره حمزه المختار نيابة عنه في وفدنا هذا لتوطيد علاقة المملكتين والنقاش حول مصالحنا المشتركة .

– أهلاً بكم ، انقلوا للملك المختار تحياتي وتحية شعب مملكة خنجر الزمرد ، أيها الخدم أدخلوا موائد الطعام لضيوفنا .

– حمزه المختار مقاطعا الملك : ليصفح عنا جناب الملك ، لكن لم نأتِ لتناول الطعام ، بل أتينا لناقش معك مسألة توسع جيشك واحتلاله لممالك حليفة معنا وآخرها مملكة حافة القمر الذي قطع رأس ملكها وعلق في شرفة القصر .

– تحدث الملك المظفر وقد بدأت ملامح الجدية تظهر عليه : إن مملكة حافة القمر لم تتعامل مع العصابات من أبنائها الذين كانوا يتقطعون لقوافل تجارنا ، وبالرغم من تهديدنا لملكها أكثر من مرة لكنه لم يبالِ وكأنه يعتقد أننا لن نهجم عليه بمجرد أنه عقد تحالفا معكم ، إن أمن وسلامة شعب مملكتي فوق كل اعتبارات وكان الغزو أمرا حتميا .

استمر نقاش حمزه المختار مع الملك المظفر لعدة ساعات اتفق فيها الطرفان على تبادل الوفود الملكية كعلامة على حسن نية المملكتان وأيضا اتفق حمزه المختار مع الملك المظفر على وقف المملكتان أعمالهما الحربية واعتبار نهر “الراحل” فاصلاً طبييعا لمناطق سيطرتهم وعدم تجاوزه من قبل الطرفان .
لكن النقاش لم يكن ودي كل الوقت فقد اطلق المظفر بعض التلميحات القاسية عن رغبته في الانتقام من الجيش الذي قتل والده وهو جيش مملكة الناب الفضي ولم يكن حمزة يعرف بهذا مما زاد الطين بلة فقد عرف حمزة أن كل هذه الوعود ما هي إلا مسكنات لألم لا بد أن ينتفض يوماً فنار الانتقام كانت تلمع من عيون المظفر وهو يتكلم ، الذي ما إن قال له حمزة : اقترح عليكم الانسحاب من مملكة حافة القمر لنتفادى أي دموية غير لازمة ليجيبه المظفر بلهجة استعلاء : إن الدموية مع الجيش الذي قتل والدي لهي أمر أرغب فيه بالتأكيد مما جعل حمزة يحجم عن إصدار تهديدات مبطنة إلى نهاية الجلسة الملكية .

**

وفي معسكر جيش الناب الفضي العظيم ، كان وحيد المختار فارس المملكة الهمام يجلس وهو يراقب تدريبات المقاتلين حتى باغته صوت أحد الجنود قائلا : إنك بحق صانع انتصارات مملكة الناب الأبيض وصانع مجدها ،جناب القائد أنا أحد جنودك منذ فترة طويلة ، لم أرك تأخذ راحة أبدا وأنت الوحيد من بين أخوانك الذي لم يتزوج ثم أردف وقد شاهد علامات التجهم في وجه وحيد المختار قائلاً :

اعذرني على فظاظتي فأنا لم أعرف نفسي أنا “جلال المشروف” من ضاحية “الشعير الذهبي” شمال مملكتنا الحبيبة التي يغشاها ظل الرفاهية بفضل القادة الشجعان أمثالك ، افر دوما كم أنت متشابه أنت وجلالة الملك مالك المختار ولا عجب في هذا فوالدكما كان ملك عظيما .
تحدث وحيد المختار قائلاً : المملكة قوية بفضل جنودها الأبطال وليس بفضلي أو بفضل أحد ، أيها الشمالي من ضاحية الشعير الذهبي شكرا لكلامك الطيب ، في الحقيقة لم الحظ أني الوحيد من بين إخوتي لم أتزوج ، حقا إني وحيد هنا تدخل جلال المشروف قائلاً : جناب القائد إني أعرف فتاة لا أجد رجلاً يناسبها غيرك ، إنها بدر في سماء وأميرة لأمير وقائد شهم مثلك ، نظر إليه وحيد المختار قائلا : من هي ؟

يتبع…
 

تاريخ النشر : 2018-09-04

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى