أدب الرعب والعام

ثـلـوج الـصـحـراء – الـجـزء الأول

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

ثـلـوج الـصـحـراء - الـجـزء الأول
قبضا على فمها وسحباها نحو السيارة التي انطلقت بسرعة

 صحراء الجزائر

منطقة رڨان – ولاية أدرار

13 فيفري 1960م

كان صباح يوم مشمس و دافئ ، تأخر فيه العم (صالح) على النهوض باكراً على غير العادة ، تناول وجبة فطوره المكونة من طاسٍ من لبن النوق وحبات من التمر مع قطعة من كِسرة الشعير ليستعين بها على عمله المضني الذي لا ينتهي إلا مع غروب الشمس ، رعي رأس ماله الوحيد بضع رؤوس من الإبل و المواشي ، ألقى التحية على زوجته الأولى وأولاده الستة واطمأن على صحة زوجته الثانية ، ثم مضى مغادراً كوخه الحجري البسيط ، يذكر الله ويتوكل عليه على ما قد يكابده من مصاعب ، خاصة مع جنودِ الاحتلال الذين يصادفهم في طريقه بين الحين والآخر، لا يتوانون ساعتها عن سلب رأس من الماشية أو إجباره على إعطائهم الحليب الطازج أو حتى إزعاجه في أحسن الأحوال.

و ما كاد يسير بضع خطوات حتى أحس بالأرض ترتج وتهتز من تحته ، سقط أرضاً على إثرها ، تعالت أصوات النسوة والأطفال جزعاً ، و هرولوا للخارج أين وجدوه طريح الأرض ، أسندوه ليقف ثم راحوا يشاهدون سحابة دخانية ضخمة وغباراً كثيفاً من على بُعد عشرات الكيلومترات في تعاظم مستمر يحيلان فيه ضوء النهار الصافي إلى الأسود القاتم ، فغروا أفواههم دهشة وحيرة وتسارعت دقات قلوبهم من الذعر و علا صياح الأطفال فيما تهاوت الزوجة الثانية جالسة على الرمال ، وطلبت جرعة ماء لتسترطب به حلقها الجاف وتخفف به حدة الدوار الذي أصابها ، شعرت بألم في أحشائها فوضعت يدها على بطنها وهي تتمتم ببضع آيات قرآنية.

* * *

عام2002م

ضواحي العاصمة

مع انتشار الخيوط الأولى لأشعة الشمس فتح أصحاب المحلات والدكاكين متاجرهم  و بسط الباعة المتجولون سِلعهم على الأرصِفة ، نبضت الحياةِ من جديد بالمدينة وبدأت الحركة تدب في الشوارع ، وعجّت الأرصفة والطرقات بأفواج المارة و وسائل النقل المختلفة ، اخترق كل ذلك شاب حاملاً حقيبة خفيفة بيده واندفع راكضاً مستغلاً الزحام و تعرقل حركة السير  ،ثم تقدم نحو إحدى الحافلات ودلف إلى داخلها مسرعاً.

صاح مساعد السائق قائلاً:

– هاي أنت ، ماذا دهاك حتى تدخل الحافلة بهذه الطريقة ؟.

أطلق الشاب ابتسامة مرحة وأجاب معتذراً :

-آسف حقاً يا سيدي ، فاتني موعد الحافلة و لم أستطع اللحاق بها في المحطة ، ثم مد يده إلى جيبه وأضاف مطمئناً :

– إليكَ بالتذكرة ، ابتعتها بالأمس ، وهذا يعني أنه يحق لي بمقعد هنا.

أخذها الرجل زاماً شفتيه وقال:

– خذ مكانك ، ولا تعِد الكرّة مجدداً.

أومأ الشاب موافقاً و أتخذ مقعداً مجاوراً للنافذة ، حيث يفضل أن يجلس دائماً ، ثم سرح مفكراً بالمدينة التي يقصدها والتي ستكون مهداً لتحقيق أحلامه.

* * *

عام 2006م

جنوبا في الصّحراء الشاسعة و بمكان هادئ بعيداً عن المناطق المأهولة ، انعكست أشعة الشمس على زجاج سيارة رباعية الدفع تسير بسرعة جنونية مبعثرة الرمال الذهبية من حولها وناثرة ذراتها في الهواء ، وبعد دقائق توقفت أمام منزل كبير من طابقين ، تصطف على جانبيه أشجار النخيل الباسقةِ طولها والملقيةِ بظلالها على جماعات من الإبل المتفرقة هنا وهناك ، ترجل من الباب الخلفي ثلاثة رجال ، يرتدي اثنان منهما عمامتين تغطي رأسيهما ونصف وجهيهما و يجران الثالث الذي يتوسطهما نحو مدخل المنزل.

* * *

شرق البلاد

كانت الساعة تشرف على السابعة صباحاً حين تلبدت سماء المدينة بالغيوم الداكنة ، هبت نسمات خريفية باردة أزاحتِ الستائر الخفيفة لغرفتها ، ثم شقت طريقها نحوها ، سرت قشعريرة ببدنها و أحست بلذعة البرد تقرصها ، فانكمشت داخل غطائها ، كانت لا تريد فتح عينيها حتى لا ترى تبدد الظلمة وطلوع ضوء النهار وهذا يعني انتهاء نوم عميق وهادئ بعد أمسٍ حافل بالتعب والإعياء ، علا صوت المنبه ينبئ بوقتِ نهوضها ، أزاحت الدثار متكاسلة ثم قامت وسارت نحو المرآة التي انعكست فيها صورة لفتاة في السادس والعشرين من العمر ، بعينيها السوداوين الواسعتين وسمارِها العربي المميز ، لملمت خصلات شعرها الأسود الطويل المتناثرة على وجهها وتأملت ملامحه المتعبة ، إنها بالكاد تجد وقتاً للعناية بنفسها ، ثم تأهبت وكأنها تستعد لمعركة حامية الوطيس ، فتحت باب غرفتها المطلة على بهو الشقة ، و أرتفع صوتها قائلة نفس الجملة التي ترددها كل يوم تقريباً :

– سمير، أمير ، انهضا إنه وقت المدرسة.

جهزت وجبة الفطور و رتبت طاولة المطبخ ، وظلت تنتظر للحظات ، رغم ذهابهما للحمام منذ فترة إلا أنهما تأخرا على موعد الفطور ، مشت ببطء نحو غرفتهما وألقت نظرة ، فتحت عينيها دهشة و ولجت إليها غاضبة:

– ألن تتركا هذه العادة ؟ ، وسارعت لفض الشجار الصامت بينهما.

سمير : لقد كسَر قلمي .

أمير : لم أكن أقصد.

محاولة أن تداري كذبها ردت بحدة:

– اصمتا الآن وإلا أيقظت رشيد ، إنه نائم لقد عاد البارحة من السفر.

صاحا بصوت واحد:

– حسناً ، لكن أرجوكِ إلا رشيد ، واندفعا خارجين من الغرفة.

رتبت ما أمكنها ترتيبه بسرعة ثم التقطت حقيبتيهما ولحقت بهما قائلة بلهجة مهددة:

– تناولا الفطور كاملاً ، الحليب وحده لا يكفي.

أخذت محفظة يدها من خزانة المطبخ وأخرجت مالاً ثم استطردت:

تفضل أنت واشتري قلماً و الباقي ثمن اللّمجة.

لمحت ابتسامة ماكرة تعلو وجهيهما ، لكنها تجاهلتها عنوة ، ثم أعطتهما الحقائب بعد أن أسمعتهما وابلاً من عبارات النصح والإرشاد.

عندما غادرا مسرعين خارج الشقة ، سحبت كرسيا لترتاح عليه بعد أن تنفست الصعداء لانتهاء معركة اليوم ، ولكنها أحست بارتطام رجلها بشيء ما ، أحنت رأسها لرؤيته فما كانت إلا وجبة الفطور التي أخفياها تحت الطاولة ، زفرت طويلاً ثم انحنت تلملم الصحون و هي تلعن الساعة التي ولدت فيها.

* * *

قبل ثمان سنوات.

كانت ظهيرة يوم شديد الحرارة من أيام الصيف الخانقة ، ارتمت هيفاء على إحدى الأرائك بالصالة ثم فتحت التلفاز و راحت تقلب المحطات بحثاً عمّا قد يرفه عنها بعد صباح صاخب وشاق ، لم تجد ما يسليها فأغلقته مقررة أخذ قيلولة قصيرة ، وفجأة صدح أكثر صوت تخشى سماعه آتٍ من الغرفة المجاورة ، إنه بكاء التوأمين.

صاحت حنقاً ثم مدت يدها إلى الطاولة والتقطت هاتف المنزل وأجرت اتصالاً :

بعد أن فُتحت السماعة قالت على الفور:

– رجاءً يا أبي ، انتظرت هذه العطلة طويلاً حتى أستريح بعد طول عناء ، ولا ينقصني سوى الاعتناء بهذين الشقيين ، أرجوكما تعاليا بسرعة ، زيارة جدي لا تتطلب كل هذا الوقت.

-…………..

-عفواً من معي ؟ أليس هذا هاتف السيد سليمان ؟.

-………….

شعرت لوهلة بالخدر يسري في أطرافها ، انزلق الهاتف من يدها ثم صرخت صرخة مدوية تجعل الميت ينتفض في قبره ، اندفع رشيد من غرفته هلعاً و مضى راكضاً نحوها ليجدها غارقة بالصراخ والعويل.

– مـ…مالأمر يا هيفاء ، هل جننت ؟.

ارتمت على أحضان أخيها وقالت بكلمات متقطعة:

-أمي….أبي….

-سيعودان مساءً ، إذ كنتِ قد تعبتِ من العنايةِ الصغيرين سأتولى أمرهما ، لكن أرجوكِ أخفضي صوتك ولا داعي للنحيب.

– لقد ماتا يا رشيد…ماتا..ماتا..

ظلت تردد كلماتها حتى أغشي عليها من هول الفاجعة ، فيما بقي(رشيد) ساهماً واجماً مكانه غير مستوعب لما سمعه ، ولم يفق إلا على حدة بكاء الصغيرين اللّذين لم يتجاوزا عامهما الثاني ، أسجى جسد هيفاء على الأريكة ثم تحامل على نفسه وسار نحوهما لتهدئتهما ، كان الخبر صاعقاً لدرجة أنه لم يحس بالألم ، إن شعور الضياع هو ما كان يعتمل داخله.

مرت أيام الجنازة و العزاء ، كان يجب أن يتحلى فيها الشابان بالقوة لأجلِ الصغيرين ، رفضا كل بوادر المساعدة من الأقربين وقررا أن يتحملا المسؤولية بنفسيهما ، لم ترتد هيفاء الجامعة بعد نجاحها في الثانوية العامة ، كما قطع رشيد تعليمه الجامعي في العاصمة ، لقد قُتلت أحلامهما مع كل رصاصة اخترقت جسدي والديهما ، لا لشيء سوى أن والدها كان وطنياً.

* * *

أزاح الرجلان لثامهما فور دخولهما المنزل ، ثم أجلسا الثالث على ركبتيه على أرضية غرفة كان أثاثها تقليدياً وبسيطاً صوب أحدهما بندقيته نحوه وقال بصوت حاد:

-إياك أن تتحرك وإلا ، ثم توجه بكلامِه للثاني:

أرسل في طلب (السيد) ،أخبره أننا أحضرنا الطريدة.

صدرت عن الثالث شهقة عالية ، قهقه الاثنان سخرية منه فنكس رأسه للأسفل ، ولكن أحداً منهما لم يلحظ الابتسامة الماكِرة التي كانت تعلو شفتيه.

* * *

نزلت هيفاء درج البناية بخطواتٍ متباطئة ممسكة الهاتف المحمول بيدها ، كانت تحاول الاتصال برشيد الذي لا يرد على هاتفه ، حين فُتح باب شقة مجاورة وخرجت منها أمرأة ذات ملامح شاحبة تبدو في الخمسينات من العمر ، استوقفتها قائلة:

– صباح الخير يا ابنتي ، كيف حالكِ وحال إخوتك ؟.

– بخير يا خالة ، الحمد لله ، كذلك أجابت هيفاء و هي تسر في نفسها : يا إلهي ! لا ينقصني سوى هذه الثرثارة.

هزت السيدة يمينة رأسها وقالت بعد أن زفرت بأسى:

– الحمد لله على كل حال ، لكن الوالدين لا يُعوضا ، اسأليني أنا ، وا حسرتاه على الصغيرين لم يشبعا من حضنيهما حتى ، رحمهما الله ، رحمهما الله.

أطرقت قليلاً فظنت هيفاء أنها انتهت من موشحها اليومي ، ألقت السلام عليها لترحل لكن الأخرى سرعان ما سألت بفضول:

– لم أرَ رشيد منذ أيام ألا يزال مسافراً للجنوب ؟.

– أجل ، مقر الشركة هناكَ بحاجةٍ إليه ، كما هي العادة كل فترة و سيعود اليوم أو غدا على أقصى تقدير.

– حفظهُ الله ، ماذا عنكِ هل فكرتِ في ذلك الموضوع ؟.

تصنعت هيفاء الغباء وأجابت:

-أي موضوع ؟.

-هل نسيتِ زواجك من أبني أمين ؟.

– آه ، الموضوع منتهٍ يا خالة ، لا أفكر بالزواج لا من أمين ولا من غيره ، إخوتي بحاجة ماسةٍ لي ، والآن إلى اللقاء ، تأخرت على السوق كثيراً.

– و لكن.

انطلقت الفتاة مسرعة باتجاه مخرج العمارة ، فيما صفقت يمينة بابها وهي تغمغم باستياء.

عجَّلت هيفاء إلى السوق وهي مضطربة ، كان يساورها شيء من عدم الإرتياح ، منذ وفاة والديها صار القلق مرادفاً لحياتها ، لكن الإحساس به اليوم كان قوياً رغم أنها لا تعرف له سبباً محدداً ، اشترت ما يلزمها ثم قفلت عائدة للمنزل ، في تلك الأثناء حادت سيارة جيب سوداء عن الطريق كانت تسير بالتوازي معها ، واخترقت الرصيف لتتوقف أمامها ، ترجل منها رجلان توجها بسرعة إليها ، فزعت هيفاء وأطلقت صرخة عالية ثم أفلتت الأكياس من يدها وحاولت الهرب ، اندفعَ القليل من المارة لنجدتها ، لكن الرجلين كانا سريعين جداً ، قبضا على فمها وسحباها نحو السيارة التي انطلقت بسرعة غير آبهة بمن حاولوا اللحاق بها.

* * *

ولج إلى الغرفةِ رجل متوسط القامة ، نحيل الجسم ، يرتدي برنساً تقليدياً ويضع عمامة على رأسه ويغطي نصف وجهه بشال طوارقي ، يسير على جانِبه الرجل الذي قام باستدعائه ، جلس على أحد البُسط الواطئة  و ربع ساقيه ثم قال بصوت جهوريٍّ واضح:

– وأين عثرتم عليه؟.

– بمكان ليس ببعيد من هنا.

-هل وجدتم معه شيئاً ؟.

-أبداً يا سيدي.

سلَّط الزعيم عينيه محدقاً بالشاب قبل أن يطلب إليهم حلّ وثاقه ، و يشير له بالجلوس جانبه حيث استجاب الأخير بتردد ، ثم أمر بتحضير الغداء لهما ، دهش الرجلان لهذا الطلب الغريب ثم أذعنا فوراً وغادرا المكان.

التفت الرجل الملثم للشاب بعد أن أزاح لثامه لأول مرة أمام رجاله ، ثم ابتسم وقال ساخراً :

-أرجو أن لا يزعجك منظري هذا.

كان منظره مرعباً لدرجة أنه تمالك نفسه بشدة كي لا يبدي أي ردة فعل ، سأل بحيادية:

– كيف حدث هذا ؟.

ضحِك السيد وأجاب:

– أنصحك بقراءة كتب التاريخ ستستفيد منها كثيراً ، والآن أبشرك بأني غفرت لك خيانتك ، فقط أخبرني بمكان الأمانةِ التي سرقتها وبعدها ستكون حراً طليقاً.

أجاب الشاب بأسف:

– أشكرك على كرمكِ حقاً ، ولكن يؤسفني أن أبلغك أن الدفتر والمخطوطة صارا رماداً نسفته الرياح.

استشاط الرجل غضباً و صارت ملامحه أبشع وكاد أن يبطش به لولا أن أوقفه قائلاً:

– أنتظر ، لست غبياً لأضيع مجهود وعرق سنوات من عمري ، المعلومات التي دُونت فيه بالحفظ والصون ، وأشار بأصبعه إلى رأسه.

هدأ الآخر وأطلق تنهيدة طويلة ثم قال:

– و أظنك تريد المقابل؟.

– بالضبط.

– ماهو؟.

– “رأس غريمِك “.

* * *

لم تكن حادثة الخطف لتمر مرور الكرام في منطقة قلما تحدث فيها الجرائم ، تجمعت العديد من سيارات الشرطة في موقع الحادث الذي احتشد فيه الكثير من الناس ، أخذت الشرطة أقوال الشهود الذين أجمعوا على أنهم لم يروا وجوه الخاطفين لأنها كانت ملثمة ، تم فحص المكان بعناية و جيء بالصغيرين من المدرسة تحت إلحاح الجيران ، كانا في حالة صدمة و ذهول تامين فوضِعا تحت رعايتهم.

قام المحقق حميد بالتحري عن وضع العائلة فبدأ بسؤال الجيران ومنهم السيدة يمينة.

راحت تصيح بطريقة تراجيدية  وتذكر مأساة العائلة وحظهم العاثر والمصائب التي تكالبت عليهم ، إلى أن ضاق المحقق بثرثرتها درعاً وسأل:

– و كيف ماتا ؟ ، أقصد الوالدين.

– كان الوالد ضابطاً بالجيش ، قُتل مع زوجته أثناء الأحداث الدموية بالعشرية الماضية ، أهل المنطقة يعرفون العائلةَ جيداً ، رغم أن الشابين منعزلان نوعاً ما ولا يملكون أي صِلات اجتماعية.

جفل المحقق للحظة وعبر ذهنه شيء ما ، طرده بسرعة ثم أكمل:

– وأين أخوها إذن ؟، قلتِ إن أسمه (رشيد) على ما أذكر.

تحدثت بلهجة واثقة:

– أجل ، أسمه رشيد ، هو يعمل محاسبا في شركة ما ، أظنها شركة لصنع معدات التنظيف ، نسيت اسمها مع الأسف ، وهو الآن مسافر للجنوب لعمل يخص الشركة.

– هل لديك أي وسيلة للاتصال به ، رقم هاتف أو عنوان الشركة مثلا ؟.

هزت رأسها نافية ، فشكرها المحقق ثم تركها ليقوم باتصال مهم.

* * *

– تقصد “العقرب” ؟.

سأل (سي العربي) مستغرباً.

– هو بعينه.

– آه فهمت الآن ، إذن فكل تلك التمثيلية عن رغبتك في الانضمام إلينا ، والإيمان بهدفنا كانت محض هراء ! إنّ غايتك كانت مساومتي.

أجاب رشيد بابتسامة باهتة:

– و ما الذي برأيك يجعل شاباً مثلي يقتحم غياهب الصحراء و يخوض غمار المجازفة إن لم يكن الدافع قوياً ويستحق.

– وما ثأرك معه ؟ أقصد العقرب هذا.

– قتل والدايَ قبل عدّة سنوات.

– كثيرون من قُتلوا في ذلك الوقت ، أنصحك أن تنسى و تمضي قدماً إلى الأمام.

صاح رشيد باستياء:

لا لن أنسى فقدَ والداي ، ويستحيل ذلك قطعاً ، إن مقتلهما جرح مفتوح يأبى أن يندمل ، قضيت سنوات أبحث وأمحص حتى أكتشف تحت إمرة من كان يعمل الأوغاد القتلة ، وحين عرفت كل المعلومات كان لا بد لي من دكّ حصنه والتسلل إليه لكن لم أستطع ، إنه حذر جداً ، فبعد فراره للجنوب منذ سنوات و هو في صراع مستمر مع حرس الحدود ، أنت تعلم هذا ، أريده فقط أن يتعذب ويتجرع الذل والهوان ويُسقى مما سقى للعباد ، وأنت من سيساعدني على فعل ذلك ، كما أنك ستستفيدُ من مقتله ، لن يشاطرك أحد النفوذ على المنطقة الغربية بعد الآن وستحصل أيضاً على كنزك المدفون منذ قرون في رحم هذه الصحراء.

صمت قليلاً ليتفرس وجه الزعيم المشوه ثم أضاف بمكر:

كنز (لالة خيرة) الأسطوري ، حِمل ستين ناقة من الذهب ، اعتبره صار ملكاً لك.

انفعل سي العربي ولمعت عيناه ، كان سيبدي علامات السرور ولكنه كظمها ورد قائلاً :

– ولكنه رجل جد خطير و رجالي ليسوا أنداداً له و لِجبروته.

– حدد أنت فقط مكانه على وجه الدقة ودع باقي الخطط لي.

* * *

في قسم الشرطة وضع حميد سيجارة في فمه ، أشعلها ثم نفث دخانها في الهواء بقوة وراح يفكر ، لم يتحمل مساعده (رحيم) الرائحة الكريهة للسيجارة الرخيصة فقام من مجلسه أمام مكتب المحقق ، فتح النافذة ثم عاد لمكانه وسأل :

– ولماذا يفعل هذا برأيك ؟.

هز حميد رأسه وأجاب:

– لا فكرة لدي.

تردد رحيم قبل أن يدلي برأيه:

– يجب أن نبحث في خلفية هذا الشاب جيداً.

– معك حق ، اذهب الآن وأبلغني بآخر الأخبار ، أما أنا فسأقوم ببعض الاتصالات المهمة.

* * *

مع انقشاع شعاع الشمس وتواريها ببطء خلف الأفق ، وفي منطقة صحراوية نائية خالية إلا من الكُثبان الرملية التي بدأت تتحرك مع هبوب رياح المساء القوية ، عثر أحد البدو الذي كان يسوق إبله باتجاه الأضواء الخافتة اللائحةِ من بعيد في طريقه على سيارة جيب سوداء مشرعة الأبواب ، احتار لرؤيتها في مكان كهذا قلّما تطأه قدم البشر ، استشعر خطراً ما منها ، ولكن فضوله قاده نحوها ، وألقى نظرة على داخلها ، نظرة جعلته يتسمر مكانه رعباً.

* * *

صاحت وهي في قمة غضبها و هياجها وهي تضرب بقدمها على الأرض:

– أريد العودة للبيت الآن ، يا إلهي أرجو أن يكون ما مررت به اليوم محض كابوس لا غير.

– يؤسفني أن أبلغك أنه واقع مع الأسف.

رد الشاب الذي كان واقفاً بمحاذاتها ثم استرسل:

وكيف سأعيدك للبيت ؟ كما ترين نحن بمنطقة معزولة.

صرخت في وجهه:

– أيها القذر ، كله بسببكم ، من أنتم ؟ ولماذا فعلتم بي ذلك ؟.

قال بهدوء:

– أنت محقة ، لو لم أكن قذراً لما قتلت رِفاقي لأساعدك على الفرار ، فشكرا جزيلاً على المديح.

تجاهلت سخريته وأرغمت نفسها على محاولة نسيان مشهد القتلى المرعب داخل السيارة.

– إذا كان لديك هاتف نقال فاطلب المساعدة ، للأسف هاتفي ليس معي ، أخذه صاحبك الوغد مني ، رمقته بنظرة قاسية ثم تابعت :  ونسيت البحث عنه قبل الفرار.

– يا لها من فكرة عظيمة ، أتصدقين ؟ لم تخطر على بالي مطلقاً.

– ماذا تقصد؟.

أجاب ساخراً :

– الهاتف غير مشحون ، وعدا عن ذلك فالإشارة معدومة في هذه المنطقة ، أظنك يجب أن تحمدي الله على عطب السيارة المفاجئ وإلا لكنتِ الليلة بمكان لن تودي رؤيته حتى بأبشع كوابيسك.

تهالكت على الرمال و وضعت يديها على رأسها و راحت تبكي بحرقة و تقول:

– ما الذي تورطت فيه ؟، كيف سأعود للبيت ؟ ما الذي حدث لإخوتي ؟ ، والأدهى من ذلك أني مع غريب في العراء ، أي يوم لعين هذا.

تأثر لكلامها وغزته عواطف لم يألفها من قبل ، تأمل شعرها الأسود المتناثر على وجهها ومعالم التعب البادية عليها ، فجثا على ركبتيه أمامها وأمدها بزجاجة مياه من حقيبة ظهره و راح يطمئنها:

– أشربي قليلاً من الماء لتهدئي ، أعدك أن أعيدك سالمة للبيت ، ثقي بي.

ضربتها حتى طارت من يده و صاحت به:

– أنني لي أن أثق بخاطف شرير مثلك ؟، أبتعد عني وإلا قـ….

وضع يده على فمها ليخرسها ، وأشار لها قبل أن تبدي أية مقاومة أن ترهف السمع.

بعد ثوان أزال يده وقال معتذراً :

– آسف ، ثم اعتدل واقفاً و استطرد : هل سمعتِ الصوت ؟.

– أجل ، صوت ضرب قوي ، على الأرجح صوت معدن ما.

هتف بحماس:

-أظن أن هناك بصيص أمل ، إنه صوت قطار السكك الحديدية ، إن المواد الخام التي تستخرج من الصحراء تُنقل بواسطة قطارات الشحن ، وهذا يعني إيجاد أشخاص بإمكانهم مساعدتنا.

* * *

– آسف يا سيدي ، لكن مصادري أعلمتني أن رجال الدَّرك عثروا على السيارة المفقودة وبداخلها جثتان لرجلين فقط.

– وماذا عن رجلنا والفتاة ؟.

– لا أثر لهما.

– عليكم إيجادهما ، فتشوا المنطقة جيداً ، لا يمكن أن يكونا قد ابتعدا كثيراً.

– حاضر ، ولكن يا سيدي هل تظنه من فعلها؟.

– لنأمل فقط أن لا ينسفَ كل شيء بعناده و طيشه.

* * *

خرجت يمينة من غرفة الضيوف وأغلقت بابها بهدوء ، حين وجدت أبنها واقفاً بنهاية الرواق ، سار نحوها وسأل:

– كيف حالهما يا أمي ؟.

– ليسا بخير يا ولدي ، لقد ناما بصعوبة ، لا ينفكان يذكران أختهما و يبكيان ، لقد كانت أماً حنوناً لهما.

اغرورقت عيناها بالدموع وتابعت : تلك الفتاة المسكينة ، ماذا حل بها يا ترى ؟.

جاهد أمين نفسه كي لا تلحظ أمه مدى حزنه وألمه لما حل بهيفاء وقال :

– أتعلمين ؟ أشك أن لرشيد علاقة بالأمر ، إنه شاب غامض ، لطالما شككت أن لديه ما يخفيه.

– هل تقصد أنه متورط في أمر ما ؟ !.

هزّ أمين رأسه إيجاباً ثم أكمل مسيره نحو غرفته.

* * *

أغلق سي العربي باب غرفته ، و بملامح عابسة نزع برنسه وعمامته وألقى بهما على السرير ، ثم فتح دفتي خزانة خشبية قديمة مواجهة له بمفتاح كان ضمن سلسلة مفاتيح بجيبه ، أخرج صندوقاً معدنياً صغيراً أكل جوانبه الصدأ ، جلس على سريره وأفرغ محتوى الصندوق عليه ، أوراق بالية ، صور قديمة بالأبيض و الأسود ، مرآة صغيرة متآكلة ، وهو ما يعد غريباً بالنسبة لمنزلٍ حرِّمت فيه المرايا.

كانت تختلجه الكثير من المشاعر والاضطرابات ، فعلى الرغم من سعادته بالبشارة السعيدة التي سمعها اليوم والتي إن تحققت ستكلل أعوام بحثه الطويلة بالنجاح ، بيد أنه يعلم أن ذلك الكنز الذي قضى ردحاً من الزمن بالبحث عنه ما هو إلا بداية لشيء أكبر وأعظم ، أخذ المرآة وحدَّق بصورة المسخ المنعكسة أمامه ، كان مستعداً لنكأ جراحه بنفسه ، فتقافزت كل الذكريات الغابرة إلى رأسه ، ذكرى طفولته البائسة ، انفراده بتلك العاهة عن بقيةِ أسرته ، انعزاله عن الناس ، تركه للمدرسة و تمنيه الموت في كل لحظة ، ثم سرح بأيام مراهقته و قرار أبيه بالسفر إلى ولاية أخرى غرب البلاد ، اضطراره للعمل و مقابلة الناس الذين كان يرى في ملامحهم تعابير الرعب بل وحتى القرف منه أحياناً ، وكرد فعل لما حلّ به أعلن تمرده على المجتمع فقرر الفرار من البيت واستغلال مواهبه ليلجَ عالم الأعمال غير المشروعة ،بدأ من تهريب (المازوت) وحتى تجارة المخدرات ، وما إن أصبح ذا مال و رجال حتى قرر العودة إلى الجنوب لتتبع حقيقة القصص و الحكايا التي كانت تخترق آذانه صغيراً ، كان واثقاً أنها ليست مجرد أساطير خرافية ، كنز أجداده مدفون هنا ولن يهدأ له بالاً حتى يجده ، وساعتها لن ينساه أحد و سيخلّدُ اسمه للأبد على صفحات التاريخ.

بالغرفة المجاورة تمدد رشيد على سريره محاولاً استدعاء النوم  ،كان يشعر بالقلق على أسرته و يريد الاطمئنان عليهم ، ولكنه هاتفه صودر منه ومُنع من مهاتفتهم ، إن هدفه يُملي عليه الصبر والتحمل ، لم يبق الكثير على خط النهاية، وساعتها سيتحرر إلى الأبد.

* * *

اجتازا عدة أميال سيرا على الأقدام ، كان طريقا مقفراً و خالياً حتى من الكلاب الضالة ، استبد بها التعب والجوع ، لكنها استجمعت قواها وتابعت السير وهي تقول:

– إن الليل يرخي سدوله ، سرعان ما ستتشح السماء بالسواد و لن نرى شيئاً أمامنا..

التفتت إليه فوجدته شارداً عنها ولم يسمع شيئاً مم تحدثت به ، على ضوء القمرِ حدقت بقسمات وجهه الهادئة والوقورة، فأخذ طوفان من الأفكار يتضارب داخل رأسها ، كان الشاب يبدو من طينة طيبة ، شيء ما ليس مفهوماً لديها.

– هاي أنت ، ألا تعلم بأي ولاية نحن بالضبط ؟.

– أسمي (عادل) وليس أنتَ ، رد دون أن يدير وجهه نحوها.

زفرت مطولاً ثم جزت أسنانها وهي تقول:

– طيب يا (سي عادل)  هلا تكرمت وأجبتني ؟ .

– بالنظر لساعات سيرنا بالسيارة، وآخر محطة كنا فيها أظننا غرب ولاية غرداية.

– غرداية؟.

ومرّ بذهنها أخيها رشيد فحدثت نفسها قائلة:

أيعقل أن له علاقة بما حدث ؟ ، لقد كان يتصرف بغرابة مؤخراً و يغيب كثيراً عن المنزل ، قررت أن تسأل عادل فإذا به يقطع أفكارها و يهتف قائلاً :

– أنظري ، هناك أضواء تلوح من بعيد ، إذا لم يوقفنا شيء ستكونين ببيتك غداً صباحاً.

– و ما الذي من الممكن أن يحدث ؟.

– نحن هاربان يا آنسة ، وبالتأكيد أرسلوا من سيتعقب أثرنا.

– لنبلغ أقرب مركز شرطة.

رد مستنكراً :

– تريدين لي أن أُسجن وأنا الذي أنقذتك وعرضت حياتي للخطر! ، حقاً إنك ناكرة للجميل.

خجلت هيفاء من اقتراحها ، فكائناً من يكن هذا الشخص فقد أنقذ حياتها ، كانت ستعتذر منه لكنها تراجعت في آخر لحظة.

بعد ساعة من المسير هبط الليل وأغشى السماء ، انخفضت معه درجة الحرارة ، فراح البرد يخدش جلديهما ، ولكن لحسن حظهما كانت قد لاحت لهما محطة للبنزين على مسافة من سكة الحديد ، دبت السعادة بقلب هيفاء و راحت تركض مسرعة نحوها ، كان عادل يلحق بها ويطالبها بأن تنتظره ، لكنها لم تكن تصغي ، استولى عليه غضب عارم فسابق الريح كي يصل إليها ، أمسكها من ذراعها بقوة وأوقفها قائلاً والدم يغلي في عروقه:

– أيتها الغبية ، ألا تفكرين ؟ ، من المحتمل أن يكون هناك من يترصدنا بالمحطة ، هم ليسوا أغبياء ، إنهم يعرفون حق المعرفة أننا سنلجأ لأقرب مكان مأهول.

سحبت ذراعها بقوة وصاحت به:

– أليست فكرتك أن نأتي إلى هنا ؟.

-أنا أعرف ماذا أفعل ، فقط اتبعيني بصمت.

تبعَته على مضض ، فربض خلف صخرة ضخمة و راح يراقب المحطة، وفعلت هي بالمثل ، جلست ثم لفت ذراعيها حول ركبتيها ،أحنت رأسها للأسفل وغمغمت:

-أشعر بالتعب والجوع.

رثى لحالها فأمسك حقيبته وحاولَ أن يبحث فيها ، لم يجد سوى علبة صغيرة من البسكويت فأمدها بها مع زجاجة مياه.

– لا طعام غيرها ، اصبري قليلاً ، يجب أن أراقب المكان جيداً ، حتى أُحكم نسج خطة مثالية.

أمسكتها وهِي تسأل:

– ألن تخبرني لماذا اختُطفت ؟ ، ظل صامتاً و لم يجبها ، فأكملت وهي تفتح العلبة : هل تعرف أخي (رشيد) ؟.

يـُتـبـع…

تاريخ النشر : 2018-11-26

وفاء

الجزائر
guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى