أرواح لم تعرف الإجابة
يحدقون في الفراغ ، تلامست أرواحهم و تناسوا وجود غيرهم |
– 1
تأبی الأقدار أن تسير علی خط ثابت دوماً ، لا يمكن تتوقع الخطوة التالية للأيام ، تفعل وتفعل و تفعل ثم في لحظة ينتهي كل شيء ، كل شيء عشت أيامك من أجله يذهب ، لكن هو السؤال ما الذي عشت أيامك من أجله ؟ .
المعشوقة زوجتك ، إبنك ، أم والدتك ، العائلة ، أم لحظات السعادة ؟ .
ما الذي أبحث عنه ؟ وهم ، أنا لست متزوجاً ، لا أطفال وأملك أماً ميتة ، لا إخوة ولا عائلة، ولحظات السعادة غير موجودة أيضاً.
كل هذا ثم أتذكر أنني أطرق باب الأربعين بحماسة مبالغ فيها.
"نعيش من أجل الحرية يا رجل الحب" ، نعم ، ها أنا أتذكر ، أعيش من أجل الحب ، تلك الرسالة ذكرتني بالأمر ، لا زالت تتذكرني بعد كل هذه السنوات هذا يثير هرمونات السعادة بي ، لو كانت لا تزال موجودة أصلاً ، لقد رحلت مع رحيل ضوئي في الحياة ، رحلت مع رحيل فتاة الحب.
فتاة الحب أرسلت لي رسالة ، كم أنا سعيد !
صحيح أن الرسالة كانت قصيرة للغاية ، وصحيح أن أصابعي تجمدت وأنا أحاول فضها من الظرف في صقيع ديسمبر البائس ولكن ، ولكن كل شيء منها يستحق.
صحيح إنها قصيرة للغاية ولكن كل شيء منها رائع.
صحيح أنه يجب علي الآن أن أقضي ساعتين في محاولة تدفئة يدي ولكن ، اللعنة علی أرض الضباب.
الحرية ها ؟هذا يعيد لي الذكريات حينما كنا اثنين ولم يكن هناك آخرون ، حب نقي صافي ، أهذا ما كان عليه الأمر؟ لا أذكر أن الأمور كانت أعقد بكثير ، فتاة الحب كانت لديها مشاكل ، أنا أيضاً حملت بعض المشاكل ، لكن علی الأقل أحببنا بعضنا البعض.
حباً – وأذكر جيداً- كان جامحاً.
في أوقات مثل هذه كان علی المرء أن يستمع لكل أغاني الحب التي كانت تصدر آنذاك ، الجولات الصباحية والمسائية ، نشاهد ذاك الفيلم الجديد للبطل الوسيم ، نرقص سوياً علی أنغام أي موسيقى تقابلنا ، كذا كنا ، كذا كان الأمر بيننا ، حب طبيعي ، ثم افترقنا.
آخر ما أريده الآن هو التذكر ، لكن الرسالة و رائحتها ، نفس الرائحة ، فتاة الحب من النوع الذي لا يغير عاداته ، تستخدم نفس العطر منذ عرفتها ، لن أسأل نفسي لماذا لا يسعني سوی التذكر، ما أن أشم الرائحة حتى يبدأ كل شيء في التدفق.
– 2
ظلام ، لا استطيع أن أری يدي ، لماذا لا أستطيع أن أری يدي ؟ .
– هل استيقظت ؟ .
– من أين يأتي الصوت ؟.
– لا تخف ، أنا الطبيب.
– أي طبيب ؟.
– طبيبك.
– لماذا لا استطيع أن أراك ؟ .
– لأنك تفقد البصر.
– هاه ؟ .
– والذاكرة أيضاً.
– الذاكرة ، من أنا؟
– عقلك ليس سليماً.
– ماذا حدث؟
– لا أحد يعرف ، استيقظتَ ذات صباح و لم تعرف نفسك.
– فقدت بصري وذاكرتي في يوم واحد .
– لا ، فقدت ذاكرتك أولاً ، ثم بعدها بصرك ، و قريباً سمعك ، و ربما ستفقد الإحساس بما هو حولك أيضاً ، الشعور بالألم وغيره ، ستصبح أفكاراً بلا جسد ، وحيد في فضاء أسود لا تسمع ولا ترى ولا تشعر.
– و لماذا تخبرني بكل هذا ؟ .
– لا أعرف ، لكن بما أنك ستنسی غداً فلن يضر الأمر كثيراً ، أعتقد.
– كم مضی من الوقت وأنا علی هذا الحال ؟.
– طبيبك السابق كان يقول خمسة عشر عاماً ، وأنا قضيت معك ثمانية.
– ماذا تقول ؟.
– أقول ثلاثة وعشرون عاماً يا سيدي.
ظلام ، لا أستطيع أن أری يدي ، لماذا لا أستطيع أن أری يدي ؟.
– 3
لم يعرف أحد أي شيء ، لم يعرف أحد أي شيء إطلاقاً ، لم يعرفوا لماذا لا يتكلم جاك الصبي ، لم يعرفوا لماذا لا يغضب أو يبكي أو يضحك ؟ لم يعرفوا من أباه و من أمه ، فقط عرفوا أنه لا يتحدث إلا نادراً جداً ، فقط حينما يتحتم عليه أن يفعل.
جاك الصامت ، هكذا سماه أصدقائه في المدرسة ، ولو كانوا أكثر لؤماً لسموه جاك عديم المشاعر.
هكذا بدأ الأمر ، الفتى الجديد جاك لا يتحدث ، جاك لا يتفاعل ، في الأيام التالية ، جاك يختفي كثيراً ، أكثر مما يمكن التغاضي عنه ، و بعد البحث يأتي الاكتشاف ، إن جاك يذهب لمنزل العجوز ويجلس هناك بالساعات ، أين والداه ؟ لا أحد يعرف ، لم يظهرا قط ، أغلب الظن أنهما لو ظهرا فلن يتحدثا أيضاً ، لأنه من شبه المؤكد أن جاك لم يولد صامتاً ، ثمة من زرع أشياء مخيفة بداخله ، أشياء جعلته ميتاً ،علی الأقل ظاهرياً .
ماذا يفعل جاك في منزل العجوز؟ لا أحد يعرف أيضاً ، الخلاصة ،جاك لغز و سيبقى كذلك.
– 4
أين رحلا ؟ .
أين هما ؟.
أسئلة كانت تنهال صارخة علی عقل ماركو الحانوتي ، وإن كان واقع الأمر هو أنه لم يتقبل الواقع بعد ، الرجل الذي رأی مئات الجثث تدخل قبورها وتسكن مثواها الأخير لم يتقبل حقيقة أن زوجته وابنته الوحيدة قد ماتا احتراقاً أو اختناقاً من دخان الحريق ، أيهما يؤلم أكثر؟.
لم يسأل عن السبب ، لم يسأل عن الكيفية ، فقط كان يسأل عنهما ، يقولون له : احترقا ، يسأل : أين هما ؟ .
يقولون : ماتا ، يسأل : أين ذهبا ؟.
يقولون : ذهبا إلی السماء ، يسأل : كيف يمكنني الذهاب إلی السماء؟.
أما عن تلك اللحظة التي دخلا فيها قبرهما فماركو لم يكن حاضراً ، كان لا يزال هناك في المنزل يبحث تحت السرير المحترق عن أبنته ظاناً أنها تختبئ هناك كعادتها كلما أتی متأخراً من عمله. تختبئ كي تفاجئه بالطبع ، ينظر ماركو تحت السرير بابتسامة استعداداً كي يتفاجأ بوجودها لكن يُفاجئ بعدم وجودها.
هكذا صار ماركو ، يبحث عنهما طوال الوقت ، حتی أتی اليوم الذي اقتنع فيه أخيراً بانهما رحلا ، هذه المرة لم يسأل أين ذهبا ، هذه المرة جلس يحدق في الفراغ بصمت ، لا يشعر حتی بتلك الدمعة التي تنساب من عينيه.
– 5
لا اعرف الكثير عن الحياة ، لم أری شيئاً ولم أشهد علی ما يقولونه ، بأنها قاسية و لا ترحم و كل هذه الثرثرة ، ربما لأنني وُلدت ثرية ، أو ربما لأنني حمقاء.
الأكيد هو أن والداي لم يتركا لي طلباً إلا و نفذاه ، ولنقل أن هذا قتل مشاعري نوعاً ما ، مرت علي فترة حيث كنت أجلس كل يوم قبالة نافذتي ومعي هاتفي الذكي ، نقرة هنا ونظرة هناك واليوم يمر بسرعة ، ثم كان هناك ذلك الولد الصغير، يمشي بشعره البني ولا يتلفت لأي اتجاه ، قدرت أنه يكون عائداً من مدرسته بما أنه يحمل حقيبته دوماً و يمر كل يوم في نفس الوقت.
في يومٍ ما قررت أنني سأتبعه ، ما الذي يجعل فتى مثله يمر من شارعنا – شارع الأثرياء – كل يوم ، من هو وأين بيته ؟ ما هو سره وسر هدوءه ؟
أسئلة كانت تتبادر إلی عقلي وأنا أمشي وراءه بهدوء ، في النهاية كان منزل قديم ، يطرق الباب فيفتح رجل عجوز ويدخل الصغير بهدوء ، يبدو أنه جده أو ما شابه .
هكذا الأمر إذن ، يمشي الفتى قُرابة الخمسة كيلومترات كل يوم فقط كي يصل إلی منزله ، من المنزل للمدرسة ، من المدرسة للمنزل.
خطر في بالي أن أوقفه في اليوم التالي و أسأله عن أي شيء يمكن أن يُسأل عنه.
– تبدين مثلنا ، تعالي معي.
هي أول جملة قالها لي عندما تحدثت معه ، سألته:
– من أنتم ؟ .
– تعالي معي.
لم يدم الحوار طويلاً فقط وجدت نفسي أمشي معه ممسكة بيده ، لم أندهش كثيراً حينما وجدته يتوقف أمام ذات المنزل ، طلب مني أن أنتظر علی بعد خطوات من الباب ، ذهب هناك ثم طرق بضعة طرقات ليُفتح الباب ، بضعة كلمات مع الفاتح و وجدته يشير ألي أن آتي لأدخل المنزل ، لم أتردد ، تحركت ببطء نحوه غير عارفة و لم أفكر به ، فقط أردت أن ألبي الدعوة و أدخل ، حان الوقت كي أعرف المزيد عن هذا الصغير.
– 6
رجل أعمى ، رجل حزين ، رجل عاشق ، فتى صامت ، فتاة بلا مشاعر.
كانوا جميعاً يجلسون في منزل ، الصمت يلفهم كالمومياء ، لا يتحدثون ولا ينظرون لبعضهم البعض ، فقط يحدقون في الفراغ ، تلامست أرواحهم و تناسوا وجود غيرهم.
كانوا تائهين.
لا يمكن الجزم بكنه ما يجنونه من الجلوس والتحديق في الفراغ ، لكن من الأكيد أنهم يريدون فعل هذا ، أشعروا بالراحة النفسية ؟ هل وجدوا القطعة الضائعة من لغزهم ؟ هل اكتشفوا آفاقاً جديدة لأنفسهم ؟ لا أحد يعرف.
يقولون أن الأرواح تخاطب بعضها، و في بعض الأحيان تؤثر علی بعضها البعض ، الشخص السعيد يجلب معه الفرحة للمكان الذي يدخله والأشخاص الذين يحدثهم ، التعيس بمجرد مقابلته لك يجعلك تفكر في الأيام الماضية القاسية التي نجوت منها بأعجوبة ، كيف يمكنه فعل هذا بدون أن ينطق بحرف واحد ؟ لا تسأله هو ، سل روحه.
من الوارد جداً أنهم يجدون الألفة فيما بينهم ، جميعهم جرحى والمرء يجد السعادة كل السعادة في الجلوس وسط بنيه ، أولئك الذين مروا بما مر به ، أو علی الأقل الذين يشعرون بنفس الطعم المر الذي يشعر به كلما ازدرد لعابه ، ستجدهم متفهمين جداً لبعضهم البعض ، متفقين في أشياء كثيرة ، لا يهتمون للون أو لشكل ، وكأنهم وجدوا سلامهم الداخلي أخيراً.
من الوارد أيضاً أن تلك اللحظات التي يقضونها هي اللحظات الأخيرة ، اللحظات الأخيرة قبل عملية الانتحار الجماعي التي بالتأكيد ستهز العالم كله ، هل آن الوقت الذي سيعرف فيه العالم قصتهم ؟ ربما قد آن أخيراً.
النهاية ……
تاريخ النشر : 2019-02-08