أدب الرعب والعام

التراب و العقيان

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
للتواصل : [email protected]

التراب و العقيان
الكل ينتحب بينما تسقط حفنات التراب على قبر أمي

 ابتسمت الدنيا فبكت ، ثم عادت كما نعرفها ، فما عاد البلسم شافي ، ولا أريج الحسناء يسكر الأرواح ، ولا شعر إمرأة تغير ملابسها ، يغري الأنظار. إلى هنا أجوس سائراً بين دروب الوحل ، نحو ميعاد لم يكتب له التمام ، فما كان بيدي شيء سوى قدر قادر ، وتبقى الأشواق في الصمت المر ، ويبقى الصمت في التأني و تمرده ، عدواً ، لازجاً ، يكاد يلمس ، ثم يستحيل شفافاً ، أتى على صهوة جواد أغبر ، فختم بشرياتي الكئيبة ، لتبقى عبير الأماسي آتية هاربة ، وتجعل مني عبدا لذكريات ، إنما ومضات ،  ترهات ، ثم ما عاد يذهلني شيء ، فمساء التعاسة يا مدينتي .

***

– ﻫل ﺳﺄﻣﻮﺕ ﻳﺎ ﺃﻣﻲ ؟

– ﻛﻼ ، ﺃﻧﺖ ﺟﺎﺋﻊ ﻓﻘﻂ ، ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﺘﻚ ، ﺇﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺒﻜﻲ ، ﻣﺎ ﺑﻚ ﺃﻧﺖ ؟.

أﻛﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﺤﻨﺔ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺸﺎحبة ، وعظام صدرها المقعر ، ﺃﺳﺄﻝ ﻧﻔﺴﻲ ﻫﻞ ﻣﺎ ﺯﺍﻟﺖ ﺣﻴﺔ ؟.

ﻓﻲ ﺍﻟﻐﺪ ﻣﺎﺗﺖ ، ﻗﺘﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ ، ﺃﻣﻲ ﺗﻨﺘﺤﺐ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ، ﻏﺎﺩﺭﻩ ﺍﻟﺮﻭﺡ ، ﺧﻴﻂ ﻟﻌﺎﺏ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﻓﻤﻬﺎ ، ﺇﺻﻔﺮ ﻭﺟﻬﻬﺎ ، ﻣﺨﻴﻔﺔ ﻫﻲ ، ﻫﻜﺬﺍ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﻮﺗﻰ ﺇﺫﻥ ، ﺃﻣﻲ ﺗﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ، ﺃﻧﺎ ﻻﺋﺬ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻤﺖ ، ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺗﻮﺟﻬﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺒﺮﺓ ، ﺃﻣﻲ ﺗﺤﻤﻞ أﺧﺘﻲ ﺍﻟﻤﻴﺘﺔ ﻭﺧﻠﻔﻬﺎ ﺭﻫﻂ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﻝ ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﺬﻱ دﻓﻦ ﺟﺴﺪ ﺃﺧﺘﻲ ﻷﻣﻲ :

– ﻣﺎ كان ﺳﺒﺐ ﻣﻮﺗﻬﺎ ؟.

– ﺇﻧﻬﺎ ﺍﻟﺤﻤﻰ.

ﻗﻠﺖ ﻓﻲ ﺧﻴﺎﻟﻲ : ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜذﺑﻴﻦ ؟ ﻻ ﻳﺎ ﺷﻴﺦ ، ﻟﻘﺪ ﻗﺎﺗﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ ، ﻗﺘﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ ، ﺇﻧﻪ ﺍﻟﺠﻮﻉ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ !.

ﺳﺄﻟﻨﻲ ﺍﻟﺸﻴﺦ :

– ﻫﻞ ﺗﺤﺐ ﺃﺧﺘﻚ.

– ﻧﻌﻢ ، ﻛﺜﻴﺮﺍً ، غفر الله لها و رحمها.

– لا تقل غفر الله لها  ، بل قل ” تقبلها الله صالحة “

– لماذا ؟.

– عندما تكبر ستعرف ، المهم ﻻ ﺗﺤﺰﻥ ، أختك أصبحت عصفورة تطير في الجنة ، ﺃﻳﻦ ﻭﺍﻟﺪﻙ ؟

– ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﻦ.

– ﻣﺎﺫﺍ ﻓﻌﻞ؟.

– ﻻ ﺃﻋﻠﻢ ، ﺃﻣﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺮﻑ.

ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﺀ ﺻﻔﻌﺖ ﺃﻣﻲ ﻭﺟﻬﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﺐ ﻳﺪﻫﺎ.

– ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻗﻠﺖ لﻟﺸﻴﺦ ﺃﻥ ﻭﺍﻟﺪﻙ ﻣﺴﺠﻮﻥ ؟ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻓﻌﻠﺖ ؟.

– ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ، ﻟﻢ ﺃﻛﺬﺏ.

– ﺃﺳﻜﺖ ، ﺃﺳﻜﺖ ، سألحقك ﺑﺄﺧﺘﻚ.

تلعنني جهاراً ، ألعنها في الخيال ، في اﻷخير نمت بأمعاء فارغة مغردة ، تنادي في آناء الليل عن الطعام ، لماذا الناس يشبعون ونحن لا ؟ سؤالي لا جواب له ، على الأقل عند أمي ، في الأخير أقنعت معدتي أني والشبع لا لقاء بيننا إلى الأبد ، هذا لا ريب فيه.

– استيقظ ، استيقظ.

– ماذا هناك ؟ دعيني أنام.

– أنا سأخرج إلى العمل ، أهتم بأخيك ، إياك وتركه وحيداً قبل عودتي.

– حسناً.

أذهبي بلا عودة ، قلت في نفسي .

واع واع واع ، أخي يبكي ويتقيأ ماء أصفر ، حتى تلطخ وجهه ، و يداه ، يهمهم بكلمات غير مفهومة ، أهكذا يبدأ الصباح عند الناس ؟ في الأغلب كلا ، عندنا فقط.

– لست أمك ، أصمت ، ماذا تريدني أن أفعلك بك ؟ أرضعك ! مثلاً.

– واع واع واع.

– إليك عني يا هذا !.

– واع واع واع.

– ثم ماذا ؟.

– واع واع واع.

حتما يريد الخبز لكي يبلع به بكائه ، آه ، من الخبز حين يصبح حلماً مفقوداً ، نفيساً ، آه من الخبز حين يرعب الفقراء ، كم تمنيت أن أشبع في ليلة واحدة ، وفي الصباح، مرحباً بالطاعون ، وجدت بعض منه يابس قليلاً تركته أمي ملفوفاً في قماش . الصراصير فوقه و تحته ، لن أكل هذا الخبز.

– هاك و أبلع معه لسانك !.

صمت بينما يعض خبز الأمس ، أو قبل الأمس ، أو لا أعرف من أي قمامة أتت به أمي.

خرجت وتركته وحيداً ، خالفت وصية أمي ، فكرت  إنها ستضربني في كل الأحوال ، عدت في المساء ، وجدت أمي تنتظرني لتفرغ مني كل بؤسها ومعاناة يومها ، وهكذا صار جسدي في كل مرة  مقبرة آلامها.

***

كبرت قليلاً و غادرت مدينة أكادير إلى الدار البيضاء ، لدراسة في الأقسام الداخلية ، تركت أمي بصحبة أخي هشام لأتحرر من بؤسهما.

في كازابلانكا تغيرت مع تعاقب السنين ، صرت أعشق القراءة ، قرأت كل كتب العالم ، ثم بدأت في الكتابة ، كنت أقول لنفسي : إني أستطيع أن أكتب أفضل من هذا الذي قرأته ،  حتى تخيلت نفسي قلماً أو حرفاً كبيراً ، و هكذا أكتب خواطر مبتورة ، نصوص مشوهة ،  قصص لا نهاية لها ،  في الثانوية تعرفت على سارة ، أجمل جميلات مدرستي و كانت من نصيبي ، ما أثار بغض أصدقائي ، كنت أقول لها : إني سأجعلك يوماً ما بطلة روايتي ،  لكني سأقتلك في النهاية ؛ لأني لا أحبذ النهايات السعيدة ، كانت تقول لي : يعجبني فيك كل شيء يا عمر ، لكن أكثر ما يعجبني فيك هي نظاراتك.

سارة غيرت رؤيتي إلى الحياة ، كنت أستمد منها وحي كتاباتي ، أر فيها الماضي المسروق و المستقبل الموعود .

في أحد الأيام زارنا في الثانوية الكاتب ” عبد العالي العلوي ” أخبرته أن لي محاولات في الكتابة ، في الأخير زرته في منزله ، عرضت عليه بعض كتاباتي ، كنت محظوظاً لأني وجدته أبن مدينتي – أكادير –  ولنا بعض المعارف المشتركة ، ما جعلني قريب منه ،  قال لي في أحد المرات عندما عرضت عليه قصص قصيرة :

– لديك تعبير جيد ، إلا أن كتاباتك ملعونة.

– لأنني ملعون مثلها يا أستاذي.

كانت أول نجاحاتي في الكتابة عندما نشر لي « العلوي »  ثلاث قصص قصيرة  بإسمي في كتاب أصدره يحمل مجموعة من القصص القصيرة ، ثم صار عشير الفئران كاتباً ، أبن الجوع أصبح أديباً يدعي أنه مرموق ، يكتب وينشر ، ويستلهم. ها هو أبن الصفيح يبدع و يصف داخل القصور.

***

في كل عطلة أعود إلى مدينة أكادير لأقضيها عند أمي وأخي ، في أحد العطل أخبرتني أمي أن أبي مات في السجن ، لم أحزن عليه كثيراً ، لم أراه سوى في صباي ، حتى أني لا أتذكر ملامحه.

– لماذا لم تخبرني سابقاً بموته ؟.

– لأنه لا يهمك أمره.

– لأخر مرة أسألك ، ما كان سبب سجنه ؟.

– هذا لن يفيدك في شيء يا عمر.

بسبب استمرار تعنت أمي عن كشف سبب سجن والدي ، عدت إلى الدار البيضاء ولم أنهي عطلتي في أكادير ، نسيت مشاكل أسرتي داخل الحانات ، اندمجت مع ليل كازابلانكا المجنون ، إنها مدينة المجانين والعقلاء ، مدينة الليليون والنهاريون ، وحش أبيض يتوسط المغرب ، يبتلع كل عابر سبيل ، أشرب إلى جنون الثمالة حتى انتهت العطلة ، دخلت إلى الجامعة ، لم أرى سارة منذ بداية العطلة ، لم تأتي إلى الجامعة ، سألت عنها صديقتها المقربة :

– ماتت بسكتة قلبية !.

– ماذا ؟!.

– كما سمعت يا عمر.

فقدت سارة ودخلت نفق الاكتئاب ، كرهت كل شيء يذكرني بها ، لم أعد أقرأ ولا أكتب ؛ حتى الأقلام والأوراق تذكرني بمحبوبتي ، طال انعزالي حتى لقائي مع الكاتب عبد العالي العلوي.

– ما هذا الغياب يا عمر ؟ أين جديدك الذي وعدت به ؟ أنا سأنشر كتاباً جديداً يحمل قصصاً قصيرة ، إذا كانت عندك قصص قصيرة جيدة سأنشرها لك.

– لقد فقدت لذة الكتابة يا أستاذي، لقد مات إلهامي

– كيف ؟.

– ماتت سارة.

شعر بالآسف علي ،  وضع يداه على كتفي وقال :

– اﻵن ستكتب أفضل من أي وقت.

– لا أظن ذلك.

– جرب فحسب ، صدقني يا عمر.

فكرت في كلامه ، تذكرت حينما قلت ﻟسارة : سأجعلك بطلة روايتي و في النهاية ستموتين . قررت أن أكتب قصة طويلة بطلتها سارة .

تذكرت حينما قالت : ” أحب فيك كل شيء يا عمر، لكن أكثر ما يعجبني فيك ، هي نظاراتك “

” نصف أعمى ”  اخترت هذا العنوان لقصتي الطويلة ، قبل الشروع في الكتابة زرت قبرة سارة ، وضعت نظاراتي على قبرها وعدت أدراجي نصف أعمى .

**

** نصف أعمى **

السماء فوقي ورقة ناصعة تدعوني لمعاشرتها ، وأشجار الدنيا صارت أقلاماً ، البحر مداداً ؛ سبيلاً منهم إلى كل أشجاني ، والجمرات غلالة قد بعثرت الرياح رمادها ، وعادت أسرة متوهجة ، لقد سحق النور أو بصيص ضياء ، حلم ينبثق و يفنى كصبي ولد ومات في ساعته ،  ابتسمت الدنيا فبكت ، ثم عادت كما  نعرفها ، فما عاد البلسم شافي ، و لا أريج الحسناء يسكر الأرواح ، ولا شعر إمرأة تغير ملابسها ، يغري الأنظار ، إلى هنا أجوس سائراً بين دروب الوحل نحوى معاد لم يكتب له التمام ، فما كان بيدي شيء سوى قدر قادر ، وتبقى الأشواق في الصمت المر ، ويبقى الصمت في التأني و تمرده ، عدواً ، لازجاً يكاد يلمس ، ثم يستحيل شفافاً ، أتى على صهوة جواد أغبر ، فختم بشرياتي الكئيبة ، لتبقى عبير الأماسي آتية هاربة ، وتجعل مني عبداً لذكريات ، إنما ، ومضات ، ترهات ،  ثم ما عاد يذهلني شيء ، فـمساء التعاسة يا مدينتي .

يا سارة ، حان وقت الإعتراف ولو جاء متأخرا.. لم أكن يوما كما تظنين..

بيني وبينك ما يفرق الأرض وأقصى الزرقة في السموات .

فهل يتساوى التراب مع العقيان ؟ أبدا لا .

فوراء تلك النظارات التي عشقتها في وجهي ؛ طفل كان يبحث عن فتات الخبز وسط رهط من الكلاب.

وراء تلك النظارات؛ طفل ماتت شقيقته شهيدة الخبز أمام عيناه، فهل يحق لي أن أكتب يوما عن الأزهار.

وراء تلك النظارات ؛ طفل بائس سلخ منه القدر أزهى العمر ، وكاد رأسه في عز الشباب ينفجر شيبا وقهرا.

إن الألم عندي كف بأن يكون هو الألم ، ثم ما عاد له نقيض.

***

كان هذا هو النص الأول والنص الأخير من قصتي الطويلة « نصف أعمى »

، تفرغت كلياً للكتابة – بعد الجامعة – وفي بعض الأحيان أجلس قرب قبر سارة بينما أواصل الكتابة حتى انتهيت من القصة ، كانت قصة طويلة متسلسلة أقرب إلى رواية قصيرة ، عرضتها على الكاتب « العلوي »  فأُعجب بها وقال بأنه لم يقرأ لكاتب في بداياته بهذا المستوى ، قال أيضاً بأنه سينشرها في كتابه القادم بإسمي كما فعل سابقاً ، وهكذا تركت له نسخة من القصة ،

مر الوقت ولم ينشر شيئاً ،  في كل مرة أستفسره عن التأخر ؟ كان يتحجج بأن لديه مشاكل مع دار النشر ، و ذات يوم وأنا أتجول في إحدى المكتبات المرموقة في المدينة ، ظهر لي كتاب يحمل اسم  ” رواية نصف أعمى ” وكان لـ عبد العالي العلوي ، اشتريت الرواية و بينما أقرأها فغر فمي ! غير مصدق ماذا أقرأه لتو ، إنها قصتي الطويلة  تحولت إلى رواية باسم غيري ، و لم يكن سوى أعز الناس إلي ، من أعتبره أستاذي و في حضوره أستحي ، لقد سرق مني عملي وتمادى في فعلته بالاحتفاظ بنفس العنوان !

توجهت غاضباً إلى منزله حاملاً معي العمل المسروق .

– هل يمكن أن تفسر لي ماذا قرأت هنا ؟.

– لا تغضب يا عمر ؛ فقط أعجبتني قصتك وجعلت منها رواية ، وأعدك أني سأعوض عليك ، لا تنس ، أنا كاتب مشهور.

– لكنك سرقتني أيها الكاتب المشهور !.

– أنا لم أسرق منك شيئاً ، ربما نسيت فضلي عليك ، أنا من أخذ بيدك حتى نشرت لك أعمالك الأدبية ولم أطلب منك أي مقابل ، الأن أعتبر نفسك غير مديناً لي.

– لا شيء يبرر السرقة أيها الأديب.

– أسمع.

– لن أسمع منك شيئاً.

انتهى كل شيء ؛ تكسرت الأقلام وتكمشت الأرواق ، لم أعد أهتم لأي كتابة ولا قراءة ، اللعنة على الأدب ! حاول « العلوي » التواصل معي لكني رفضت ، إني أمقت الخيانة ولا أغفرها مهما كان فاعلها .

من الجامعة  إلى حانات الليل ؛ هناك عند حضرة الليليون ، إلى هنا سأطعمك لتراب يا بؤسي ؛ و ألهم الحلم المكسور ، وأجعل من المحال حقيقة ناظرة ، الليل كسوتنا، العتمة ملاذنا ، لكن؟ من بعدك يا ليلى يستحق أن نبث له الهوى ؟ وعند جنون سكري ، أسأل عنك ، فأخبرني كيف السبيل لنسيان؟ حتى صرخت بقوة وسط الخمارة ، سمعت إحداهن تقول : مسكين ، جننته الكتب.

ذات يوم نحس بغيض ، عند مباهج الصباح ، وصلتني رسالة من أخي هشام ، بينما أنا عائد إلى الحي الجامعي بعد ليل مديد .

فتحت الرسالة : أخي عمر كيف أحوالك ، أخبرك أن أمي ماتت !.

تلعنني جهراً ، ألعنها في الخيال ، أمي ، أمي ، أرجوك ،  أسكت ! أسكت ! .

– أخبرك أن أمي ماتت ! .

ولدي ، ولدي عمر ، لن تموت يا أبني ، أنا معك ، انظر إلي ، إنها أمك

– أخبرك أن أمي ماتت !.

– أنت لست أبني ولو خرجت من أحشائي ! يا حسرتي وندمي على أختك ؛ لماذا لم ترحل في مكانها ؟

– وأنت أيضاً لست أمي ، اللعنة على اليوم الذي لفظني فيه رحمك ، اللعنة على نطفة أبي !.

– أخبرك أن أمي ماتت !.

عمر أبني الصغير ، ستكبر يوماً وتصير رجلاً وتنتهي مأساتنا ، نعم ستنتهي ، كل شيء إلى الزوال يا عيوني ، هيا فلتأكل الآن وغذاً أعدك بقطعة لحم ، هيا أفتح فمك.

– أخبرك أن أمي ماتت !.

لقد ماتت أمي ، وتبلبلت الكلمات ، لقد مات الأحياء الأموات ، فلا داعي للعزاء و ذرف الدمع على الفقيد ، أمي التي أحبها بقدر الذي أتوهم فيه أني أكرهها ، هي الأن راحلة إلى الخلود ، لا يعرف شعور فقدان الأم سوى فاقديها ، أبداً لا ، فهل لي أن أستحضر الوحي اللغوي وأقدسه ، وأجاري عباقرة الوصف و نحث آلام الفراق بالكلمات ، أو لربما يعجزني جمال التعبير ، ويكون في بؤسه ملاذ .

لطالما قلت أنا لنفسي وحدي ، و بعدي فلتغرب الشمس ولا يقدر لها الطلوع ، إن  دنياي أنا ، و أنا الحياة في هذه الحياة ، واليوم الذي أموت فيه ، انتهت الحياة ، كنت كذاباً متكبراً أنانيا عن عزة نفس واهية .

***

بين مدينتي الدار البيضاء و أكادير ، ثمان ساعات في الطريق ، قضيتها أنظر من نافذة  حافلة – الركاب – أتأمل الوجود الذي فقد أمي ، أرى سرب الطيور محلقاً في عنان السماء ، كأنها الحرية لو تجلت في مشهداً ، أفكر لو كنت طائراً أعانق السحاب تاركاً البشر يتناحرون فيما بينهم ، آه لو كنت غير الإنسان ، لما وجدت نفسي الأن يائساً في هذا القصدير السائر ، ظهر لي رجل فوق دراجة بائسة يدوس بعناء ، فكرت : إني ذاك الرجل ، وتلك الدراجة ما هي إلى  حياتي ، وأنا أدوس بعناء نحوى اللامكان باحثاً عن العقيان من على قمم التراب ، صعب أن يفقد الإنسان الأمل على يمين الأصفار ، أو يتوهم ذلك في لحظة ظلماء ، إن الحياة عندي مثل حسناء فيحاء عارية السيقان ، مرت جنب فقير حقير ، لينظر إليها واهماً مشتهياً حتى سكرت روحه واختفت عن أنظاره ، ثم أعاد برأسه إلى الأسفل ، وفي الأخير يكتف بذاك الجسد الأخاذ ، عدماً في الخيال ، ولولا الخيال لانفجر .

– كيف ماتت يا أخي ؟.

باكيا :

– كانت طريحة الوساد طيلة أسبوع ، وكان أخر كلامها عنك يا عمر.

الكل ينتحب بينما تسقط حفنات التراب على قبر أمي ، إلا أنا ! خالي يواسي الجميع ويغالب دموعه ، يبدو أن الجميع يتسأل لماذا لا يبكي أبن الفقيدة البكر ؟ ببساطة ، قد سقطت كل دموعي في صباي.

نفس الشيخ الذي دفن أختي ، هو الذي يتكلف بمراسم دفن أمي ، لكنه تغير كثيراً ؛ أصبح عجوزاً يلهث ويسعل ، لقد أزمن ، صار يجتر شيخوخته بين المقابر ، في صباي كرهته لأنه دفن أختي .

– هل أنت عمر ؟.

– نعم يا شيخ ، وهذا أخي هشام.

– لقد تغيرت كثيراً يا عمر.

قلت له في خيالي : لا يغرنك مظهري هذا أيها الشيخ ، ولا هذه النظارات التي توحي بالعلم . فما زل عمر أسير الماضي ، وعبير الأماسي ترفض أن تطلق سراحي .

تذكرت كلام الشيخ بعد دفن أختي : لا تقل غفر الله لها !  بل قل تقبلها الله صالحة ، عندما تكبر ستعرف ، لا تحزن ، أختك أصبحت عصفورة تطير في الجنة ، فكرت : لو مت في صباي لكنت الأن أحلق في الجنة بصحبة أختي .

رحل الجميع ، بقيت أنا وأخي هشام ، الذي تغالبه الدموع :

– لا ﺗﺒكي يا أخي على جسد أمي ، فقد ووري تحت الثرى ، وأصبحت كأنها لم تكن ، هي الآن مع أبي عند ربهم يتخاصمون ، أختي صارت عصفورة تحلق في الجنة ، أنا وأنت سنختار ماذا سنكون ؟ .

كفاك بكاء ، أعدك أني سأغير  واقعنا ، والذي يعظم علي منه ، سأغيره بالأقلام كفاية على الأوراق ، وإن كان ثمن ذلك عندنا يكون مرعباً .  لكن لا تخف على أخاك ، فلا شيء يرعب أبن فتات الخبز مثلي ، فلا تراب هنا ولا العقيان ، أنا؟ كيف أنتهي و ليس كيف أبدأ ؟.

– سواء فهمت أو لم تفهم ؛ هيا فلنرحل من هنا .

 

النهاية …..

 

 

تاريخ النشر : 2019-01-01

guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى