القرية (The Village)
ما قصة هذه البلدة الغامضة ؟ .. |
حريٌّ بنا أن لا نتوقع الكثير في هذه القرية الهادئة الوادعة النائية التي تحيط بها الغابات من كل الجهات ، لكن لا يلبث مخرج الفيلم ( إم نايت شالامان ) حتى يضعنا في إطار تشويقي منذ الدقائق الأولى ، و لك عزيزي القارئ أن تستمتع بالترقب في كل لحظة عند متابعتك للفيلم و ما يضفيه هذا النوع من أفلام الرعب النفسي.
يرتدون اللون الأصفر و يدهنون به حدود القرية ليحميهم من هجوم كائنات الغاب .. |
يبدأ الفيلم بدفن أحد أعضاء القرية ، و يتضح حينها الزمن الذي يعيشه أولئك البسطاء و هو عام 1897 ، ثم يجتمعون لتناول وليمة يقوم أثناءها أحد أعضاء مجلس الشيوخ في القرية بإلقاء خطبة لها أبعاد نفسية تستهدفك قارئي العزيز ، و ما نشر السحر حقا على هذه الأجواء موسيقى الفيلم المتقنة و التي كانت لافته جدا فقدت أعطت إيقاعا رائعا لأحداثه.
(من لا نتحدث عنهم) هكذا يسمي أهل القرية تلك المخلوقات التي باتت تقض مضجعهم ، و تجعلهم في رعب دائم خصوصا بنشرهم التحذيرات و هي عبارة عن حيوانات منزوعة الفرو ؛ لتنبيههم بعدم نقض المعاهدة التي تنص على عدم تجاوزهم حدود القرية إلى الغابة المحيطة التي تسكن بها تلك الكائنات المخيفة و التي هي أشبه بالحيوانات من البشر ، يمتازون بالأردية الحمراء و ينجذبون إلى اللون الأحمر الذي تخلى عنه أهل القرية و ارتدوا اللون الأصفر و أحاطوا به حدود قريتهم للحماية ، كما بنو أبراجا للمراقبة لتحذيرهم في حال الهجوم المفاجئ من تلك المخلوقات البدائية.
إلى اليمين لوشيوس يخرق العهد و يدخل الغاب .. إلى اليسار العلامة التي وضعتها المخلوقات تحذيرا لهم .. |
يستمر الغموض الذي يتقصده الكاتب في أنحاء مختلفة من الفيلم ، و تبقى الأحداث على وتيرة هادئة حتى يطلب لوشيس (خواكين فينيكس) الشاب الهادئ ، النقي ، البعيد عن مجون الشباب و ترهاتهم من مجلس الشيوخ ، و الذي يترأسه إدوارد ووكر( وليام هورت) ، بوجود أم الشاب الأرملة فهي أحد أعضاء ذلك المجلس و التي تفاجئ به يطلب بشجاعة أن يتجاوز حدود القرية لإحدى القرى المجاورة ليجلب المؤونة التي يحتاجها أهل القرية بشدة و المتمثلة بالأدوية الضرورية معطيا مثالا على نوح (أدريان برودي) و هو شاب مصاب بإعاقة عقلية ، فقد تجاوز الحدود أكثر من مرة و لم تعاقبه المخلوقات ؛ لإحساسهم ببراءته و نقائه ، يٌقابَل لوشيس بالرفض مرتين ، و رغم ذلك يدفعه فضوله في إحدى المرات يحدوه في ذلك صفاء سريرته ، و شجاعة قلبه ، و صفاء نيته ، بتجاوُز الحدود دون إخبار أحدهم ، و لكن كارثة ألمت بالقرية بعدها ففي ليلة هاجم (من لا نتحدث عنهم) أهل القرية ، فدخلوا عنوة ، و اختبئ أهل القرية في ملاجئ مخصصة للطوارئ في بيوتهم حتى اطمئنوا بذهابهم ، ثم اجتمع مجلس الحكماء بأهل القرية بعد أن وجدوا العلامات الحمراء على كل باب من بيوت القرية ليطلبوا ممن خرق العهد أن يقر بذنبه ، ليعترف لوشيس بذنبه و دموع الندم تنساب من عينيه.
صداقة وثيقة بين آيفي و نوح .. |
في ظل هذه الأحداث تنشأ قصة حب طاهرة بين آيفي (برايس دالاس هوارد ) ابنة ووكر العمياء و بين لوشيس ، فيشعر نوح بالغيرة لعلاقته الوطيدة بآيفي ، و بقدراته العقلية المحدودة يتوجه إلى لوشيس الذي سرق منه صديقته و يطعنه فينفطر قلب العاشقة.
تتقدم آيفي بطلب لأبيها تستأذن منه أن تجلب الأدوية لتنقذه من موت محقق ، في تلك اللحظات الصادقة و الرائعة بين أب و ابنته يعترف لها بحقيقة أشبه بخرافة ، الحزن و الألم و الجشع و الأنانية ، تلك صفات تأذى منها ذلك الأب مما دفعه هو و أعضاء القرية أن يخترعوا قصة المخلوقات ؛ كي يمنعوا أهل القرية من الخروج منها ، هم من ارتدوا تلك الأزياء المروعة ، و هم من قاموا بإصدار تلك الأصوات المخيفة من فينة إلى أخرى ، و هم من قتلوا تلك الحيوانات المسكينة و سلخوا جلدها ؛ لينشرو الرعب في قلوب أهل القرية و فعلا هذا ما نجحوا فيه.
إلى اليمين حب متأجج بين لوشيس و آيفي .. إلى اليسار يتوجه نوح للوشيس عندما يعلم بحبهما لقتله .. |
في هذا الحوار الرائع يبرر الأب فعلته معتذرا لابنته الضريرة وخجلا قائلا : ( لم نرد لأحد أن يتوجه إلى القرى ، لا يوجد أحد في هذه القرية لم يشعر بمرارة فقد عزيز لا يُستبدل حتى سألوا أنفسهم هل يستحقون العيش حقا بعدهم ! إنها ظلمة تمنيت أن لا تعرفيها أبدا ، أعذري أكاذيبنا السخيفة ، فلم يقصدوا الأذية ) ، ولكن أكان يبرر لنفسه فعلته أم يبرر لابنته شنيع صنعته و أصدقاءه ؟! يقطع هذه الاكتشافات الفظيعة الرد المبهم لآيفي : ( أنا حزينة لأجلك أبي ، حزينة لأجل الشيوخ ) ، أهي فعلا حزينة لأجلهم أم حزينة لأجل ما اقترفوه ؟ ندع الإجابة لخيالك عزيزي القارئ.
ووكر يعترف لأبنته بالحقيقة .. |
يلوم الشيوخ اتخاذ ووكر قرارا كهذا دون الرجوع إليهم فقد قطعوا عهدا بأن لا يرجعوا أبدا إلى القرى فكيف له بأن يحنث بهذا العهد ، و لإرساله فتاة عمياء لهذه المهمة كان الوقع الأكبر من اللوم ، تتكشف لنا الحقائق رويدا رويدا فكل من الشيوخ له قصة مؤلمة قاساها من ظلم البشر ، فالأرملة قتل أحدهم زوجها و وجدوا جثته بعد ثلاثة أيام منزوع الثياب و المال ، أحداهن قـُتِلت أختها التي لم تتجاوز الـ 23 عاما من عمرها ، و سُرِقت بالقرب من سكنها ، و رُميت في مكب النفايات ، و ثالث أخوه يعمل في قسم الطوارئ حاول أن يسعف مدمنا نتيجة جروح في أضلاعه ، و أثناء محاولته لتضميدها أخرج الجريح مسدسا من تحت معطفه و أصابه في عينه اليسرى ، إضافة إلى بروفيسور التاريخ ووكر الذي عانى من فقده لأبيه بعد أن قتله شريكه و هو في سريره الوثير ينعم بأحلامه الهادئة ، شرور الإنسان لا تنتهي لذلك جاء اقتراح ووكر حينها بالابتعاد ، و بعد هذا الجهد يبدو أن ما حرصوا على إخفائه سيكشفه حُبٌّ شاب.
في الاعلى نوح مرتديا الزي وفي الاسفل موته بعد سقوطه في الحفرة .. |
تتوجه آيفي إلى الغابة مُتوجة بتوصيات أبيها فأقرب قرية تبعد نصف نهار ، و لكنها تصادف المتاعب هناك عندما يهاجمها أحد تلك المخلوقات الخرافية ، فتجذبه إلى الفخ بفطنتها ، و بصيرتها ، و توقعه في حفرة وقعت فيها مُسبقا ، ويموت ذلك الكائن الذي لا يتعدى أن يكون نوح متخفيا بالزي الذي أخفاه والديه في الغرفة التي حُبس فيها بعد أن وُجـِد مُلطخا بدماء لوشيس ، و الذي كان سيكشف أمر الشيوخ و أكاذيبهم و يحطم حلم مدينتهم الفاضلة.
عندما تصل آيفي المدينة سَنـُذهـَل للحقائق التي تظهر تِباعا ، فالغابة التي تقع عليها القرية ما هي إلا محمية ممنوع الاقتراب منها مدعومة من قبل آل ووكر الأثرياء ، و ما أن تتجاوز آيفي السور بتسلقه سوف نجد نمط حياة مختلف ، حارسُ محميةٍ يركب سيارة حديثة يقودها على شارع أسفلتي يساعد الفتاة المسكينة و المفاجأة تفغرُ فاه ، ترجع آيفي بالأدوية و تخبرهم عن قتلها للكائن ( نوح ) فتفزع أمه ، و يعترف الشيوخ بفضله في استمرار عيشهم في هذه القرية.
طائفة الآميش
الاميش طائفة منعزلة تعيش حياة بسيطة اقرب ما تكون للحياة في القرون الوسطى .. |
أما صلة الفيلم بما هو حقيقي فيعود لما سنعرفه باختصار عن طائفة الآمش التي تتقاطع مع فكرة هذه القرية في عدة نواحٍ ، و لمن يريد الاستزادة (راجع مقالة الأميش للمزيد من المعلومات) .
الآمش طائفة دينية مسيحية نشأت في أوروبا تحديدا في ألمانيا و سويسرا و هاجرت إلى أمريكا بعد الاضطهاد التي تعرضت له ؛ بسبب الأفكار الجديدة التي اتبعها اصحاب الطائفة آن ذاك ، لا يزالون يتحدثون بلغة قريبة من الألمانية ، و تمتاز هذه الطائفة بأنها منعزلة عن العالم الخارجي و لا تؤمن باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة من سيارات ، و هواتف ، و غيرها ، يعيشون ببساطة بعيدا عن البذخ ، يحرصون على المساواة فيما بينهم ، و لا يزالون يطبقون ما كانوا عليه في العصور الوسطى من ثياب ، و بيوت ، و أثاث ، و وسائل نقل كالعربات التي تجرها الأحصنة ، يقتاتون من مزارعهم ، و لا يتعاملون بالمال ، يحافظون على النقاء بالابتعاد عن كل ما له علاقة بالحياة الحديثة و مغرياتها ، ودودون و مسالمون لا يعتدون على أحد و لا يعرف مجتمعهم العنف أو يشهد الجرائم.
إن تأثر الفيلم بحياة الآميش واضحة جلية ، فمجلس الشيوخ في القرية كان له وحده الحق في إصدار القرارات ، كما في حياة الآمش الذين يعتمدون على مجلس مشابه لإصدار القرارات و الفتاوى و على الطائفة إتباعها كما كان أهل القرية يفعلون .
و العالم الافتراضي المنعزل الذي اتبعه أهل القرية ما تتبعه الآن هذه الطائفة ، و ما عزز الفكرة خلق المشاهد في إطار زمني محدد يشابه ما كان في العصور القديمة من مأكل و ملبس و طريقة حياة.
في الفيلم كان هناك حرص على الحفاظ على ” البراءة ” التي فـُقدت نتيجة العالم المادي الذي نعيش فيه ، و نستطيع أن نلاحظ أن عدم اختلاط هؤلاء القرويين بهذا العالم الحديث أنشأ أناسا بسطاء لطيفي المعشر و هذا ما يمتاز به الآمش حاليا.
و ما سيحدث فعلا بعد مشاهدتك للفيلم أن نفسك ستواجهك بعدة أسئلة لن تنفك تطاردك ، ليس فقط حول تَأثـُر محتوى الفيلم بحياة الآميش البعيدة عن المغريات ، بل أيضا حول وقع الخوف في نفوس البشر و ما قد يقودهم لتصديقه فيصبحون كالسذج يتحكم بهم ذاك الخوف ؟ و حول ( البراءة ) التي جسدتها تلك القرية المثالية ولو كان وجود القرية حقيقيا ألن يظهر الجانب المظلم من الإنسان و لو على حين غرة ؟ و مجلس الشيوخ أكان من حقه تزييف الحقائق و إخفائها !! هذا ما طرأ في خاطري ، أترك لك عزيزي القارئ الانطباعات التي تجلت لك عند متابعة هذا الفيلم.
تاريخ النشر 16 / 11 /2014