تجارب ومواقف غريبة

التعايش مع الجن في الخدمة العسكرية الإلزامية

بقلم : أبو محمد العيساوي – ليبيا
للتواصل : [email protected]

أبى جيراننا من الجن إلا أن يرسلوا لنا نائباً عنهم ليودعنا

 تحياتي العطرة لمتابعي ومشرفي هذا الموقع الاستثنائي و الذي أتابعه منذ نشأته بشكل يومي  دونما أي مشاركة ، واليوم أرسل لكم هذه المشاركة عن ذكريات شباب رجل شارف مرحلة الكهولة ، وعاين  أحداثاً تجعل الولدان شيبا.

كان ذلك أيام الشباب في نهاية ديسمبر من عام 1992، أثناء الخدمة العسكرية الإلزامية لسنتين ، والملزم بها كل خريج حديث التخرج ، حيث تم توجيه كتيبتي لمنطقة ” أوزو ” على الشريط الحدودي الليبي مع الجارة الجنوبية جمهورية تشاد ، وهو شريط مقفر موحش أيما وحشة ، تنازعت ليبيا وتشاد حق ملكيته فكان مسرحاً لمعارك دامية قُتل فيها  الكثير من لجنود من الجانبين، و قامت بعدها هدنة ، تمركزت فيها قوات البلدين كلا على جانب من جانبي الشريط شماله وجنوبه .

بعيد وصولنا بالطائرة العسكرية و تقسيمنا لمواقع مترامية الأطراف يبعد بعضها عن بعض كيلومترات عديدة في مناطق مُحاطة بحقول الغام واسلاك شائكة ، يتشكل كل موقع من كوخين أو ثلاثة أكواخ من الصفيح ، يتم تغطيتها بقطع مهترئة من ممزق الخيام العسكرية فوقها شبكة تمويه عسكرية ، دونما إنارة كهربائية أو ماء جار، إلا من صهريج مياه متنقل يتم ملؤه بواسطة سيارة نقل مياه تأتي للموقع مرة كل أسبوعين مع التموين الجاف للجنود.

كنا عشرة جنود في موقع منعزل من كوخين ، يبعد أحدهما عن الآخر حوالي مائة متر و يحيطه من الجهة الغربية حقل الغام تطوقه أسلاك شائكة ، فيما تمتد الصحراء الرملية من الجهة الشرقية لعدة كيلومترات ، وصلنا للموقع و وجدنا  بضع جنود سابقين من الدفعة التي تسبقنا تم تكليفهم بالبقاء لأيام معنا ليعلمونا أساليب التعامل المسلح  مع أي اختراق محتمل للمنطقة من قبل الجنود التشاديين ، و قواعد الاشتباك العسكري ونحوها.

وبعد استلامنا لأسلحتنا و ذخيرتها ، و جولة في الموقع ، خلدنا للنوم بعد توزيع مهام نوبات الحراسة الليلية ، بعد أن شرع أحدهم بالآذان وصلينا جماعة.

بعد مضي يومين جاء موعد رحيل الجنود السابقين وعودتهم لطرابلس ، وقبل رحيلهم أخبرونا ضرورة ألا ننسى الآذان أمام كوخينا عند كل مغيب ، و ضرورة المحافظة على الصلوات جماعة ، و عدم الانزعاج فيما لو ” خيل إلينا ” سماع أصوات ليلية أو رؤية أضواء سيارات قادمة لموقعنا من جهة حقول الألغام المسيجة ، ما أثار دهشتنا واستغرابنا ، لكنهم بسطوا لنا الأمر أن الأمر له علاقة بطبيعة المنطقة وتضاريسها ومناخها الذي لم نعتد عليه.

و قاموا بكتابة آية الكرسي في وريقة متوسطة ألصقوها بالباب المهترئ غير محكم الإغلاق لكوخنا الأشد اهتراء ، فشكرناهم على صنيعهم دون أن نفكر فيما وراءه.

و بعد رحيلهم بليلة ، و بعد تناولنا لعشاء بسيط أعقب دردشة على ضوء الفتيل المصنوع من خرقة قماش خيمة تم غمسها في زيت محركات شاحنة ، تكاسلنا كشأن المجندين من الشباب عن توزيع مهام نوبات الحراسة في ذلك الموقع الشديد الانعزال والبعيد عن مواقع الضباط ، في تلك الليلة شديدة البرودة ، و وكلنا أمر الحراسة للكلاب ” أكرمكم الله ” التي كان يربيها الجنود السابقين ، جاعلين من نباحها علامة تنبيه لنا إن رأت سيارة الضابط تتجه نحونا من على بعد ، و يا لسوء ما صنعنا ! كنت نائماً في كوخنا المستطيل الشكل والذي ينام فيه كل منا  بشكل طولي ، بجانب ضلع من أضلاعه ، بحيث يكون رأس كل جندي منا ملاصقا لقدمي الجندي الذي يليه ، فيما يبقى وسط الكوخ فارغاً ، لتسهيل الحركة ليلاً ، وبعد مضي ساعات قليلة على نومنا ، أيقظني صوت رفاقي وهم يرتدون معاطفهم و يتمنطقون أسلحتهم و يهمون بالخروج من الكوخ ، بعد إشعالهم للفتيلة ، فسألتهم عما يجري فقالوا : أنهم سمعوا صوت خطوات مشي حول الكوخ مع نباح غريب للكلاب ، ثم جهزوا أسلحتهم في وضع الرماية و خرجوا دون أن ينتظروني

 و فيما كنت أجهز نفسي وسلاحي و ارتدي حذائي ومعطفي للحاق بهم ، كنت أسمع همسهم وهم يدورون حول الكوخ لاستقصاء أي أثر محتمل لذلك المتسلل المحتمل ، ثم عادوا للكوخ في اللحظة التي كنت أهم فيها بالخروج ، فمنعوني من الخروج قائلين أنهم لم يجدوا أي أثر ، و اقفلوا الباب ، ثم انزوى كلاً منهم في ركنه دون أن ينبس ببنت شفة وكأن على رؤوسهم الطير .

حاولت طمأنتهم و تذكيرهم بنصيحة الجنود السابقين لنا بخصوص تأثير تضاريس المنطقة و جبالها و رياحها و أنهم لا بد خيل لهم ما قد سمعوا ، فهزوا رؤوسهم ونصحوني بالعودة للنوم ، وهذا ما صنعته حقاً بعد إطفاء الفتيل.

ظللت نائماً لفترة لا أدري طولها ، و فيما كنت أتقلب على جانبي سمعت  لأول مرة في تلك الليلة المرعبة صوت مشي غريب يمر في الجانب الخارجي لجدار الكوخ الصفيحي الذي أنام قربه ، و يا لهول ما سمعت ! كان صوتاً لا يشبه صوت المشي المعتاد على الرمال أو الحصى ، بل أقرب ما يكون للصوت الصادر من لابس خف الحمام المبتل وهو يصدر صوتاً أشبه بالزقزقة ، و كان يلف حول الكوخ حتى يصل للباب الغير محكم الإغلاق ليقف عنده ، ثم يعاود دورانه حول الكوخ ليمر بجانب اللوح الصفيحي الذي يفصلني عنه و هكذا.

عندها و وسط ظلام الكوخ الحالك انتابني رعب لم أشعر به يوماً في حياتي ، رغم أن رفاقي يعدونني من أشجعهم و أقواهم جناناً ، لكنني والحق يُقال ، كدت أصاب بالشلل كلما مر ذلك الماشي بصوت خفه الغريب على الجانب الخارجي من لوح الصفيح الذي يفصل بيني وبينه ، و ما كان خوفي إلا لإدراكي متأخراً أن هذا الماشي الذي لم يجد له رفاقي أثراً و لا يمكن أن يكون متسللاً تشادياً أو من بني البشر عامة ، بل من خلق آخر، جعل جنود الموقع السابقين يحصنون باب المدخل بآية الكرسي.

بدأ العرق ينز من جبيني رغم شدة البرد ، وحاولت الكلام لإيقاظ رفاقي النائمين ، فلم يطاوعني لساني على النطق من شدة الرعب ، و باتت دقات قلبي كطبل أفريقي ، فما كان مني إلا مد يد مرتعشة من تحت اللحاف ، أهز بها قدم رفيقي ” صلاح” الملاصقة لرأسي ، فلم يستجب.

أعدت هزها مرات و مرات  لكن دون أي استجابة منه ، وكأنه من الأموات ، فما كان مني من شدة خوفي أن أبقى وحدي من يستمع لهذا الجني في نزهته الليلية ، إلا أن أستبدل الهز بالقر ص، أقرص به أصابع صلاح  مرة تلو المرة ، لكنه يكتفي بإبعاد أصابعه دون أن ينبس ببنت شفة ، فتغلب الغضب منه بداخلي على الخوف من الجني المتسكع ، و نجحت في النطق بأول كلمات ، عاتبت فيها صلاح قائلاً بصوت ضعيف مرتعش :

 صلاح ، لماذا لا تستجيب لي ؟.

فقال صلاح بصوت أكثر ارتعاشاً :

آهذا أنت الذي تهزني وتقرصني منذ لحظات . قبحك الله ، لقد أرعبتني ، لقد ظننتها معابثة ممن يمشي في الخارج و قد نجح في التسلل للكوخ !.

عندها تحرك باقي رفاقي ، والذين ظننتهم نائمين فأشعلوا الفتيلة ، وقالوا أنهم لم يناموا منذ سمعوا الصوت في المرة الأولى  وخرجوا للبحث فلم يجدوا شيئاً ، و ايقنوا عندها أن ضيفنا الزائر ليس من تشاد ولا من ساحل العاج بل ممن يروننا ولا نراهم.

قمت عندها و قد زال عني الشلل وعادت لي شجاعتي الهاربة ، مستأنساً برفاقي و ضوء الفتيل بالأذان بصوت عالي شديد العلو، لا يدانيني فيه أي مكبر للصوت ، أعقبه تلاوة لآية الكرسي و خواتم سورة البقرة والمعوذات،  وما لبث الصوت أن انقطع ، بعد أن كادت أنفاسنا تتقطع.

تعلمنا من هذه الزيارة  الترحيبية المبكرة لجيراننا من الجن ألا ننسى الأذان عند كل مغيب ، و عندما يطول غيابهم وننسى بهذا الغياب أن نصدح بأذاننا ، تنبهنا زيارات مجددة لهم بذلك ، فمرة نسمع مشي أحدهم فوق سقف الكوخ ثم قفزه أمام بابه ، و مرة نسمع صوت ارتطام أحدهم بأحد جدرانه ، و مرات عديدة نسمع صوت قرع طبولهم يشتد ويخفت ، حتى تعايشنا مع أصواتهم ، وأعتدنا عليها فلم تعد تحرك فينا ساكناً ، وبتنا كلما سمعنا طبولهم تقرع ، نفتح باب الكوخ ونصرخ بهم قائلين :

ألا تستحون أن تقيموا عرساً ولا تدعوننا إليه ؟.

وبقينا على هذا الحال قرابة العام  نسمع أصوات مشيهم  وقفزهم وقرع طبولهم و نرى أضواء تقترب من موقعنا ، نظنها أضواء سيارة الضابط في نوبة التفتيش، فلا تلبث، بعد اقترابها أن تتلاشى.

حتى جاءت ليلة قبيل انتهاء مهمتنا ومغادرتنا لطرابلس ، حيث أبى جيراننا من الجن إلا أن يرسلوا لنا نائباً عنهم ليودعنا ، متجسداً في قط كالح السواد دخل لكوخنا ونحن نهم بالنوم ، ولم يكترث رغم محاولة إخافته بالتلويح له والصراخ عليه ، ولم يخرج إلا بعد قراءة آية الكرسي ، التي تلعثم بها لساني المرتعش رعباً ، بعد أن اعتدنا على سماعهم دون رؤياهم ، لكن ليس من رأى كمن سمع و ليس الخبر كالعيان ، و لكم خالص تحياتي

تاريخ النشر : 2019-05-01

guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى