أدب الرعب والعام

مُذكرات لصديق إفتراضي

بقلم : البراء و أيلول – مصر _ الأردن

السقوط من سماء الأحلام أتلف كل شيء عدا ذاكرتي المشحونة بك

ملحوظة مهمة:

السطور التالية قد تكون أقرب للمذكرات من القصة .. لذا الأحداث لن تعكس القيمة الأدبية الحقيقية للقصة.. انما هي الكلمات وحدها فقط ما ستفعل هذا.

الفصل الأول

هل حان الوقت بعد؟
متى ستُظلم كلياً ؟. متى سأنام ؟
لا أعرف. ربما حينما أنال القدر الكافي من… من كل شيء لا يعجبني، من هذه الخواطر السوداء، العذاب، الأشياء التي أريد أن أنساها، الكلمات التي علقت بعقلي، الإبتسامات التي لا تريد أن تُمحی، الهمسات واللمسات…
أظن أنني سعيدة بعد كل شيء. لقد وصلت لمرحلة التمتع بالذكريات الحزينة. لم يعد يهمني أي شيء بعد الآن.

لكن.. لماذا بعد كل هذه الفترة الطويلة من الصمت القاتم .. أعود لِأُثرثر؟
في هذه اللحظة يخطر في بالي أن أدون أسبابي للكتابة ، لكنني لا أجد ! بدون أسباب أمضي لأكتب ، هناك شيء بداخلي يدفعني لأكتب ، لا أعرف الكثير عن عالم الكتابة و أسراره ، لكن ما أعلمه أن الشخص الذي يكتب يُرثى لحاله حقا ! حاله كاملة من الشفقة ..
وإلى من أكتب؟ لا أعرف.. صدقاً لا أعرف. أكتب لأي شخص.. أكتب إلى صديقي الوهمي.. هو الوحيد القادر على أن يفهم ثرثراتي . على الأقل سيفهم كيف وقعت في حب شخص سادي. سيفهم لماذا لا أريد أن أحكي ما حدث منذ البداية. سيفهم كيف تخطيت القصة ووصلت للمنتصف.

فتاة. فتاة تقف على قارعة الطريق في الساعة الثانية ليلاً. كانت تلك أنا.
لم يكن هذا غريب على إيفا التي تعيش عامها الخامس والعشرون عزباء وحيدة كقطة صغيرة في ركن الطريق. أخترتُ بنفسي أن أكون هذه القطة. وجدت السلام في ذلك العالم الذي أصنعه بنفسي، وصدقاً.. من هو ذلك الشخص الذي لن يجد السلام في العالم الذي يصنعه؟

ليس هناك مجال للوم ، حياتي _ومنذ البداية_ متهالكة ، أما حظي ! فقد كان مثل مظلة خرقاء ، تلك التي تُعاند ولا تفتح تحت مطر أو حتى شمس ، وفي وقت الظل تتفتح مثل فراشة ربيعية ! لهذا قررت أنني سأسير في الطريق الذي يريحني.. تائهة ومنهكة، حاملة لحقد دفين نحو هذا العالم. عاصفة مشاعر هوجاء كانت تجتاحني آنذاك.

الجو بارد والظلام حالك والألم أكيد. كله حتى تأتي تلك السيارة المتهالكة من بعيد. تقف بجانبي وينظر لي صاحبها بإشارة واضحة.. سؤال صريح.
“ما الذي تفعله فتاة مثلك هنا في هذا الوقت؟!”
أرفض الإجابة فيعيد تشكيل نظرته.
“إذن إركبي معي”
أرفض الإجابة فيقرر أنه اكتفى من النظرات ويترجل من السيارة ليقترب مني، ظننت أنه سيتكلم أو شيء من هذا القبيل، لكنني وجدته يفحص بؤبؤ عيني يإهتمام. هل أبدو له من ذلك النوع الذي قد يثمل؟
ظننت أنه رجل طيب آنذاك.. لماذا تتوهج عيناه بهذا البريق الخفي؟ لماذا أجده… لماذا أحبه؟!

لم تكن حياتي بحاجة لمؤامرات الحب والحظ ، لأن حياتي _ومنذ البداية_ كانت مجرد سلسلة أكاذيب .. كذبة وراء الأخرى ، بِنَظَمٍ يشبه قلائد الآلهه ، ومَن كان يظن ان النبيّ بذاته هو مَن سرق الوهج اللازوردي للقلادة ؟ لقد سرق روحي ! يا لي من عاهرة ! لو بعت روحي للشيطان لكان أفضل من هذا الغبي !

أجل .. أعرف يا صديقي الوهمي انهُ لِأمر سيء أن يصل الانسان لهذه الدرجة من الإبتذال ، الدرجة التي تجعله يشتم نفسه بمذكراته ! لكنني أشك بكونها مذكرات ، ربما تكون رسائل ، رسائل مستقبلية لنفسي قبل أي شخص آخر ، أيضا ربما تكون وثائق ، وثائق جُبنَ الوجود على هذه البسيطة ، أو مجرد لعبة غبية مسلية ، أمضي بها أيامي الوحيدة ، الصباحات الهادئة ، والأمسيات المضجرة ، لعبة لتمرير الوقت بدون الشعور بأنه الوقت اللعين ذاته ! بدون الشعور بأن التواريخ تمضي أيضا ، أنا لا أسأل عن التواريخ ولا أملك تقويما أيضا ، لست بحاجة لذلك ، لأنني وفي كل مناسبة ألقى بها وجهي الشاحب في المرآة ، تتجلى التواريخ ، دون السؤال ، تهرول الإجابة لي كما لو انها مهرج مجنون ، ولطالما خفت من المهرجين ، وخفتُ من التواريخ ، الحياة بكل ما فيها ترعبني ،

أحياناً يُهيئ لي أنه لم يُرد أي من هذا.. لم يُرد أن أحبه ولم يُرد أن يجدني على قارعة الطريق. حينما كنت أسأله في لحظات الصفاء كان يقول أنه ظن أنني فتاة هاربة ثملة أو شيء مشابه، يقول أنه شعر بالشفقة الشديدة نحوي لذا أراد مساعدتي.. لم يراني سوى فتاة تحتاج للمساعدة، لم يتوقع أبداً أن تتحول الأمور لهذا الشكل بيننا. استشعرت دوماً في كلامه تلك النبرة.. ذلك الشيء الذي يخبرني أنه يحبني شفقة.. أو أنه يحبني لأنه لا يملك خياراً آخر. أنني أجبره على أن يحبني.

إيريك وغد. إيريك وغد مميز. في العادة الأوغاد الإعتياديون يكونون أثرياء ويعبثون مع ألف فتاة قبل أن يقرروا أنهم كبروا على هذه الأفعال الصبيانية وأن الوقت قد حان للزواج أو على الأقل الإستقرار مع فتاة واحدة. إيريك فقير ويصر على أنه لا يريد العبث مع أي فتاة كانت. لديه وجهة نظر تعتقد بأن الحب ما هو إلا مأساة.. وأن المآسي الغير محسوبة تؤلم حقاً. مع هذا عبث معي.. مع هذا أحبني، أو على الأقل هذا ما ظننته وقتها.

يقول بجنون “إيفا انت مليئة بالمشاكل”.
فأرد بهدوء “أية مشاكل”
يرد بنفس العصبية “أنتِ مريضة.. انتِ تحتاجين للعلاج. لا يمكنني الحياة مع فتاة مجنونة”
ثم يغادر المكان بكل بساطة.
بمرور الوقت بدأت أشعر بكلماته تلتهمني شيئاً فشيئاً. هو يعتقد أنني مجنونة، أنني كثيرة المشاكل.. أفتعلها أو أزيدها إشتعالاً.
فتاة غير مستقرة عقلياً، أنا. الكثير من المشاعر.. الكثير من التقلبات، عالم آخر، فتاة في لحظة.. وفتاة أخرى في اللحظة التي تليها.
سألت نفسي في ذلك اليوم، لماذا؟! وانتهى بي الأمر عالقة في زمن آخر. كما ترى يا صديقي الوهمي هناك بعض القصص التي تبقى ذكراها عالقة بأرواحنا للأبد ، الذكريات وندوبها .. ماذا تعرف أنت عن الندوب ؟ هل جربت الحرب ؟ الحرب مع ذاتك ! الحرب بسبب الحب ! حسنا .. ها أنا ذا أخبرك .. إنها أشد ألما من حروب البلاد كلها ، ما سبب الحرب ؟ الحظ ؟ أم الحب؟ أم الحاجة ؟ ليس عيباً أنني لا أجد أجوبة لأسئلتي ، على الأقل بدأت بطرح الأسئلة الصحيحة ، أما ما يدريني أنها كذلك ؟ فهذا الجواب بالذات يفلت مني دائماً !

لن أحكي عن طفولتي ومراهقتي، أُفضل أن أنسى هذه الأيام بدلاً من إحضارها للسطح. من المعروف ما الذي سيحدث لو ظللت تحك الطفح الجلدي. بالرغم من هذا.. حينما أفكر بالأمر.. أجد أنني لم أكن سوى ضحية، أعرف أننا جميعنا ضحايا بطريقة أو بأخرى ولكن كان هناك ذلك الشيء الذي جعلني مختلفة، ضحية مختلفة. لا أتذكره بعد الآن ولكنه كان شيئاً كبيراً، الفضول يحثني على محاولة التذكر بينما الجزء العاقل مني يأمرني ألا أبحث وراء الماضي. كنت خائفة لذا لم أنبش في الماضي كثيراً، عرفت أشخاصاً فعلوا.. ولم ينتهي الأمرعلى خير بالنسبة إليهم.

بالرغم من هذا أنا لا أختلف كثيرا عن الآخرين ، كلنا نعيش بذات الكون ، لكن طريقة العيش وحدها تختلف ، بينما يقضي الناس أمسياتهم السعيدة مع بعضهم ، بجانب الموقد ، يترنحون في الطرقات ، يحدقون بلا ملل بهواتفهم الذكية ، ذلك يقهقه بالمقهى ، وتلك جالسة على شرفتها تحيك الصوف ، الغرزة وراء الأخرى ، الكل يتابع حياته بشغف ، يثبتون وجودهم الفاني ، بالصوف ، بالهاتف ، برماد الموقد ، بأوراق اللعب ، بكؤوس الخمر ، يوثقون وجودهم على هذه البسيطة ، وبينما يحصل كل هذا تجدني أيضا أوثق حياتي الفارغة ، هذه الأوراق اللعينة وهذا الصندوق _الموروث واليتيم مثلي تماما _ ، هذا هو وجودي ، لكن مَن يأبه ؟ الإله ! الرسول الفاسق ! الأم المهملة ! الأخت المتعالية ! حتى الأب والأخ ، إنهم أوغاد .. كما كل الرجال.

كونت الفكرة النهائية عنهم منذ ذلك الوقت، الحياة مع أحدهم هي إنتحار بالنسبة إلي، وهذا لا يعني أنني أرفض الزواج بالمطلق ، لكن الزواج بوغدٍ أحبه فكرة لا بأس بها.

لم أحلم بحياتي الفانية هذه بالكثير ، لا شيء حقا ، تجاه هذه الفكرة بالذات تخطر ببالي إحدى شخصياتي المفترضة ، انها (ايفا) ، تلك الفتاة الغبية والتي لفرط غباءها ، أخذت تنسج _طوال ليل وحدتها _ ثوبها البهيج ، لترتديه في عيد مولدها في اليوم التالي، أخذت تنسج وتنسج ، الغرزة وراء الأخرى ، بشغف عاشقة أسطورية ، ونامت بعد أن نال منها التعب ، نامت وعلى فمها ابتسامه بلهاء ، تنم عن أمل ساذج وحلم وردي لذيذ ! وحينما استيقظت ، كان الحفل يدق بطبوله وينتظر أميرته ، بطلتها البهيّه ، وجاءت إيفا ، ناقصة ككل شيء في هذا العالم ، تبحث كثيراً عن إيريك. ترتدي فستانا بالكاد يغطي الندبة في صدرها ، وبلون ليس هو ما تريده.

اه يا ايفا ، لا تبكِ يا عزيزتي ، مَن تنسج فستان أحلامها في الظلام .. عليها ان تدرك نهايتها البشعة .. مظلمة وحالكة بشكلٍ مرعب ، سيري بفستانك الناقص نحو قدركِ الناقص ، سيري نحو فارس لا يستحق أية أميرة ، وابتسمي ولو كذباً ، فحتى الموت يستحق القُبل والأحضان ، أعلم أنني لا أجيد تقديم النصائح بشكل لائق ، فضلا عن تقديم الحِكم ، ولكن لو كانت هناك حكمة في قصة ايفا فهي تصدح بملئ صوتها : ارضي بالواقع المُقدر ، وارقصي مع الشيطان حتى الثمالة ، أقبلي على الموت بكل ما تملكين من كبرياء ..
آه يا ايفا ، في عالم الفرسان المزيفون ، علينا نحن أيضا أن نكون أميرات مزيفات ، ليس لشيء .. سوى لأن العالم يسير بهذه الطريقة ، جدفي أنتِ أيضا ، فذلك التابوت ينتظر العالم أجمع !

الفصل الثاني

كان هناك ذلك السؤال الذي حيرني لفترة من الوقت، لماذا إيريك؟ أعني أنا قد عرفت الكثير من الأوغاد في حياتي.. لم أشعر بإنجذاب حقيقي نحوهم، على الأقل ليس مثل إنجذابي نحوه. هذا ليس حباً.. الحب من المفترض أن يكون أكثر قداسة من هذا الأشياء التافهة، أو ربما أنا مخطئة، ربما الحب شيء سيء.. سيء للغاية. من تجربتي الحب يحرق.. وحسناً أي شيء يحرق لابد من أن يكون سيئاً. إيريك كان يريد أن نصبح أصدقاء حتى لا يحرقنا الحب.
لكن تعرف يا إيريك، قرأت ذات مرة أن الرجل والمرأة لن يصبحا صديقين الا بحالة واحدة ، فيها ينسى الرجل رغبته وتنسى المرأة قلبها ! ، أعتقد أنني كنت أكثر من صديقة رائعة لك .. هل تود أثبت لك ذلك ؟ حسنا .. لنبدأ حيث اللقاء الأول ، منذ انقباضة صدري الأولى علمت أن لدي الكثير لأعيشه معك ، منذ شهقة أنفاسي الأولى ، منذ وجدت روحي تندفع نحوك بشكلٍ جنوني ، أعترف .. لم أستطع اخفاء دهشتي بك و أعتقد أنك استطعت ملاحظة بلاهتي حين كنتُ أحدق بك بطريقة غريبة وظريفة !

تذكر تلك المرة حينما كنتَ تقف بوسط الظلام الحالك ، تحتضنك هالة بنفسجية ، والتقت أحداقنا في لحظة شعرت أن الزمن توقف عندها .. لتقطعه أنت وتمد يدك لي _كأي سيد مهذب_ ولا أعتقد أنني فكرت كثيرا بتلك اللحظة _كأي فتاة غير مهذبة_ ووجدت نفسي أخلع حذاء الواقع و أسير حافية القدمين نحو قدر يفضي لأرذل الاحتمالات ، أسير نحو خطيئتي الاولى ، أسير نحو رجل أعرف تماما أن رقص التانجو معه لن ينتهي الا بقبلة ، رجل يسرق الوقت ليزيد من عمر الغياب ، رجل يملك الألوان السبع للخطايا ، رجل يملك دهاء الأقدار! ما زلتُ للآن لا أستطيع نسيان جملتك الترحيبية ، حينما أمسكت بيديّ واخترقتُ هالتك بخفة ، حدقتَ طويلا في عينيّ وقلت لي : أهلا بكِ في عالمي ! وكانت أول مرة أضبط نفسي وهي تبتسم لرجل ! لقد منحتني الشيء الوحيد الذ كنتُ أبحث عنه ، لقد منحتني الأمان المطلق ، أتعلم ماذا يعني هذا ؟ هذا يعني أنني نقضتُ أول وعد للصداقة ، نعم لقد أحببتك ! ولأنني فتاة ليست بقدر أحلامك عن للمحبوبة المنشودة ، ولأنني أردت أن أكون صديقة رائعة للنهاية ، تركت قفل اللازورد بين يديك ، ومضيت مبتعدة عنك ، مضيت نحو أفلاك الغياب برفقة قلبي ! أو كان أنت من تركتني؟
لا أستطيع أن أعرف حقاً، لكن قياساً على إختفائك بين يوم وليلة كان أنت من فعلتها. أريد أن أنسى.

ما الذي تريد أن تعرفه أكثر من هذا يا صديقي الوهمي، حبيبين لم يكتمل حبهما للنهاية. التفاصيل؟. لا توجد تفاصيل.. إيريك فقط اختفى فجأة. الليلة التي تسبقها… أذكر الأمر.
ليلة صيفية هي الأخيرة التي قضيناها سوياً، قمر مكتمل يملأ السماء، جو هادئ وأضواء المدينة تتلألأ من على تلك التلة التي جلسنا عليها. كان أكثر هدوءاً من المعتاد، حينما أقول أحبك يقول أحبك أيضاً، حينما أغمض عيني يغمضها معي ويبتسم. أهذا إيريك؟!. يعلم الله كم تمنيت أن تظل هاته النسخة من إيريك معي بقية عمري. عشقته أكثر، إلى تلك الدرجة التي جعلتني لا أريد تركه ليلتها. أكان إحساسي كأنثى وقتها أم أنني كنت ثملة من الحب؟!. لا أعرف الإجابة.. ما أعرفه هو أنني بعدها لم أره مرة أخرى. لم يترك رسالة.. لم يترك كلمة.. لم يترك شيء، فقط رحل.
كان من الواضح أن مشاكله أكبر منه، أكبر من أن يتعامل معها. لم أتخيل أن إيريك الذكي الواثق قد يفعل هذا. إما انني بالغت في تقدير شخصيته أو قللت من حجم مشاكله.
بالنسبة إلي.. أن أكون جزء من مشاكله لهو شيء صعب، لكن التفكير بأن تلك الليلة الأخيرة كانت بمثابة هدية الوداع منه كان شيئاً….. كان شيئاً غريباً، شيء محبط أو حزين، أعني كلما فكرت بالأمر كنت تختلط مشاعري. بين غضب وشعور بالشفقة والحب. لم أعتقد أن هذا ممكن ولكن الآن تعلمت أنه ممكن وقابل للحدوث.

متى حدث هذا؟. متى قابلت وارسوز؟. لست بمتذكرة ولا أريد التذكر. لكن اللوحة كانت مرسومة بدقة، لدينا فتاة يبدو أنها محطمة نفسياً تقف في المنتصف، تريد الإبتعاد عن كل الرجال في العالم. ولدينا شخص يحاول إقتحام مساحة هذه الفتاة وكأن حياته تعتمد على هذا الأمر. ماذا حدث بعدها؟. الأقوى يفوز.. والحق يقال.. الفتاة كانت ضعيفة للغاية. بعدها من يرونني صاروا يسألونني أين إیريك ومَن وارسوز، أيام لاحقة ويتغير السؤال.. تصبح نظرات صامتة صارخة. تلك العيون التي تراقبني بصمت وتصرخ في نفس الوقت.
«تخلت عن إيريك بهذه السهولة؟!!»
«إنها عاهرة تبدل الأحبة بسهولة»
«كيف تمكنت من نسيان إيريك بهذه السهولة؟!»

أردت أن أجيب.. لا إيريك هو من تركني، لا وارسوز طيب ويحبني حقا.. هو من يستحق أن أحبه….
أردت أن أوضح الكثير من الأمور لكن لم أتمكن.

في البداية ظننت أنني غبية حقاً كي أقع في حب شخص مثل وارسوز، وحينما أفكر بالأمر أقول.. ربما لم يكن حباً، ربما كانت حالة نفسية أو رغبة غير معلومة، لكن هنا السؤال ما نوع تلك الحالة أو تلك الرغبة التي تجعلني أفعل هذا. وارسوز كان مثل لوحة مشوهه .. أغنية رديئة ، عباءة بالية ، زاوية مظلمة جدا من هذا العالم ، لكنني فضلت البقاء فيها ، على الرغم من كل شيء ومن خوفي ، ومن كل إشارة قدر كانت تصرخ بوجهي مثل امرأة غاضبة ، لقد كان رسولاً ، وهو الشخص الوحيد الذي صدقته .. آمنت به وكفرت بقلبي لأجله ، وحتى بعد أن نلت سخط الحياة ونُفيتُ للجحيم ، لست نادمة !
لنقل أنني حلمت معه بحلم جميل، أو لنصيغها بشكل أكثر واقعية توهمت معه. ثم استيقظت على ضربة الواقع المؤلم.. في ذروة الحلم.. في اللقطة الأكثر جمالاً.

عليك اللعنة يا وارسوز.. لقد أنهكني التذكر، لا أريد أن أذكر ما حدث. كان حلماً. فقط كان حلماً…

لقد كنتُ هناك ، أستلقي على الأنقاض، بأجنحتي المُحطمة، وقلبي المُنتحب، يضيق صدري بالرماد، وحدهُ الرماد يُغطي المشهد كستارة المسرح، يبتلع الأوكسجين مثل عطر عاهرة، وأنا هناك.. أهلوس.. أهذي.. وأغني، بهذه الصورة المُظلمة انتهى كل شيء، والسقوط من سماء الأحلام أتلف كل شيء عدا ذاكرتي المشحونة بك، ما زلتُ أذكر كل شيء، منذ دهشة البداية وحتى شهقة النهاية، كل شيء كان حقيقياً، لكن لا! الحب لم يكن السبب، كنتُ كأعمى يُبصر للمرة الأولى، وتخلى عن عكازة، ولم يعُد يصدق بصيرته.

(القضمة الأولى من التفاحة)
عند كل طابق توقفت عنده، كنتُ أُصاب بالدهشة فقط، تركتُ دموعاً صادقة بطابق الحزن يوم شعرت أنني يمكن أن أفقد البصر، تركت ضحكات لا ينتهي صداها بطابق الفرح يوم علمت أنني وجدت عُكازاً بشرياً، وأودعت الكثير من الأماني والصلوات في طابق الأحلام، وعلقتُ صوراً لي مع ذلك الأحمق على جُدران المصعد ، وفي آخر طابق صعدنا إليه وقبل أن ندرك العالم أو يُدركنا، أمسك يديّ وحدق بعينيً، تبادلت أحداقنا حديثاً صامتاً، كنتُ مخدرة.. غافلة، ثملة على نحوٍ مُقرف، وكان يقول أشياء مُتقطعة (أحبكِ إيفا _ لا تخافي _ أنتِ بأمان في عالمي _ لنهرب _ كوني حُرة إيفا _ ارقصي معي _ لا مسرح هنا ، أنتِ جمهوركِ الوحيد _ أنتِ النص.. الأغنية.. أنتِ كل ما يخطر ببالك _ أنتِ أنا.. وأنا لستُ ساحراً )
إنتهت لوحة الأرقام مُعلنةً الوصول للطابق الأخير، إندفعنا نحو الفضاء مُنتشيين حمرة الحب، حدقتُ بالسماء المُرصعة بالنجوم، حدقتُ بوهج القمر.. وأنا لا أكاد أصدق أيّ عوالم سرية هذه! ، أفلتُ يدي من بين يديّه، ورحتُ أمشي نحو حافة البناية وهالَني ما رأيت!
(انتهت التُفاحة)

لقد أدركت _مُتأخرة _ أن الوقت الذي قضيته في المصعد كان وقتاً أطول مما توقعت، والذي كنتُ أظنه عالماً لم يَكُن سوى سراب، وضعت يداي على حافة هذا العالم ورحتُ أحدق بشرفات ونوافذ المنازل المُقابلة، كانت كلها مضيئة، وخلف النوافذ اللامعة تلك، عرفتُ فيها كل اللذين أعرفهم، صديقاتي يُقِمنَّ حفلة مبيت رائعة، وعائلتي تتناول العشاء بمرحٍ ظاهر، كان العالم وقتئذٍ_ بالنسبة لي_حفلة كبيرة وأنا لستُ مدعوة لحضورها، ذلك أنني ضيعت تذكرتي يوم قررت أن أبحر في سفينة ليست لي، وأنا أعلم أنها مخروقة، ابتلعتُ أسى الصدمة، واستدرت نحو وارسوز.. كان يستند على الجدار ويدخن بنهم، يُحدق بالفراغ غير مُبالٍ لشيء، ثم نظر لي، ولأول مرة أستطيع رؤية ذلك اللؤم في عَيّنيّه، ولمحته تحت ضوء القمر يبتسم بخبث. كان وقتها مثل شيطان ساخر، عدت أحدق بالعالم الذي خلَّفتهُ ورائي، ورحتُ أبكي بكاءاً مُرّاً، وأشهق كما لو أنها آخر أنفاسي، ورحتُ أطبطب على قلبي، وكدتُ أسمعهُ يعتذر لي، ولقد سألني : كيف للنبيّ أن يخون الرسالة؟ بل وأسوأ. كيف يستطيع تدنيسها؟! إذاً لم يكن نبياً ولا رسولاً، لقد كان ساحراً و دجالاً قذراً، هذه هي الحقيقة، ولم يكن يستحق العتاب، يالسذاجتي.. كنتُ كَمَن باع وطنه ليصبح لاجئاً ، وبكبرياء آخر جندي على الأرض، أمسكتُ بطرف ثوبي وخلعت حذائي وصعدتُ على الحافة ، رفعتُ راسي وأوقفتُ دموعي، واستعددتُ للنهاية، قطع سكون الليل صوت وارسوز ، قال بسخرية وبنبرة الواثق : لن تفعليها يا روحي، أعرف جيداً من أي طينة هي روحك، لقد صنعتُ منكِ نسخة أخرى تُشبهني، تتوقين للموت والحياة معاً، لكنكِ جبانة، لن تفعليها، لا تستطيعين احتضان الموت ولا تقبيل الحياة، أنتِ عالقة هُنا، بهذا الظلام الحالك، بجحيمي، ومعي أنا، لا تمنّي نفسك بأشياء مستحيلة، أنتِ تحبينني ، أنا استثنائكِ الأعظم يا إيفا!

رحتُ أقهقه ببلادة متشردة، لم أقل كلمة واحدة، أمسكتُ قُبعتي و قذفتها نحوه، وهويتُ بنفسي للأسفل، ثم أصبح العالم رمادياً لا يُطاق، لكنهُ لن يطول، الفراشات أخبرنني بذلك، سمعتهم يتهامسن عند أجنحتي المُحطمة، قُلنَّ أشياء كثيرة، مفادها، أن الربيع قادم لا محالة، وأن هناك جزيرة كاملة اختفت، وأن لا أحد سيسأل عن تُفاحة سرقت من هُناك ، وأن الندبة ستختفي مع الموسيقى.

الفصل الثالث

القضية كانت.. إيريك كان حبي الحقيقي لكني ركبت موجة وارسوز، وهذا حدث لأن إختيار إيريك لم يترك لي الخيار. أما وارسوز فكان مجنوناً، يقول انه يحبني لكن بالرغم من هذا لم يكن يريني هذا، لا أنكر .. تأثرت به أكثر من مرة لكن لم أستطع قط أن أتخلى عما بقلبي لذلك الوغد إيريك.
حاولت أن أخبرك بهذا يا وارسوز لكنك لم تنصت.. لم ترد أن تعترف بالحقيقة. لكن لن أنكر، في مرحلةٍ ما ظننت أنني أحبك..
لكن لم أحبك .. أبداً لا أستطيع .. لكنني إعتدت على وجودك .. كنت حقا أريد لأحدهم أن يسمعني حينما أصبتُ بذلك الجرح، لكن ماذا الآن ؟! .. إنتهى الكلام تقريباً ، تشاركنا الماضي والحاضر وعبرنا عن آرائنا بلا حدود ، دخلنا في نقاشات جميلة ، تحدثنا عن كل شيء تقريباً ، وعشنا الأحلام سويا ولم ننسى تشارك الأمنيات ، كل هذا مضى في وقت أقصر من قامتي بلا كعب !

أريدك أن تتحدث أكثر، صمتك هذا بات مشكلة أكبر من أنني لم أكن أجد أحد ليسمعني ! أريد أن أجرب دورا آخر، أن أعيش مشاهد أخرى ، لا أريد لهذا أن ينتهي كما ينتهي كل شيء في حياتي ، أكره النهايات المفتوحة لأنها تجلب البؤس لروحي ، أتمنى فعلاً أن لا تصادفني هذه النهاية معك ، لا أريد أن أكون مسؤولة عنك ، لا أريد أن أغيرك للأفضل ، أي أفضل هذا ؟! .. علي أن أتوقف عن بلاهتي وحماقتي، لا أنكر أيضا أنني أدعو عليك بالجنون .. عقلك هذا يقلقني ! حسنا .. لم أعتد على كتابة الفرح بعد ، لماذا أكتب عنك إذا ؟!
أريدك أن تبقى داخل هذه الكلمات وهذه الصفحات / أريدك أن تكون حقيقياً / أرغب في احتضانك / لا أريدك أن تقترب مني / أريدك أن تتغير / أريدك أن تبقى هكذا / لا أريد أن أكون أمك ، أنا صديقتك فقط / لن يتوقف قلقي عليك ، مثل أمك تماماً / أريد أن نذهب للسينما معا .. أعتقد أنك ستحب هذا / أرغب في أخذك لمدينة الألعاب والضحك عليك هناك .. ستكره ذلك كثيراً / .. أرغب في الوصول لظلك / سأكتفي بالوقوف على عتبات ضيائك / أريد أن أصارحك بكل شيء / أريد أن أكذب عليك كثيراً / أريدك أن تقرأ هذا / لا أريدك أن تقرأ هذا / .. !!

هذه ليست قائمة مشتريات وليست رسالة ولا طلب ولا رجاء .. هذه ثرثرة غبية مصيرها تحت سريري في صندوقي الأسود ، لا أستطيع القول أنني أملت بالحصول على أكثر من هذا ، سأبقى أسرد لك تفاصيل يومي وأثرثر كالببغاء ، ربما سأقول أيضا أنني تمنيت وجودك في حدث معين بحياتي .. وعلى الأغلب ربما سأكون كاذبة ! .. لن تكون أكثر من صديق وهمي وافتراضي .. لن ألعن جغرافيا هذه الأرض .. ولا الوقت ولا الزمن .. سألعن حظي وأحبه . . !

كل هذا كان جزء من الخطة الكونية التي أُحيكت ضدي. لطالما كان للقدر رأي آخر ، لطالما استطاع إدهاشي .. إرباكي ، لديه طرقه الاستثنائية ، لطالما فوجئتُ بنفسي على منصة المسرح ولا أملك حرفا واحدا لِأقوله .. أقف كأنني دمية ، وذاكرتي المعطوبة لا تحتفظ بشيء من النص ، نص ! أي نص هذا ؟ أعتقد أنني كنت كَمَن يقرأ نصا لا يخصه ، لطالما قذفني القدر نحو رقعة الشطرنج البائسة ، لا أعرف حقا ما كنت أصنع ، لا أعرف إن كنتُ من القطع الموجودة أو أنني قطعة مزيفة .. زائدة ! لكنني بالنهاية خرجتُ وبقلبي سهما ! أذكر أنني راقصتُ الملك ، أذكر أنني حاربت ببسالة ، إذن .. لقد كان لي دوراً بهيجاً هناك ، أكنتُ جندية ؟ أو قطعة زائدة ؟ أم أخرى مفقودة ، أكنتُ عاشقة ؟ لستُ أدري !

أعني ضع نفسك مكاني. فكر بردة فعل حينما تستيقظ صباحاً على صوت طرق الباب، فكر ما الذي ستفعله لو فتحت لتجد شخصاً تعرفه يقف هناك ويناظرك، إيريك بعيونه السوداء التي تنظر بداخلهما لتعرف أنه محتار فيما يجب قوله، وقبل أن تحظى بفرصة لتقوم بأي رد يقوم بإحتضانك بقوة، لا يقول شيئاً فقط يتشبث بك وتستشعر دفئه ورائحته. أهو اشتياق أم طريقة إعتذار؟. لا. السؤال الحقيقي هو هل يهم حقاً إن كان هذا إشتياق أم إعتذار؟!

كان الأمر صعباً، محاولة إخبار إيريك بأن سنة هي فترة طويلة جداً وأن الأمور لم تعد كما كانت. قال بعض الأشياء عن معرفته لقيمة الحبيب الحقيقي لكنني وقتها كنت أسمعه وأفكر في قيمتي الحقيقية. أمكنني أن أفهم الأمر، لقد كنت أحبه فعلاً.. مشاعري كانت حقيقية ولهذا كنت أقدم الكثير من التنازلات لأجله، لم يشعر بالأمر لأن كل ما كان يراه هو أنني كثيرة المشاكل.. أو غير مستقرة عقلياً كما كان يقول، ولن أنكر كان نوعاً ما محق في ظنونه. الآن هو يجد حبيبة جديدة ولكن لا يشعر بذلك الإهتمام الذي كنت أعطيه له.. يشعر وأنها لن يكون لديها أية مشاكل في أن تتركه. انا وهو كانت لدينا بعض المشاكل لكنني كنت متمسكة به ولم أفكر أبداً في تركه.. وكان بالفعل بإمكانه أن يشعر بهذا، لهذا لم يفكر قط في مشاركتي لقرار الرحيل.. كان يعرف انني سأرفض الأمر قطعاً. حينما اكتملت الصورة أمامه وجد أنني كنت ملاكاً مقارنةً بالآخرين، يدرك القيمة بعد رحيلها.. أو رحيله عنها.

جعلني الأمر أشعر وكأنني دمية أو فلأكن أكثر قسوة وأقول خادمة. هو يريد الذهاب وقتما يريد وحينما يرجع ليعتذر يجدني أقابله برحابة صدر، هذا مهين، حتى على شخص مثلي. لنقل أنني وقتها كنت قد وصلت لمرحلة الإستقرار العقلي الذي كنت أبحث عنه. لنقل أنني تقبلت طريقة وارسوز وكنت على إستعداد لأن أكمل حياتي معه للأبد، لهذا لم اتأثر أبداً بما أراده قلبي آنذاك، كانت لدي القوة العقلية اللازمة لأقول لا بالرغم من أنني أردت وبشدة أن أقول نعم. ذاك القلب كان لايزال ينبض لإيريك بعد كل شيء.. وذاك الجسد كان يرتجف لكل لمسة منه، احببته ولازلت. لكن كما ترى هنا تكمن سخرية القدر. ما أقوله هو أن وارسوز كان بإمكانه أن يعلن عن إبتعاده هو الآخر قبل أن أصد إيريك بطريقة غير لطيفة.. لست أقول أن قراري بشأن إيريك كان سيتغير بمعرفتي لهذا الأمر، ولكن كانت ستظل هناك تدابير أخرى آنذاك.

قوانين اللعبة كانت تقول بوضوح أن وارسوز سيرحل بعدها بأسبوع. لم أستطع أن ألومه على شيء، كان يشعر ببرود معاملتي.. لم يشعر فعلاً بذلك النوع من الأشياء التي من المفترض ان تكون موجودة بين عاشقين، ربما كنت في البداية مستعدة لأن أجاريه قليلاً ولكن الآن بعد أن هدأت الأمور لم تعد هناك تلك الهالة الغريبة حوله، صرت أعرفه وصار يعرفني. لربما بدأ يقتنع أنني لم أحبه.. على الأقل لم أحبه كحبي لإيريك. هكذا رحل وارسوز تاركاً وردة صفراء على الطاولة، إن لم تكن لأجلي فهي على الأقل لأجل الأوقات التي شعر فيها بأنني أحبه.

عند هذه النقطة كنت أقول لنفسي حسناً الحياة حرب وستكون هناك خسائر في جميع الأحوال لذا لابأس ببعض الجروح بين والآخر، اعني لا يوجد شيء قادر على أن يخيف جندي رأى الموت بنفسه وكاد أن يموت في أرض المعركة، لكن الأمر كان مختلفاً هذه المرة. ذلك الشعور الذي داهمني حينما عرفت أن إيريك أُصيب بحادث كان مختلفاً. ليس فقط لأنني أحبه ولكن لأن أصدقاءه القدامى ظلوا يقولون أن إيريك منذ عودته للمدينة وهو يقضي معظم أوقاته متنقلاً بين الحانة وشقته الصغيرة، أنا أعرف جزء من الحكاية، وعلى الأغلب هو يفعل هذا لأنه أراد أن ينسى إحباطه. أو ربما بسبب الطريقة التي عاملته بها آنذاك.
شعور صعب لا أستطيع أن اصفه.. لم أعرف أهو شعور بالذنب أم أنني فقط كنت خائفة عليه.
توقعت وقتها أن الحادث سيكون قاتلاً وأن حالته سيئة جداً وهو على الأغلب يصارع الموت أو شيء كهذا لكنني حينما وصلت إليه وجدت الأمر مختلفاً، لم يكن يصارع الموت كما ظننت. اتضح أن السيارة التي اصطدمت به لم تترك به كسور أو أشياء خطيرة ولكن الفكرة كانت في أن وجهه قد تلقى بعض الضرر من شظايا زجاج السيارة. لا شيء خطير.. فقط مجرد كدمات وبضعة جروح، هو ما ظننته حتى رأيت وجهه بعدها بفترة.

أفترض أن نفوره مني بعد ذلك لم يكن بذلك الشيء المفاجئ او الغير متوقع لكن بالتفكير في الأمر.. سيكون من الصعب جداً أن يعيش حياته كأن شيئاً لم يكن، الأمر الذي جعل حالتي أكثر سوءاً. فكرت بوارسوز أيضاً، وارسوز شخصيته غريبة وعلى الأغلب لن تتقبله أية فتاة غيري، مما يعني انني كنت لعنة على من أحببتهم. مجرد التفكير بالأمر كان يقتلني من الداخل، الشعور بالذنب على وارسوز وعلى إيريك، الشعور بأنني مكروهة من قبلهما هما الاثنين، الشعور بأنني أريد أن أعتذر ولكن لن يسمعني أحد، فيم سيفيد إعتذاري بكل حال، كل شيء انتهى.

كانت مأساة، ثلاثتنا لم نشعر بلحظة سعادة واحدة حقيقية منذ البداية وحتى النهاية. وكأن النقطة التي تقاطعت فيها أقدارنا كانت نقطة مزيفة ، لأن المصير ظل واحداً بعد كل شيء.

ظللت أحدق في السماء لفترة بعد هذا، كل يوم أخرج ليلاً وانظر لأعلي، أحدق في الغيوم والقمر، أطلب المساعدة أو ربما.. أستشعر السكينة.
لا أعرف.. حقاً لا أعرف. يبدو لي أن القمر والقلم والوحدة هم أصدقائي الوحيدون الآن، وعلى الأغلب هنا أتخلى عن صديقي القلم ، مؤقتاً على الأقل. وحتى يأتي ذلك الوقت علي أن أخرج هناك وابتسم لهم .. أبتسم للأصدقاء الوهميين وأخبرهم أن اموري كلها بخير وأن الحياة لم تكن لتكون أفضل. هذا هو دوري في الحياة وسيظل هكذا لفترة، سأدع القرار للأيام.. سأدعها تفعل بي ما تشاء لأنني تعبت من المقاومة، أتمنى فقط أن تكون رحيمة بي .. وأن تكون لدي القدرة على التحمل أكثر من هذا ، أما الآن فأنا أتخلى عن كل شيء مُقابل أن أعيش حياة عادية ، أريد أن أجلس مع الرفاق ، أن أشعر بالدفء المُنبعث من الموقد ، أود السهر تحت النجوم مع صديقة قديمة لي واختبار ما يعنيه التناجي معها.
ليل طويل .. سهر حتى الفجر .. التحديق بأول أشعة شمس مُنبعثة .. تسوق مجنون .. الرقص بكل الحفلات والشوارع .. هجر الموسيقى الوحيدة والإستماع لصخب الحياة وصناعة معرض لانهائي من الصور.. مع العائلة .. الأصدقاء .. الرفقاء .. الغرباء حتى ، مع البشر بكافة أوصافهم ، وهذه ليست قرارات ولا أماني ولا مخططات مستقبلية ، ذلك لأنني فاشلة بصنعها .. لكنه حدس ، ذلك الشعور الخفي .. أستطيع رؤية نفسي أجرب كل هذا بتكهن مُسبق للأحداث.

ثمة ما يجعلني أرغب بالحياة .. بالنجاة ، وصلت لأقصى مرحلة من القنط ، أعرف جيدا ما تعنيهِ حياة عادية ، وأعرف طعم الهزيمة المرير .. ذلك الذي يجعلني الآن أُطالب بأبسط حياة وجدت على هذه البسيطة ، ولستُ أشكو الحياة .. فالشكوى للضعفاء ، لكن رعبي من الحياة الواقعية هو الطريق الذي أوصلني للعوالم الأخرى ، أرغب حقا بالعودة .. لكنني لا أرغب بسلك ذات الطريق .. لا أريد أن أُصادف إيريك أو وارسوز ، ها نحن ذا .. نمضي الى ذواتنا .. نقف على عتبات مسارح أخرى ، والفصول ذاتها تعود وتتكرر ، والحياة من هُنا تبدو شيئاً بعيداً لكن ليست مستحيلة ، أنا فارغة .. لكنني حُرة تماماً ، وقد حان الوقت لِأتعلم أن أحب نفسي .. فلا يمكن لِأي رسول أن يهبني أكثر من خاتم .

تاريخ النشر : 2018-11-16

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى