أدب الرعب والعام

عزيزة المجنونة

بقلم : محمد خالد دسوقي – مصر
للتواصل : [email protected]

يقال عنها أنها لا تحب الأطفال و قتلت ابنها بحرق بيتها وهو نائم

طفل يجري حافي القدمين بدون تعب ولا ملل في شوارع قرية كبيرة ..، يتنقل من بيت إلي آخر كأن بيوت القرية كلها بيت واحد يتنقل بين حجراته ..، عائلة كبيرة تسمي قرية يعرفون بعضهم جيداً .. الغريب فيهم مميز كحبة ذرة في حفنة من القمح ..، كانت حديثة عهد بالكهرباء شوارعها مزدحمة نهاراً خالية مظلمة تماماً ليلاً ..

لا يوجد بيت في القرية لم ادخله ، إلا بيت إمرأة في وسط القرية يطلقون عليها ( عزيزة المجنونة ) يقال عنها أنها لا تحب الأطفال و قتلت ابنها بحرق بيتها وهو نائم.. أطفال القرية يخافون منها ، يلقون عليها الحجارة كلما رأوها ..
كنت أخاف المرور من أمام بيتها نهاراً أو ليلاً إلا إذا كان معي أحد كبير ، كنت أصمت تماماً وعيني تراقب البيت بحذر وخوف أتشبث في يد من معي حتي يغيب البيت عن نظري .

في أحد الأيام تأخر الوقت وأنا ألعب مع أطفال القرية لعبة الاختباء ، انتشرنا في الشوارع الضيقة دامسة الظلام.. تركت العنان لأقدامي مثلهم لأعثر علي مكان اختبئ فيه ، سأجلس عند عتبة هذا البيت ، التصقت بها كتمت أنفاسي كي لا يشعر بي أحد.. أصوات الأطفال تبتعد ..، شعرت بالأمان كل شيء بخير سأفوز علي باقي الأطفال ، هدأ روعي واستكان قلبي وإذا بي أشعر بأقدام تقترب مني .. سيكتشف أحد مكاني وسأخسر اللعبة .

نظرت حولي ببطء وجدت باب البيت الذي أجلس بجانبه مفتوح .. سأدخل إلي البيت بحجة اني أريد بعض الماء ( أمر شائع وقتها ان تطرق اي باب في القرية لطلب بعض الماء لتشرب ) دخلت لكن لم يجبني أحد.. وقفت داخل البيت منتظراً مرور الأطفال من المكان وأخرج بعدها .. لكن حدث لي ما لم يكن متوقع .. صوت الأقدام يقترب مني أكثر ، جلست مختبئاً خلف الباب ..انظر من سيدخل لكنه لم يكن أحد الأطفال بل كانت ( عزيزة المجنونة )
انقطعت أنفاسي وشعرت بالذعر والخوف الشديد ، نبضات قلبي تكاد تهز البيت والشوارع الهادئة ..

أنا بداخل بيت ( عزيزة المجنونة ) لم أتفوه بكلمة ولا
حركة أتابعها في صمت ورعب .. دخلت وأغلقت باب البيت خلفها ثم اتجهت إلي غرفة أخري.. أسرعت علي الباب لأخرج قبل أن تراني او تشعر بي .. لكني لم أستطع الوصول للقفل الموجود في أعلي الباب .. فرجعت مكاني لا أعرف ماذا أفعل.. لا أحد يعرف اني بالداخل هنا .

لم يرني أحد أدخل إلي البيت .. أخاف أن تراني وتقتلني مثلما فعلت مع ابنها كما يقول الناس .. جلست أبكي في رعب مما ينتظرني ..فأنا حبيس في البيت الذي يخاف جميع الأطفال الاقتراب منه .. مع أكثر إمرأة تكره الأطفال في القرية .. اشتد خوفي ورعبي أكثر عندما سمعتها تتمتم وكأنها تتحدث مع أحد ..تذكرت وقتها كل حواديت الرعب التي سمعتها يوماً لم أجد شيئاً أكثر رعباً مما انا فيه الآن .

بقيت في مكاني أبكي فغلب علي النوم من شدة التعب .. إلى أن شعرت بيد توقظني فتحت عيني إذ بي أري ( عزيزة المجنونة ) أمامي هي من توقظني !!
انخلع قلبي من مكانه بكيت وانا أبتعد عنها وأقول لها .. لا تقتليني لم افعل شيئاً وأتوسلها وهي تمشي ورائي ضاحكة .. لا مكان للهرب منها .. صرت بين يديها نظرت في عيني وقالت( بدر) .. ضمتني اليها وهي تقول لا تبكي يا صغيري بصوت يشاركه البكاء .. وأكملت .. لم أكن أقصد ما حدث تلك الليلة كم تمنيت بقائي معك ذلك اليوم في البيت كي نكون معاً الآن .. فأنا أموت كل يوم في هذه القرية من دونك .. أنت لا تصدق حديثهم يا بني أليس كذلك ؟ وهي تومئ برأسها لتحثني علي تصديقها وأنا ساكن بين يديها أحاول أخفي من على وجهي الرعب الذي بداخلي ، ولكني أومئت برأسي أني أصدق حديثها ، فقالت سأحكي لك ما حدث تلك الليلة ..

كانت ليلة من ليالي الشتاء شديدة البرودة عندما أستيقظت من نومي علي صوت سعالك ، وجدت وجهك شاحب اللون وتأن من التعب ، قد أصابك الجو شديد البرودة بالمرض . كان الليل أقبل علي منتصفه خرجت من البيت أهرول إلي طبيب القرية وعندما أتي أكد لي إنها نوبة برد شديدة ولابد من إحضار الدواء الذي كتبه فوراً وتدفئة المكان .. أسرعت إلي الصيدلية وكانت في بيت بعيداً عن بيتنا وقبل رحيلي أشعلت وابور جاز لتدفئة الغرفة إذ لا يوجد طريقة غيرها عند الفقراء مثلنا..

ذهبت لأوقظ من يعملون في الصيدلية لأجلب لك الدواء وأنا أبكي من شدة خوفي عليك وعند رجوعي رأيت دخان كثير والشارع مزدحم أمام البيت .. هرولت سريعاً نحو البيت وأنا لا أعلم ما حدث ، الدواء في يدي صرخت بأعلي صوت عندما رأيت أن النيران في بيتنا صرخت وتوجهت إلي داخل النيران لكن الناس منعتني ، ظللت أصرخ وانادي عليك حتي فقدت النطق وانا أنظر إلي البيت المشتعل وحاول أهل القرية إطفاء الحريق ولكن شدة الهواء كانت تزيد منه ولم تفلح محاولات أهل القرية في إخماد النيران إلا بعد فوات الأوان وبعد أن فقدتك .

اتهمني أهل القرية فيما بعد بأن ما حدث كان إهمالاً مني ولا أكذبهم في ذلك .. كان ينبغي علي ان لا أشعل وابور الجاز إلا وأنا بجوارك.. لا أعلم ما حدث يجوز أن هرة ارتطمت بالوابور فسقط علي الحصير المصنوع من القش فأحرق الغرفة والبيت سريعاً خصوصاً ان البيت من الطوب اللبن والقش فهذا أسرع من اشتعاله وانت نائم لا تشعر بشيء .. لكن بعد ذلك أصبحت الاتهامات أسوأ من الإهمال ، فمن أهل القرية من أدعي أني قتلتك عمداً وأحرقت البيت وخرجت منه .. وعلّموا أولادهم ذلك فأصبحوا يلقون الحجارة علي ويلقبوني
( بعزيزة المجنونة ) التي قتلت إبنها ..ايعقل ان تقتل أم إبنها .. وبعد محاولات كثيرة للدفاع عن نفسي .، إستسلمت لرغبتهم وأصبحت( عزيزة المجنونة )

قالت هذه الكلمات وهي تبكي وتضمني إليها .

سمعت القصة منها و كنت أبكي وقتها ايضاً ولكن ليس خوفاً منها بل إشفاقاً وحباً لهذه المرأة التي خسرت إبنها وعقلها في حادث واحد .. ولم يكتفِ الناس بما فعل بها قدرها .. لكن زادوا بأن جعلوا أبنائهم يلقون عليها الحجارة ويلقبونها بالمجنونة ..
ومنذ ذلك اليوم وأنا أجلس في هذا البيت الذي كنت أخاف المرور من أمامه .. أزورها وألعب معها وتحضر لي الطعام وتهتم بي .. كانت تناديني( بدر ) وأناديها .. ( أمي ) ..

عزيزة المجنونة
محمد خالد

ملاحظة : القصة منشورة لنفس الكاتب في موقع آخر 

تاريخ النشر : 2018-12-15

guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى