أدب الرعب والعام

على الدنيا السلام

بقلم : نوار – سوريا

على الدنيا السلام
لقد اقتنعت أنّ لكلِّ شخصٍ دوره في هذه الحياة
                                       – 1 –

أن تعيش سعيداً لا يعني أنَّك بالضّرورة ستحصل على كلِّ شيء ، لكن ذلك لا يعني أن تفقد كلَّ شيء .. هذا ما كانت تفكّر به أماني عندما أوت إلى مخدعها ، ملقيةً بجسدها المنهك على السرير .
كان يوماً شاقّاً بالنسبة لها ، بل الأيام الأخيرة كلها مضت مستنزفةً قوتها وحارقةً أعصابها ، قاطعةً الخيط الذي كان يربطها بالحياة ؛ فقد ماتت أمها ، ماتت من ضحّت لأجلها وأفنت شبابها في سبيل راحتها ، ماتت وآخر ما نطقته سامحيني يا ابنتي . لن تنسى أماني تلك الليلة وذاك الحوار الأخير مع أمها ؛ لن تنساه أبداً .

***

كانت فتاةً تفيض نشاطاً وحيويّة ، لديها أحلامٌ تحتاج إلى عمرين لتحقيقها ، كانوا في المدرسة يلقِّبونها بالفتاة الخارقة ، فمعدّلاتها مرتفعة وفي الأنشطة والفعاليات التي تقيمها المدرسة تجدها في المقدّمة ، تكتب قصصاً ، تحفظ أشعاراً ، تجيد الأعمال اليدويّة من غزلٍ و تطريز ، كلُّ من عرفها كان يتنبّأ لها بمستقبلٍ مشرقٍ شمسه لا تغيب .

كانت تعدُّ نفسها لامتحانات الثانوية العامة عندما وقع لوالديها حادثٌ أليم توفّي جرّاءه والدها بينما والدتها فقدت القدرة على المشي وأصبحت مقعدة . أظلم كلُّ شيءٍ في عيني أماني ، أحلامها ذهبت أدراج الرياح وحياتها اتّخذت مساراً لم تكن أبداً تتخيَّله ، ومستقبلها البائس بدأت تتضح معالمه . فبين عجز والدتها وبكاء أختها الصغيرة وذهول شقيقها وجدت نفسها الوحيدة المطالبة باتّخاذ القرار والإمساك بزمام الأمور ، فتاةٌ في السابعة عشر أرتها الدنيا وجهها العابس مبكّراً وأدار السّعد ظهره لها .

بعد أن استقرَّ والدها في مثواه الأخير وانقضت أيام العزاء أعلنت عن قرارها ، ستترك المدرسة ، ستتخلّى عن مستقبلها من أجل مستقبل إخوتها . كان قراراً صعباً بالنّسبة لها ، لكنها اتّخذته رغم معارضة الجميع ، أمها وشقيقها ، صديقاتها زرنها في المنزل ليثنينها عن قرارها المتهوِّر – كما وصفنه – حتى أنها تلقّت اتصالاتٍ من بعض معلّميها يطالبونها بعدم تضييع نفسها في سبيل تضحياتٍ قد تندم عليها فيما بعد . كل هذا الضغط لم يجعل موقفها يتزحزح بل كانت تزداد إصراراً . فمن لأمِّها المقعدة سواها ليعتني بها ، من لأختها الصغيرة ، من لأخيها ؟؟ لا ، لن تستطيع بعد الآن التّفكير بنفسها ، لقد اقتنعت أنّ لكلِّ شخصٍ دوره في هذه الحياة ، وكان دورها يقضي أن تعتني بأسرتها وتقودها إلى برِّ الأمان .

توالت السنون على أماني وهي تلهث بين القيام بالواجبات المنزليّة والاعتناء بوالدتها ، وبين رعاية أختها فاتن وتنشئتها تنشئةً صالحة . كانت لها نِعم الأخت ، تساعدها في دروسها ، تسهر على مرضها ، تلبِّي جميع رغباتها ، فيما شقيقها عادل تابع دراسته الجامعيّة . كان مصدر رزقهم يأتي من راتب والدها التقاعدي بعد وفاته ومن حصّتهم في محلٍّ يملكه بالشراكة مع صديقه ، بالمحصّلة كان يأتيهم مبلغٌ يسدُّ احتياجاتهم ويجعلهم يعيشون بكرامة .. 

خمسة عشر عاماً مرت وأماني مكرِّسةً نفسها ووقتها وجهدها في سبيل أسرتها ، تخلّت عن كلِّ هواياتها القديمة إلا الغزل ، كانت تجد في نسج الخيوط الصوفيّة سبيلاً للسلوى والنسيان ، بحركة أسياخ الغزل الرتيبة والمتكرّرة مشكّلةً غرزاتٍ متشابهة كانت ترى حياتها التي لا جديد فيها . لكن مع ذلك شعورٌ بالرضا غمر قلبها ، فشقيقها أنهى دراسته واستطاع بعد كفاحٍ ومثابرة أن يفتتح لنفسه مكتب محاماة بعد أن تنقّل بين عدّة أعمال لا تمت لاختصاصه بِصلة . وقد خطب فتاةً رائعة وزواجه يقترب ، أما أختها فقد بقي وقتٌ قصير على تخرّجها من كليّة الإعلام ، وأمها على الرغم من أنّها مقعدةٌ فمازالت موجودة ، ووجودها بالنسبةِ لأماني يشكّل مصدر سعادةٍ واطمئنان . أغلب وقت فراغها كانت تمضيه معها ، تسلّيها وتحاول أن تعوِّضها عن قدميها العاجزتين ، فتراها تكلّمها بالتفصيل عن يوميّاتها ، من رأت عند بائعِ الخضار ، ماذا فعلت الجارة هذا اليوم ، وكيف انتهى الشّجار الذي نشب بين الجزّار وبين أحد الزبائن لأن الأخير اشترى منه لحماً اتّضح له عند عودته إلى المنزل أنه ليس كما طلبته زوجته .. لقد تعلّمت كيف تكون ثرثارةً من أجل والدتها .

وخلال هذه السنين تقدّم لخطبتها العديد من الأشخاص لكنها ردَّتهم جميعاً خائبين ، فكيف لها أن تتزوّج وتتركَ أهلها وقد رهنت حياتها لأجلهم ! 

وذات ليلةٍ غادرةٍ ستظلُّ أماني تذكرها لسنين قادمة ساعدت أمها على الاستلقاء في السرير بعد أن حمّمتها ومشّطت لها شعرها وألبستها ثياب النوم . سحبت الغطاء عليها جيّداً ، قبّلت رأسها وتمنَّت لها قضاء ليلةٍ سعيدة . وما كادت تهمُّ بالابتعاد لتغادر الغرفة حتى أمسكت أمها بيدها وهمست :
– أماني 
التفتت لها أماني متسائلة فأكملت :
– سامحيني يا ابنتي 
– على ماذا ؟
– على عجزي ، على شبابك الذي أهدرته لرعايتي وإخوتك ، على أحلامٍ لم تحقّقيها ، على فرصٍ للزواج أضعتها من..
قاطعتها أماني وقد ضغطت على يدها بحنان :
– أمي بالله عليكِ كفِّي عن هذا الكلام ، لم أقم إلا بما أملاه علي واجبي وضميري . ثم يجب أن تكوني سعيدة ، فأخي رجلٌ ناجح في حياته وسيتزوج أخيراً بعد بضعة أشهر ، و أختي ستتخرج من الكليّة قريباً .. 
– وأنتِ ؟ أنتِ يا حبيبتي من ضاع مستقبلكِ . لكم من ليالي قضيناها أنا ووالدك نتحدّث فيها عن ذكائكِ وقدراتك ، و عن المستقبل الجميل الذي ينتظرك ، ما الذي بقي لكِ الآن ؟ ماذا ؟ 
قالت أماني بعد أن طبعت قبلةً على أنامل أمها :
– بقيتِ أنتِ ، ألا يكفي هذا ؟ ثمَّ ما الذي جعلكِ تفتحين معي هذا الموضوع ؟ 
كانت إجابة الأم صادمة جعلت القشعريرة تسري في جسد أماني ، إذ قالت :
– لأني اشتقت لوالدك ولا أعرف ماذا أقول له إذا سألني عنكِ 

بقيَتْ أماني مشدوهةً لعدَّة ثوانٍ ثمَّ تمالكت نفسها وقالت مبتسمة :
– أنا واثقة أن والدي راضٍ عنّي . نَمي الآن يا عزيزتي ، تصبحين على خير

أغمضت الأمُّ عينيها لتغرق في سباتٍ أبدي ، وقد تحررت روحها أخيراً من جسدها العاجز وانطلقت تحلق في السماء . انهارت أماني في الصّباح عندما دخلت الغرفة واكتشفت الحقيقة المرَّة ، ملأت المنزل صراخاً اجتمع عليه ليس أخويها فحسب بل الجيران ، أدخلوها المشفى لبضعِ ساعاتٍ وحقنوها بمهدئات ، لكنها أصرَّت على الخروج لحضور مراسم الدّفن والجنازة . وها هي الآن تدخل غرفتها وحيدةً مكسورة بعد أن انفضَّ العزاء . أبدى الجميع تعاطفه معها ، ذرفوا الدموع ، حاولوا مواساتها ثمَّ ذهب كلٌّ منهم إلى حياته وأشغاله .. لن يفهموا ، لن يدركوا ، فهو حزنها ، حزنها وحدها ، وحدها ستشعر بغياب والدتها الذي حلَّ بلااستئذان ، وحدها ستمضي الليالي غارقةً بالذكرياتِ والأحزان .

                                        – 2 –

أيقنت أماني أنَّ حبسها لنفسها في الغرفة لن يجدي نفعاً ولن يعيد ميتاً من قبْره ، لذا خرجت متابعةً حياتها حاملةً حزنها في قلبها . تنهض باكراً تعِدُّ الفطور وتوقظ شقيقها عادل ليذهب إلى عمله بينما تظلُّ فاتن نائمةً لساعةٍ متأخّرةٍ من النهار . تبدأ بعدها بأعمال المنزل ، تعدُّ الغداء ، يجتمع أخويها حوله ومن ثم يمضي كلٌّ منهما إلى شيءٍ يشغله ، عادل للخروج مع خطيبته أو الحديث معها هاتفيّاً وفاتن للهو مع صديقاتها . يعودان مساءً أيضاً للاجتماع حول مائدة العشاء وبعدها يأويان إلى مخدعيهما . فيما تبقى أماني أغلب الوقت وحيدةً لا تجد من يؤنِسُها سوى خيوط الصوف ، فتبدأ بالغزل . أو تجلس ساهمةً في الشرفة لا أحد يعرف فيما تفكّر . هل تفكّر بالماضي البعيد حيث كانت صبيّةً تضجُّ بالحياة والأمنيات أم بالحاضر الأليم المليء بالحسرات أم بمستقبلٍ اختفت منه الطموحات ؟؟

***                                 

اندفعت فاتن تدخل المنزل ذات يومٍ وهي تهتف بفرح :
– أماني لقد تخرّجت ، ظهرت اليوم نتيجة آخر مادّةٍ لي وهي ناجحة بامتياز 
نهضت أماني وعانقتها ، لكن سرعان ما ابتعدت عنها عندما أكملت :
– أنا سعيدة ، سأقيم حفلةً صاخبةً احتفاءً بالتخرّج وسأدعو إليها جميع صديقاتي و زملائي 
طالعتها أماني بدهشة و قالت :
– حفلةٌ صاخبة ولم يمضِ على وفاة أمي الكثيرُ من الوقت ؟
– وماذا في ذلك ؟!
أوشكت على الرّد لكن عادل دخل في تلك اللحظة لتلتفت فاتن نحوه وتقول :
– بارك لي عادل لقد تخرّجت
– حقاً ؟ ألف مبروك يا عزيزتي
اقتربت منه قائلةً بتذلّلٍ مصطنع :
– أليست مناسبةً سعيدة ؟
– بالطبع 
– إذاً قل لأختك التي لا تريد أن يدخل الفرح هذا البيت ، أخبرها أن تسمح لي بإقامة حفلةٍ في المنزل لتخرّجي
– طبعاً ستقيمين . وما المانع ؟
رمقته أماني باسْتنكارٍ و قالت :
– لم يجف بعد تراب أمي في قبرها وتتحدثان عن إقامة الحفلات ؟!
اتّجه نحوها واضعاً يده على كتفها :
– عزيزتي أماني ، من غير المعقول أن ندفن أنفسنا في الحياة من أجل وفاة أمي ، كلّنا سائرون على هذا الدرب لذا دعينا نعيش . ثم أنّني سعيدٌ فلا تعكّري صفو سعادتي ، اليوم اتّفقت مع صاحب محلٍّ للمفروشات أن يبيعني غرفة نوم بالتّقسيط ، إنها رائعة لو ترينها . ثمَّ أكمل بابتسامة عريضة :
–  لكم أتوق لليوم الذي سيجمعني بـ هيام سقفٌ واحد

هنا ثارت أماني واندفعت تقول بصراخ :
– أنانيّان ، عديما الإحساس .. أمّكُما هذه أمّكُما ! أنا لم أطلب منكَ عدم الزواج ، وأنتِ لم أطلب منكِ ألّا تفرحي بنجاحك ، لكنها حرمة الموت فاحترماها ، وليس موت أيّ شخصٍ بل أمي ؛ أمي يا ناس

قالت فاتن باستهزاء :
– أنتِ قلتها ، أمّك . لا مشاعر خاصّةٍ وحميمةٍ تربطني بها فهي كانت تحبّك أكثر مني ، حتى أنها أعطتكِ صندوق مجوهراتها ولم تترك لي شيئاً 
– تحسديني على صندوق مجوهرات أعطتنيه تعبيراً عن امتنانها لتضحيتي ؟! ليس وكأنّي أنتظر المقابل ؛ لكن صدّقيني قيمته المعنويّة تساوي أضعاف قيمته الماديّة بالنّسبة لي ومع ذلك خذيه 

ثم أسرعت إلى غرفتها ، أخرجت الصندوق بانفعالٍ وعادت ، ألقت بمحتوياته على فاتن وهي تقول :
– خذي ، لا أريد شيئاً ، لا شيء ، فقط قدِّرا مشاعري ، قدِّرا إحساسي . لستما أنتما من لازمها طيلة خمسة عشر عاماً ، ولا أنتما عشتما معها الحياة بكلِّ تفاصيلها . لم تتغلغل في أعماق أنفيكما رائحةُ ثيابها الزكيّة ولا تعرفان ملمس يديها ، لم تدركا كيف يشعر العاجز وعلى أيِّ نارٍ يتقلَّب وهو يرى نفسه مكبّل عن القيام بأيِّ نشاطٍ يشعره بأنَّه إنسانٌ يستحقُّ العيش . أنتما أصلاً لم تعيراها اهتماماً ، لم تمنحاها ولو جزءاً من وقتيكما ، ولماذا تفعلان ذلك وتوجد لكما أخت ، لا ليس أخت ، بل خادمة تقوم بكلّ شيء ولا تطلب شيء .. أنتما قاسيان ، قاسيان

اندفعت تدخل حجرتها ، أغلقت الباب دونها وراحت تذرف دموعاً سخيّة وحارّة ، فقد بدأ يتّضح لها أن تضحياتها تذهب عبثاً 

***

رضخت أماني للأمر الواقع وها هي الآن تنهض باكراً لتعد مأكولات الحفلة من فطائر وحَلْويات وعصائر . لقد فكّرت أن جُزءاً من اللوم يقع عليها ، فهي من عوّدت فاتن على تلبية جميع رغباتها ، منذ أن تولّت تربيتها حرصت ألا تبكيها أو تزعجها ، كانت دائماً تشفق عليها وتحاول أن تكون لها أختاً وأماً .
زفرت بتعبٍ بعد أن وضعت على المائدة آخرُ طبقٍ وقالت :
– أخيراً انتهيت 
تقدّمت منها فاتن وقد ارتدت ثوباً قصيراً من الساتان يظهر تناسق جسدها 
– بقي أن تذهبي الآن وتعدِّلي من مظهرك ، إن رآكِ أصحابي هكذا سأتنكَّر لكِ وأقول لهم بأنك خادمة في المنزل
نظرت لها أماني بخيبة أملٍ وقالت بهدوء :
– اطمئني لن أحرجكِ ، سأدخل غرفتي ولن أخرج ، فلا أمتلك مزاجاً للحفلات ، أنا متعبة

وبالفعل دخلت أماني حجرتها وأمضت الوقت وهي تصمُّ أذنيها عن سماع صوت الأغاني الصاخبة التي وضعتها فاتن وأخذت ترقص على نغماتها .

                                        – 3 –

مضت الأيّام على أماني متتاليةً متشابهة ، كانت تكسر رتابة حياتها أحياناً بالذّهاب إلى جارتها سمر ، وسمر هذه امرأةٌ في عمر أماني تقريباً ، متزوِّجة ولديها ولدان . تجلس تسمع منها أخبار أهل الحي وغيرها من ثرثرات النساء ، وكثيراً ما شردت في حياتها . زوجٌ يخرج صباحاً إلى العمل ، يعود بعد الظهر ليلقى عائلةً تنتظره حول مائدة الطعام ، أمسياتٍ تتخللها شقاوة الأطفال ومسايرة الضيوف والزوّار ، وليالٍ دافئةٍ تجد فيها سمر ذراعاً تلفّها تُشعِرها بالحبِّ والأمان . طبعاً بالتأكيد ليست حياةً مثاليّة ، لكلِّ أسرةٍ مشاكلها ومنغِّصاتها ، لكنّها الحياة الطبيعيّة ؛ وكانت أماني تفتقد هذه الحياة .

                                        – 4 –

إنه نهارٌ مليءٌ بالعمل ، فقد قرّرت أماني قلب المنزل وتنظيفه استعداداً لفصل الشتاء . شمّرت عن ساعديها ورفعت شعرها للأعلى بطريقةٍ عشوائيّة ، وثنت أطراف سروالها حتى تشعر بحريّة الحركة أثناء التنظيف . أعدت الفطور سريعاً لعادل وحثَّته على الخروج لعمله بأقصى سرعة ، ففي أيّام ثورة التنظيف جدران المنزل لا تتّسع للرجال حيث يتحوَّلون إلى كائناتٍ غير مرحّبٍ بها .
استيقظت فاتن على أصوات زحزحة الأغراض وتذمُّر أماني من فوضويَّة أختها وأخيها ، فلا كتاب يخرجوه من المكتبة يعيدوه إلى مكانه ، ولا ثياب نزعوها يعيدونها للخزانة أو يذهبون بها إلى سلّة الغسيل . كانا معتمدين على أختهما بشكلٍ مستفزٍّ لها في بعض الأحيان .

رنَّ جرس الباب فيما كانت أماني منشغلةً بوضع الثياب المتَّسخة في الغسالة . نادت على فاتن لتفتح الباب ، لكن صوت الجرس استمرَّ ولم تنهض فاتن ، فخرجت أماني من الحمام تدقُّ الأرض بقدميها بعصبيّة وتقول :
– حتّى باب المنزل ينتظرون أماني لتفتحه ولو كانت على فراشِ الموت ، إخوةٌ مزعجون بلا ضمير..
لكنها بترت جملتها عندما فتحت الباب . وقفت مشدوهةً لبرهة من الوقت ، وجه من في الباب عصف بذاكرتها وفتح فصلاً من الماضي كان مطويّاً وغافياً في أعماق أعماق النّسيان المزيّف ؛ أجل مزيف ، ففي الوقت الذي نظنُّ فيه أننا نسينا وبأن ذاكرتنا تخلّصت من حمولتها القديمة يأتي موقفٌ واحدٌ يسخر منّا ويثبت لنا العكس ، وبأنّ الذكريات دائماً متحفِّزة تنتظر إشارةً واحدة لتتدفَّق معلنةً عن نفسها .

لم تكن المفاجأة فقط من نصيب أماني وحدها ، بل في الطرف المقابل أيضاً ، لكنها كانت الأسرع بالسيطرة على نفسها . هتفت باندهاش :
– نديم فوزي !
– وأنتِ ، أماني الخارقة .. هكذا كانوا يلقّبونك على ما أذكر ؟
ثم أتبعها بضحكةٍ بينما أفسحت له أماني الطريق للدخول .
قالت له معتذرة وهي تُنزِل أطراف سروالها وتعدّل من وضعيّة شعرها :
– اعذرني على هذا الاستقبال الغير لائق ، المنزل في حالة فوضى و ..
لكنّه أسرع في مقاطعتها :
– بل أنا من أعتذر على المجيء بلاموعدٍ وبهذا الوقت المبكر ، لكنّي أردتها مفاجأة . وبصراحة لم أتوقّع أن تفتحي لي أنت الباب ، فقد ظننت أنّكِ الآن في منزل زوجك ، أو هكذا المنطق يقول .

لم يتغيّر ، مازال صريحاً ولا يخفي شيئاً في قلبه ، هكذا فكّرت و هي تتأمّله .
– أماني ، هل أنتِ معي ؟
جفلت أماني لكنّها تداركت نفسها وأسرعت تقول :
– الوضع الطبيعي ألّا تلقاني هنا ، لكن جرت في غيابك عدّة أمورٍ ، باختصار تعرّض والداي لحادثٍ كانت نتيجته وفاة أبي وشَلَل أمي . حدث ذلك عندما كنت في المرحلة الأخيرة من الثانوية ، ووجدتُّ نفسي مضطرّةً على ترك دراستي للاعتناء بأمي وبالمنزل وبأخوَي . لذا كما ترى مازلت هنا .

قال نديم بأسى :
– آسف لسماع هذه الأخبار ، كنت أظنّك ستكونين ذات شأنٍ في هذا المجتمع ، لكن هي الأقدار ..
أكمل محاولاً تغيير الموضوع :
– أين أمك ؟ لا أراها 
– أمي ماتت منذ ثلاثة أشهر تقريباً بسكتةٍ قلبيَّةٍ مفاجئة 
وجد نديم نفسه في وضعٍ محرج ، فهو بأسئلته يقلِّب عليها المواجع .. 
أكملت أماني جواب أسئلةٍ كان سيطرحها :
– وعادل في عمله وشقيقتي فاتن في غرفتها ، ربَّما نائمة 
قال نديم ضاحكاً :
– أوه الصغيرة فاتن ، كانت في الخامسة من عمرها عندما غادرتُ البلاد
– لم تعد صغيرة الآن ، تخرّجت مؤخّراً من كليّة الإعلام .

ساد صمتٌ ثقيل بينهما بعد هذا الحوار ، قطعه نديم عندما نهض معتذراً :
– آسف مجدداً على مجيئي المفاجئ ، سأرحل الآن . بلِّغي تحيّاتي إلى عادل و قولي له أنني قادمٌ لرؤيته مساء الغد .

شيّعته أماني بنظراتها وهو يغادر ، رَنت بحنانٍ إلى المقعد الخالي حيث كان يجلس . إنه نديم ، نديم كما هو لم يتغيّر ، مازال له ذاك الحضور الآسر والصوت الواثق ، مازال لعينيه ذاتُ البريق ، إنه هو بعفويَّته وانطلاقه ومرحه ، أسندت رأسها إلى ظهر مقعدها وغاصت بالذكريات ..

نديم فوزي ، ابن التاجر المعروف رياض فوزي ، صديق شقيقها عادل في المدرسة ، أوَّل شخصٍ ينبض له قلبها الصغير . كان حبَّاً طفوليَّاً بريئاً ، لطالما أسعدتها الأوقات التي كان يأتي فيها لزيارة عادل في المنزل ، وكثيراً ما جالسته وناقشته بأمورٍ أكبر من سنِّها وأبهرته بذكائها وفطنتها . كبرت و أصبحت فتاةً مراهقة في الخامسة عشر وحبُّ نديمٍ في قلبها ينمو بهدوء ، لكنَّ هذا الحب وُئِد في مهده عندما قرّر نديم إكمال دراسته في لندن حيث يقطن عمه . 
انفصل الصديقان نديم وعادل ، الأوّل غادر ليختصّ في علم الكيمياء الحيويّة والثاني اختار سلك المحاماة . شكَّل غياب نديم فراغاً في حياة أماني سرعان ما ملأته بالدراسة والتخطيط لمستقبلها ، قائلةً في نفسها أنَّ حبَّ نديمٍ ما كان إلا تجربةَ مراهَقةٍ عابرة ، فطموحاتها أكبر من أن تجلس ممثّلةً دور العاشقة المهجورة . لكن عودته الآن ، رؤية ملامحه التي أصبحت رجوليّةً أكثر ، صوته ، كلّ شيءٍ فيه أيقظ بداخلها أحاسيسها القديمةَ تجاهه وسألت نفسها : تُرى ، لمَ عاد ؟

انتشلها من ذكرياتها صوت فاتن تسأل :
– من كان هنا ؟ سمعتك تتحدّثين إلى رجل 
– ياه يا فاتن ، إنه نديم فوزي صديق عادل أيّام المدرسة ، ألا تذكرينه ؟
هرشت رأسها محاولةً التذكّر ، ثم قالت بعدم اكتراث :
– أعرف أن لعادلٍ صديقٌ اسمه نديم لكني بصراحة لا أذكره 
ثمَّ أكملت متَّجهةً نحو المطبخ :
– أنا جائعة ، ألا تشاركيني الطعام ؟ 
نهضت أماني قائلة :
– لا ، لقد سبقتك ، وعليَّ إكمال العمل قبل أن يعود أخاكِ .

ومضت تكمل ما بدأت به محاولةً طرد نديمٍ من تفكيرها والتّركيز في عملها .

***

عندما عاد عادل من العمل أخبرته أماني عن مجيء نديم فطفقا يتحدّثان عنه طيلة ذلك المساء إلى أن قالت فاتن :
– كلامكما عنه أثار فضولي لرؤيته ، لكن قل لي يا عادل ، مادمتَ تكنُّ له كلّ هذه المشاعر فلماذا لم تستمر صداقتكما رغم بعد المسافات ؟!
التفت نحوها عادل وقال بعد قليلٍ من التفكير :
– بصراحة لا أعلم ، انشغلت بحياتي وظروفنا ، أذكر أننا بقينا على اتصالٍ أول سنةٍ من غيابه لكن بعد وفاة والدي أصبح اهتمامي منصبٌّ على دراستي بشكلٍ أكبر ، وكما تحمّلت أماني مسؤوليات الأم أخذت أنا مسؤوليات الأب ، وبعدها انشغلت بتكوين نفسي . باختصار لم يكن لديَّ مجالٌ لأفكِّر به لكن مع ذلك أعتبره من أعزِّ أصدقائي ، ولقاءٌ واحدٌ يكفي ليحيي ما كان بيننا .. هذه هي الصداقة الحقيقية .
تثاءبت فاتن وقالت بكسل :
– سأدعكما تتحدثان عن مآثر هذا الصديق “المعجزة” (قالتها بتهكّم) وسأخلد أنا إلى النوم . تصبحان على خير 

***

دخلت أماني في اليوم التالي غرفتها واتّجهت نحو دولاب الملابس . فتحته لتختار ما ترتديه عند قدوم نديم هذا المساء ، لكنّها شعرت بالخيبة ، فكلُّ ما هو موجودٌ ارتدته عشرات المرات وأصبح قديماً وبالياً . أغلقت الدولاب وقصدت المرآة ، نظرت إلى نفسها فوجدت أمامها فتاةً هدّتها السنون ، فبشرتها متعبة وعيناها ذابلتان وشعرها لا تذكر في أيِّ عامٍ ذهبت آخر مرة لتصفيفه . اكتشفت للتو بأنّها كانت ظالمةً لنفسها ، لقد تنكّرت لذاتها للحدِّ الذي ألغت فيه احتياجاتها وتنازلت فيه عن كلِّ ما يجلب المتعة لقلب أيِّ فتاة ، فلا ثيابها زاهية الألوان ولا أدراجها تحوي أدوات الزينة والتجميل وغيرها من الأشياء التي تعتبرها سائر الفتيات من أولوياتهن .

عادت تفتح الدولاب لتُخرِج منه الفستان القرمزي الذي ترتديه في المناسبات على الرّغم من قِدَمه ، ثم خرجت لتدخل غرفة فاتن . طلبت منها استخدام بعض مستحضرات التجميل التي تحفل بها أدراجها .
قالت فاتن ضاحكة :
– كلُّ هذا من أجل نديم ؟! ثم أكملت بسخرية :
– لكن احرصي على ألا تظهري بمظهر العجوز المتصابية 

كان وقع كلمات فاتن على أماني كطعنة خنجرٍ حادٍّ غُرِز في القلب ، فلطالما أظهرت فاتن بلادةً في المشاعر وبرودٍ تجاه شقيقتها على الرغم من الدّور الكبير الذي لعبته أماني في حياة فاتن ورعايتها لها . أخذت من أغراضها بعض الأدوات وخرجت مسرعة تسبقها خيبةُ أملها وانكسارها .

تأمّلت نفسها بالمرآة بعد أن انتهت ، لقد أرادت أن تظهر بصورةٍ مختلفةٍ عن الصّورة الكارثيّة التي رآها بها نديم عندما جاء ، قالت لنفسها لتبثَّ فيها الثِّقة والأمل :
– مازلتِ جميلةً يا أماني على الرّغم من شقاء السنين ، صحيح لم تعودي شابةً لكن ثقي بنفسك .

جاء نديم وكان استقبال عادلٍ له مؤثّراً ، وما أن جلسا حتى أخذا يتسابقان بسرد الذكريات ، قاطعتهما أماني عندما جاءت تقدِّم القهوة ضاحكة :
– وكأنّي أراكما قبل سبعة عشر عاماً ، نفس الجلسة وطريقة النّقاش وكلَّ شيء .. ياه كيف مرَّ العمر ! 
تناول نديم فنجان القهوة من يدها وهو يطالعها بنظراتٍ أخجلتها وجعلت قلبها يرتعش . قال بعد أن أخذ رشفةً من فنجانه :
– أين فاتن ؟ هي الوحيدة التي لم أرها بعد

– أنا هنا ..

اتّجهت أنظار الجميع صوب فاتن . كانت واقفةً عند باب الصالة ، بدت كحوريةٍ بفستانها الأزرق المتناسق مع مكياج حرصت أن يكون هادئاً ، وشعرها الأشقر أطلقته ليحيط بوجهها وينسدل على كتفيها . قال نديم بانفعال :
– لم أكن أظن أنني سأرى أمامي شابةً رائعة الجمال ، فأنتِ بخيالي مازلتِ في الخامسة من عمرك 
قالت له مبتسمةً بعد أن مدّت يدها مصافحة :
– لا أحد يبقى صغيراً ، جميعنا نكبر ، أليس كذلك ؟

شعرت أماني رغماً عنها بالضيق ، فلماذا حرصت فاتن على إبراز جمالها هذه الليلة والدخول بهذه الطريقة الاستعراضيّة ، ألكي تثبت لها أنها شابةٌ وأجمل منها ؟!
انتبهت على صوت عادل وهو يسأل :
– حدّثني نديم ، ما الذي فعلته في الغربة ؟
عدّل نديم من جلسته وقال ومو يسترق بين الفينة والأخرى النظر إلى فاتن :
– درست كما تعلم الكيمياء الحيوية وتابعت دراساتٍ عليا فيها ، وأنا الآن أعمل بأحد مراكز البحوث العلميّة في لندن وأيضاً أعطي دروساً في أحد الجامعات .
– ولماذا لم تفكّر بزيارة البلد قبل الآن ؟

مطَّ نديم شفتيه و قال بمرح :
– انشغلت بحياتي هناك ، توالت السنون عليَّ كلمح البصر ، ثم أنَّ أهلي كلَّ صيفٍ كانوا يقومون بجولةٍ في أوروبا ويأتون لزيارتي ، ربما لذلك لم أفكّر بالعودة .
– ألم تتزوج هناك ؟
انتفض قلب أماني بانتظار الإجابة التي جاءت على هواها :
– كلا 
قال عادل وقد أخذته الدهشة :
– لماذا ؟ أنا تأخّرت في زواجي ولي أسبابي المقنعة . كنت أبني نفسي ، درست وقد تعثرت قليلاً بسنين دراستي ، تخرّجت وبعدها عملت كمحامٍ متدرّب لفترة لا بأس بها ، ثم كافحت لأحصل على مكتب محاماةٍ خاصٍّ بي ، وهأنذا في الرابعة والثلاثون وزواجي قريب بعد أن أصبحت جاهزاً من جميع النواحي أخيراً ، أما أنت فقد ولِدت وفي فمك ملعقةٌ من ذهب .

أطلق نديم ضحكةً أظهرت تناسق أسنانه (هذا ما كان يدور في خلد أماني ) ، ثم قال بصراحته الصادمة :
– لا يا صديقي ، لا تعتقدني بريء ، لقد مررت بعلاقات عابرة . شفتاي ليستا عذراوين كما تظن ، لكنّني ببساطة لم أجد بعد تلك المرأة التي تجعلني أركض متلهّفاً لأدخل وإيّاها القفص الزوجي .

جوابه أنعش الأمل في قلب أماني ، قالت في نفسها : ليتني أكون هذه المرأة .

ألقى عادلٌ السؤال الذي يهمّها أن تعرف إجابته :
– ولماذا جئت ؟ وهل تنوي العودة إلى لندن ؟
– جئت لأرى أبي المريض ، إجازتي محدودة ، شهرٌ فقط أو ربما أكثر قليلاً . ثم أكمل بعد أن سَرق نظرةً خاطفةً نحو فاتن أتبعها بابتسامة وجهها لأماني :
– ولا مانع عندي من اصطحاب العروس معي إذا وجدتها .

***

شرعت أماني بإزالة آثار الفوضى التي عمّت المكان من كؤوس وفناجين وأطباقٍ بعد مغادرة نديم ، دخلت المطبخ لتغسلها فلحقت بها فاتن ، قالت وهي تلعب بخصلات شعرها :
– إن لنديم شخصية مميّزة بالفعل ومثيرةٌ للإعجاب ، لقد راقني 

اهتزَّ الكأس بيد أماني وكاد يسقط فيما أكملت فاتن بخبث :
– آه ، ليت اختياره يقع علي ، فالحياةُ في لندن تثير فضولي وحماسي 

أخذ توتّر أماني يزداد ، قالت بصوتٍ جاهدت أن يخرج هادئاً :
– ألا ترين أنه لا يناسبك ؟ فهو أكبر منك بإثني عشر عاماً 
قالت فاتن وقد ثبّتت نظرها بعيني أماني :
– لا ألتفت لمسألة الأعمار . ثم تذكّري ؛ إن رَغِبَتْ فاتن بشيءٍ ستحصل عليه ، والأيّام القادمة ستثبت لكِ ذلك .

***

تركت كلمات فاتن في نفس أماني أثراً سيئاً للغاية . لم تكن تظنُّ حتّى في خيالها أن تتنافس معها على الفوز بقلب نفس الرجل ، فهي شقيقتها وتصغرها بعشرِ سنوات ، لكنها لن تختار الانسحاب كما اعتادت أن تفعل كلّ مرّة ، لن تتنازل .. إنها فرصتها الأخيرة للنجاة ، لو ربحت نديم فإنّها ستشعر بالعزاء وبأنَّ الله كافأها على صبرها وتضحياتها .

                                      – 5 –

بعد عودة نديمٍ أصبح للحياة طعمٌ بالنسبة لأماني ، صارت تطرب لسماع صوت العصافير عند كلِّ صباحٍ وترحِّب بخيوط الشمس المتسلّلة على وجهها من خلف الستائر الرقيقة ، فهذا غدا يعني لها بدءُ نهارٍ جديد قد ترى فيه نديم وليس يوماً بائساً كغيره من الأيّام التي كانت تمرُّ عليها . أخذت تشعر برغبةٍ شديدةٍ في الإقبال على الحياة . قرّرت أن تعتني بنفسها وبمظهرها ، ولم تجد غير اللجوءِ إلى جارتها سمر وطلب النُّصح منها ، فهي امرأةٌ متزوِّجة وأكثرُ خبرةٍ منها في كسب قلب الرجل .

***

أنهت أعمالها الصباحيّة باكراً وقصدت منزل جارتها ، أخبرتها عن نديمٍ وعن حبّها القديم له ، لم تجد حرَجاً في ذلك ، وطلبت منها بعضُ النصائح للاعتناء ببشرتها وقلب مظهرها ، نصحتها الأخيرة بجلب بعض المواد التي تعيد للبشرة حيويتها وإشراقتها كماء الورد والنشاء ، البيض مع العسل وغيره من المكوّنات ، ثم وعدتها أن تصطحبها إلى السوق عصر هذا اليوم لتساعدها في اختيار ملابس جديدة وجلب مستحضرات تجميلٍ مناسبةٍ ، وتغيير تسريحة شعرها المملّة التي اعتادت ألّا تظهر بسواها . 

قفلت عائدة إلى المنزل وحماسها جعلها تنهي صنع الغداء بسرعة ، لم تجلس طويلاً مع أخويها ، بل حضَّرت لهما المائدة ، أكلت القليل ودخلت مخدعها ، أخرجت مدّخراتها من المال والتي قلّما صرفتها على نفسها ، بل تنفقها على المنزل وعلى طلبات فاتن التي لا تنتهي .. أخذت منها ما يكفي وارتدت ثيابها منتظرةً موعدها مع سمر بأنفاس لاهثة ، فقد ظهر في حياتها حافزٌ يجعلها تحبُّ الحياة وتنتظر الغد بقلبٍ واجف يدعو الله ألا يخيب رجاؤه .

***

عادت في وقتٍ متأخّر من السوق ، ولشدّة توتّرها من ردّة فعل شقيقيها على الثّورة التي عصفت بشكلها وهيْئتها ، سقطت من يدها بعض الأكياس عندما رأت فاتن ، فانتثرت منها على الأرض بعض علب الزينة مما جعل فاتن تنظر لها من رأسها حتى أخمص قدميها ، قالت بكل لؤمٍ وغيظ حمله قلبها وبنبرةٍ لا تخلو من سخرية :
– لن تُصلِح الأصباغ ما أفسده الزمن .. ثم أكملت بتهكّم :
– تسريحة شعرك لا تليق بسنِّك 
ثم ابتعدت متجهةً إلى غرفتها وصدى ضحكاتها خربش قلب أماني وجعله ينزف .

هذا المشهد المخزي حصل أمام ناظري عادل ، فأسرع يداري الموقف ، ساعد أماني على إعادةِ الأغراض في الأكياس و قال بعد أن طبع قبلةً على جبينها :
– تسعدني رؤيتكِ وقد عدتِ إلى الاهتمام بنفسك ، فقد اشتقت إلى أماني القديمة الشقيّة التي تشعُّ طاقةً وحيويّةً توزّعها على الجميع . 
مشت أماني دون أن ترد فاستوقفها متابعاً :
– بالمناسبة ، شعرك جميل جدّاً ، لا تلتفتي لكلام فاتن 
أرغمت نفسها على الابتسام وقالت : 
– شكراً لك 

***

جلست على طرف السرير واضعةً رأسها بين كفيها ونشب في عقلها صراعٌ مضني .. هل يا تُرى بالغتْ بتصرّفاتها ؟ هل عادت لسن المراهقة ؟ وهل غايتها مفضوحةٌ بالنسبة لأخويها ؟؟ لم تلقَ الجواب الشافي ، فجزءٌ منها كان يقول أجل ، ابقي على طبيعتك ومن يحبّك سيتقبلك كما أنتِ ، وجزءاً آخر قال لها كلا ، إنها فرصتكِ الأخيرة ، حاربي وناضلي من أجلها ولا تأبهي لكلام الناس . إنها حياتك ولن يعيشها أحدٌ بدلاً عنكِ .

                                        – 6 –

توالت الأيام سريعاً كانت من أجمل الأيام التي قضتها أماني ، فقد كان نديم يزورهم أو يقضون معه سهراتٍ في الخارج برفقة هيام خطيبة عادل ، فقد أرادت هي الأخرى رؤية نديم بعد أن وجدت سيرته على كلّ لسانٍ في المنزل . لم تخلُ هذه الأوقات الجميلة من منغّصات ، ففي الوقت الذي كانت تجاهد فيه أماني لتظهر جميلةً وأنيقة كانت أختها بلمسات بسيطة تغطّي عليها وتخطف الأضواء منها . إنه الفرق بين الكهولة والشباب ، وبين من قلبه لا يعرف اللؤم ويتصرف على سجيّته وبين الأناني الذي لا يفكّر إلا بنفسه وبتحقيق مآربه ، فلم تكن تصرفات فاتن بريئة ، بل كانت بكلامها وضحكاتها تتقصّد أن تلفت إليها الأنظار . ومع ذلك بقيت أماني متشبِّثةً بذاك الأمل الجميل الذي يداعب أحاسيسها ، فقد عادت تدخل بنقاشات مطوّلة مع نديم وكان هو يُسعَد بذلك ويطالعها بنظرات مليئةٍ بالإعجاب والاحترام ، نظرات تستحضرها أماني في ذهنها لوقتٍ طويل قبل أن تخلد إلى النوم ، وترافقها إلى العالم السري الذي لا يشاركها فيه أحد أبداً ؛ عالم الأحلام .

***

هاتفها نديم وطلب منها اللقاء على انفرادٍ في أحد المقاهي . ذهبت إليه بقدمين لا تمشيان على الأرض بل تطيران من الفرح ، وصلت فوجدته جالساً في انتظارها . لاحظت عليه التّوتر والارتباك فاستغربت ، سألته بعد أن طلب لها شيئاً تشربه :
– ماذا هناك ؟ لماذا أردتَ رؤيتي ؟؟
تكلّم بعد أن بلّل ريقه برشفةٍ من كأس العصير :
– في الحقيقة أماني هو موضوع أردتُ البوح لك به ، فأنت مقربة جداً بالنسبة لي .
قالت بنفاد صبر :
– أرجوك بلا مقدّمات فقد أقلقتني
– لا أبداً ، الأمر لا يدعو للقلق . أخذ نَفَساً عميقاً ثم تابع :
– الموضوع وبكلِّ اختصار هو أنني واقع بحبِّ شقيقتكِ فاتن وأريد أن أتقدّم لخطبتها بشكلٍ رسمي 

صُعِقت أماني باعتراف نديم الذي قضى على آمالها ، هي التي لبّت دعوته ممنِّية نفسها بتحقيق مرادها ، أدركت فجأةً أنها عاشت الوهم ، وجدت نفسها أكبر حمقاء . أخذت تُنصِت له مجاهدةً كلّ الجهد ألا ينفجر سيل دموعها فاضحاً المشاعر المتضاربة التي تتقاتل بين جدران قلبها .

أكمل نديم غيرُ آبهٍ بالشحوب الذي صبغ وجهها :
– لا أعرف ماذا فعلَتْ بي هذه الفتاة ! قابلت فتياتٍ كثر قبلها وجميلاتٍ أكثر منها لكن هي فيها شيءٌ جذبني ، عندما أراها أشعر بأني عدت شاباً في العشرين ، شبابها متفجّر وحضورها آسر ، مذ رأيتها أوّل مرةٍ تمنيت ألا تغيب عن ناظري . أنا أحبّها ، أحبها وأريد أن أكمل معها حياتي 

قالت أماني بعد أن تمالكت نفسها ومع ذلك خرج صوتها مخنوقاً :
– ولماذا تقول لي هذا الكلام ؟ هي المعنيّة به ، وشقيقي عادل هو رجل البيت وهو من يجب أن تطلب يدها منه .
أجاب وقد أمسك كفّها بحركةٍ عفويّة :
– لأننا طالما كنا متوافقيَن ، أرتاح في الحديث معكِ وأثق برأيك . ثم أنني متردّد بشأن العمر ، فكما تعلمين ، فارق السن بيننا كبير ، أخشى أن يشكّل عائقاً .

سحبت يدها سريعاً من يده . تجنّبت نظراتِ عينيه وأخذت تشغل بصرها في التحديق بذقنه ، بياقة قميصه ، بطرف كتفه ، بالجالسين إلى الطاولاتِ المتناثرةِ حوله ، فيما لسانها نطق بكلماتٍ لم تخرج إلا بعد أن انتزعت معها شظايا من روحها المتهشّمة : 
– أنت بصراحة صديقُ طفولةٍ عزيز ، ورجلٌ قادرٌ على إسعاد أيّة امرأة ، كن واثقاً كما عهدتّك دائماً وتقدّم لطلب يدها ، وأعدك أنّ كلَّ شيءٍ سيكون على ما يرام .

صاح بفرح :
– حقّاً ؟ أنا ممتنٌّ لكِ ، لقد أرحتني ومهّدتِ لي الطريق .. أشكرك

نهضت مستأذنةً فأراد توصيلها إلى المنزل ، امتنعت متعلّلةً بأنها تريد المشي قليلاً واستنشاقِ بعض الهواء ..

***

خرجت من المقهى ذاهلةً عن نفسها ، تلفحها رياح كانون القارسة ، والغريب أنها في طريق الذهاب لم تشعر ببرودة الجو أمّا الآن فإنّ البرد تغلغل في أعماقها ..
كانت تمشي لا تلوي على شيء ، لقد شعرت بأنّ بقايا روحها تنفصل عن جسدها وتحلّق بعيداً . لم تعرف هل ترثي لحالها أم تُسعَد لأختها ، فمهما كانت نبيلة المشاعر وعالية الأخلاق فإنها لا تستطيع أن تُنكِر حبّها لنديم وأمنيتها بالزواج منه ، وكونه سيصبح زوج أختها فهذا أمرٌ يجعلها تشعر بالإحراج والخجل من نفسها ، خصوصاً أنّ مشاعرها وتصرّفاتها كانت واضحةً وجليّة أمام فاتن ..
وفاتن ، هل ستقيم وزناً لمشاعرها هذه ؟ هل ستنسحب مجنِّبةً نفسها وأختها هذا الوضع الصعب ؟ بحكم معرفتها بأخلاق فاتن لم تعتقد أماني أيَّ تنازلٍ من جانبها .. لطالما كانت فاتن أنانيّة لديها استعداد أن تبني سعادتها على حطام الآخرين .

وقع نظرها – بينما كانت تدخل في أحد الشوارع – على لوحة مكتوب عليها ” سارة عماد الدين ” أخصائيّة في الأمراض النسائية والتوليد . ابتسمت بأسى فهذه الطبيبة لم تكن إلا صديقتها ومنافستها في المدرسة ، فكّرت بحزن : لو أنّه قُدِّر لها متابعة دراستها لما كانت الآن تعاني ما تعاني .. تابعت طريقها بشرود تاركةً قدميها تأخذانها حيث تريدان .

***

عادت إلى المنزل في وقتٍ متأخّرٍ فوجدت أخويها حانقيَن لأنَّ مائدة الغداء لم تجهز . لم تكن بمزاجٍ يسمح لها بالأخذ والرد ، لذا صاحت بوجهيهما عند أوّل جملةِ تذمّرٍ خرجت من عادل :
– ليست نهاية العالم إن تأخّرنا اليوم عن موعد الطعام ، ثم ما هذا الكسل ؟! هل سأبقى مسؤولةً عنكما حتى آخرِ يومٍ من حياتي ؟ وأنتِ يا فاتن ، ألم تستطيعي تحضير الطعام ؟ كلُّ شيءٍ جاهز في الثلاجة فقط يحتاج إلى تسخين ، أم اعتدتما على وصول الأشياء جاهزة إلى أنفيكما دون أي جهدٍ أو تعب !

دخلت المطبخ وأعدّت الأكل سريعاً ، قدّمته لهما ، ثم اقتحمت حجرتها وأفرغت ما حبسته من دموعٍ على وسادتها ، فاختلط ماء العين بالكحل الأسود ملوِّثاً الوسادة البيضاء .

***

في المساء تحدّثت أماني إلى فاتن عن رغبة نديمٍ بالتقدم لخطبتها ، فطارت فاتن من الفرح . أخذت تدور في الصالة وتقول بسعادة :
– يريدني ، يريدني ، أوقعته بحبّي .. يا الله كم أنا سعيدة ، سيأخذني معه إلى لندن ، لطالما حلمتُ بالعيش في أوروبا ، حصلتُ عليه أماني ، قلتُ لكِ بأنّي سأحصل عليه .

نظرت لها أماني بغيظٍ مكتوم ، هي لا تحبّه بل منبهرة به وتتكلّم عنه كما لو أنّها حصلت على لعبة .

عادت فاتن واقتربت من أماني ، قالت بوقاحة :
– آسفة ، كنتِ تحلمين به أنتِ أيضاً ، وما هذا التغيير الجذري الذي عصف بهيْئتكِ إلا من أجله ، لكنّك خسرتِ وأنا من رَبِحَتْ .

لم تتمالك أماني نفسها أمام هذا اللؤم وقلّة الإحساس التي أظهرتهما فاتن ، فرفعت يدها في وجهها ولطمتها بشدةٍ على خدّها ، قالت بحزم :
– لا أسمح لكِ بالتكلّم معي بهذه الطريقة ، أنا بالنسبةِ لكِ لست أختاً فحسب بل أماً أيضاً ، أنا من ربّيتكِ وسهرت على نجاحكِ ولم ألقَ منكِ سوى الجحود والنكران ، نديم صديقٌ عزيز وهو في قلبي بمنزلة أخي عادل .. ثمَّ أكملت بعد أن ضغطت على نفسها : وأتمنى لكِ السعادة معه 

ركضت فاتن إلى غرفتها صافقةً الباب خلفها بينما تهاوت أماني على الأريكة ، ماذا بإمكانها فعله سوى أن تنكر حبّها لنديم ، نكرانها على الأقل سيجعلها قادرة على تحمّل الأيام العصيبة القادمة ويضع حدّاً لتلميحات واستهزاء فاتن الذي لا يطاق .

***

تمَّ كلُّ شيءٍ بعدها بسرعةٍ فائقة ، فنديمٌ شارفت إجازته على الخلاص لذا عاجل بعقدِ قرانه على فاتن ليجهِّز أوراقها للسفر معه إلى لندن . أدّت معارف والده إلى تسريع الإجراءات وها هو زفافهما سيقام بعد ثلاثة أيام ، وقد اتفق عادل ونديم أن يقيما عرسهما بنفس اليوم ، يتوجّه بعدها نديم وفاتن مباشرةً إلى المطار ، فقد حرصا أن تكون ليلتهما الأولى في لندن ، بينما يقضي عادل أولى ليالي زفافه في الفندق وينتقل بعدها للسكن في منزل أهله ، وكان قد استولى على غرفة أبويه لأنَّ غرفته صغيرة لا تّتسع له ولزوجته ، متجاهلاً اعتراض أماني ودموعها .

وقفت أماني بفستانها الرمادي وشعرها المرفوع إلى أعلى مشكّلاً هضبةً على رأسها وبلمسات خفيفة من الزينة ، تنظر بحسرةٍ إلى نديم وفاتن بجانبه ، تمثِّل الفرح وتجامل الضيوف وتوزّع الابتسامات هنا وهناك . كانت ليلةً شديدة البرودة من ليالي كانون ، لم تتوقّف فيها الأمطار عن الهطول ، كما لم تتوقف جراحُ قلب أماني عن النزيف . الفرق أنًّ الأمطار عبّرت عن نفسها بكلِّ جرأةٍ و قوّة ، بينما جراح أماني كانت تنزف بصمتٍ ولا يشعر بها أحدٌ سواها ؛ هي فقط .

أوصلتها سيّارةٌ إلى المنزل بعد انتهاء الحفل ، دخلت بهدوء تمشي الهوينى ، لم تُشعِل الأضواء بل سارت في الظلام نحو غرفتها ، فمهما أشعلت من أنوارٍ فإنها لن تستطيع تبديد العتمة التي غلَّفت روحها وأحاطت بكيانها . جلست على الأرض ملقيةً بجذعها إلى السرير واستسلمت لنوبةٍ حادّةٍ من البكاء المرير ، بكاءٍ علا صوته في كافّة أرجاء المنزل الفارغ ، الغارق في الظلام . توقّفت الأمطار في تلك اللحظةِ عن الهطول واختفى صوت السيّارات من الشوارع المبتلّة بالمياه ، عمّ الصمت المكان إلا من نحيب أماني ، وكأنّ العالم بأسرهِ يقف خاشعاً احتراماً لحزنها .

                                        – 7 –

اتّجهت أماني صباحاً نحو المقبرة ، شعرت برغبةٍ شديدةٍ في التّحدُّث إلى أمها . جلست عند قبرها وراحت تتكلّم بصوتٍ تقاطعه شهقات البكاء :

– آه يا أمي لو تعلمين ماذا حصل لي بعد وفاتك ، أنا أبأس فتاةٍ على هذه الأرض ، أقلّهنَّ حظاً وأكثرهنَّ شقاءً . لقد قابَلَتْ فاتن تضحياتي بالجحود .
نديم صديق عادلٍ أتذكرينه ؟ لقد عاد للبلد في زيارة ، أيقظ مشاعري وجدَّد رغبتي بالحياة بعد أن ظننتها قد ماتت . نما في داخلي أملٌ بأنّه قد يقع في حبّي ويعوِّضني عن سنين الحرمان ، لكن فاتن بلؤمها وأنانيَّتها وقفت في وجهي ، وجودها بشبابها المتفجّر وأنوثتها الطّاغية جعلت نديم لا يراني . هي تعلم أنّي أحبّه ومع ذلك سعت في الحصول عليه ، وأقسم لكِ أنها لا تحبّه ، هي تحبُّ حياته والجو المحيط به ، ترغب بالعيش في بلادٍ أجنبية ونديم وسيلتها إلى ذلك ، فاتن لا تحب إلا نفسها وأنتِ تعلمين .. 

سنِّها يتيح لها عدّة خياراتٍ لكنها راغمتني على الرجل الوحيد في حياتي . نديم مناسبٌ لي أكثر منها ، ليس بالسن فحسب بل هو يشبهني بأفكاره وبنظرته للحياة ، نحن منسجمين وكنا سنشكّل ثنائيّاً رائعاً لولا وجود فاتن . الحياة ظالمة وقاسية وأنا لم أعد سوى حطامٍ يمشي على الأرض ، جسدٍ بلا روح . دموعي جرحت عيناي ، وخرجتُ خالية الوفاض من دنياي .

أمّاه أنا متعبة وبحاجةٍ ماسّة لكِ . أين العدل في هذه الدّنيا أين ؟ عشت عمري باذلةً التضحياتِ بلا مقابل ، تخلّيت عن دراستي ، سحقت أحلامي وتنكّرت لذاتي .. كان كلُّ همي فقط ألّا أندم ، وما يؤلمني الآن يا أمي أنّي نادمة ، نادمة على تنازلاتٍ قدّمتُها ذهبت سدىً .

– ومن قال لكِ أنّ الدنيا عادلة ؟ العدل لا يوجد إلا عند ربِّ السماء في يومٍ لا يعلمُه إلا هو . 

كفّت أماني عن الكلام والنحيب ، أدارت رأسها للخلف ملتفتةً لمصدر الصوت ، فرأت امرأةً هادئة الملامح جميلة التقاسيم ترمقها بابتسامة حانية . تقدمت المرأة منها و جلست بقربها ، قالت و هي تداعب بيدها بعض الأعشاب النابتةِ حول القبر : 
– عذراً على تطفّلي وتنصّتي على بوحكِ لأمكِ بأحزانك ، لكنّي جئت لأضع الزهور على قبر والدي ومررت من هنا في طريقي للخروج ، فاسترعى انتباهي صوت بكائكِ الذي يعبّر عن روحٍ محترقةٍ وقلبٍ مذبوح ، فثار فضولي لمعرفة السبب

سألتها أماني باستغراب :
– من أنتِ ؟!
– أُدعى ميساء ؛ أو العانس ميساء ، كما اعتادوا أن يلقِّبونني ( قالتها بتهكم ) ، ثم أكملت وهي تبعد بإصبعها نملةً سارت على طرفِ معطفها :
– في مرحلةٍ ما من حياتي كنت أظنّني الفتاة الأتعس حظّاً في هذه الدنيا ، أجلس مع نفسي أحدّثها وأناجيها ، أتساءَل ولا ألقى أيّة إجابة ، مثلكِ تماماً . الفرق الوحيد بيننا أنّكِ تعبَّرين بالدموع أمّا أنا فعصيّة الدمع ولا أبكي ، الأمر الذي يجعلني أتعذّب ، فالبكاء حاجةٌ مُلِحّةٌ ومريحةٌ في كثيرٍ من الأحيان ، أحسدكِ عليها .

أطلقت نظرها بعيداً نحو الأفق قائلةً بتأمّل :
– انظري للسماء كم هي جميلة ، و إلى تلك الغيومِ البعيدة ، يبدو أنّها قادمةٌ نحونا محمّلةً بالأمطار . الأمطار تجلب الخير  إلى الناس وتعدنا بربيعٍ مشرقٍ وجميل ، ألا تنتظرين مثلي قدوم فصل الربيع بنسماته العليلة ووشاحه الملوّن بشتّى ألوان الزهور ؟ الحياة جميلة وتستحقُّ أن تعاش إن غيّرنا الزاوية التي ننظر من خلالها للأمور .

تكلّمت أماني بانبهار :
– يا الله كم كلامكِ جميلٌ و مريح ، يُدِخل السّلام والسكينة إلى النفس ! كيف استطعتِ الوصول إلى هذه الدّرجة من التصالح مع الذات ؟

أطلقت ميساء ضحكةً قصيرة ثم قالت :
– كان ذلك بعد أن مررتُ بتجربة خطوبةٍ فاشلة قبل ثلاثِ سنوات ، هذه التجربة غيّرت مفاهيمي وقلبت كياني ، كان وقعها عليَّ قاسٍ لا أُنكر ، لكنّها جعلتني أقوى . كنت مثلكِ سابقاً كلمة لماذا لا تفارقني ، لماذا أنا ، ماذا فعلت ، أين العدل وغيرها من التساؤلات المرهقة للأعصاب والتي تجعلنا نغرق في دوّامة تجرّنا نحو قاعٍ مظلمٍ شديد السواد . الآن كوني أنتِ مثلي ، استمتعي باللحظة ، عيشيها بكل تفاصيلها ولا تفكّري بالغد إلا من أجل جعل حياتك أفضل .. ربّما تقولين الآن في نفسك أنّ الكلام سهل ، لكن صدّقيني تطبيقه ليس بالأمر الصعب .

قالت أماني :
– كم الحياة تبدو بسيطة من منظورك 
ـ اجعليها هكذا من منظوركِ أنتِ أيضاً ، ما المانع طالما لن تخسري شيئاً أكثر مما خسرته 
– ميساء من أين ظهرتِ لي ؟! أُحِسُّ بأنّي أعرفكِ منذ زمن !
– ظهرتُ لكِ من هذه الحياة التي تحوي أصنافاً عديدةً من البشر ، وكلٌّ منهم ذاق الّلوعة بطريقةٍ ما .
صمتت قليلاً قبل أن تردف :
– بالمناسبة ، ما اسمك ؟
– أماني .. مع أنّني لم أحقّق شيئاً من الأماني التي كانت تملأ قلبي ، يعني بإمكانكِ مناداتي بـ أماني التي لم تحقّق الأماني 

ثمٌَ ضحكت على نُكتتها التي أطلقتها ، ضحكت بشدَّة فانتقلت عدوى الضحك إلى ميساء .. صمتت أماني فجأةً ونهضت قائلةً :
– آخر شيءٍ كنت أتصوَّر فعله هذا اليوم هو الضحك ، فشكراً لكِ 
نهضت ميساء بدورها ، قالت متسائلة :
– كم عمرك ؟
– اثنان و ثلاثون 
– أنا أكبُرُكِ بأربعِ سنوات ، ومع ذلك لا أعتبرنا مسنّات ، نحن في أجملِ عمر 

أخذتا تمشيان باتّجاه بوّابة المقبرة ..

– بالمناسبة ميساء ، ما هي تجربة الخطوبة الفاشلة التي مررتِ بها ؟
– أوه يا عزيزتي ، إنها قصّةٌ طويلةٌ سأحكيها لكِ ذات يوم عندما تأتين لزيارتي ، وسأعرِّفكِ على أمي ، إنّها امرأةٌ رائعة وواثقة بأنكِ ستحبينها 
– أريدكِ الآن أن تشرفيني أنتِ بزيارة ، فأنا وحدي في المنزل ، وسأحكي لكِ قصة حياتي بالتّفصيل ، إن رغبتِ 
– لا مانع لدي ، بل أرحّب في ذلك

وابتعدت أصوات المرأتين وهما في طريقهما للخروج من المقبرة ، معلنةً على أنَّ رغبة الحياة أقوى من أيِّة رغبة ، وبأنَّ وراءَ كلِّ نهايةٍ بدايةٌ جديدة ، طالما النَّفَسُ موجود والقلب مازال ينبض .

                                                   
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمت

ملاحظة :
من يرغب بمعرفة المزيد عن ميساء فليقرأ قصّة ” مذكّرات عانس “

تاريخ النشر : 2018-12-11

نوار

سوريا
guest
46 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى