أدب الرعب والعام

طريق المجد – الجزء الرابع

بقلم : يعقوب السفياني – اليمن

كان وقع خطاب مالك المختار مؤثرا وحماسيا في الوقت نفسه .. و اندلع القتال

أضاء الفجر معلنا بدء يوم حافل بالدماء والقتال العنيف ، وابتسم الملك المظفر وهو يأمر بنصب السلاح السحري فهو يعرف أن نهاية جيش المختار الأسطوري ستحدث اليوم ، لكن ما شاهده أثار ذهوله الشديد ، كانت الخنادق تبدو من بعيد كأنها من عمل زلزال وليس بشر ، خلال ساعات مظلمة استطاع جيش المختار حفر خنادق طويلة وضخمة ومحصنة ستجنبه كثير من ضرر القذائف النارية التي يطلقها جيش المظفر .

شعر المظفر بغضب كبير فقد بدا أن سلاحه سيفقد أهميته وتفوقه مع خنادق كهذه ، لكنه تذكر أن الغلبة في العدد والسلاح والمعنوية التي يتمتع بها جيشه ستعوض هذا كله ، فأصدر أمره بإمطار الخنادق بالحمم ومن ثم الهجوم واقتحامها ، وهاجمت فيالق المظفر بما فيها الفيلق الثاني الذي يقوده ميمون الرافد ، لكن دقائق قليلة حتى شاهد المظفر قتالا داميا اندلع في قلب جيشه ، تمرد الفيلق الثاني بأكمله وبعض كتائب الفليق الثالث والرابع وانقلبوا ضد جيشه ، كان الأمر صادما وعنيفا بالنسبة للملك المظفر ، الذي صدمته هذه الخيانة الكبرى من ميمون الرافد والقادة الموالون له ، كان تصدعا كبيرا وانشقاقا مؤلما في جيشه الضخم الضارب ، لكنه أمر بسحق الفيلق الخائن والكتائب الموالية له بسرعة واقتحام خنادق المختار ، ولكنه شاهد كتائب خيالة تسابق الريح تخرج من خنادق جيش مالك المختار يقودها وحيد المختار الذي كانت رؤيته في أرض المعركة صدمة ثانية لفخر الدين المظفر ، التحمت فرق الخيالة سريعا في المعركة وتقهقر جيش الملك فخر الدين المظفر.

استمر القتال الدامي ، لم يكن بامكان فخر الدين المظفر استعمال سلاحه الجديدة فالمعركة تدور في قلب جيشه وهذا يعني إبادة الجيش ، ثم إن فيالق كبيرة من جيش المختار لاتزال في الخنادق تنتظر إشارة وحيد المختار الذي اختار فرق الخيالة السريعة والمباغتة للهجوم ، إضافة لهذا كله فقد أقلق حجم المدد الذي جاء للمختار في الليل بال الملك المظفر ، لم يكن يعرف حجم المدد الذي جاء لأنه لم يتوقع ذلك ولم يتوقع استراتيجية الخنادق هذه التي انتهجها مالك المختار ، وأيضاً هذا التمرد المدمر في صفوف جيشه كان مباغتا وفتاكاً

أدرك المظفر خطأه عندما سمح لأشخاص يشك في ولائهم له بقيادة فيالق بأكملها ، لقد قتل آباءهم فكيف وقع في خطأ فادح كهذا ! ، لم يحاول الملك المظفر حتى نشر جواسيسه البارحة فلقد حدث ولأول مرة أن أصابه بعض الغرور ، لكنه تذكر أن هناك سلاح سري يمكن أن يستفيد منه ، إنه جلال المشروف رفيق وحيد المختار الذي يثق به ، استطاع الملك المظفر أن يوصل رسالة لجلال المشروف مفادها أن وحيد المختار يجب أن يقتل وبأسرع وقت !

**

استمر القتال المحتدم بين الجيشين ، واستمرت أفواج جنود الناب الفضي تخرج من الخنادق لتلتحم بالمعركة فيما استمر إمطار هذه الخنادق بقذائف النار التي لم تكن تجدي نفعا ، أما وحيد المختار فقد كان منظره وهو يقاتل عجيبا ، كان يندفع غير آبه بالموت ، يخترق صفوف الأعداء بقوة وحزم أذهلا مالك المختار والمظفر وهما يشاهدانه من بعيد ، وإلى جواره يقاتل رفيقه جلال المشروف ، وفجأة يغرز جلال المشروف خنجراً مسموماً في ظهر وحيد المختار ويفر هاربا باتجاه فيالق المظفر ، كانت خيانة المشروف أكثر إيلاما بالنسبة لوحيد المختار من الخنجر الذي غرز في ظهره ، وسقط ممددا على الأرض حتى التفت حوله فرقة من الرجال تقيه من ضربات الأعداء ..

تم نقله الى خيمة بعيدة عن القتال ، كان يحتضر وينزف وقد بدأ السم بالتسرب في شرايينه وأوردته ، أقبل اخوه مالك المختار وهو يعتصر ألماً على أخيه ، أما وحيد المختار فقد فهم الأمور تماما وعرف الحيلة التي خدعه بها جلال المشروف ، وبدأ الشك يتسلل لقلبه المسموم من اشتراك عفراء في المؤامرة ، أما أطباء جيش المختار فأخبروا مالك المختار أن ليس بإمكانهم فعل شيء له ، إذا لم يمت من نزيف الدم سيقتله السم ، وعلى الأرجح سيموت قبل حلول الغروب.

انقلبت الموازين ثانيا ، وبدأ جيش الناب الفضي يتقهقر ، كان خبر الغدر بقائدهم مفزعا ومدمرا ، أما ميمون الرافد فقد وصل إليه خبر إعدام أطفاله الستة وزوجته من قبل الملك المظفر وعرف أنه سيلحق بهم الليلة ، لكن مالك المختار عرف أن الاستسلام للحزن في هكذا لحظة هو خيانة لدماء أخيه وحيد المختار ومملكة الناب الفضي ، قبل رأس أخيه وحيد المختار الذي لفظ أنفاسه الاخيرة ومات ، ثم خرج مناديا :

– يا جيش الناب الفضي العظيم .. إن القائد الشجاع والبطل وحيد المختار قد استشهد ، ويجب أن نثأر لدمه من الغدار الفاجر جلال المشروف والعدو القذر فخر الدين المظفر ، إن أي تراجع أو يأس الآن لا يعني خيانة دم وحيد المختار فقط وإنما خيانة لدماء شهداء مملكتنا كاملا ، وإن كان وحيد المختار قد مات بعزة وشرف مغدورا فسنموت أذلة إذا استسلمنا الآن ، سيذبح الملك المظفر أولادنا ونساءنا وينهب مملكتنا .

كان وقع خطاب مالك المختار مؤثرا وحماسيا في الوقت نفسه ، عرف الجنود أن المعركة الآن ليست لأجل الفتوحات والمجد فقط وإنها لأجل أطفالهم وزوجاتهم ومملكتهم و أرضهم ، فاندلع القتال الشرس وشبت نار المعنوية بعكس ما توقعه الملك المظفر ، وفجأة انضم الفيلق الخامس لجيش المظفر للتمرد الذي يقوده ميمون الرافد بعد أن تفشى خبر إعدام اطفاله وزوجته في الجيش ، وانقلبت موازين المعركة مرة أخرى ، ووصلت المعركة لذروتها ، وتخضب السهل بالأحمر مجددا ، ولم يوقف لهيب المعركة المطر الغزير الذي سقط فجأة والذي لو سقط على بركان متفجر لأخمده ، كان مشهدا مروعا للمعركة وبدا لوهلة أن السهل يدفق بسيول من الدم وليست سيول مطر ، ونزل مالك المختار من مركز مراقبته ليشارك في القتال بنفسه فالمعركة تحتاج لجهود كل جندي ، وكذلك فعل الملك الحديدي المظفر ولم يتوقف القتال حتى منتصف الليل ، فقد كانت ليلة مقمرة واشعلت مشاعل عملاقة أضاءت السهل .

أما أخبار الحرب فقد وصلت لمملكة خنجر الزمرد ، ولقد أعلن جنود الملك المظفر المخلصين أن العدو اللدود وحيد المختار قائد جيوش الناب الفضي قد تم قتله ، وأن المتمردين يتم التنكيل بهم ، كان خبر مقتل وحيد المختار صادما وموجعا بشدة لعفراء ، شعرت بحزن شديد ، عرف والدها رشيد المعتد منها أن وحيد المختار كان قد زارها متسللا إلى المملكة ، شعر بخجل وعار كبير ، ولم يجد بدا من مصارحة ابنته بمخططهم الوضيع للإيقاع به ، لم يعد بإمكانه احتمال الأمر أكثر ، حتى وإن كان يعني إخبارها أنها ستكرهه للأبد ، وبالفعل اخبرها بالأمر كاملا .

شعرت عفراء بالحزن الشديد وزاد حزنها أن يكون وحيد المختار مات وفي قلبه شك بمشاركتها في المؤامرة ، هربت من القصر وكانت آخر كلماتها لوالدها : لا يشرفني أن يكون أبي متآمرا قذرا ومحتال مثلك ، لقد بعت مملكتك من أجل خطة رخيصة كهذه ، لقد مات وحيد المختار في ساحة المعركة وأما أنت ستموت على مقصلة المظفر إذا انتصر أو على مقصلة مالك المختار .

وهربت عفراء إلى وجهة لا يعلمها والدها ، لم يفكر بإيقافها فقد كانت كلماتها تحفر في صدره وفكر للحظة أنه فعلا ملك وضيع وخائن وشرع يفكر بما يمكن أن يكفر به ذنوبه ، واختمرت فكرة في رأسه دعته لأن يأخذ فرسه وينطلق صوب سهل الجماجم في منتصف الليل.

**

أما السهل فقد كان نافورة من الدماء وفاحت منه رائحة الموت والجثث ، والقتال مستمر لم يتوقف ثانية واحدة ، لكن كفة النصر بدأت ترجح لجيوش الملك مالك المختار بعد زيادة الكتائب المتمردة في صفوف الملك المظفر الذي قرر مواصلة القتال إلى آخر رمق ، أما المطر المتواصل فقد كان فيلق آخر للملك المختار لأنه عطل سلاح المظفر السحري تماما ، واستمر القتال حتى دنى فجر اليوم بالبزوغ ، وانبلاج ظلام دامي آخر ، اما جلال المشروف الخائن اللعين فقد كان في خيمة بعيدة يرتشف النبيذ ويأكل الفواكة ويسهر مع غانية في طرف معسكر جيش المظفر ، لم تكن نتيجة الحرب تهمه فقد فكر بالهروب مع الذهب والفضة التي حصل عليها لقاء عمله ، لكن مخططاته المستقبلية بددها خنجر نحر عنقه الدقيق ، كان رشيد المعتد الذي قتل فورا بعد هذا الأمر .

وأضاء الفجر تماما ، ورحل ظلام الليل آخذا معه ليلة دامية ، وأعلن انتصار الملك مالك المختار وأسر الملك المظفر ، كان انتصارا تاريخيا فعلا لكنه أتى بتضحيات جسام ، تصافح الملك مالك المختار مع ميمون الرافد وأخبره أنه سينفذ وعده فعلا وسيوقف الزحف باتجاه مملكة خنجر الزمرد ، وأخبره أنه سيمنحه شرف إعدام الملك المظفر ، وانطلقت جيوش الملك المختار يتقدمها ما تبقى من فيلق ميمون الرافد ، وقد انضم لها كثير من الجنود وقتل الجنود الآخرون الموالون للمظفر ، ووصلوا إلى مملكة خنجر الزمرد ودخلوها بعد أن تم تصفية حرس المظفر الخاص .

ألقى الملك الجديد ميمون الرافد خطابا تاريخيا أعلن فيه تخلص مملكة خنجر الزمرد من الحكم الجائر والظالم الذي جثم عليها لسنين طوال ، وأعلن فيه نهاية العداء التاريخي والتقليدي بين مملكة خنجر الزمرد ومملكة الناب الفضي ، وأن ما سيجمع المملكتين من اليوم وصاعدا سيكون الصداقة المشتركة بينهما ، وأمر بالتجمهر الشعبي عصر اليوم ليشهد الجميع إعدام الطاغية المظفر .

دخل ميمون الرافد القصر الملكي برفقة مالك المختار ، وتناول الاثنان وجبة غداء دسمة ، وأخذ ميمون الرافد يناقش مع مالك المختار اتفاقيات مشتركة بين المملكتين ، واقتسام مناطق نفوذهما وتأمين طرق التجارة ، وبينما كان الاثنان يناقشان الأوضاع أخبرهما حاجب البوابة بأن ابنة الملك رشيد المعتد تأذن بالدخول عليهما ، وأدخلها الملك ميمون الرافد ، فدخلت عفراء التي أخبرت مالك المختار بتفاصيل المؤامرة التي قادها والدها المعتد والمظفر وجلال المشروف للإيقاع بوحيد المختار ، والتفريق بينه وبين أخوه مالك المختار ، شعر مالك المختار بحزن لا يطاق على أخيه وحيد المختار ، فقد كان أخوهم حمزة محقا فوحيد لا يمكن أن يخون ، كان حمزة محقا كعادته منذ أن كنا أطفالا قالها مالك المختار لنفسه .

ثم استاذنته عفراء بمشاركتها في تشييع ودفن القائد وحيد المختار ، وفي العصر تم إحضار المظفر إلى ساحة عاصمة المملكة ، وكان المنفذ للإعدام هو ميمون الرافد نفسه ، وقبل إعدامه تلا ميمون الرافد قائمة بأسماء الموالين للمظفر الذين تم قتل معظمهم مثل جعفر ابن عامر وبعضهم هرب وهو مطلوب بقيمة وزنه ذهباً مثل مستشار المظفر عباس المنتصر ، وأعدم المظفر بعدها وفصل رأسه عن جسده بضربة حاسمة من سيف ميمون الرافد.

و تجهز مالك المختار للرحيل بجيشه بعد توديعه من قبل ميمون الرافد ، وذهبت الأميرة عفراء معهم لأجل تشييع وحيد المختار ..

**

وصل الجيش المنتصر وملكه المختار وسط ابتهاج واحتفال كبير من سكان مملكة الناب الفضي ، واستقبله إخوته حمزة وزيد ومختار بحفاوة وحزن معا على أخيهم الذي نحت لم تمثال ضخم في باحة القصر الملكي من الذهب ، وانتقلوا لمراسم التشييع المهيب للقائد الشجاع وحيد المختار وتحدث مالك المختار قائلاً :
–  إنا نشيع اليوم أشجع رجل عرفته مملكة الناب الفضي على الإطلاق ، إن القائد وحيد المختار قاد جيوشنا للانتصار دوما وحتى في هذه المعركة انتصر لنا ، لم يذهب موته سدى ، وإني نادم وأقولها الآن فقد عزلناه خطأ وهو لم يخن مملكته أبدا وإنما كانت حيلة قذرة اتضحت لي مؤخرا .

ودفن وحيد المختار بعد أن ودعته عفراء .

**

عم السلام بين المملكتين ، وازدهرت التجارة كما لم تفعل يوما ، أما عفراء فلم تشاهد يوما وأشيع بأنها قتلت نفسها مسمومة ، أما الساحة التي أعدم فيها المظفر فقد تجنبها السكان كثيراً لسبب غريب ربما سطوة هذا الطاغية ظلت حتى بعد موته ، أمر ميمون الرافد بالانسحاب من كل الممالك التي احتلها المظفر وأمر بتدمير سلاحه السري والجديد إلى غير رجعه ، لقد انتهت أسطورة الملك فخر الدين المظفر وتبين ؛نه لم يكن مظفراً هذه المرة ، أما سهل الجماجم فقد تناثرت حوله آلاف الجماجم والهياكل العظيمة لتوضح لنا لماذا اسمي بهذا الاسم .

– جناب الملك الرافد ، بلغنا أن الخائن الفار عباس المنتصر قد جمع عصابة ضخة من اللصوص ومضى يتقطع لقوافل تجارتنا ونهب إمارة “القطن” الحليفة لنا !

انتهت.

تاريخ النشر : 2018-09-12

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى