أدب الرعب والعام

خدعة الحب

بقلم : نوار – سوريا

حفظت تفاصيل وجهها لدرجة أنّي قمت برسمها
حفظت تفاصيل وجهها لدرجة أنّي قمت برسمها

 
كان حسان يطالع في أحد الكتب عندما أطلّت عليه زوجته هدى من النافذة وقالت باستياء :
– الجوُّ رائع في الخارج وأنت تحبس نفسك هنا ! لقد أعددت الشاي والبسكويت ، هيّا نحن بانتظارك .

أغلق حسان الكتاب مستسلماً وخرج ليلتحق بزوجته .

كان ذلك عصر يومٍ ربيعيٍّ نسماته مشبعة بعبق الزهور التي تزيّن حديقة المنزل . اتَّجه حسان نحو إحدى الخمائل حيث جلست في ظلِّها زوجته وابنته لينا ذات الثلاثة عشر ربيعاً . قال بعد أن اتَّخذ مكانه بينهما :
– معكِ حق هدى ، الجو رائع وملهِم
قالت هدى وهي تناوله كوباً من الشاي :
– فصل الربيع من أحبِّ الفصول إلى قلبي ، إنَّه يشعرني بالأمل ويدعوني للتفاؤل
تكلّمت لينا التي كانت شاردة طوال الوقت موجِّهةً الحديث إلى أبيها :
– لقد كنا نتكلَّم أنا وصديقاتي بالمدرسة في فترة الفسحة ، ودار الحديث بيننا عن كيفيّة لقاء والدَي كلٍّ منَّا ، جميعهنَّ أجبنَ سواي ، لقد اكتشفت بأنّي لا أعرف الطريقة التي تقابلتما بها أنت وأمي ، لم يخطر لي هذا السؤال من قبل ، بل لم أفكِّر به ، فقد اعتدت رؤيتكما معاً وهذا كان كافٍ بالنّسبة لي .

قال حسان متنهِّداً :
– أنتِ بسؤالكِ هذا تعيديني خمسة عشر عاماً إلى الوراء . ثمَّ وجّه الكلام لزوجته :
– أتكلّم أنا أم أنتِ ؟
أجابت هدى بعذوبةٍ وقد أشرق وجهُها منبئاً عن استيقاظ ذكرياتٍ جميلةٍ في عقلها :
– بل تكلّم أنت ، أحبُّ سماع القصَّة منك

**

أخذ حسان رشفةً من كوب الشاي ثم بدأ الكلام :
– كنت الابن الوحيد والمدلَّل لوالدَي ، فقد ولدت في عائلةٍ ثريَّةٍ أيُّ شيءٍ أرغب به أحصل عليه ، كنت أهوى الرسم وأنوي احترافه لكنَّني درست إدارة الأعمال نزولاً عند رغبة والدي ، مع ذلك حبِّي للرسم لم يخبو ، وهكذا حوَّلت إحدى غرف المنزل لمرسمٍ خاصٍّ بي ، أقضي فيه الساعاتِ أمارس هوايتي المحبَّبة ، وذلك أزعج أمي التي كانت تريدني أن أساعد والدي في العمل .

دخَلت عليَّ ذات يومٍ وبدأت باسطوانتها المعهودة : إلى متى ستبقى حابساً نفسك في هذه الغرفة مع علب الألوان ؟ لقد مللت وضعك وحياتك الّلاهية ، لم تعد طفلاً ، اذهب إلى والدك في الشركة ، خذ فكرةً عن كيفيَّة تسيير العمل..
لم أعد أحتمل تأنيبها وهجومها فأسرعت بالهرب من أمامها .

خرجت من المنزل وقد أعماني الغضب ، لم أستقل سيارتي بل طفِقت أمشي لا ألوي على شيء ، فقط أردتُّ الابتعاد قدر الإمكان . دخلت حاراتٍ وأزقّةٍ بدون وعيٍ منّي إلى أن تعبت قدماي ، فوقفت ألهث بجانب أحد المنازل ، كان من الواضح أنَّ أهله سيتركونه ، فقد وقفت أمامه سيّارة نقلٍ محمَّلةٍ بالأثاث . تحركت السيارة بعد بضع دقائق من وقوفي ، وعندما ابتعدت قليلاً سقط منها شيءٌ عرفت عندما اقتربت منه أنَّه صندوق . حملته ولوحت به بيدي لألفت نظر من في السيارة لكنَّ السائق انحرف في أحد المنعطفات وغاب عن ناظري . وقفت حائراً والصندوق معي ، طرقت باب المنزل لكنّي لم ألقَ إجابةً فعدتُّ إلى منزلي .

دخلت بهدوء وصعدتُّ إلى غرفتي ، وهناك جلست أتأمّل الصندوق . كان صغيراً ومقفلاً ، لم أقاوم فضولي بفتحه ، فجلبت آلةً حادّةً وبدأت أعبث بالقفل إلى أن سمعت تكّةً خفيفةً أنبأتني عن نجاح محاولاتي . لا أعرف لمَ توترت وأنا على وشك اكتشاف ما بداخله ، لكن ما وجدتّه أزال أيَّ توتّرٍ قد شعرت به . كان الصندوق يحتوي على مجموعةٍ من الصور لفتاةٍ ما . صورةٌ لها وهي تبتسم للعدسة ، وصورةٌ أخرى وهي ترنو إلى شيء ما ، وثالثة وهي تجلس بين الزهور ، ورابعة وخامسة.. أخذت أقلِّب بين صورها وقد انتابني شعورٌ غريبٌ تجاهها . لم يوقظني من تأمّلاتي سوى صوت أمي تناديني فأسرعت بإعادة الصور إلى الصندوق ، أودعته أحد الأدراج وأسرعت بالخروج .

توجّهت في اليوم التالي إلى ذاك المنزل وطرقت بابه علِّي أجد أحداً فيه أعيد له الصندوق لكن للأسف لم يفتح لي أحد . ابتعدت عنه قليلاً ورفعت رأسي أتأمّله ، كانت نوافذه مغلقة ولا أثر للحياة فيه ، فعدتُّ أدراجي خائباً .

منذ أن وجدتُّ الصندوق وحياتي انقلبت رأساً على عَقِب ، فصور تلك الفتاة شغلت تفكيري ، رحت أتأمّلها يوميّاً ، حفظت تفاصيل وجهها لدرجة أنّي قمت برسمها ، ويوماً بعد يوم زاد تعلقي بها حتى اعترفتُ لنفسي أخيراً أنّي واقعٌ بحبِّها . أجل لا تستغربي يا ابنتي ، عشقتُ امرأةً من خلال الصور فقط ، وقرّرت البحث عنها والزواج منها .

عدتُّ إلى الحيِّ الذي يقع فيه منزلها ، وبعد سؤالي للجيران عرفت أنهم غادروا دمشق ليقطنوا في مدينة اللاذقية ، كدّت أفقد الأمل لولا أنَّ أحدهم دلّني على عنوان أقاربهم ، ذهبت إليه قائلاً أنني أحمل لهم أمانةً يجب أن تُسَلَّم باليد . وأخيراً سعيي جاء بنتيجة ، فقد حصلت على عنوانهم الجديد .

ركضت عائداً إلى منزلي ، اجتزتُ السلّم إلى غرفتي قفزاً من الفرح ، ووضَّبتُ حقيبتي تأهّباً للسفر . صادفت في طريقي والدتي التي بدأت بتذمُّرها المعتاد منّي فبادلتها الابتسام هذه المرّة وأخبرتها أنّني ذاهب إلى اللاذقية برحلة عمل . استغربت كلامي ، فمنذ متى لديَّ رحلات عملٍ ! وحاولت الاعتراض مبديةً قلقها علي ، لكنّها استسلمت بالنّهاية و دَعَت لي بالتوفيق .

وصلت اللاذقية في ساعةٍ متأخِّرةٍ من الليل ، قصدتُّ الفندق وتناولت طعامي سريعاً ثمَّ خلدتُّ إلى النّوم ، ليس تعباً فحسب ، بل استعجالاً لقدوم الغد ؛ الغد الذي سألقى فيه حبيبتي .

**

استيقظت باكراً وتوجَّهت بعد بضع أسئلةٍ ألقيتها على المارّة إلى الحي الذي تعيش فيه ضالّتي ، حاملاً الصندوق في حقيبةٍ معي . وقفت هناك حائراً لا أعرف بالضّبط أين تقع شقّتها ، لكنّني لمحت دكّاناً للبقالة سألت صاحبه عن عائلة دمشقيّةٍ جاءت للسُّكْنَى حديثاً هنا ، أجابني بعد أن عدّل تثبيت نظّارته على أنفه وكان من الواضح بأنّه يحفظ في ذهنه سجلّات أهل الحي بالكامل : تقصد عائلة السيد فهمي ، إنهم يقطنون في الدّور الثالث من تلك العمارة (وأشار بيده نحوها) ثم تابع : يبدو أنَّهم أناسٌ محترمون ، لقد.. ، قاطعته شاكراً ، فليس لديَّ وقت لسماع انطباعاته عنهم .

توجَّهت للعمارة المقصودة ، صعدتُّ السلالم بقدمين متوتّرتين ووقفت أمام باب الشقَّة ألتقط أنفاسي ، طرقتُ جرس الباب بعد لحظاتٍ من التوتر فانفرج عن امرأةٍ مسنَّةٍ طالعتني باستغراب مما زاد ارتباكي . قرأت في عينيها سؤالاً مفاده من أنت وماذا تريد ، وقبل أن تترجم نظرتها هذه لكلام منطوق بادرتها قائلاً :
– أنا قادم من دمشق ، وعندي أمانة لكم
اختفت نظرة الاستغراب من عينيها وحلَّت مكانها نظرةٌ سمحةٌ مرحِّبة ، قالت وقد انفرجت شفتها عن ابتسامة : تفضَّل بالدّخول ، ليس من الّلائق أن تبقى واقفاً بالباب .

جلست قبالتها وقد شعرت بأنّي وضعت نفسي بموقفٍ محرجٍ وسخيف . قلت لها : أظنّكم أضعتم من أغراضكم صندوق صورٍ رأيته يسقط من.. ، لم تدعْني أُكمِل كلامي إذ صرخت مناديةً : جميلة تعالي ، صندوق صوركِ قد عاد . اسمها جميلة إذاً ! إنه بالفعل اسمٌ على مسمَّى .. أطلّت من إحدى الغرف تلك الجميلة ، إنها كما هي في الصور لكن تبدو أكبر سنّاً قليلاً . تقدَّمت منّا قائلةً بفرح : حقّاً ؟ لقد سبب لي ضياع هذا الصندوق مشكلةً مع زوجي . ماذا زوجها ؟! هل كنت أسعى وراء امرأةٍ متزوِّجة ! يا لي من غبي . قالت لي المرأة العجوز بعد أن سلّمتها الصندوق : بارك الله في أمثالك ، لا أصدِّق أنّكَ تكبَّدتَّ مشقَّة السفر فقط لتعيد لنا الصور ، قلت بنفسي آهٍ لو تعلمين لمَ أتيت ، ثم أكملتُ بصوتٍ مسموع : لقد وضعت نفسي مكان صاحبته ، وقدَّرت أنّها حزينة لضياعه ، فلم يسمح لي ضميري بتجاهل الأمر .

نهضت معلناً وجوب رحيلي ، وخرجت من عندهما مكلّلٌ بعبارات الشكر والثناء والدعوات الصالحة ، محمَّلٌ بالإحباط واليأس . كنت كمن سُكِبَ عليه دلو ماءٍ باردٍ أطفأ حماسه وجعله يصحو ليرى مدى عبثية ما شغل به تفكيره وجهده طوال الأيام الماضية . معها حق أمي في كلِّ انتقادٍ توجِّهه لي ، فلولا الفراغ الذي عانيت منه ولولا حياتي الّلاهية ما توهّمتُ حبَّ أمرأةٍ غريبةٍ لا أعرِف عنها شيئاً .

صاحت لينا :
– ياه ، کنت أظنُّ بأنَّ أمي هي صاحبة الصور ! كيف التقيتَ بأمي إذاً ؟
مسح حسان على شعر ابنته وقال باسماً :
– لم تنتهِ القصَّة بعد يا ابنتي . ثمَّ أكمل بعد أن قضم من البسكويت :
– بعد هذا المقلب الذي حدث لي وجدت نفسي أسير في شارعٍ وسط حيٍّ لمدينةٍ لا أعرف فيها أحد . لكنّي بعد أن تمالكت نفسي قرّرت استغلال مجيئي هنا ، فقصدت الساحل أمتِّع ناظري بالبحر وأستنشق بعض الهواء النقيِّ الذي سيصفّي ذهني ويجعلْني أعيد ترتيب أمور حياتي .

وصلت هناك والشمس في طريقها للغروب . وبينما كنت أتأمّل منظر الأمواج المتكسّرة على صخور الشاطئ لمحتها هناك . قال كلامه هذا ملقياً بنظرهِ على هدى التي كانت تُنصِت لقصّته بكلِّ جوارحها ، تابع قائلاً :
– كانت جالسةً على الرمال ترقب غروب الشمس والرياح تتلاعب بشعرها الطويل وتحرِّكه في كلِّ اتّجاه . دار بخلدي أنّ المشهد الذي أراه الآن يصلح أن يكون موضوع لوحتي القادمة . وكأنها شعرت بنظراتي إذ التفتت جانباً فرأتني مسمَّر بمكاني أحملق بها بافتتان . اقتربت منها وألقيت التَّحية ، ثمَّ استأذنتها للجلوس بقربها فسمحت . قلت موجّهاً نظري للبحر :
– ها قد بدأت الشمس بسكب دموعها الحمراء لتلوِّن بها مياه البحر .
قالت ضاحكة :
– وصفك للغروب وصف فنان
أجبتها واثقاً :
– صدقتِ ، أنا رسّام ، أصنع من أيِّ شيءٍ أراه لوحة . أنتِ مثلاً ؛ منظرك على الشّاطئ لفت انتباهي وفكرت أن أعيد تشكيله في لوحة .
– أفهم من هذا أنَّك قدمت إلى هنا من أجل استلهام مواضيع للوحاتك .
قلت وعلى شفتي ابتسامةٌ مُرَّة :
– لمجيئي إلى هنا قصّة لو عرفتيها سأكون موضع سخريتك
قالت بفضول مشوبٍ برجاء :
– أودُّ معرفة هذه القصة ، أخبرني بها من فضلك

فكَّرت لبضع ثوانٍ ثم قرّرت أن لا ضير من سرد قصتي عليها . أطلَقَتْ بعد أن انتهيتُ ضحكةً طويلة ، الأمر الذي ضايقني وجعلني أهبُّ واقفاً لأقول :
– كنت أعرف أن قصّتي تدعو للسخرية ، لكن ظننتكِ من اللباقة ستكتمين ردَّة فعلك .
قالت معتذرة :
– آسفة لم أقصد السخرية منك ، لكن مغامرتك بالفعل غريبة ! كيف تلهث خلف امرأةٍ لا تعرف عنها شيئاً ؟ ألم يخطر لك أنَّها ستكون متزوِّجة ، مسنّة أو ربما ميّتة ؟ وحتى لو وجدتها فتاةً عزباء ، من قال لك أنها ستحبك ؟ ثم أنني لا أعتقد أن مشاعرك نحوها كانت مشاعر حب ، بل عقلك أوهمك بذلك

قلتُ بعد أن عاد لي هدوئي وعدت للجلوس بجانبها :
– معكِ حق ، أنا الآن صحوت وأيقنت أنّني كنت أحمقاً ، لكني لست نادماً على المجيء هنا ، فأنا سعيد بلقائكِ والحديث معكِ .
أطرقت برأسها خجلاً وخيّم الصمت علينا ، قطعته قائلاً :
– أعتقد أنّه لم يعد لوجودي هنا أيُّ معنى ، سأعود لدمشق
أسرعت للقول بفزع :
– لا تذهب . ثم استدركت بخجل : أقصد أننا نقيم في شاليه قريبٍ من هنا وأنا أدعوك لقضاء أمسيةٍ معنا تتعرف من خلالها على والدَي
التقت نظراتنا بينما كان آخر جزءٍ من قرص الشمس يختفي خلف البحر معلناً عن انتهاء رحلة النهار وبدء أمسيةٍ صيفيّةٍ جديدةٍ على شاطئ البحر .

تفاجأت عند لقائي أهلها بأنّها هدى ، ابنة رجل الأعمال المعروف توفيق نجار ، وعرفت هي أنني حسان ووالدي السيد مراد ، أيضاً رجل أعمال يمتلك شركة واسعة للاستيراد والتَّصدير .

عدُّت إلى دمشق وقد أدركت بأنَّ قلبي بقي هناك على الشاطئ ، حيث هدى

تنهَّدت هدى وقالت حالمة :
– أجل ، منذ أن التقت نظراتنا عرفت أنّي وقعت بحبّه ، إنَّه حسان المغرور بوسامته ساحر قلوب الفتيات اختارني من بين الجميع وظفرت بقلبه . تطوَّرت علاقتنا بعد ذلك وتكلّلت أخيراً بالزَّواج ومن ثمَّ أنجبناكِ ، وعشنا بسعادةٍ ماتزال تلقي بظلالها علينا حتّى الآن .

صاحت لينا بحماس :
– يا لها من قصّةٍ جميلة ، سأرويها غداً لصديقاتي
داعب حسان وجنتَي ابنته ثم نهض وقال :
– سأعود إلى كتابي الشيِّق ، فقد شارفت على نهايته ، وأنتِ يا ابنتي لا تغفلي عن أيِّ تفصيلٍ بالقصّة .

**

دخل حسان غرفة المكتب بهدوء ، تناول سيجاراً وأشعله ، اقترب من النّافذة وبدأ يراقب زوجته وابنته هناك ؛ حيث كان جالساً بينهما . كانت لينا تتكلّم بحماسٍ مُحرِّكةً يديها بكلِّ اتّجاهٍ فيما هدى تتابعها وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة سعادةٍ ورضا . تساءَل في سرِّه وهو ينفث الدخان : تُرى ، هل ستبقى ابتسامة الرّضا هذه على شفتيكِ لو عرفتِ أنّ حياتنا بأكملها بُنيَت على كذبةٍ يا زوجتي العزيزة ؟!

ابتعد عن النّافذة واتّخذ مكانه خلف المكتب ، غاص في المقعد مراقباً سحب الدّخان المتصاعدة من أنفاسه مع كلِّ زفيرٍ يُخرِجه ، وعاد بتفكيره إلى الماضي ، وتحديداً إلى ذلك اليوم ؛ يوم المؤامرة ..

**

كان منكبّاً على رسم إحدى لوحاته عندما اقتحم والده المكان قائلاً :
– مصيبة يا حسان ، مصيبة . ثروتي وسمعتي على وشك الانهيار
سقطت الريشة ولوحة الألوان من يدَي حسان ، قال مستفهماً من والده :
– ماذا حصل ، ما الذي تعنيه بكلامك ؟!
– شحنة النّحاس القادمة بحراً ، هناك أنباءٌ عن غرقها في المحيط . لقد كنت أعوِّل كثيراً على هذه الصّفقة لتعويض خساراتي السّابقة ، وإن صحَّ الخبر فإن وضعنا سيتدهور ، سنهوي إلى الحضيض
– وما الحل ؟ لابدّ من حلٍّ أليس كذلك ؟ لن نعلن إفلاسنا
– الحل بيدك بُنَي
– ماذا تعني ؟ لا تقل بأنَّك ستسلمني الآن إدارة أنقاض شركةٍ مفلسة ! عندما طلبت منك أن أدير العمل وفق أسس وقواعد الإدارة الحديثة سخرت منّي وبقيت متشبّثاً بآرائكَ وخططكَ البالية ، كنتَ معتدّاً بنفسكَ وبخبرتك ، لم تؤمن يوماً بروح الشباب وقدرتهم على النَّجاح والتميّز ، وماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة أن وضعنا كان يسير من سيّئٍ إلى أسوأ وأنت تكابر وترفض الاعتراف بأخطائك ، الآن..

رفع الوالد يده إشارة منه لحسان بأن يصمت ، وقال محاولاً كبح لجام غضبه :
– كفى ، ليس هذا وقت العتاب ، ثم لا أعتقد بأنّك ستشمت بي ، فإن أنا سقطتُّ ستسقط معي ، إلّا إن أنصتَّ إليَّ وقرّرت تنفيذ ما سأطلبه منك .
– وما الذي ستطلبه ؟!
– توفيق نجار ، تعرفه إليس كذلك ؟
– تقصد رجل الأعمال وصاحب مشروع تجمّع القمَّة السياحي ؟
– أجل
– ما به ؟
– عليك بأن تتزوَّج ابنته
لم يتمالك حسان نفسه من الضحك مما جعل والده يسأله بضيق :
– لماذا تضحك ؟
– لأنّك فاجأتني باقتراحك . ثمَّ من قال لك بأنّي أفكّر بالزواج ؟ وعندما سأفكر سأختار بنفسي المرأة التي ستشاركني حياتي .
– لقد فكَّرت عنك ، ووجدت بأنَّ هذا الزواج هو الوحيد الذي سينقذنا ، فوالدها لديه من المال والنفوذ ما سيجعلنا ننهض مجدداً . اعتبر زواجك منها صفقة ، وستكون صفقةً رابحةً صدقني
تساءل حسان بعد أن قلّب المسألة في ذهنه :
– على فرض أنّي وافقت على كلامك ؛ ألن يبدو للجميع بأنه زواج مصلحة ؟ فوضعنا المتدهور لن يخفى على أحد

جلس والده على الكرسي واضعاً ساقاً على ساق بعد أن رأى بأنَّ ابنه بدأ يقتنع بالفكرة . قال بتأنّي شارحاً خطّته :
– لقد فكّرت بكلِّ شيءٍ قبل مجيئي إليك . بالنسبة لوضعنا فلا أحد يعرف حقيقته ، مازلت في نظر الجميع مراد بك ، رجل الأعمال اللامع . سأخفي خبر غرق الشحنة وخسارتنا للصفقة إلى أن تكون ابنته قد وقعت بشباكك ولن تستغني عنك . قال عبارته الأخيرة بشيءٍ من السخرية .

فتح حسان فمه ليتكلم لكن والده تجاهله متابعاً :
– بالطبع أنت لن تتقدَّم لخطبتها بشكلٍ مفاجئ ، وإلا لأثرنا الريبة والشّك من حولنا . لقد أجريت اتصالاتي وعرفت أنَّ عائلة توفيق نجار متواجدة حالياً في أحد الشاليهات التي يمتلكونها على البحر في اللاذقية . اذهب إلى هناك وافتعل معهم لقاءً اجعله يبدو بالصدفة ، والباقي أدعه لك ، فأنا أعرف تماماً مدى تأثير سحركَ على النّساء..

قال حسان وقد بدا شارداً :
– اجعلني أدرس الموضوع جيّداً ، فالمسألة لن تكون بتلك البساطة التي صوَّرتها أنت .
نهض والده وقال قبل أن يغادر الغرفة :
– خذ وقتك بني ، لكن لا تتأخر ، ها ؟

**

جلس حسان على الكرسي بعد خروج والده ، أخذ يفكّر بالحديث الذي جرى بينهما ، وكلَّما أمعن في التفكير زاد اقتناعاً بالخطّة . لقد وُلِد ليكون ثريّاً ولا يستطيع تخيُّل حياته بشكلٍ آخر ، لن يحتمل الإفلاس وشماتة الأعداء . لا بأس ببعض التضحية من قِبَله في سبيل الحفاظ على مكانته وشرف العائلة من الضّياع . وهكذا توجَّه إلى الشّاطئ بعد عِدّة أسئلة طرحها في الخفاء على هذا وذاك عن مكان تواجد هدى ابنة ذلك الثري ، وافتعل معها ذاك اللقاء . وعندما سألته عن سبب مجيئه إلى السّاحل وجد نفسه يرتجل تلك القصة عن صندوق الصور وصاحبته . لطالما امتاز بسِعَةِ خياله وسرعة بديهته ، بل لقد وجد نفسه مستمتعاً وقد بالغ بسرد تفاصيل حكايته الغريبة على مسامع هدى ، مراقباً كيف صدقت بسذاجتها هذه القصة المزعومة التي لو دقّقت فيها لوجدتها مليئة بالثّغرات ، فأيُّ رجلٍ مجنونٍ يعشق امرأةً لا يعرفها من مجرَّد صورةٍ ، ويبحث عنها من مدينةٍ لأخرى ويجدها بهذه السهولة ؟! لكن لا يهم ، فـ هدى استجابت لخطَّته ولم تقاوم سحرَه . كان قلبه يرقص طرباً كلَّما شعر بأنَّها تراقبه بطرف عينها ، ويحمر وجهها خجلاً إذا ما التقت نظراتهما .

لقد ابتلعت الطعم وكانت صلة الوصل بينه وبين أبيها لمساعدتهم . وقد رتّب والده الأمر ليصله خبر غرق الشاحنة بشكلٍ فجائيٍّ في إحدى سهراته مع توفيق نجار الذي أبدى أسفه واستعداده لتقديم العون . ومن حسن حظِّ حسان أنَّ توفيق توفِّي بُعَيد زواج ابنته على إثر أزمةٍ قلبيةٍ مباغتة ، وبذلك لم تسنح له الفرصة لكشف مخططاته ، بل كان حسان المنقِذ بنظر هدى وأمها ، فقد تسلَّم إدارة أعمال أبيها الذي لم يترك وريثاً سواها وأنقذ أمواله من أطماع أبناء عمومتها .

لطالما شعر تجاهها بالامتنان ، لكنه لم يستطع أن يمنحها حبّه على الرغم من تظاهره بذلك ، ربما لأنّه لا يحب سوى نفسه ومصلحته . لكنّ ذلك لا يهم طالما هي سعيدة وقانعة بحياتها . هناك أسرار لا فائدة من فضحها بل يجب أن تموت مع أصحابها ، وطريقة زواجه من هدى سيبقى سرَّاً يحمله معه إلى قبره .

اعتدل حسان في جلسته ونفض الماضي عن ذهنه بحركةٍ من رأسه . سحق ما تبقَّى من سيجاره في المنفضة وفتح الكتاب الذي كان مغلقاً أمامه ، عاد للقراءة وكلماتُ أغنيةٍ عرفها في طفولته ترِنُّ في أذنه :
زوجتي العزيزة تنام في العسل
زوجتي العزيزة لا تفقد الأمل
تظنُّني أحبُّها
تريدني بقربها
زوجتي العزيزة لا تعرف الملل

ــــــــــــ

تمـــت

تاريخ النشر : 2019-02-25

نوار

سوريا
guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى