تجارب من واقع الحياة

جدتي أرسمي لي صورة

بقلم : ميسا ميسا ” ميسون ” – الدزاير

جدتي أرسمي لي صورة
جدتي تعاملنا بقسوة و تزرع الفتن بيننا

 

جدتي ، أرسمي لي صورة ، جدتي  أرسمي لي صورة ، جدتـــي ــ أرسمي لي صــــورة ، يا لها من كلمة جميلة حين ننطقها و ما أجملها حين تداعب مسمع جدتنا ، و ما أروعها إذ نذكرها بعد مرور سنوات عديدة فنبتسم ، إن كل الدنيا في عين المرأة بعد أن تكبر فتبلغ الستينات أحفاداً يحيطون بها يطلبون منها طلباتهم الصغيرة سهلة التحقيق فتكون في أعينهم و بعد مضي كل هذه السنوات البطلة التي لا تُقهر، فترى في أعينهم المتلألئة غبطةً بالحياة جهلاً لأمرها و أياديهم المدورة الرطبة شبابها و طفولتها من جديد ، فترسم لهم الذئاب و الأسود و الأرانب و الماعز معاً و يضحكها تصديقهم أن حيوانات المزرعة تعيش في صداقة مع حيوان الغابة ، كل الجدات رسمن لأحفادهن لكن الصور التي رسمتها لنا جدتي كانت مختلفة .

تتساءل جدتي ؟ و يا أسفاه علينا ، فكل الجدات رسمن على الورق أما جدتي فقد كانت ترسم علينا ، لا اعرف حين ترانا بما تشعر بالتحديد و لكني عاقلة كفاية و ملاحظاتي تكفي لأعرف أني بالنسبة لها أبنة أبي و لست أبنة لأبنتها ، أنا و كل إخوتي ، إنها لا تتعامل معنا على أننا أولادها بل تعاملنا على أننا من عائلة أبي ، نحن و كذلك أبناء خالاتي الأخريات ، دائماً تسعى لتجعلنا الأسوء و تبدي مثلما و أن أبناء و بنات أخوالي هم الأفضل و الأذكى و الأجمل و الأعقل و هم من ” يقر فيهم الخير ” مثلما نقول بلهجتنا و تعني إن عملت فيهم خيراً يردوا لك الجميل و يثمر فيهم و نحن عكس ذلك ، تضل تمدح أبن خالي و تذم أخي مع أنه من يشتري الحاجيات حين نجتمع في بيت العائلة و لطريقتها العجيبة في الذم الغير مباشر تقول مثلاً عن أبن خالي على مسمع منه : سوف ترون ماذا سيكون هذا الولد في المستقبل ؟ و أخي تقول على مسمع منه : لديه عقدة لا تتركه يتعامل مع الناس بطريقة غير مقبولة إنه غير اجتماعي ، تقولها مثلما لو أنها تعزي و أعلم جيداً إنها تقصد تدميره ، حين يقع أحد أولاد خالي في موقف محرج له أمام أحدنا أو ترانا متفوقين عليهم في ذكاء أو جمال أو غيره لا يعجبها و حين نحرج أمامهم تضحك علينا و ذلك لتشديد موقف الإحراج بحيث يسكن النفسية لآخر العمر و يعطي انطباعاً سيئاً عن المجتمع .

فجدتي و حقيقة بدون أي زيادات من النوع الذي إن ذاق الألم فعرف أنه قاس جربه للآخرين بدل أن يحرص على ألا يتسبب لأحد بمثل ما تسبب به له الغير ، تظل هكذا تفرق بيننا و بينهم و تحاول محاولات جبارة أن تذلنا لهم لولا أننا نحارب ذلك كل الحرب ، فهي ترى فينا آباءنا و عائلات آبائنا و تظل تنسب كل سلبية فينا لآبائنا و تشتمهم لنا و كل الإيجابيات تنسبها لها مثلما أنها من سلالة النبي الخاتم صلى الله عليه و سلم أو أنها حورة عين نازلة من الجنة مخلوقة من نور و سلالتها .

و ماذا سأحكي لأحكي فهي تنتقم من الكبار في الصغار ، فمثلاً لو حاولت إذلالي أو شيء من هذا القبيل و أرفض و أتذمر و أواجهها بذلك تعود أدراجها أمامي لتهاجم من الخلف فتلتفت لإخوتي الصغار و تبدأ بذلهم لأبناء خالي الصغار فمثلاً إذا تضاربوا تعنف أبناء بناتها و تترك أبناء أولادها حتى و إن استمروا في الضرب ، إنها تريد تكبيلنا في الزاوية و إفلاتهم علينا ليمزقونا تمزيقاً .

في العيد الماضي حين اجتمعنا كلنا في بيت العائلة  في الليل طلبت من بنات خالي مساعدتي و أبنة خالتي في تجهيز الفراش لكنهن رفضن ذلك بطريقة مزعجة و التوائية في الحديث تماماً كبنات الشوارع و ذهبن أمام التلفاز ، فجهزت الفراش لي و لإخوتي و كذلك فعلت أبنة خالتي فداهمتنا جدتي منكرة تصرفنا و طلبت منا أن نفرش للعائلة كلها لكننا رفضنا و قلنا لها : كل يفرش له و لإخوته ، و ما كان سبب رفضنا لطلبها أكثر من أن بنات خالي متمردات و كبيرات كفاية ليفرشن مكان نومهن بأنفسهن ، أنها كانت لتقول لبنات خالي إن كن في مكاننا ، كل يفرش مكانه .

كانت تلك ليلة العيد الأولى و حين نزعن ثياب العيد و لبسن ملابس النوم رمين الثياب دون تنظيمها و حين قلت لهن أجمعن ملابسكن ، قلن لي أجمعيها أنتِ أن أردتِ – ساخرات –  لكني وجدت لهن الدواء الشافي ، ففي صبيحة يوم العيد الثاني جمعت ملابسهم المرمية و رميت كل قطعة منها على حدة في زاوية من البيت و حرصت أن تكون الأماكن التي خبأت فيها الثياب من الأماكن الغير مخفية تماماً بل في متناول الكل بينما لا يمكن أن يتوقعن أنها هناك و في حال ما وجدنها يظنوا أن الصغار عبثوا بها و هم من أوصلوها لتلك الأماكن ، نجحت الخطة  و أمضين اليوم الثاني من عيد الفطر بملابس النوم و لم يعثرن على لبسهن إلا في صبيحة اليوم التالي ، حيث كان أحدها في سلة الغسيل و منها تحت فراش أسرة الصالة  و في خزانة الحائط و خلف خزانة الأواني .

ما حكيت لكم عنهم هو نبذة مختصرة أشبه بما ستحمل الإبرة إن غمست بماء نهر جاري ، و مع علم جدتي أنهم بهذا الخبث تظل تقول : أولادي نية ” نية تعني صافي النوايا ” قلوبهم بيضاء ، مساكين سوف تأكلهم الذئاب ، و لا أعرف ربما تعني بالذئاب نحن ، لكن كان ذلك مع تلقيبهم لها بالعجوز الشمطاء و عجوز النار و غيرها من الألفاظ السوقية .

و على ذكر الألفاظ السوقية فجدتي اتسمت بها في الآونة الأخيرة ، فذات مرة طردت أخي ذا العشر سنوات و رمته بلفظ سوقي تتصدع له الجبال – أكبر كلمة فاحشة – و أخي المسكين لم يتوقع سماعها في البيت فأبيض و أصفر و أزرق إلى أن أصبح بلا لون أصلاً و حمل نفسه و خرج مهرولاً من عندها ، هذا ما حكته خالتي .

تظل جدتي تفرق بيننا و بينهم و تحاول أشعارنا بأنهم أفضل منا مع أننا من نخدمها حين نذهب اليها ، تريدهم أن يجلسوا و نخدم نحن و ذلك منذ الصغر و ليومنا هذا ، مع أن أصغر بنات خالي بعمر التاسعة عشر ، هكذا فرقت بيننا في كل شيء ، تعطيهم الأفضل ، تمدحهم لنا و تنتقصنا ، و لم تجمع بيننا إلا في أمر واحد ألا و هو ” رسم الصور ” .

بكر خالي كانت صورته ، الأناني ، الشرير ، المتكبر ، يريد كل شيء لنفسه ، و كانت دائماً تحاول أن تزرع بقلبه شجرة التوحد ، مع أنه الأنسان العاقل الوحيد من أبناء خالي و ليست فيه أي صفة من الصفات التي ترسمها عليه ، تحاول أن تشعره أنه منبوذ من بيننا و أننا منافقون في كل كلمة نقولها له ، تكلمه بطريقة تدع الإنسان يشعر أنه طفرة داخلة مخلوقات مثالية ، تشعره أن العائلة كلها على استقامة و هو منحرف عنا فتخاطبه بصيغة ” نحن و أنت ” و لم نشعر به المسكين إلى أن جاءت الفاجعة لتوقظنا من غفلتنا عليه بعض الشيء و لا أنسى ذاك اليوم طول ما حييت حين أصابه انهيار عصبي و هو بعمر العشرين و أخذ يصرخ و يضرب كل ما طالته يداه و كان ذلك بسببها .

أخي الأكبر : كانت صورته ، الانطوائي ، الخمول ، المصاب برهاب اجتماعي مع أنه ليس كذلك بتاتاً و البتة فأمضى الكثير من طفولته بتلك الصورة يظن أنه كذلك فعلاً و هو بالعكس اجتماعي للغاية و ينخرط بسرعة مع كل من يجالسه فيحس أنه يعرفه منذ زمن طويل فيحبه و يتمنى أن يلقاه مرة أخرى و قد قالها عنه الكثيرون ، مازح ، ضاحك ، اجتماعي ، لكن هذه هي جدتي تحاول أن تبديد الطبع الأصلي و تمديد طبع تصنعه هي يكون معاكساً تماماً للطبع الحقيقي فهي ترسم على كل واحد منا صورة معاكسة لصورته الحقيقية ، تظل تزرعها به منذ أشهر عمره الأولى فهل تصدقون , و الله أقسم لكم باغلظ الأيمان ، تضل تفعل ذلك بنا حتى نكاد نستيقن أن تلك هي شخصياتنا فلولا أن خرجنا و تخالطنا بالمجتمع و عرفنا شخصياتنا الحقيقية و التمسناها التماساً لبقينا في تلك القواقع التي كانت قد صنعتها لنا بدلاً عن القفازات التي تدفئنا و القبعات ، مع أن هناك منا من لا زالوا أسرى صور جدتي .

أبنة خالتي كانت صورتها ، الضعيفة ، الحساسة ، تكره أبويها و تحبها هي ، لديها عقدة نفسية تجعلها لا تعرف كيف ترد على نفسها أمام الآخرين و أبويها هما السبب ، تظل تذم لها أبويها و تحسسها بأن والداها يكرهانها و لا يريدان لها الخير و يمنعانها من كل ما تريده ، فوضعت والدا البنت في موقف لا يحسدان عليه فقد كادت الطفلة أن تكرههما و تفلت من يديهما فجدتي تحاول جاهدة أن ترسم بذهنها صورة لا تنفك عنها باقي العمر .

أنا كانت صوتي ، الأنانية ، الغيورة الحاسدة ، القاسية التي تهوى تجريح الآخرين , عشت لوقت قريب أحارب هذه الصورة بداخلي كنت خائفة أن أكون حقاً فتاة تحب جرح من حولها و أنانية و حاسدة و غيورة ، لم أكن أتوقع أن جدتي تتعمد فعل ذلك و رسم صورة معاكسة للحقيقة ، كانت دائماً تنعتني بهذه الصفات فجعلت أحفادها الآخرين يظنون بي ذلك فعلاً ، و لو كنت حقاً قاسية تهوى التجريح لما حاربت تلك الشخصية بداخلي ، لكن جدتي كانت ترى ذلك بوضوح و علمت أني لست بغيورة ولا حاسدة فأرادت أن تزرعه بي زرعاً ، فأذكر مرة قالت موجهة الكلام لي و أخي : ميسون تغار من جلول ــ و هو أخي الكبير – حينها شهقت شهقة عالية من شدة هول الموقف فأنا لم أتوقع ذلك قالتها لي فجأة و بدون مقدمات كانت تنظر لنا و نحن نتفرج التلفاز في هدوء ثم قالتها و رددت عليها : لا ، لا أغار منه ، أنه أخي و أنا أحبه و ضحكت ، وقتها كنت بعمر التسع سنوات الجميع أنتبه لقولها و لم يكن لها عذر لكن لم يستفسر منها أحد كونها كبيرة في السن و هي تعرف ذلك فتستغل وضعها استغلالًا،, هي كذلك لكن بفضل الله كسرت القوقعة و خرجت عن اطار الصورة و كذلك بكر أبي و بكر خالي و أبنة خالتي نحن الأربعة كسرنا الشخصية المصطنعة لنخرج شخصياتنا الحقيقية ، بالنسبة لي ساعدتني الأنترنت كثيراً في ذلك فقد أجريت فحوصات نفسية لكشف الشخصية ، و كانت للفحوصات نتائج لم أتوقعها ، و شكراً لأصدقائي و البنات منهم خاصة على صفحات التواصل فمعهم تعرفت نفسي أكثر ، فشكراً جزيلاً لهم .

و كما ذكرت لكم هناك آخرين غيرنا لم يكسروا القوقعة و لم يخرقوا الدائرة أو يخرجوا عن اطار الصورة.

أبن خالي الثاني كانت صورته : الهزيل ، المريض العصبي ، الضعيف اجتماعياً و جسدياً ، هو حقاً نحيف قليلاً لكنه شاب ككل الشباب ليس بهزيل ولا مريض عصبي و لا ضعيف ، لكنه للأسف يصدق صوت الصدى الصادر من جدتي أغلب الشيء ” عافاكم الله ” .

أبنة خالي الكبرى كانت صورتها ، الغبية ، المرتعشة ، محتقرة ولا تعرف عمل أي شيء ، هي حقاً ينقصها تركيز و لا تتقن ما تعمله لكن جدتي تضخم الصورة حتى يخيل للإنسان أنه كالأنعام بل أضل .

و أبنة خالي الثانية كانت صورتها ، المجنونة ، صغيرة العقل ، تظل تقول عنها هذا على مسمع منها و تقول لها أنكِ إن تزوجتي ستتطلقين من ليلة زفافك مباشرة بعد أن يسمع العريس صوتك سيطلقك أصلاً لن يقبلك أحد ، و و و و ، هي كأختها لا تركز جيداً و غالباً لا تتحاور بأدب مع من يحاورها لكنها ليست بمجنونة و لا صغيرة عقل بل ذلك طبعها ثم قدرات جدتي و محاولاتها في تدمير و تحزين بني آدم فتنزل عليك تهدم نفسيتك حتى ينهد عزمك و مثلما لا بيت بلا سقف فلا حياة بلا عزم ، أبنة خالي هي الأخرى تعتقد إنها مجنونة حقاً و صغيرة عقل و دائماً تتهرب من مجالسة الناس و الكلام معهم .

هؤلاء هم الشباب منا أما الصغار فهذا الطريق لا زال أمامهم ممتداً و كم أرجو و أن ينقطع فلا يذوقوا ما ذقنا ، إني أحاول اعتراض الصفات التي تطلقها على إخوتي و لن اسمح لها ، لا أعرف حقاً السبب وراء هذه التصرفات ، و ها قد رسمت لكل منا شخصية منفردة و جمعت بيننا في شيء واحد ألا و هو أننا جميعاً مرضى نفسيين و عصبيين .

و لم تحب جدتي منا أحداً و لم تحب أبناء أخوالي إلا حباً لنفسها أو لما كانت لتفعل بهم ما فعلت إلا إذا كانت طريقتها في المحبة مختلفة كذلك ، لكن كان هناك شخص من أحفادها فضلته علينا جميعاً ، طفل في العاشرة من عمره و الله لو ما خفت الرب أن أقسم على ما لست بمتأكدة منه لأقسمت أنه شيطان مريد في جلد بني آدم ، خبيث ، و لله لو أعدت هذه الكلمة بملء صفحة لا تكفي يضل يسب أمي و خالتي و أخوالي و يخرج للشارع إذا عنفته خالتي بسبب شيء هو من فعله و يبدأ يتلفظ بالألفاظ البذيئة موجهاً الكلام لنا جميعاً بما فينا هي و يذكر اسمها أيضاً ، و حين يقترب موعد عودة جدي للبيت يبدأ يبكي بلا سبب دموع التماسيح حتى يراه جدي فيسأله ليقول هو أنهم طردوه فيتشاجر جدي مع بناته و زوجته – جدتي – – و ماذا عن التمثيل أو مثلما يقولون ” يقتل القتيل و يسير في جنازته ” , و ينفذ خططه الجهنمية من تحت لتحت ، لكنه يعجبها مع علمها بكل هذا عنه و كانت صورته من بيننا جميعا ، الوديع ، الهادئ ، طيب النفس ، قارورة المسك .

و هكذا تتلاشى صورة الحمل الذي يلعب مع الأسد في حقل واحد لينقض عليه الأسد في النهاية لتحل مكانها صورة الطفل الصغير الذي يلعب مع جدته قرب الموقد لتثب عليه وثب القسورة .

 

تاريخ النشر : 2018-12-25

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى