أدب الرعب والعام

موعد الثانية عشر (فيرال و تيلدا)

بقلم : ساحرة – الجزائر

يلقي بناظريه للمشهد الذي هزّ كيانه و حطّم آخر أمل لقلبه..
يلقي بناظريه للمشهد الذي هزّ كيانه و حطّم آخر أمل لقلبه..

بعد يوم عمل شاقّ، طويل، ملأه التعب و الضغوطات، عاد فيرال منهكا إلى بيته الصغير . سرير على يسار الغرفة بغطاء أخضر مريح . أمّا على الزاوية الأخرى، خزانة تبدو مهترئة قليلا . تتوسّط الغرفة نافذة تطلّ على مدينة ستراسبورغ .

‏«حقّا لقد كان يوما متعبا ..!!! » أخذ فيرال يردّد متشائما، بينما يجهّز نفسه للنوم ، ولم تمرّ بضع ثوان حتّى بدأ هاتفه العتيق بالرنين.. ترن.. ترن …
فيرال: من هذا الذي يتصل الآن ؟ ياللإزعاج …
أراميس : مرحبا فيرال
فيرال: أوه هذا أنت يا أراميس.. كيف حالك يا صديقي ؟
أراميس: بخير و لديّ أمر أودّ أن أقوله لكن مستحيل أن أخبرك الآن
فيرال: ماذا ؟ إذا لماذا تتّصل يا غبيّ؟
أراميس: غدا عند السادسة أريد لقاءك في مكاننا المعتاد
فيرال : حسنا ياصديقي سأحضر بالتأكيد

و ما إن أغلق فيرال الخطّ حتّى غطّ في نوم عميق ،،  

آه.. لم أعرفكم على فيرال ؟ إنّه شابّ عشريني، يتيم الأبوين، يعمل كموظّف في شركة صغيرة و يتقاضى راتبا محدودا . كان في صغره يعيش في باريس ثم انتقل بعد وفاة أبيه الى ستراسبورغ مع والدته التي ما لبثت حتّى توفيت هي الأخرى .. 

 

كانت حياة المسكين فيرال متعبة جدّا، فمن جهة ضغوطات العمل و أوضاعه المزرية مع الفقر، و من جهة أخرى وفاة والديه و وحدته التي لا يواسيها إلّا صديقه أراميس الذي تجمع بينهما صداقة وطيدة منذ عشر سنوات أي منذ انتقاله إلى ستراسبورغ … 

في اليوم الموالي، استيقظ فيرال على صوت منبهه المزعج متوجّها مباشرة إلى العمل ،، و ما إن أنهى عمله حتّى استقل سيّارة تأخذه إلى المقهى الذي اعتاد الذهاب إليه رفقة أراميس ،، هاهو ذا أراميس يلوّح بيده ليلتقي صديقه فيرال الذي لم يره منذ أسبوع بسبب الإنشغال الدائم ،،

بدأ الحوار الذي لا يخلو من العتاب و الشوق و من ثم أخبر أراميس صديقه فيرال بما يهزّ كيانه . تسارعت نبضات قلبه عندما سمع اسمها “تيلدا قادمة غدا” لتتوالى الذكريات و لتعود الذاكرة بفيرال إلى ما قبل عشر سنوات ، إلى تلك الأيّام الربيعيّة الجميلة عندما التقى تيلدا لأوّل مرّة ،، عندما كانت أوّل شخص يكلّمه صباحا و آخر شخص يودّعه قبل النوم ،إلى أيّام الشباب، حين لعبا لعبة التأرجح، و حين كانت تهزمه في لعبة المصارعة، و عندما وقعت و انكسرت ساقها ثم حملها بقية الطريق..

 

نعم.. كانت تيلدا حبّ فيرال الأوّل، الذي لم يستطع أن ينساه لكلّ هذه السنوات ، ليقطع أراميس حبل أفكاره، معاتبا إيّاه على شروده … و ما إن استيقظ فيرال من شروده، حتّى ذهب راكضا إلى بيته، مودّعا أراميس، الذي كان يخفي عن فيرال الكثير ، فما كان منه إلاّ السكوت و تجاهل السبب الرئيسي لهذه الدعوة .. أمّا فيرال فذهب راكضا إلى بيته ليخلو بنفسه و يفكّر كيف يلتقي تيلدا، حبيبة قلبه التي لم يسمع عنها منذ تركها في باريس ،،

 

كانت السعادة تملأ قلبه إلى أن استوقفته المرآة . لينظر إلى نفسه، ليتذكّر من يكون الآن، لتتحوّل السعادة إلى حزن و البسمة إلى دموع ملأت عيناه ،، ذلك المنزل الكبير الذي كانت تعرفه تيلدا قد أصبح الآن شقّة من غرفة و حمام ،، و تلك العضلات التي كانت تزيّن جسد فيرال قد اختفت . و تحوّلت إلى عظام بارزة بسبب النحافة ، و ذلك الشعر الأملس قد أصبح مجعّدا بسبب الشقاء . و ما بقي في فيرال إلّا قلبه الذي لم يتغيّر أبدا ،،

 

 
لم يستطع فيرال النوم لبقية اللّيل، بل و لم يستطع التوقّف عن التفكير حتّى صباح اليوم التالي،، و بعد يوم عمل شاقّ آخر، توجّه فيرال إلى منزل أراميس ليتجهّز للقاء تيلدا ،، و ما إن فتح أراميس الباب حتّى لاحظ فيرال الغرابة في ملامح صديقه، بل و ملامح لم يعهدها يوما . و رغم سؤاله عن سبب ذلك، غير أنّ أراميس تجاهل كل تلك الأسئلة و اكتفى بتقديم كوب من العصير لصديقه بابتسامة مصطنعة أخافت فيرال و زادت من توتره ،،

و بعد دقائق من الصمت، سأل أخيرا فيرال عن المكان الذي ستأتي إليه تيلدا ممّا زاد من ارتباك أراميس حتّى أوقع كوب العصير بجانبه. ثمّ أجابه بصوت متهكّم:‏« نعم.. تيلدا لقد أخبرتها أن تأتي إلى تلك المقهى قرب المحطّة ما إن تصل ،، » و رغم عدم ارتياح فيرال لتصرّفات صديقه الغريبة، غير أنّه غادر مودّعا أراميس و طالبا منه لقائه في تلك المقهى مع تيلدا،،

 

و عندما حلّت الساعة التي من المفترض أن تصل فيها تيلدا، حسب ماقاله أراميس و قد مضى ساعة على انتظار فيرال و هو جالس قرب المحطة، كانت الساعة تشير إلى الثامنة و أخذت تتسارع الدقائق و الساعات مع تسارع نبضات قلب فيرال الذي أحسّ أخيرا بأنّ الوقت قد تأخّر ، نظر إلى ساعته ليجدها الحادية عشر و لم يحضر أيّ من الصديقين . فما كان منه إلاّ أن يتّصل بأراميس الذي لم يجب على هاتفه ،،

 

شعر فيرال بالإحباط الشديد . و بدون وعي منه، أخذ في المشي إلى اللّا مكان، تستوقفه دقّات الثانية عشر في إحدى المقاهي من خلف الزجاج، ليلقي بناظريه للمشهد الذي هزّ كيانه و حطّم آخر أمل لقلبه..

 

مشهد صديقه أراميس و حبّه الأوّل تيلدا يتبادلان النظرات و اللّمسات قد أذبل روحه و أوجع قلبه . … هل هي خيانة الأصدقاء ؟ أم خسارة الأحبّة ؟ هو فقط الألم أيّ كان السبب … و اختفى فيرال بعد ذلك . فقط لأنه أراد لتيلدا أن تحتفظ بتلك الذكريات الجميلة دون أن ترى واقعه الآن ،، على الأقل أن تتذكّر فيرال الشاب الوسيم الغنيّ كذكرى جميلة عن حبّها الأوّل..

ببساطة، ليس كلّ قصّة يقال بنهايتها و عاشوا بسعادة مدى الحياة .. أحيانا قد نضطر للعيش فقط لأّنه يجب علينا ذلك

تاريخ النشر : 2019-04-18

ساحرة

الجزائر
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى