فتى الفقاعة : ولد ليعيش "سجينا" في فقاعة
قصة مؤثرة لفتى حكم عليه ان يعيش حبيسا فور ولادته |
القصة كاملة
ديفيد جي وزوجته كارول |
“ديفيد جي ” و ” كارول آن ” زوجين أمريكيين من ولاية تكساس ، رزقا بطفلة اسمها كاثرين ، صحيحة البدن ، و من ثم رزقا بطفلٍ آخر توفَّي بسبب خللٍ بالغدَّة الصعترية الذي يؤدَّي إلى مرضٍ خطيرٍ جداً يدعى بـ نقص المناعة المركب الشديد “SCID ” ، و هذا يعني أن الجسد لا يمتلك أدنى قوَّة مناعيَّة تقيه من أبسط الأمراض ، و هو مرض وراثي .
بعد أن توفّي لهما هذا الطفل أعدَّا نفسيهما لاحتمالية إصابة الطفل الآخر به ، فقد أخبرهما الأطباء أن نسبة ولادة أطفال لهما يحملون هذه المرض هي 50% ، لذلك تمَّت ولادة ديفيد ضمن أجواء معقَّمة جدَّاً خالية من أي جراثيم أو تلوّث ، إلى أن يتأكد الأطباء من وضعه الصحي ، و للأسف تبيَّن لهم أنه هو الآخر مصاب بهذا المرض ، لذا تم وضعه فوراً في غرفة بلاستيكيَّة عازلة تقيه وصول أي مكروبٍ أو جرثومة ممكن أن تؤذيه بعد ثواني فقط على ولادته .. و كان ديفيد قد وُلِد في الواحد و العشرين من أيلول/سبتمبر عام 1971 .
تم حبسه في غرفة بلاستيكية معقمة فور ولادته |
في ذلك الوقت لم يكن هنالك حلٌّ سوى زراعة نقي عظام له قد يؤدّي إلى شفائه ، و تمَّ التّعويل على أخته كاثرين في نجاح هذه العملية ، فهي كانت المتبرِّعة بنقي العظام ، لكن للأسف لم تتطابق أنسجتها مع أنسجته ، و بانتظار وجود متبرع ملائم أو اكتشاف علاجٍ لمرضه حُكِم على الطفل ديفيد أن يعيش الحياة و هو محاطٌ بفقاعةٍ بلاستيكية و بشتّى أنواع الأجهزة و المطهِّرات و المعقِّمات .. حياةٌ لا أعرف كيف أصفها ، بالنسبة لي الموت أرحم منها .
فتح الطفل المسكين عينيه على الحياة و كلُّ شيءٍ يصل إليه يمر بعدَّة مراحل و ساعات من التعقيم و التطهير ، من أكلٍ و لبسٍ و حفَّاضات و غيرها ، حتى الهواء كان يتم تعقيمه عبر مضخّة ، كان الاتصال المباشر به يتم عن طريق ارتداء قفازاتٍ خاصة ، عندما كبر قليلاً و أصبح في عمر الثالثة حاول الأطباء جلب ألعابٍ لتسليته و إدخالها في غرفته – طبعاً لا داعي للقول بأنها معقمة – كان تعامل ديفيد مع هذه الألعاب صعباً لذا اضطرَّت طبيبته النفسية أن تتحايل عليه ليتأقلم مع وجودها ، بصراحة له العذر في ذلك ، طفلٌ ينشأ وسط هذا الجو الشاذ ما الذي ننتظره منه ؟!
اي تواصل خارجي يتم عن طريق القفازات |
فيما بعد تم السماح لوالديه – تحت إشراف و رعاية طبية ملازمة – أن ينقلاه بفقاعته هذه و غرفته التي كانت أشبه بالشزنقة إلى منزلهما ، و ذلك ليعيش حياته بين أهله و ليلعب مع أخته ، و قد وافق الأطباء على إدخال جهاز تلفازٍ صغيرٍ إلى غرفته ليتسلَّى بمشاهدة الأفلام و الرسوم المتحرِّكة التي كان يحبّها كثيراً .. و مرّة سُمِح له بالذهاب إلى السينما مع أصدقائه و تمَّ نقله هناك عن طريق الفقاعة الشفّافة التي تحيط برأسه و التي كانت تُستخدم عند نقله من و إلى المشفى .. يعني باختصار حرص والداه و الجميع قدر الإمكان أن ينشأ ديفيد ضمن حياةٍ قريبة للطبيعية .
كانت الفقاعة هي كل حياته |
لكن الطفل لن يبقى طفلاً للأبد ، و لابدَّ أن يأتي الوقت الذي يعي فيه ديفيد مرضه و خطورته ، حانت هذه الساعة عندما جرَّب ثقب فقاعته عن طريق حقنة نُسيَت معه بالخطأ ، فسارع الطبيب إلى إخباره عن الجراثيم و مدى خطورتها على حياته ، الأمر الذي شكَّل صدمة له و بات هوسه هذا الوحش المسمى جرثومة .. باح لطبيبته النفسية بكلام مؤثّر حين قال : كلُّ شيءٍ يُفرَض علي ، الغير من يحدِّد عليَّ ما أفعله و ما لا أفعله ، لماذا تهتمون بي و تدرّسونني و تعلمونني القراءة و تُتعِبون أنفسكم إذا كان هذا كلَّه بلا فائدة ؟ لقد أدرك الطفل في عمر الخامسة حالته تماماً و هذا ما جعل نفسيَّته متعبة و تصرّفاته غير مستقرة ، فالطبيعة البشرية المجبولة على حبِّ التواصل مع الناس و الانطلاق بحريّة و أن تكون سيد نفسك لا تتفق أبداً مع حبسك ضمن عالم لا يتجاوز حدوده بضعة أمتار !
الجهاز الذي صنعته ناسا خصيصا للفتى ليتمكن من الخروج |
نالت حالة الطفل ديفيد تعاطفاً كبيراً مع الرأي العام بعد أن صوَّرت الصحافة هذا الطفل و شرنقته و تحدَّثت عن حالته ، كما أنه نال دعماً كبيراً من الحكومة لمتابعة وضعه الصحّي ، و في عام 1977 صنع باحثون في وكالة ناسا بدلة فضاءٍ مطوًّرة خصّيصاً من أجله ، و قد كلَّفت مبلغاً وصل لـ 50000 دولار أمريكي ، و ذلك من أجل جعله يتمكَّن من الخروج من غرفته البلاستيكية و التواصل الشبه مباشر مع الناس و العالم الخارجي ، كانت هذه البدلة مرتبطة بفقاعة تحيط برأسه يتدلى منها أنبوب قماشي طوله تقريباً متران و نصف و ذلك من أجل ضمان سلامته و عدم تعرُّضه للتلوّث .. و مع ذلك لم يكن مسموح له ارتداؤها سوى بضع ساعات في اليوم .
حتى امه لم يكن باستطاعتها ان تتواصل معه الا من خلف حاجز الفقاعة |
كان من الصعب على ديفيد في البداية أن يتأقلم مع هذه البدلة ، و قد استخدمها عدَّة مرات و خرج إلى العالم و لعب مع الأطفال .. لكنه كلَّما تقدّم في السن كان قلق الأطباء نحوه يزداد ، فحالته بدت ميؤوس منها و تصرّفاته بدت عدوانيّة تعبيراً عن رفضه لوضعه ، و مع سيره نحو عمر المراهقة باتوا يتوقَّعون الأسوأ .. حتى أنَّ الحكومة قرَّرت تخفيض الدعم المقدم له بعد أن رؤوا ألّا نتيجة لتعبهم ، و كانوا قد صرفوا عليه قرابة الـ 1.3 مليون دولار ، حتى تعاطف الرأي العام معه كان قد انخفض .
و عندما بلغ من العمر اثني عشر سنة ، أي في العام 1983 و بعد انتظار متبرّعٍ تتطابق أنسجته مع أنسجة ديفيد تم التوصّل إلى إمكانيّة زرع نقي عظام من أنسجة غير متطابقة ، فوافق الوالدان على إجراء هذه العمليَّة له و كانت المتبرِّعة شقيقته كاثرين بالطبع .
كبر الفتى حتى ضاقت عليه فقاعته جسديا ونفسيا |
تمت العملية وفق مخاوف الأطباء من فشلها ، لكنها بدت ناجحة في بدايتها ، و مع مرور بضعة أشهر نشأ أملٌ لدى الجميع عن احتمالية تحرِّر الفتى المسكين من هذه الفقاعة البغيضة ، لكن و للأسف مرض ديفيد ولأول مرّةٍ في حياته ، كانت تأتيه نوبات حمّى و إقياء و نزيف معوي شديد ، الأمر الذي أجبر الأطباء على إخراجه من شرنقته لعلاجه ، سألته والدته فيما إذا كان يرغب بالخروج منها فأجاب افعلوا أي شيء يجعلني أرتاح .
هناك و في أيامه الأخيرة تمكّن والديه و لأول مرة من لمسه بشكلٍ مباشر دون حواجز و دون إجراءات معقّدة .. طبعت والدته على خدّه القبلة الأولى و الأخيرة ثم فاضت روحه ناشدةً الحرية التي لطالما تمناها ، عن عمرٍ صغيرٍ لم يتجاوز الاثني عشر عاماً و بعد 15 يوماً فقط على إخراجه من تلك الفقاعة ، في الثاني و العشرين من شباط/ فبراير .
أدّى تشريح الجثّة إلى اكتشاف وجود فيروس ” ابشتاين – بار ” في نقي عظام كاثرين المتبرّعة و الذي لم يكن قابل للاكتشاف قبل عمليّة الزرع ، الأمر الذي أدّى لإصابة ديفيد بسرطان الغدد اللمفاوية و موته .
جديرٌ بالذكر أن والدي ديفيد تطلّقا فيما بعد ، ليصبح والده بعدها عمدة شيناندوا في ولاية تكساس ، أما والدته فقد تزوجت من صحفي كان قد كتب موضوعاً عن ابنها ، و إكراماً لديفيد تم إطلاق اسمه على أحد المدارس الابتدائيّة افتتحت في عام 1990 .
الجانب الأخلاقي من هذه القصة
هل من حقك ان تنجب طفلا حينما تعلم بأنه سيكون مريض ؟ |
أُثير في الرأي العام جدلاً عن عبثيّة إنجاب طفلٍ احتمال إصابته بالمرض هو 50 % و هي نسبة عالية جداً ، كما أنَّ الأطبّاء في مشفى تكساس و جّهوا اللوم لثلاثة أطباء – و هم الأطباء الرئيسيين الذين تابعوا حالته – حيث قالوا بأنهم استغلوا لهفة والدَي ديفيد على إنجاب طفلٍ يحمل اسمهما و شجَّعوهما على تنفيذ هذه الخطوة بغرض إجراء تجارب في مجال الجهاز المناعي على الطفل المولود ، ضاربين بعرض الحائط صعوبة عيش طفل ضمن فقاعة عازلة لعدّة سنين .. كان الأمر لا إنساني بالمرة ، فهم لم يفكّروا ماذا سيفعلون لو لم يجدوا علاجاً فوريّاً للوضع ! لكن أولئك الأطباء نفوا تلك التّهمة عنهم و قال الطبيب مونتغمري و هو أحدهم : لو لم يكن هناك أناس مستعدّين للمجازفة ما كنّا وصلنا إلى هنا ، و ما كان حصل أيُّ اكتشافٍ يفيد البشريّة و يجعلها تتطوّر في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة .
أطروحة الطبيبة ماري مورفي
ارادت نشر كتاب يناقش الجانب الاخلاقي لقضية ديفيد |
كانت الطبيبة النفسيّة المشرفة على علاج ديفيد و تدعى ماري مورفي وضعت كتاباً عن تجربة ديفيد المليئة بالألم و المعاناة بعيداً عما صوّرته وسائل الإعلام من إظهار ديفيد سعيداً و مرتاحاً ، و قد صرَّحت فيما بعد أن ديفيد طلب منها كتابة تقريرٍ واقعي عنه . كان كتابها بعنوان ” هل كان يستحق كل هذا العناء ؟ ” ناقشت فيه الجانب الأخلاقي و الإنساني من هذه التَّجربة ، و مدى تسرّع البشر في سبيل اكتشافاتٍ علميّة جديدة ، كان في نيّتها نشره في العام 1995 لكن في اللحظات الأخيرة قبيل نشره والدي ديفيد منعاها من ذلك و هدّداها برفع دعوى ضدّها بعد أن سحبا الإذن الخطي الذي كانا قد أعطياه لها للكتابة عن ابنهما ، كما اشتكى بعض الأطباء من أنَّ هذا الكتاب يحوي محادثاتٍ تمت بين الفريق الطبي المشرف على العلاج و بين المريض و أهله ، مما يخرق قوانين مشفى تكساس التي تنص على خصوصيّة المرضى . باختصار سبّب كتاب مورفي بلبلة و جدلاً واسعاً بأنَّ الكلام الذي ذكرته و الأسئلة التي طرحتها لا يمكن تأكيدها خصوصاً بعد امتناع الشهود و من له علاقة بالقصّة عن إجراء أي مقابلة ، و بذلك لم يرَ كتابها – أو أطروحتها – النور .
نتائج حالة الطفل الفقاعة
وداعا ديفيد .. تخلص من فقاعته اخيرا .. هنا يرقد الى جوار شقيقه الذي مات قبله رضيعا |
في الحقيقة تجربة ديفيد أدَّت إلى نتائج في المجال الطبي ، فقد عرف الأطباء من خلالها أن فيروس “ابشتاين – بار” من الممكن أن يسبّب السرطان ، و درسوا مدى خطورته عند زرع أعضاء تحمله في جسد إنسان سليم . كما غيّرت حالة ديفيد من الطريقة التي يتناول فيها الأطباء الحالات الوراثية ، و تزامنت تجربة الطفل الفقاعة مع ولادة الطب الجزيئي الذي يهدف إلى معالجة الخطأ الجيني بدلاً من محاربة نتائجه .. يعني انتهت تجربة الطفل ديفيد بسلسلة من النتائج و ساعدت على تقدم الطب نوعاً ما .
ختاماً
قصة الفتى ديفيد فيتر تطرح سؤالاً هامّاً مفاده ؛ إلى أيِّ حدِّ مسموحٍ للطب بالمخاطرة و المجازفة و التلاعب بأقدار البشر ؟ هل الغاية هنا تبرِّر الوسيلة ؟ هل إحراز تقدّم في مجال طبّي معين يشفع للسماح بولادة طفل محكومٌ عليه بالموت أو العيش بطريقة شاذَّة محاط بفقاعة غريبة منذ ولادته ؟ أين الجانب الأخلاقي في هذه المسألة و ما هو دوره ؟ بصراحة هذه الأسئلة دارت بذهني بعد كتابتي للمقال و لم ألقَ لها إجابةً شافية ، فلا يستطيع أحدٌ الإنكار بأنه لولا المغامرة ما كانت وجِدت العديد من الاكتشافات التي ننعم بنتائجها الآن .. ستظل قصة الفتى ديفيد بالنسبة لي قصة حزينة ، أتألّم كلما رأيت صوره يواجه العالم من خلال فقاعة ، كانت حياته قصيرة جداً لكنها مليئة بالمعاناة ، و ربما معها حق الطبيبة عندما عنونت كتابها بـ هل كان يستحق كل هذا العناء ؟
ما رأيكم أنتم ؟؟
ملاحظة:
فيروس ابشتاين – بار .. اسمه يتكوّن من اسمي العالمين اللذَين اكتشفاه ، و هو فيروس من فصيلة فيروسات الهربس ، من أشهر الفيروسات التي تصيب الانسان ، اكُتشِف عام 1964 عن طريق عيّنة تم أخذها من ورمٍ سرطاني ، يصيب جميع الفئات العمرية ، أعراضه تتمثّل بحمّى و التهاب الحلق و الغدد اللمفاويّة و يؤثّر على الطحال و الكبد و نادراً ما يسبب الوفاة . لوحظ أنّ له دور في إفشال الحمل أو ولادة طفل بتشوهات خلقية .. و لمعلومات أوسع عن هذا الفيروس راجعوا المصدر .
المصادر :
– Whatever Happened To “The Bubble Boy,” David Vetter?
تاريخ النشر : 2018-09-21