أدب الرعب والعام

شظايا الروح – الجزء الأول

بقلم : حسناء الفرجاني – المغرب
للتواصل : https://m.facebook.com/el.hassnae.39

شظايا الروح - الجزء الأول
روح بائسة رهينة بين أطلال الماضي و ضلال الحاضر

 

صمت كنائسي رهيب يتلاشى فجأة بتأوه حزين، وحيد هو على غير عادته وشظايا روحه مشردة بثياب اليأس البالية وأنفاسها باردة تقاوم من أجل خلاصها من هذا العالم القاسي. حقاً روح بائسة رهينة بين أطلال الماضي و ضلال الحاضر، تصارع الضياع والوحدة والموت البطيء، وهنا يبقى المستقبل مجرد قصة ما قبل النوم تسردها عجوز ضريرة تحيك بمهارة غزل الوقت بكشتبان الأيام ، على خط الحياة يفكر في طريقة ما تنتزع من داخله فكرة الخلاص، فغالباً ما ينتابه شعور المغادرة وأحيانا ما يتراجع عن طريق الهلاك تلك ، هل ما يشغل باله الآن يجسد مقصلة الإعدام بالاكتئاب أم أنه الطريق السليم للتخلص من كل ما يقيده بعالم البؤس؟! و هل ما زال ذاتاً بشرية تنهل من ينبوع الأمل توجهاته ؟!
كلا، فعلى ما يبدوا أنه الآن مجرد فراغ في لا شيء و قطرة سواد في ظلام حالك ، جمود و سكون وصمت مطبق ،كتلة أحاسيس باردة وقاتمة تجتاحه فتجعل منه جثة بشرية ذابلة ترمق بيأس الأشياء المتحركة ولا تبدي أي استجابة تذكر ، فهل من مفر ،  أم أن نهايته بدأت تنسج كفن الخلاص ؟!

ها هو ذا وحيد أمام الهاوية وكلما أغمض جفنيه من أجل أن يتهاوى ويسدل ستار النهاية إلا أن شيئاً ما بداخله يمنعه من السقوط ، أجل همس ما في أعماقه يرجوه بدمع متوسلًا إياه بالرجوع، وعند إصراره يقيده فيعجز عن الحراك و يتهاوى بعد ذلك جاثياً على ركبتيه معلناً الخضوع وما بين الخنوع والمقاومة على الرحيل حكاية تتأرجح بين كفتي البداية والنهاية ، فمن سيكون المنتصر في نهاية المطاف؟!.

سؤال ليس جوابه ببعيد ، ففي خضم ما يعيشه حاول النهوض من على الأرض رغم تعبه الشديد مقاوماً ذلك غير أنه لم يستطع، وحتى تحريك يديه بات مستحيلاً ، حاول مراراً وتكراراً إلا أن حراكه قوبل بجموده التام مكرهاً لا راغباً، وما إن أراد الصراخ لكي يستنجد بأحد ما ينقذه مما يكابده حتى أحس بثقل شديد على لسانه منعه من ذلك ، ظل لهنيهة من الزمن على هذا الحال و لحسن حظه أنفك مما هو فيه ليستفيق على صوت طفولي بريء صغير، فتح جفنيه بصعوبة ولم يستطع بعد استيعاب ما يحدث حوله لأنه كان في رحلة مميتة على متن سفينة ممزقة الأشرعة و ما ربانها إلا جاثوم بشع يخنق الأنفاس ، بدأت الرؤية تتضح شيئاً فشيئاً و بدأ عقله يحلل بطريقة سليمة ليعلم أن من أنقذه من ذلك الكابوس المرعب كانت أخته الصغرى، لكن ما لم يستطع فهمه في تلك اللحظة هو والدته التي تحاول جاهدة حمل أخاه الذي كان يعاني من نصف شلل جسدي كأنما تحاول الذهاب به إلى مكان ما، ليظل مشدوهاً لوهلة متسائلاً : هل حقاً ما رمقه بؤبؤ عيناه الآن يدل على أن أمه تريد أن تنتقل كعادتها إلى مكان آخر بسبب قصف يهدد المنطقة ، أم أن أخاه متعب جداً من ضيق المكان ويريد أن يجلس بعد الوقت خارجا؟!
هذا ما تساءل عنه في قرارة نفسه، بعدها نهض من على الأريكة متثاقلاً و العرق يبلل سائر جسده، فرك عينيه المحمرتين وانتبه إلى أنه غفى دون أن يشعر في البهو بعد أن قضى نصف يومه في عمله المتعب ، وما إن أراد أن يستفسر والدته عن ما يحصل حوله حتى زادت غرابته من تصرفات أخته الصغرى، حينما غالبها الدمع وقالت بصوت يتملكه البكاء وهي تسحبه من يديه: “هيا بسرعة يا نيسان فإننا سنموت بسبب تضييعك للوقت”
و ما أن أكملت جملتها هاته حتى سمع صوتاً مدوياً يحبس الأنفاس، إحساس رعب ما خالجه واهتز داخله كأنما تأرجح به المكان، وفي ثانية من الزمن بدأ سقف المنزل يتهاوى وتناثرت ذرات غبار هنا وهناك، وبسرعة خاطفة كالبرق وجد نفسه مدفوناً شيئاً ما تحت الأنقاض، حاول أن يدير رأسه في كل الاتجاهات باحثاً عن عائلته الصغيرة لكن لم يستطع ، وكلما حاول جاهداً إلا وأحس بألم واختناق وشيء ما صلب على رقبته منعه من فعل ذلك.

دقات قلبه بدأت تتسارع بشكل جنوني حينما بدأ يسمع أنين أخته الصغرى بالقرب منه، لذا حاول جاهداً الوقوف لكن دون جدوى، وجميع محاولاته المتكررة باءت بالفشل لأن إحساسه الدائم بثقل كبير على جسده كجلمود صخر وضع عليه منعه من القيام بأدنى حركة ، ظل مستغرباً جداً فكل شيء حدث في غمضة جفن ، أدار عينيه إلى أسفل دون أن يحرك رأسه فلم يلمح شيئاً سوى شبه ظلمة تضفي عتمة على رؤيته، أما طنين أذنيه فقد أزاح صمت داخله، وما إن حاول أن يصرخ منادياً على عائلته متمنياً إجابتهم له وأنهم لا زالوا على قيد الحياة حتى أغمي عليه من هول الصدمة ورعب الأحداث.

ليس بغريب أن تعيش كابوساً مفزعاً في حلم مميت ، ولكن الأغرب هو أن تستفيق من حلمك ذاك على واقع أبشع منه بكثير ، وهذا للأسف ما حدث معه بالذات.

اليوم الثامن والعشرون من شهر كانون الأول وعلى الساعة الثانية إلا ربع زوالاً ،  استفاق على غير عادته في مكان لم يتوقع أن يتواجد فيه بتاتاً ، إذ فتح جفنيه في مكان يختلف تماماً عن غرفة منزله، رائحة المكان كانت شبه مألوفة بالنسبة إليه وما إن اتسعت الرؤية شيئاً فشيئاً حتى أدار عينيه مستكشفاً المكان ليتضح له تواجده في المستشفى المركزي للمدينة.

كان شاحب الوجه آنذاك وعيناه ذابلتان وجسمه مثقل بالجراح والآلام وفي داخله فراغ بطعم حزين ، فجأة إحساس غريب تملكه حينما لمح الطبيبة متجهة نحوه، وما إن هم بسؤالها عن حالة عائلته وهل هم بخير؟! حتى قاطعت حديثه الذي لم يبدأ بعد مجيبة إياه عن سؤاله الداخلي كأنها استرقت السمع من همس أعماقه، إذ قالت:

– استرح الآن ولا تحزن عن قدر ربما فيه خير لك، أعلم أن الأمر ليس بهين عليك، لكن على ما يبدوا فأنت أقوى بكثير لأنك تمكنت من النجاة من موت محقق وتحديته باستيقاظك من غيبوبة بعد يومين فقط بعدما ظننا دوامها شهراً أو أكثر ، ستمكث هنا يوما آخر من أجل أن تتحسن حالتك الصحية لأنك فقدت جزءاً من كتفك الأيسر في تلك الغارة الجوية التي شنتها القوات العسكرية على مدينتك الصغيرة، فحمداً لله على سلامتك يا بطل.

سكتت قليلاً ونظرات عيناها الذابلتين تكشف له خبراً حزيناً لطالما حاولت إخفاءه عنه ريثما يسترجع قواه غداً ، نظر بدوره إليها ملياً ثم أغمض جفنيه وصمت ظلام داخله يصدح بأدعية تجعل من نجاة عائلته الصغيرة معجزة خالدة، فتح جفنيه مجدداً وما إن حاول النهوض من على السرير كي يطمئن على عائلته في غرف المشفى المجاورة حتى منعته من ذلك، فهي تستوعب سبب قيامه المفاجئ، وأيضا شروده الدائم في سبيل معرفة الحقيقة لذا همت بتوضيح الأمر له.

كان جوابها قاسياً وعكس توقعاته تماماً ، فقد أكدت له أن من الصعب جداً نجاة عائلة بأكملها من القصف، أما نجاته هو بالذات فستظل معجزة حقيقية ، حيث أن الغارة الجوية أصابت المنزل وهدمته بالكامل ولم ينجوا أحد إلا هو ، حينما أنهت كلماتها طأطأت الطبيبة رأسها ، وعند خروجها من غرفته سمعت صراخاته الأليمة التي دوى صداها في المكان وكسر هدوءه المطبق ، كانت صرخات شجن نابعة من حريق داخلي تمزق شرايين قلب سامعها إلى أشلاء ، ظل صداها يصدح في أركان مخيلتها كلما أغمضت جفنيها قبل المنام.

تلك الصرخة المكلومة كانت بمثابة صافرة إنذار أيقظت أحداث ماضيها البائس ، ففي منتصف ليلة ذاك اليوم كانت سيليا وحيدة كعادتها في منزلها الصغير المهترئ والقديم شيئاً ما، اتكأت بجسدها النحيل المنهك على فراش صلب زادها تعباً ، وحينما بدأت تنظر إلى السقف الذي بدأ ينقلع طلائه حتى غابت ببصرها بعيداً في غياهب الذكريات، تذكرت شريط ماضي طفولتها المأساوي الذي تشكل في يوم حزين ،  ففي ليلة رأس سنة كانت والدتها تحمل في يدها اليسرى علبة للتزيين، فأخرجت منها أشكالاً مختلفة ذات ألوان مبهجة، وعلقتها في زوايا المنزل وعلى حاشيتي النوافذ وفي أعلى السقف حتى صار منظر البيت لوحة ملونة تعبق بالحياة أثارت في نفس ابنتها الصغيرة سيليا سعادة غامرة لا تُوصف ، خاصةً وأنها لم تتجاوز بعد العشر سنوات ، طفلة بريئة غير آبهه بما يحدث ، تتأمل بشغف عمل والدتها المتقن والأكثر من رائع حيث تسعى جاهدة لإطفاء رماد الحزن بدموع الفرح وإضفاء طابع سلمي احتفالي على بلد أنهكته الحروب والأحزان ولكي تدخل أيضاً بصمة أمل وأمان في قلب أبنتها الوحيدة ، لكن للأسف لم تتحقق أمنتيها البسيطة تلك ، فبعد أن أنهت ما كانت تقوم به، خرجت من المنزل وقامت بتنظيف الجدار الخارجي للمنزل من بعض قطرات دم متخثرة.

أما سيليا فقد ذهبت مسرعة إلى النافذة محاولة صعود الأريكة بكلتا يديها لكي يتساوى رأسها الصغير مع النافذة، ثم أطلت متتبعة ما تقوم به والدتها بدقة، وفي لحظة غادرة أحست أمها بألم رصاصة خاطفة لمع في ظهرها وهذا ما جعلها تسقط أرضاً جاثية على ركبتيها ، ثم نظرت إلى ابنتها وعيناها تلمعان بألم وتحملان رسالة وداع حزينة إلى سيليا، و بالرغم مما حدث إلا أن والدتها تأوهت بصمت عميق وابتسامة خفيفة تطفو فوق ألمها وتخط على محياها كأنما تريد أن تطمئن أبنتها بأنها بخير، أما خفقان قلبها فقد تسارع اضطراداً مع صوت الرياح الغاضب ، و في ثانية من الزمن انهارت بجسدها المثقل بعبء الحياة لتلتقطها الأرض جثة هامدة ، رأى زوجها  المشهد التراجيدي من بعيد و اتجه راكضاً نحو زوجته آملا في نجاتها غير آبه لصدى الرصاص القادم من بعيد، حاول مراراً وتكراراً أن يوقظها بيديه المرتجفتين لكن للأسف قوبل طلبه بسكونها الدائم وأيقن تماماً بأن زوجته قد غادرت الحياة بأياد بيضاء، في هذه الأثناء ألتفت باحثاً عن ابنته ودموعه تضفي نوعاً من الضبابية على عينيه التي استحالت معها الرؤية ، ما جعله يفرك عيناه المحمرتين بيديه .
و ما إن مال برأسه قليلاً باحثاً عن سيليا حتى وقع بصره عليها وهي تطل من الشباك ، كانت خائفة وعيناها مغرورقتان بالدموع ، و ما أن نظر إليها والدها حتى أجهشت بالبكاء والصراخ، دخل إلى المنزل مسرعاً وحملها ثم هم بالخروج راكضاً و قلبه منقبض خوفاً من أن تطال أبنته رصاصة طائشة تردي بها قتيلة كما فعلت بوالدتها ، في صبيحة رأس السنة كانت الحرب لا تزال تمارس قذائفها على مقربة من حيها ، ما دفع والدها بأن يمسك بيد أبنته ويتجه نحو الحدود مع حشد من الناس لكي ينضم هو وسيليا إلى جحافل النازحين قبل أن ينهي شبح الموت شظايا أرواحهم المتبقية ، وبعد بضع دقائق معدودة من رحلتهم المليئة بظلام الخوف وبضياء فتيل شمعة الأمل في النجاة.

ومن دون سابق إنذار بدأت القذائف تنهمر عليهم كشهب احتفال رأس السنة، كان احتفالاً أليما من نوع خاص تكسوه نكهة حزن وتحوم به رائحة دماء، إذ ركض الجميع والقذائف تقتنص أرواحهم الواحد تلو الآخر ، فمنهم من قُتل ومنهم من جُرح ، أما من كان الحظ حليفه في النجاة فقد ظل سليماً معافى من حلبة الموت تلك، و في ركضهم الممزوج بفوضى الرعب والصخب والخوف لا أحد انتبه لأحد ، وبالرغم من فشل خطتهم في تجاوز الحدود، إلا أنهم اتجهوا نحو بضع هضاب وما إن جلسوا قليلاً يحصون أرواح أحبتهم الذين فقدوا، حتى نظرت سيليا إلى يسارها و لم تجد سوى يد والدها المقطوعة الممسكة بها بشدة، كأنما يحاول أن يقول لها بأن روحي ستظل معك رغم موت جسدي.

في ليلة وضحاها فقدت سيليا أعز ما تملك على قلبها إلى الأبد، لتكمل مسيرها وحيدة تائهة نحو مستقبل غامض شكك الماضي في بشاعته ، ها هي الآن في ربيع عمرها تعيش خريفاً ذابلاً حد التعاسة ، فقد مرت سنوات على الحادث المأساوي وأحداث ماضيها لا زالت تزورها بين فراغات الزمن وما قد أحيتها الآن سوى صرخة نيسان الأليمة في المستشفى.

في هذه اللحظة شعرت بدمعة تنزل من عينيها ساخنة على خدها البارد الذي امتزج بالحمرة والزرقة من شدة تأثير الرياح في نهاية شهر كانون الأول، نهضت وجلست وفي عينيها بريق من حنين قاهر واضعة يديها على ركبتيها وكأن حزنها العميق أثقل كاهلها، لذا أغمضت جفنيها ونسيم رياح باردة اصطدمت بستار نافذة غرفتها وظلت تداعبها إلى أن تسللت بعنادها اللامتناهي مزيحة دفئ المكان.

كان صوت الرياح يعزف سمفونية هادئة بنغمات سكونية باردة ، و كلما علا الإيقاع إلا وعبث بحبات رمال يتيمة منها من تصطدم بحاشية نافذتها ومنها من تتسلل و أتخذ السرير ملاذ لها، أما سيليا فلم تكترث إطلاقاً بزيارة هذا الضيف الثقيل إذ لم تغلق النافدة بالرغم من سيادة الصقيع المكان، بل تابعت رحلتها في مساحة وجدانها، وحينما بدأت تستجمع شظايا ذكرياتها المتناثرة هنا وهناك في ذاكرتها المتعبة، فتحت عيناها بسرعة مناورة شبكة خيوط الحنين من الإمساك بها، في تلك اللحظة صوبت نظرها نحو النافدة، كانت نظرات تائهة وحادة اجتاحت بعمق الحيز الضيق المشكل من طرف النافذة، ورغم أن الظلام الحالك ساد الفراغ المنحصر في إطارها إلا أن سيليا ظلت تمعن النظر في سوداوية النطاق، ثم أخذت تردد بصوت ذابل دافئ ما راحت تكتبه أناملها البيضاء في هاتفها من عبارات شعر حزينة فاضت بها أعماقها بألم يجتاح كيانها، إذ قالت:

“سئمت الدنيا بما فيها

ونفسي صارت تجافيها

بالأمس كنت أجاريها

والآن أعلن أني أعاديها

هي ملء حياتي التي أخرستني من أن أحكيها

فلا المال يسعدني..

ولا الوحدة تخنقني..

لا الجاه يقويني..

ولا الردى يخيفني باقتلاع الروح من أهاليها.

اليوم أقف شامخة ببرود…

في وجه العاصفة لأنهيها

وبعيني دمع خافت وشرود

يرثي حالي وحنين ماضي يخفيها

أغمضت جفني .. قلبي .. وذاكرتي…

غير أن الدنيا رأت في همي كل همومها لينسيها

أحبت صمودي فعاتبتني..

لروحي المنسية وبختني..

بكل آمالي كبلتني .. لتعاندني أكثر بمآسيها.

تغير كل شيء في ولا هي راضية

وحالها كما عهدته .. بل زادت في تماديها

وما همني في القلب سوى أمنية

تضخ دماء الصمود في سواقيها

آيا فانيتي .. و مهلكتي

إلى أين بي تمضي !.. وإلى أين المسير !!

في بحرك اللجي تاهت بوصلتي

فما همني إن صرت حراً .. وما همني إن صرت أسير

كفى يا دار الفناء كفى !!

 فالدمع أوشك على الانتهاء

كفى عبثاً بحلم انتهى

 فالعين تبصر في الروح الرجاء

أتعلمين !!..أو حقا أتعلمين…!!

في أنينك…في حزنك…ونحيبك اللعين…

صوت ما خفي ثائر

توارى خلف قلبي الحزين

به أزلت لعنة حبك الزائر

في فراغ شجني والحنين

فما عاد يغريني فيك شيء…

و دفئ روحي عم ثرى المقابر

لم يعد لك في شيء…

ما دمت رقماً لخادمك الغادر

ينتظر في سكون .. في عتمة المكان

شيء يداهمه كهمس ساحر

يصيح بداخلي .. ها هنا تغير…

إحساس ما تفجر…

ولم يعد كان كما كان

شعور ما تبعثر..

تلاشى .. لا بل تكسر..

وأنا وأنت وما بيننا…

حكاية انتهت فصولها قبل الأوان ..

لا أدري أي موعد ذاك الذي يلاقينا..

أو ربما هو نفسه ذاك ينهينا…

وأي صلح يجمعنا!!

ابموتي ، أم بسِلمك الواهم يلهينا!؟.

ظلت سيليا ساكنة للحظة بعدما همست بعبارات الشعر تلك ثم أطفأت هاتفها، تأوهت واتكأت على سريرها لتغط في نوم عميق.

رنين جرس كسر صمت المكان، وصوته المزعج جعلها تنهض بسرعة من على السرير لتوقف ضجيجه المتكرر بكبسة زر ، كانت عقارب الساعة تشير إلى الساعة السابعة صباحاً و لا زالت سيليا مرهقة جداً وتحتاج إلى سبات عميق يشفي غليل تعبها النفسي الدائم ، مسحت بيدها اليمنى على رأسها أما أناملها فقد اتخذت مكاناً بين خصل شعرها الحريري الناعم وانتهى بها المطاف بلمس قلادة ذهبية بسيطة تتواجد على رقبتها، حملت القلادة بأصبع إبهامها إلى أعلى كأنما تريد أن تختزل مسافة اللقاء بين بؤبؤ عينها والشيء المحمول، وما إن اتضحت لها الرؤية كلياً حتى أطالت النظر فيها وسافرت دون تأشيرة أو تذكرة سفر، وفي سفرها الروحاني ذاك تناثرت شظايا أيام الخوالي مع والدتها التي كانت تلاعبها حينما كانت صغيرة، بسمة أمها، ضحكتها، خوفها، غضبها ، أحاسيس تشكل مدلول الحب الصادق النقي لوالدتها تجاهها، لا زالت تتذكر حتى الآن بعض الأحداث الماضية بحذافيرها رغم أن سنها الطفولي كان يعاندها دائماً في الاحتفاظ ببعض الذكريات، وها هي الآن لم يتبقى لها من ناصية الماضي سوى قلادة والدتها التي تضعها في رقبتها و بعض من حطام الحنين .

أمسكت القلادة بكلتا يديها وضمتها إلى قلبها ثم قالت في قرارة نفسها كأنما تود أن تخاطب والديها المتوفيان منذ زمن:” إن أقسى ما يواجهه الإنسان لدى وعيه لذاته هو كيفية اللقاء مع الذات ومع آخرين أموات، غير أن شدة الحنين تذيب حقيقة هذا البعد المرير والواقع أمره دون تغيير، لتنبثق من رماده الفاني أرواحنا الملتهبة بنار الشوق للقائنا خفية عن أعين الأحياء والأموات، فينجلي كل ما يحول بيننا فتصير همساتنا، نظراتنا، عباراتنا حية تنبض بنبض أحاسيسنا معاً ، أنا وأنتِ و والدي وحدنا في هذا العالم القاسي البارد ، سنظل معاً دائماً كما كنا وكما هو حالنا الآن، فلا شيء سيبعدنا ما دامت أيدينا متشابكة عند نومي ، عند خوفي ، في حزني ، في مرضي ، فكيف تفترق في سفركم الملائكي ذاك؟! هو سفر و انتهى حزنه وعدنا معاً مجدداً ولن نفترق أبداً ، فما زال لدي الكثير لتسمعونه لا يهم أن تغضبوا منه أو تحبوه ، بل المهم أن لحكايتنا بقية تطول فحواها وكلما أظلم بها المسير إلا ولاح حب لقاءنا معاً مشرقاً في منتهاها”.

تنفست بعمق وحينئذ قررت الذهاب للمشفى لكي تزاول مهمتها الشريفة بإنقاذ أرواح الناس و للاطمئنان على ذاك الشاب أيضاً.

يُتبع ….

 

تاريخ النشر : 2018-09-07

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى