أدب الرعب والعام

لا زلت حياً لم أمت

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]

لا زلت حياً لم أمت
الموت دائماً متواجد حولنا كنسر يحلق في الفضاء

” الموت دائماً متواجد حولنا كنسر يحلق في الفضاء ، كقرش يحوم في المياه ، كليث يركض في البراري ، فأينما كنت فسيلتقطك كما يلتقط العصفور الحبة ، فقط استعد له وكن نقياً من الداخل حتى لا يكون قاسياً معك ” من مذكرات كاتب القصة.

من قلب الشجيرات خرج كالوحش المفترس ، ليث عملاق يطاردني في إصرار واضح ، أركض أنا في قلب الغابة ولا حول لي ولا قوة ، قدماي على حافة الانهيار وقلبي ينازع ليدفع الدماء في العروق لأستمر في الركض ، الأدرنالين يندفع كشلال في جسدي يحثني على الركض ، زئير الليث أسمعه بوضوح ، لا يعني هذا سوى أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بي ، الهث كمن يفقد أنفاسه ، أركض وأركض والليث من خلفي يقترب ويقترب ،

 

توقفت فجأة فسقطت أرضاً بفعل القصور الذاتي بعدما رأيت هذا الشلال المواجه لي ، الليث قد توقف من خلفي ناظراً لي بشماتة واضح ، لقد سقطت في الفخ ولم يعد لي أدنى سبيل للنجاة ، هل أترك نفسي بين أنيابه أم أقفز من فوق الشلال العملاق فأموت غريقاً ؟ ما أسوأ تلك الاختيارات حينما تكون كلها تؤدي إلى الموت ! لن يفرق الأمر كثيراً فقد تعددت الأسباب والموت واحد ، ولكن لأقاتل لأخر رمق في حياتي سأموت مقاتلاً لا مستسلماً ، وانطلق الليث نحوي وانطلقت أنا نحو الشلال ، يقترب الشلال والليث أقرب ، يقترب ويقترب وأقفز في الهواء ضارباً بذراعي الفراغ كطائر مسكين قد ضل عشه ، وتمثل الموت في تلك اللحظة على هيئة ليث قد قبض على عنقي في الفراغ و راح يسقط معي نحو المياه ، تقترب المياه وأنياب الليث قابضة على عنقي بقوة ، دمائي تسابقني نحو المياه التي اقتربت بشدة ثم ظلام تام.

 

استيقظت لاهثاً من نومي ، يتجلى الفزع من عيناي التي راحت تحاول أن تخترق الظلام وتقاتله ، مهلاً لما لا استطيع الحركة ؟.

حاولت مراراً أن أتقلب في مجلسي ولكن دون جدوى ، حاولت تحريك ذراعي ولكن الأمر شبه مستحيل ، أنا مقيد بعنف وكأنني على موعد مع الدفن ، اضطرب قلبي من تلك الفكرة ، بدأت أتحسس براحة يدي الأرض من حولي ، لحظات وأدركت الهول الذي يتجسد من حولي ، إنها رمال ، ما معنى هذا ؟.

قاومت و قاومت و لكن دون جدوى ، أحاول الصياح بشتى السبل ولكني لا أستطيع ، هناك شيء ما داخل فمي يمنعني من الصياح ، بدأ الرعب يلتف حول قلبي و يهاجمه ، لحظات وسقطت أسوار المقاومة واحتل الرعب قلبي بأكمله ، بدأت أتحرك بعنف محاولاً أن التقط أنفاسي ، بدأت اختنق بشدة ومخزون الهواء يقل ويقل ، غمامة سوداء تهاجم عقلي بضراوة ، حاولت المقاومة ولكن دون جدوى ، و في النهاية تركت نفسي واستسلمت لها وسقطت في غيبوبة عميقة.

 

بدون مقدمات استيقظت ثانية ، في لحظة واحدة تذكرت كل شيء ، تذكرت أنني مدفون الأن تحت التراب ، اللعنة على من فعلها ! يجب أن أتماسك عن المرة السابقة لعلي أجد الحل وسط هذا الظلام ، بدأت أحرك راحة يدي بهدوء وأنا أتنفس بهدوء حتى لا يكون هلاكي هنا ، تحسست القماش الذي يغطي جسدي وبدأت أنتزعه بأظافري ، كان قوياً جداً ، عكست كف يدي بطريقة جعلتني أصرخ من الألم و رحت أخدش الكفن من على جسدي ، حاولت مراراً حتى شعرت بسائل دافئ يتقطر من بين أظافري ، إنها دماء بلا شك ، لم أحتمل فكرة أن أتوقف فبدأت أحاول من جديد ، أضرب بأظافري الكفن بشدة ، احتكاك أظافري بالكفن تولد عنه حرارة شديدة جعلت أصابعي تحترق ألماً ولكني ومع ذلك لم أتوقف.

بعد عناء شديد استطعت تمزيق الكفن بعد أن خارت قواي ، أخذت استجمع أنفاسي وأحاول أن استجمع بقايا قوتي ثم مزقت الكفن طولياً فتمزق معي ، رحت أشهق كالغريق بعدما أخرجت كامل ذراعي من الكفن ، لقد اقتربت بشدة ، مددت ذراعي نحو رأسي وتحسست ، إنها العقدة ، بدأت أحاول فكها بأصابعي بهدوء حتى لا تتعقد أكثر ، حاولت مرة وأخرى حتى فعلتها في النهاية و فككت العقدة ، نزعت الكفن من على رأسي و وضعت يدي في فمي وأخرجت ما كان فيه و صرخت صرخة لو سمعها الثقلان لفزعوا ، صرخت و صرخت مرات و مرات حتى بدأ جسدي يئن من فرط الجهد و قلة الهواء ، هبطت بذراعي و فككت العقد الثانية على الصدر ثم الثالثة على البطن واستطعت أن أتحرر في النهاية ، تحررت من الكفن و رحت أشهق بشدة لأتحصل على كافة الأكسجين في المكان.

بعد ساعات كنت قد استعدت قوتي وبدأت في رحلة الخروج ، تحسست براحة يدي ما فوقي ، لقد كانت قطعة من الصخر ، حاولت أن أدفعها بكل قوتي و لكنها لم تتزحزح قيد أنملة ، التفت ونمت على بطني وحاولت أن أدفعها بظهري و بكل قوتي و لكن دون جدوى ، اللعنة على هذا !.

تحسست الحائط بجواري لم يكن صخراً بل كان تراباً ، جيد جداً ، سأفعلها مهما كان ، وضعت أصابعي بقوة بين ثنايا الحائط فتفتت إلى حبيبات صغيرة ، أدركت أنني أسير في الطريق الصحيح ، ضربت بقبضة يدي الحائط فتفتت ثانية ، لم أتمهل و رحت أصرخ بحماس وأنا أحفر في الحائط وأحفر وأحفر بزاوية عمودية نحو الأعلى.

بدأت أضع رأسي في الفتحة المحفورة ، الأمل يطرق قلبي ليدلف ، سمحت له بالدخول وأكملت ، أحفر وأحفر وأحفر في الحائط المجاور ، ثم ما لبثت أن صنعت فتحة كبيرة ، حشرت جسدي بينها و بدأت أحفر للأعلى ، الأرض غير متماسكة تماماً وهذا ما جعل الحفر نحو الأعلى سهلاً ، عادت تلك الغمامة السوداء تهاجمني من جديد ، حاولت المقاومة ولكنها كانت كالطوفان لا تبقي ولا تذر وسرعان ما انجرفت معها نحو الظلام.

أقف في قاع محيط عميق ، كيف جئت إلى هنا ؟

ربما الأمر ليس مهماً الأن فوجود سمكة القرش العملاقة تلك لا ينبأ بالخير أبداً ، بدأت أسير بهدوء على القاع لأختبئ خلف أحد الشعاب المرجانية ، أنظر للأعلى بفزع على هذا القرش الذي غطاني كما تغطي السماء الأرض ، اختبأت خلف أحد الشعاب وتنفست الصعداء لأنه لم يراني ، سرعان ما صرخت حينما قبضت يد على قدمي ، نظرت لها فإذ بها يد أخطبوط ، لم يتمهل اللعين و راح يقيدني بأذرعه الكثيرة ، حاولت مقاومته ودفعه عني ولكنه كان قوياً بحق ، اهتزاز جسدي في المياه جعل القرش ينتبه فالتف من فوقنا كالإعصار ثم هجم علينا كالبرق ، لحظة واحدة ولمحت فك القرش يقترب ويقترب ثم ظلام تام.

استيقظت لأجد نفسي لازلت أسفل الأرض ، لم أتمهل لأسقط ثانية وإنما بدأت الحفر من جديد نحو الأعلى ، العرق ينهمر مني وأنفاسي تتلاحق بعنف ، يداي لا تتوقف عن الحفر ، التراب يغرق و جهي و جسدي فلا أتنفس غيره.

صرخت بكل ما أملك من قوة وتضاعفت سرعتي في الحفر ، التراب ينهمر فوق وجهي وأنا لا أتوقف ، أحفر وأحفر حتى خرجت كفي من التراب و وصلت للفراغ ، صحت من الفرحة بعدما ضرب الهواء كف يدي ، بدأت أحفر بقوة أكبر تولدت جراء ما حدث ، صحت بسعادة عندما خرجت رأسي من الأرض و رأيت السماء بعيناي ، خلصت باقي جسدي و سقطت لاهثاً فوق الأرض بعما كنت راقداً أسفلها ، وهنا تولدت فكرة في رأسي ، سأنتقم ممن قام بدفني حياً حتى لو كان أبي هو من فعلها. لم أكن أعلم أنه لا وجود لأبي في هذا العالم بل لا وجود لمخلوق.

نهضت من مكاني وأنا منتشي سعيد ، بل أسعد أهل الأرض ، فكم من الرجال قد فعلها وخرج من تحت الأرض ، من ذا الذي دفن حياً وخرج كما فعلتها أنا ؟ شعرت بالقوة والعظمة ، قررت أن أعاقب أهل الأرض جميعاً على فعلتهم تلك.

نظرت للأمام ، رمال على مد البصر ،لا شيء سوى رمال ، نظرت للأعلى فكانت سماء صافية تتوسطها شمس كألف شمس ، تلقي بلهيبها في كرم وكأنها أعرابي جواد ، شعرت برأسي تحترق من قوة حرارتها فرحت أركض و لكن مهلاً ، إلى أين أركض و قد تشابهت كل الطرق ، هل أركض نحو اليمين أم اليسار أم للأمام أم للخلف ؟ قررت أن ابدأ جهة اليمين فاللهم أجعلنا من أهل اليمين ،  و بدأت الركض ، ركضت كعداء في سباق الألف ميل ، ركضت في سباق الخاسر فيه يموت ، ركضت كفرس في غزوة بدر و لكن يبدو أنه قد كُتب علي الشقاء ، هل فعلتها من قبل و ركضت فوق الرمال ؟ الأمر صعب جداً صدقني إن لم تكن قد جربت ، بعد دقائق بدأت روحي تخرج من جسدي جراء الألم و فرط الجهد ناهيك عن الحرارة الشديدة ، قدماي تؤلمني بشدة ، جلدها يحترق مع احتكاكه بالرمال الملتهبة ، عاري الجسد أنا وكل جزء منه ينضج كشاه يشويها أعرابي.

وقفت ألفظ أنفاساً قد تبقت ، يجب أن أواري سوءتي أولاً ، ليتني جلبت معي الكفن و ما تركته ، هل أعود له ، ولكن كيف سأجده وسط كل هذا ؟.

إنها فقط الرمال على مرمى البصر ، لوحة لم يستخدم فيها الفنان سوى اللون الأصفر ، بدأ العطش يتسلل إلى جسدي رويداً رويداً دون أن آذن له ، جلست على الرمال واتخذت وضعية الجنين وبدأت أبكي ، لا أدري حقاً لماذا فعلت ولكنه الضعف الإنساني ، مررت بأوقات عصيبة وكنت متماسكاً ولكن سرعان ما تهب رياح التحطم فتجعلك تفقد تماسكك وتسقط من نسماتها الأخيرة.

بدأت أتذكر حياتي ، أمي ، أبي ، زوجتي ، كيف حالهم الأن ؟

هل تزوجت زوجتي من بعدي ؟.

هل حزنت علي من الأساس ، ها أنا أرى طائر الموت يحلق من فوقي كعقاب مفترس ، لم يقتنصني وأنا أسفل التراب وها هو يقتنص بعد أن أصبحت فوق التراب و بعدما عاد الأمل ، آراه طائر من نور ، الظلام يلتف من حولي ، جفناي تتثاقل وتتثاقل ، أهوي داخل بئر سحيقة من نور أبيض ، أغمضت عيناي واستسلمت للأمر ، إنه الموت و ما أجمله الأن ، جاء ليقتنص أخر كائن على الكوكب و رحل ، هكذا بكل بساطة ، تركت شعور الراحة والسكون يتغلل داخل ثنايا روحي و يتملكها ثم هدأ كل شيء وأظلمت الدنيا على ساكنها الوحيد.

استيقظت من نومي لأرى نفسي في قلب متاهة عظيمة ، جداران عظيمة على اليمين واليسار ، نظرت برهبة لتلك الجدران الضخمة و تحسستها براحة يدي فاقشعر بدني بأكمله ، بدأت أسير بينها لأرى حائط ثالث يسد الجهة اليمنى ، سرت نحو اليسار فإذ بتقاطع طرق يتكون من ثلاثة اتجاهات ، انطلقت على الفور جهة اليمين و ركضت كالفهد بين جنبات المتاهة ، سمعت صوتاً هادراً جباراً يقول: أمامك عشر دقائق لتخرج من المتاهة قبل أن تلتصق الجدران ببعضها و يُسحق جسدك بينها.

تملكني فزع رهيب فليس لأجل الموت ولكنه الصوت ، لقد ذكرني بصوت مالك خازن النار حينما سيقول ” إنكم ماكثون ” هل أنا في جحيم الرب بالأخرة ؟.

ولكن أين النار والملائكة ، أين فرعون وهامان وأبو لهب ، هل أنا على الصراط ؟.

لا أعتقد هذا ، هرولت كالبرق بين جدران المتاهة ، كلما وصلت لنهاية طريقة وجدته مغلقاً فأعود وأسلك غيره ، و في السماء بدأ العد التنازلي ، أرقام تتغير بتتابع ثابت ، عداد للثواني والدقائق ، تحدث الصوت المفزع و قال: باقي من الزمن تسع دقائق.

يا الله ، ركضت ثانية نحو اليسار ثم اتجاه اليمين ثم الوسط ، اللعنة ، حائط أخر يسد الطريق ، حسناً عدت من جديد ، وسط يمين يسار ، ثم يسار وسط يمين ، باقي من الزمن أربع دقائق ،  يا رب يا رب ، أركض كالمجنون ، سينسحق جسدي بعد قليل ، ستضمني الجدران كما يضم القبر المتوفى.

يمين يمين وسط ، وسط يسار يسار ، باقي من الزمن دقيقة واحدة.

اللعنة سأموت ، وسط وسط يمين ، أربعون ثانية ، جدار جديد ، وسط وسط وسط ن عشر ثوان ،

أرى المخرج من بعيد ، ها أنا سأنجو ، الجدران بدأت تتحرك ، المخرج يقترب ، الجدران اقتربت من جسدي ، المخرج هناك ، لاااااا.

سقطت أرضاً في تلك اللحظة ، زحفت نحو المخرج ، الجدران قد لامست جسدي ، لن أقدر ، الوداع .

قاوم ، أصحا يا كريم ، أصوات عالية تخترق مسمعي ، قاوم.

قمت من مجلسي ، الطريق أصبح يتسع نصف جسدي ، هرولت طولياً نحو الخارج ، المخرج يقترب ويقترب و…….

قفزت نحو الخارج و التئمت الجدران تماماً وأظلم المكان بأكمله.

فتحت عيني لأرى نفسي ممدد على فراش في غرفة بيضاء اللون ،  رأيتها ، إنها زوجتي تبكي فرحاً ، احتضنتني و بدأت في النحيب ، تحدثت بصوت واهن :

– ماذا حدث ؟.

– لقد توقف قلبك وكدت أن تموت .

– أين أنا ؟.

– في المصحة يا حبيبي

………..

…………

أنا الكاتب أحمد محمود شرقاوي أعود لكم من جديد ، بعد أن ذهبت لمصحة حلوان لأحصل على المزيد من الحكايات ، قابلني كريم كان في قسم التأهيل النفسي وقد تبقى على خروجه أيام ، ما إن عرف بأنني أكتب حتى قص علي القصة بأكملها ، سمعت منه و قررت أن أعرف أكثر و كان لقائي بالطبيب المختص بحالته :

– مرحباً أستاذ أحمد .

– مرحباً يا دكتور ، هل لي ببعض المعلومات عن حالة كريم ؟.

أكيد ، مريض لديه بعض المشاكل النفسية وأكثرها هو هاجس قاتل يجعله على يقين أنه وحيد ، وحيد لأقصى درجة ، حتى أنه وصل لمرحلة أنه لا يرى زوجته ليلاً.

– هذا يفسر حلمه بخروجه من القبر و رؤيته لنفسه وحيداً ، ولكن هل كان يسقط في غيبوبة كثيراً ؟.

– لا ، ولكنها كانت المرة الأولى و قد سقط فيها لأيام وتوقف قلبه بعدها وكاد أن يموت.

– ولكن ما تفسيرك يا دكتور لرؤية كريم بأنه داخل متاهة ؟.

– العقل البشري يا صديقي قادر على التهامك حياً ، كريم كان داخل متاهة قاتلة ، مرض نفسي مرتبط بهاجس الموت والوحدة ، متاهة يدور فيها لسنين وها قد خرج منها وحقيقة لا أعرف كيف.

– شكراً يا دكتور.

…………

في النهاية يجب أن تنصب نفسك سيداً على عقلك ، لا تجعله يسير داخل دروب الأوهام ، انتشله سريعاً قبل أن تفقده.

……………

تمت بحمد الله

 

تاريخ النشر : 2018-12-02

guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى