أدب الرعب والعام

المتاهة

بقلم : رائد قاسم
للتواصل : [email protected]

كنت اتوق لرؤية سفينة القهر الفضائية لأثبت للعالم بانها موجودة وان على متنها الاف من بني جلدتنا مسجونين ومستعبدين فيها
سلّطت عليّ السفينة أشعّة شلّتني و أفقدتني السلطة على أيّ شيء

في ليلة ميلادي، وبعد حفلة جميلة قضيتها مع أصدقائي، خرجت للتنزّه قليلا بعد أن ودّعتهم .. 
في هدوء… نظرت إلى السماء، فوجدتها صافية تماما ونجومها متلألئة، بعكس اللّيلة الماضية، فقد كانت مليئة بالغيوم .. لم يكن القمر مشرقا فقد كان الشهر في آخره .. أوقفت سيّارتي لأمشي متنفّسا بعمق الهواء العليل، وناظرا للسماء حالكة السواد التي تزيّنها النجوم… فجأة، شاهدت سفينة فضائيّة في السماء تسير بسرعة عالية . ووقفت فوقي مباشرة.. 

سرعان ما تملّكني الخوف فتجمّدت في مكاني، لا أعرف ماذا أفعل .. شعرت بالخطر المحدق، فهربت بأقصى سرعتي، وأنا في قمّة رعبي، إلّا أنّ السفينة الفضائيّة الغامضة ما برحت إشعاعاتها تطاردني . فتيقّنت بأنّها تستهدفني .. 

بينما كنت أركض، باحثا عن سبيل نجاة، وجدت صخرة فتوجّهت نحوها على الفور . واختبات تحتها إلّا أنّي لم أشعر بالأمان، فقد كان صوت السفينة المفزع يملأ الأرجاء .. جلت النظر في كلّ الإتّجاهات علّني أجد طريقا للفرار.. كنت أرى سيّارتي التي كانت على مسافة ليست بالبعيدة من مكاني ..

سرقت النظر نحو السماء، فوجدت السفينة ثابتة في مكانها وإشعاعاتها تبحث عنّي في كلّ اتجاه .. جثمت على الأرض وبدأت أدعو الربّ أن ينجّيني منهم.. بعد أكثر من نصف ساعة من الرعب، غادرت السفينة الأجواء ليعمّ الهدوء التامّ .. ركضت بأقصى سرعتي متّجها نحو سيّارتي التي قدتها بسرعة لأغادر المكان وأعود إلى منزلي..

لم أستطع كتم ما جرى لي في صدري، فقصصته على أصدقائي الذين ضحكوا منّي واعتقدوا بأنّي أمزح معهم . بينما اعتقد آخرون بأنّي كنت أتوهّم، إلّا أنّي أكّدت لهم بأنّها الحقيقة .. أحد الأصدقاء قال لي بأنّي محظوظ لأنّ المخلوقات الفضائيّة اختارتني لأعقد معها صفقة قد تغيّر مجرى حياتي وربما حياة الإنسانية !

أنّهم بلا شكّ يريدونك أنت ، يا لك من صاحب حظ سعيد ! في المرّة القادمة، اذهب معهم من دون تردّد ! سوف تفتح لك آفاق عظيمة لا تفتح إلّا للمتميّزين من البشر.

قد يكون ما قاله لي صديقي هذا نابعا من سخرية ، ولكن قد يكون مطابقا للحقيقة، نعم قد تكون تلك المخلوقات تريدني أنا.. 
ولكن لحظة !.. لا أظنّ ذلك فقد حاولت اختطافي وأنا في منطقة نائية ولو كان فيها شخصا آخر لحاولوا اختطافه أيضا . قرّرت على كلّ حال أن لا أذهب إلى الأماكن البعيدة خوفا من تلك المخلوقات الفضائيّة التي لا يعرف أحدا عنها شيئا ولم يرها أحد من البشر على حدّ علمي ..

لم أنسى ما حدث لي ، بل كنت أفكّر فيه ليل ونهار ، في اللّيل كانت أقدامي تقودني لممارسة هوايتي في التنزّه الليليّ في أحياء المدينة الهادئة وكأنّي أريد أن أشاهد السفينة الفضائيّة مرّة أخرى ولكن يبدوا بأنّها دوافعي فعلا .. كنت أنظر للسماء في كلّ حين علّني أراها ، وأتساءل عمّا إذا كنت مستعدّا للمجازفة وتحمّل تكاليف مغامرة خطيرة كهذه . 

في تلك اللّيلة، مشيت في أحياء لفّها الصمت ، وفجأة، وبينما كنت أحدّق في السماء، ظهرت لي السفينة الفضائيّة مرّة أخرى.. أصابني الذعر واختبأت منها فورا .. سمعت صوتها وهي ثابثة في السماء . قلت في نفسي : لا شكّ بأنّهم يريدونني شخصيّا ! لا شكّ بأنّ اختيارهم وقع عليّ لأرى عالما طالما سعت البشريّة إلى رؤيته .. أخيرا سألتقي بمخلوقات عاقلة تعيش في أرجاء هذا الكون اللّامتناهي.. سوف أدخل التاريخ بإنجازي هذا العمل العظيم ولكن قد يختطفونني ولا أعود إلى الأرض أبدا . إذا حدث ذلك، فسينتهي أمري وينتهي سرّي معي … حسنا لماذا إذن يطاردونني أنا بالذات ؟ لو لم أكن مهمّا بالنسبة لهم لما قصدوني للمرّة الثانية .. لو كانوا يريدون قتلي لتمكّنوا من ذلك بكل سهولة .

في لحظة اختيار عاصفة، خرجت من مخبئي ومشيت بهدوء في الشارع . فسلّطت عليّ السفينة أشعّة شلّتني و أفقدتني السلطة على أيّ شيء .. ثوان معدودة، و وجدت نفسي أرتفع إلى الأعلى بسرعة رهيبة.. رأيت نفسي أرتفع إلى السماء . نظرت إلى الأسفل، فشاهدت الأرض تصغر شيئا فشيئا… أقلّ من دقيقة، ابتلعتني السفينة أثناءها بداخلها . وغادرت الأجواء بسرعة عاتية.

استيقظت من غشوتي .. فتحت عينيّ . فوجدت شخصين جالسين بقربي . ثمّ التفتّ حولي . فشاهدت الآلاف من النّاس ، نظرت بتركيز، فوجدت أنّي معهم في سفينة فضائيّة ضخمة .. عرفت ذلك من جدرانها وارضيّتها.. 
سألت أحدهما : أين أنا ؟ ومن أنتم؟ وما الذي يحدث ؟
اجابني بلا مبالاة : أهلا بك معنا ، حيث لا حياة ولا موت ، لا حقيقة ولا خيال، حيث كلّ شي هو لا شي .
انتصبت واقفا لأرى بوضوح آلاف الناس وهم يسرحون ويمرحون … لم أستوعب ما أشاهده.. سألته برجاء أن يخبرني أين أنا .
أجابني قائلا: أنت في الفضاء ، في سفينة فضائيّة لا نعرف جميعا هويّتها ؟ ولماذا خطفتنا؟ وماذا تريد منّا ؟ قضّينا في هذا السجن الفضائي مدد متفاوتة ، بعضنا منذ عشر سنين وأقدمنا منذ عشرين عاما ، وأنت أقلّ من يوم !
لم أستطع استيعاب ما يقوله .. جلست على الأرض وقد غمرني الغبن العارم والحزن الشديد .. ثم جلس إلى جانبي قائلا: كلّ الذي أستطيع قوله لك بأنّك ستعيش هنا معنا بقية عمرك . 

بكيت بدموع غزيرة وأنا أقول لهما : أريد العودة إلى الأرض ، إلى حياتي ، إلى عالمي، ليس مهمّا أين سأكون على الأرض . فأينما سأكون فيها، سأكون في وطني وبين أهلي وأحبابي.

ردّ عليّ قائلا : الآن اعتبر كلّ أرجاء الأرض موطنك . أظنّك قبل ساعات، لو خرجت من مدينتك لشعرت بالغربة والحنين .. أمّا الآن، فقد أصبحت الأرض بأسرها بلادك وكلّ الشعوب قومك وأحبابك.

ثم جلس الآخر ببرود والتفت نحوي سائلا: اخبرنا كيف تمكّنوا من الإمساك بك ؟
نظرت لهما بانكسار ثم لذت بالصّمت ، ولكنّه أعاد عليّ السؤال مرّة أخرى ، ولكن بماذا أجيبه ؟ هل أخبره بأنّي راهنت رهانا خاسرا ؟ هل أقول له بأنّي ضحيّة لحظة غباء عاتية ؟ أم أخبره بأنّني جئت إلى هنا نتيجة مغامرة مجنونة أو لحظات غرور مهلكة ؟ بماذا أجيبه ؟ بأنّي تصوّرت أنّي إنسان مميّز وأنّ القدر اختارني للقاء مخلوقات أخرى جاءت من كوكب بعيد ؟

انسكبت دموعي مجدّدا .. بكيت وكأنّي لم أبكي قبلا.. رقّ الرجلان لحالي وقال لي أحدهما : تعزّ عليّ دموعك ولكن عليك أن تعتاد الحياة هنا، وإلّا فلن تجد أحدا يهتمّ بك، انظر! لم يهتمّ بك أحد عندما وجدناك مغما عليك إلّا أنّنا حملناك إلى هنا رأفة بك .

شكرتهما وأعربت لهما عن بالغ امتناني . وسألتهما عن طبيعة الحياة في هذه السفينة فأخبراني بأنيّ سوف أعرف كلّ شيء في حينه . جلست قليلا حائرا، حزينا، بينما انشغلا بالتحدّث مع الأشخاص الذين يمرون عليهما ، فجأة، انبثقت أشعة ليزريّة سوداء . وبدأت بالإمساك بأرجل النّاس واحدا تلو الآخر .. وقفت خائفا، وكأنّي أريد الهروب إلّا أنّ أحدهما قال لي : لا تخف   ستعتادها كما أيّ شيء هنا ! 

عندما أمسكتهما الأشعّة الليزريّة، عبّرا عن ألم بسيط . ثمّ سرعان ما وصلني الدور وسلّطت الأشعّة على رجلاي . شعرت وكأنّهما وغزتا بحقنة ولكنّها كانت سريعة جدّا . لاحظت بأنّ الحركة بوجود هذه الأشعّة صعبة ، وهذا ما وجدته عند أغلب الناس الواقعين تحت ناظري، حيث فضّل أغلبهم القعود في أماكنهم .

أخبرني أحدهما أنّ المخلوقات الفضائيّة تغذّي أجسامنا بهذه الأشعّة السوداء، حيث تمنحها كلّ احتياجاتها من الطاقة وأنّها الطريقة الوحيدة للتغذية.. انتابني العجب الشديد من هذا الأمر وكيف سأقضي بقيّة حياتي من دون تناول أيّ طعام أو شراب . ورغم ذلك، سأظلّ حيّا ومحتفظا بنشاطي وحيويّتي . سألت أحدهما : هل يمكن رؤية المخلوقات الفضائيّة أو التحدّث معها ؟ 
ضحك من سؤالي ثم أجاب: هم كالحكّام الديكتاتوريّين لا نراهم ولا نلتقي بهم . ورغم ذلك، نخضع لهم وبيدهم قرارنا ومصيرنا !
لم أتمالك نفسي، فبيكت مرّة أخرى . والنّاس من حولي لا يبالون بي .. يا الهي ! ماذا جنيت على نفسي ؟ كيف رميت بها إلى هذا الجحيم ؟ كيف هانت عليّ ؟ وأسلمتها إلى هذه المخلوقات الشريرة ؟ كيف الخلاص ؟ وأيّ خلاص ؟ ونحن في سفينة تطوف في الفضاء وتطير في سماء الأرض من دون أن يراها أحد ؟! حتّى الموت هنا يبدو بأنّه بعيد المنال !!

نمت كغيري بلا سرير أو وسادة . في منامي، شاهدت نفسي وأنا على الأرض، أمارس حياتي اليوميّة ، ، نمت طويلا بالرغم من الضوضاء التي لا تنتهي ، التقيت بأصدقائي في الحلم ، وتجوّلت كعادتي في أرجاء مدينتي، كم كنت أتمنّى أن أعيش في هذا الحلم بقية حياتي، ليكون جسدي نائما في هذه المركبة اللّعينة حتّى وفاتي ، بينما أعيش حياتي بكلّ تفاصيلها داخل حلمي ، ولكنّي استيقظت لأرى الناس وقد تقلّصت أعدادهم في منطقتي ، نهضت بسرعة وذهبت أستطلع الخبر فلم أجد بدّا من أن أسأل أحدا فأجابني من سألته بأنّ النّاس ذهبوا للتنزّه !
انتابني العجب من جوابه فأيّ تنزّه في هذه السفينة الصمّاء ؟ ذهبت في الإتّجاه الذي يذهب إليه الناس، فقد كان في نهاية منطقتي أربع مسارات توصل إلى مناطق أخرى ولا أحد يعرف كم يبلغ عددها بالضبط . ومن دون معرفة الطريق جيّدا، فإنّ المرء يضلّ موقعه ولن يتمكّن من العودة بسهولة .

مشيت طويلا حتّى وصلت إلى بوّابة يغمرها الماء . والناس يدخلون ويخرجون منها .. اقتربت منها رغم أنّ الزحام كان شديدا.. قال لي أحدهم : إمّا أن تدخل وإمّا أن تبتعد !. سألته : إلى أين تأخذنا هذه البوّابة الغريبة ؟ 
أجابني : ادخل وستعرف !
بينما أجابني آخر: لا تخف لن تموت لأنّك ميت أصلا !!
أمسك بيدي، وبمساعدة شخص آخر من الخلف، رمى بي في البوّابة المائيّة .. ثواني معدودة، شاهدت فيها أناس كثيرين وكأنّي في أعماق البحر . ثمّ خرجت منها لأجد نفسي في طريق جبليّ مغطّى بالثلوج التي كانت تتساقط من السماء !! شاهدت مئات الناس وهم يسيرون فيه بوجوم، وكأنّهم ألفوه ولم يعد غريب عليهم.. بالنسبة لي، كان مكانا رائعا، فقد أعادني إلى الأرض بالرغم من أنّ الطقس لم يكن باردا أبدا . وهذا ما أثار استغرابي أكثر! بيد أنّي مشيت مع الناس في الطريق .. 

كنّا نسلك طريقا حقيقيّا، فقد كنت ألمس الثلوج والأشجار المغطّاة بها ! شعرت بالسعادة القصوى لوجودي في هذا المكان، سألت بعض العابرين عن نهاية الطريق . فأجابني، وهو يضحك : استمر وستعرف!!

مشيت وأنا في قمّة المرح حتّى وصلت مع المئات إلى نهاية الطريق ، ثمّ بدؤوا ينزلون منه نحو قرية لمحتها من الأعلى..نزلت بسرعة حتّى وصلتها .. شاهدت فيها قرويّين رجالا ونساء وهم يرتدون ملابس ثقيلة ورأيت أطفالا يلعبون بالثلج . بينما كان المئات من الناس قد تفرّقوا إلى أفراد وجماعات وافترشوا الأرض في أنحاء متفرّقة من القرية .

أنا لم أكن أعرف ماذا يجري .. تجوّلت قليلا ثم وجدت جماعة وانضممت إليهم .. سألتهم عمّا يحدث . فسألوني إذا كنت حديث القدوم إلى هنا ؟ فأجبتهم بنعم . فسألوني عن كيفيّة اختطافي ولكنّني لم أخبرهم بالحقيقة . وقلت لهم بأنّي كنت أتنزّه في الصحراء بمفردي . فلم أشعر إلّا وأنا أرتفع إلى الفضاء وأغمي عليّ . ولم أجد نفسي إلّا وأنا في هذه السفينة . ثمّ قصّ كلّ واحد منهم واقعة اختطافه . وتحدّث عن حياته السابقة على الأرض ببرود ولا مبالاة ، ثم سألتهم عن هذا الذي نحن فيه . فأجابني أحدهم أنّها أشبه بحديقة ، حيث يمكن لنا أن نتجوّل فيها وكأنّنا نسير على الأرض ، وكل ما نشاهده هنا أشبه بالحقيقة حيث يمكننا لمسه ، بما في ذلك القرويّين الذين يتجوّلون في القرية ولكنّنا لن نستطيع التحدّث معهم لأنّ كل ما نشاهده هنا ليس سوى وهم في النهاية، ولكنّه وهم يشعرنا بالسعادة والبهجة.

فجأة، كلّ شيء حولنا تضاءلت كثافته وكأنّه يختفي شيئا فشيئا، ارتسمت على وجهي علامات القلق ، التفت لي أحدهم وقال لي : لا تقلق ، ستعتاد على كلّ ما تراه !
سرعان ما بدأ كلّ شيء بالإختفاء.. دقائق معدودة، ووجدت نفسي في سجن السفينة الفضائيّة .. لم أصدّق ما رأته عيني .. ذهبت عنهم والدموع تنهمر منّي بلا إرادة .. سرت حتّى وصلت إلى مكاني الأوّل بصعوبة بالغة، وبعد قضاء وقت طويل في البحث ، والحقيقة، بأنّي لم أعثر عليه إلّا مصادفة، عندما ناداني أحد أصدقائي الأوائل . 

استلقيت على الأرض متعبا ولكن لم تدم راحتي طويلا . فقد ظهر شخصان وأخذا يكيلان اللعان للمخلوقات الفضائيّة . سرعان ما وقفا في الناس خاطبين وحرضوهم على تدمير السفينة وأنّ البقاء هكذا على أمل النجاة لا جدوى منه . طلب منهما أحد الأشخاص الهدوء إلّا أنّهما استمرّا في الحديث بقوّة . ونبرات التضحية بادية عليهما . تحلّق حولهما جمعا غفيرا من الناس الذين ظهرت على وجوههم إمارات الإقتناع بما يقولان .. بينما الجميع كذلك، وبينما كان الموقف قد بلغ مستويات عالية من التوتّر والإضطراب، سلّطت عليهما أشعّة ليزريّة . فصرعا على الأرض وهما يصرخان من شدّة الألم … انفضّ الناس عنهما وزادت حدّة الأشعّة ممّا جعلنا نوقن بأنّهما يعذّبان فقد كان صراخهما فظيعا ..

نظر لهما الجميع بخوف وذهول ولم يكن أحد قادر على مساعدتهما . فكلّ من يقترب منهما، ستصيبه إشعاعات الغضب والعذاب .. بعد عدّة دقائق، سكت أنينهما وتحوّلا إلى جثّتين. حاول البعض الإقتراب منهما إلّا أنّ الجثّتين سلّطت عليها إشعاعات أخرى . وفي ثواني، كانتا قد اختفت عن الأنظار. 

ساد الهرج والمرج بين الناس .. سرعان ما سلطت علينا جميعا أشعّة ليزريّة قيّدت أطرافنا جميعا. قال لي أحد أصدقائي بأنّها قيود ليزريّة حقيقيّة .. استلقى الجميع على الأرض . وسرعان ما ساد فينا الهدوء .. كان مقتل الشخصين وقيودنا الليزريّة رسالة من تلك المخلوقات التي تسيطر علينا وتتحكّم بمصيرنا، ونحن لا نراها، ولا نعرف ماهيّتها، بأنّ أيّ تمرّد أو تحريض على العصيان سيواجه بالقتل الفوري والعذاب الشديد الذي سيتضاعف حتّى يبلغ بنا الأمر بأن نطلب الموت فلا نجده . ما أبشع أن يسيطر على المرء أشخاص لا يعرفهم ولا يمكنه الوصول إليهم ! ويظلّ طوال عمره خاضعا لإرادتهم وسيطرتهم .. ما أبشع ما نحن فيه ! لم أعد أطيق الحياة في هذه السفينة اللعينة .. 

قرّرت البحث عن مخرج .. ما إن زال ذلك القيد الليزري، حتّى بدأت السير في أنحاء السفينة علّني أجد مخرجا ..كل من شاهدني أبحث، سخر منّي وقال : لقد بحثنا قبلك ولم نجد بصيص أمل .. لا شيء هنا سوى هذه المكان الذي لا ينتمي لأيّ شي نعرفه أو لا نعرفه !! إنّه لا فراغ .. ولا وجود .. لا حياة بعدها موت.. ولا موت بعده حياة… 

في يوم ما، كان أحد النّاس يحتضر.. مرض مرضا شديا، كان عمره في الستّين . قال وهو على فراش موته أنّه كان جالسا على سطح منزله قبل عشر سنوات، قبل أن يغمى عليه ويجد نفسه هنا . قال أنّه يتمنّى أن يشاهد حفيدته الصغيرة وقد أصبح عمرها الآن عشرين عاما . ثمّ نظر إلى الأعلى قائلا بأنّه يشاهد والديه وبعض من أقاربه الراحلين وأنّهم يدعونه للرحيل معهم .. مدّ يده إلى الأعلى قائلا : خذوني معكم أرجوكم ! لا تدعوني بعد اليوم في هذا الجحيم . لم تلبث يده ان سقطت ليعلن وفاته وسط بكاء الحاضرين…

ما لبث أن سلّطت المخلوقات الفضائيّة أشعة ليزريّة على جثمانه ليختفي عن أنظارنا على الفور.. سرعان ما تفرّق الناس وكوّنوا مجموعات توزّعت في كلّ مكان وسط أجواء اليأس والقنوط.. لم أعد أطيق .. لا أمل في الخلاص من هذا الجحيم سوى بالموت، فالموت شفاء من لا شفاء له .. صرخت بأعلى صوتي.. طلبت من الناس أن يلتمّوا حولي ويسمعون خطابي .. سرعان ما تجمّع حولي الآلاف من الناس بوجوه شاحبة ويأس مرتسم على ملامحهم وكأنّهم اعتادوا على كلّ شيء… 
وقفت فيهم خطيبا قائلا: أنا هنا بإرادتي!..
نظروا لي باستغراب .. انبرى أحدهم وسألني غاضبا : كيف ذلك ؟ كيف اخترت لنفسك هذا المصير بمحض إرادتك ؟ 
وانبرى شخص آخر : أخبرنا بما جرى لك يا هذا !
تعالت الاصوات قائلة: كيف تفعل هذا بنفسك ؟ كيف تلقي بنفسك إلى هذا الجحيم ؟
رفعت صوتي طالبا منهم السكوت والهدوء .. ثم خاطبتهم قائلا والألم يعتصر قلبي : لم أكن أتوقّع أنّ هذا سيحدث لي ، كانت هذه السفينة الفضائيّة تطاردني وكأنّها تريدني أنا بالذّات، حسبت أننّي كنزا ثمينا بالنسبة لهم ، اعتقدت بأنّي ذو شأن ومتميّز عن الآخرين ، لذلك فهم يريدوني أن أذهب معهم لاكتشاف عالمهم ، لم أكن اتوقّع أبدا أنّ في هذا الأفق البعيد تكمن هذه المأساة المروّعة التي نعيشها هنا في هذه المقبرة التي تجوب الكون بحثا عن أحياء سيجعلونهم يعيشون حياة الموت !

لم أتمالك نفسي .. بكيت أمامهم ، بينما بدأوا بالسخرية والإستهزاء والضحك عليّ.. نظرت إليهم، فرأيت وجوههم الشامتة السّاخرة إلّا أنّي قاطعتم بصوت جبهوي قائلا: لم تنتهي المعركة بعد ، لن أسمح لهم باستعبادي ولو كان الموت هو مصيري ، فأنا ميّت قبل موتي ، فحياتي هنا ليست سوى موت حيث لا شيء ولا أيّ شيء .

ثم خاطبتهم بقوة قائلا: هيّا بنا نثور ثورة واحدة ضدّهم ، هل سيقتلونا ؟ فليفعلوا ! أو ليس الموت أفضل من حياة الموت ؟ فلنهتف ضدّهم بصوت إنسان واحد ! فلنزلزل أرض هذه المركبة بأقدامنا ! ولنحطم كلّ ما نستطيع تحطيمه ! وليكن ما يكون فحياة الذلّ موت !

هتفت فيهم فهتفوا معي.. التفّوا حولي . وبدأت أقودهم ونحن نهتف إمّا الخلاص وإمّا الموت.. فجأة، سلّطت عليّ إشعاعات شلّت حركتي… عذّبت عذابا رهيبا حتّى أنّي فقدت مقدرتي على أيّ حركة وكأنّي خرجت من جسدي.. تفرّق النّاس من حولي وهم في خوف شديد ، إلّا أنّ كلّ واحد منهم سلّطت عليه أشعة ليزريّة وأصبحوا يتعذّبون مثلي.. أمّا أنا، فقد رفعوا عنّي العذاب، فالتقطت أنفاسي ثم رأيت النّاس وهم يتوجّعون … قلت لهم قاوموا ولا تخضعوا ولنمت ونحن نقاوم ! أفضل من أن نموت ونحن خاضعين !! ..
قال أحدهم : لا أستطيع الإحتمال 
وقال آخر : إنّه عذاب رهيب
وآخر قال : المعضلة ليست في الموت بل في الذي قبله

سرت فيهم وأنا أحثّهم على المقاومة … قال لي أحدهم أنت لا تشعر بعذابنا ، أنت تطلب منّا أن نقاوم بينما أنت في مأمن . قلت لهم : ما دام العذاب قد رفع عنّي، فإنّ واجبي أن أقف معكم بكلّ ما اوتيت من قوّة

إلّا أنّ صرخات عذابهم تتعالى لينطق الكثير منهم بعبارات الإستسلام والرضوخ . وأنا أناشدهم بأن يصبروا .. فجأة، رفع عنهم العذاب ليسكن الجميع . ويعمّ الصمت الحذر إلّا انّ الجميع بدأوا ينظرون لي بحقد وغلّ وكأنّهم يحمّلونني مسؤوليّة العذاب الذي حلّ بهم .. تجمّعوا وتحلّقوا حولي .. كانت وجوههم شاحبة وينظرون لي بعيون مفتوحة على مصراعيها وكأنّهم فقدوا عقولهم .. 
قال لي أحدهم : عرّضتنا لهذا العذاب الرهيب بينما كنت في مأمن منه ! 
أحد آخر : ما نتيجة ثورتنا هذه ؟ لم يتغيّر شيء ؟ لا نزال أسرى، بل عبيد
واحد آخر : أنت السبب، انظر لقد شلّت يدي !
و أحدهم: لقد شلّت رجلي اليمنى !
و أحدهم: لقد شلّت رجلي اليسرى ! بينما أنت سليم معافى
قلت لهم : إنّ الحريّة لا بدّ لها من تضحيات ، لا يمكن أن ننال المجد دون ثبات وصبر.
أحدهم: علينا قتلك لأنّك أنت السبب ، كنّا نعيش بكامل صحّتنا . والآن، اصبنا جميعا بأمراض وعلل ، أنت المسئول ! 
أحدهم: لم ننعم بالحريّة ولم ننعم بالموت.
أجبتهم بقوّة : عندما يناضل المرء من أجل مبادئه أو يؤدّي واجبه، لا يجب عليه أن ينتظر النجاح ، إنّ آماله تغدوا مبعثرة في السماء ، قد يعود بعضها إلى الأرض، فيمسك بها وقد تضيع في السماء إلى الأبد
تقدّم بعضهم نحوي يريدون قتلي وسط هتافات عارمة إلّا أنّ صديقاي اعترضا طريقهم وانبرى أحدهما قائلا: لقد فعل، صديقنا هذا، ما يمكنه لإنقاذنا .. فهل يكون جزاؤه القتل ؟ ونجعل تلك المخلوقات الشرّيرة تزهو بذلك ؟ وهي بلا شكّ تراقبنا الآن وتنتظر هذه اللّحظة بفارغ الصبر.

أخذ الناس يتطلّعون في وجوه بعضهم البعض وكأنّهم استيقظوا للتوّ من سبات طويل.. أضاف صديقي الثاني قائلا: نعم إنّهم فرحين بأنّكم سوف تقتلون هذا الرجل الذي حاول إنقاذكم من جحيم حكمهم 
واضاف : لا تدعوهم يهنئون بما يأملون . إن لم تتمكّنوا من نيل حريتكم وكسر جبروتهم، فعليكم على الأقلّ أن تثبتوا لهم بأنّكم أحرار في قلوبكم وأرواحكم وعقولكم، وأنّكم لم ولن تستلموا لهم، وأنّ صمودكم هزيمة لهم

فجاة سلّط عليّ إشعاع ليزري.. صرخت ووقعت على الأرض وبدأت أتلوّى من الألم ، بينما ابتعد الناس عنّي خوف من أن يصيبهم ما أصابني .. حاول صديقاي الإقتراب منّي، إلّا أنّني طلبت منهما أن يبتعدا لئلّا يصيبهم أذى .. نظرت للناس من حولي، فرأيتهم ينظرون لي بشفقة ورحمة مشوبة بخوف ويأس .. ابتسمت في وجوههم ..حرّكت يدي ببطء ورفعت إصبعي السبّابة والوسطى ولوّحت لهم بعلامة النصر ثم اختفيت عن أنظارهم…

فتحت عيني .. وجدت نفسي في مستشفى .. لم أصدّق ما رأيته … نهضت من فراشي إلّا أنّ إحدى الممرّضات جاءتني مسرعة . وطلبت منّي البقاء في السرير لأنّي لا أزال مريضا ولكنّي لم أعبأ بها .. وقفت أتأمّل حولي، وأنا في قمّة استغرابي وتعجّبي . ثمّ وقفت عند الشرفة فرأيت الشارع يعجّ بالسيّارات والمارّة

لم أستوعب ما يحدث لي .. هل كان كلّ ما مررت به عبارة عن حلم ؟ هل وقع لي حادث سيّارة فدخلت في غيبوبة طوال هذه الفترة ؟ مستحيل !
فجاة، دخل عليّ شخصان وهما يبتسمان.. نظرت لهما بدهشة .. ثم تذكّرت أنّهما نفس الشخصان اللذان حثّا الناس على التمرّد على المخلوقات الفضائيّة ثم ماتا بالأشعة الليزريّة القاتلة… ما إن نطقت حرفي الأوّل لهما حتّى طلبا منّي التزام الصمت ، ثم أخذا بيدي نحو حديقة المستشفى بعد ان أكّدا للممرضة بأنّهما سوف يعتنيان بي ..

ما إن وطأت أرض الحديقة، حتّى أخذت أتنفّس الهواء بعمق ثم رجوتهما أن يخبراني بما يجري، وكيف لم يموتا من إشعاعات السفينة الفضائيّة وقد اختفيا عن الأنظار؟
اجابني أحدهما: كلّ من يعلن الثورة والعصيان يعيدونه إلى الأرض ! إنّهم لا يريدون سوى المستسلمين الذين ارتضوا أن يعيشوا أسرى في سجن مركبتهم الفضائيّة، وهذا ما جرى لنا نحن الثلاثة
اجبتهم قائلا باندفاع : إذن علينا أن ننقذهم !
أجابني الشخص الثاني بأنّه لا فائدة من ذلك، فلن يصدّقنا أحد والسفينة لم ترصد، رغم أنّها تطير في أجواء الأرض . 
– ولكن هناك في الأفق البعيد آلاف البشر مثلنا أسرى مخلوقات شريرة . 
– إنّ نجاتهم بأيديهم، إذا ما توحّدوا و اتّحدوا ضدّ المخلوقات الفضائيّة وأصبحوا على قلب إنسان واحد فسوف يتحرّرون من الأسر. بالشجاعة ووحدة الكلمة سوف يتحرّرون من الأسر والإستعباد، إنّ تلك المخلوقات التي تبدوا لنا قويّة ومدمرّة لكلّ من يريد الخروج عن سيطرتها ضعيفة جدّا، إذا ما أصبحنا إرادة واحدة ضدّها ، وسوف يهزمونها ويدحرونها لا محال إذا واجهوها كإنسان واحد.

ودّعني، فقدر حان وقت خروجهما من المستشفى بعد علاجهما من آثار الإشعاعات الليزريّة.. 
مكثت مدّة أتعالج أنا أيضا منها ،

خرجت ولكنّي ظللت أحدّق في النجوم وأراقب السماء دون جدوى، كنت أتوق لرؤية سفينة القهر الفضائية لأثبت للعالم بأنّها موجودة وأنّ على متنها آلاف من بني جلدتنا مسجونين ومستعبدين فيها وأنّ علينا إنقادهم والقبض على تلك المخوقات الشريرة ومعاقبتها على إعتدائها على الجنس البشري.

مرّت سنوات وأنا أتطلّع إلى ذلك اليوم ولكن من دون جدوى ، حاولت التلميح للناس بأنّ هناك مخلوقات شريرة سلبت الأمل والنور والحريّة من آلاف البشر وأنّ علينا تحريرهم ولكن كان كلامي مجرد أوهام بالنسبة لهم ، ولكنّي سأظلّ أحدّق في آفاق السماء وأراقب مواقع النجوم حتّى أجدها وأحرّر أصدقائي حتّى لو انتظرتها إلى آخر العمر

تمت

تاريخ النشر : 2019-03-31

رائد قاسم

السعودية
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى