أدب الرعب والعام

العالم والصعلوك _الفصل الأوّل_

بقلم : النصيري – مصر

يختفي أحيانا لفترات قد تطول لشهر ثمّ يظهر بعد ذلك أكثر إنفاقا وأكثر بذخا
يختفي أحيانا لفترات قد تطول لشهر ثمّ يظهر بعد ذلك أكثر إنفاقا وأكثر بذخا

بقرية نائية في صعيد مصر، حرارة الجوّ مرتفعة في وقت الظهيرة . تبدو البلدة ساكنة تحت أشعّة الشمس الحارقة إلّا من من أجبرته الضرورة للخروج لقضاء بعض احتياجاته لكن الأمر مختلف مع “عبد الرشيد الجعر”، فهو دائما بالخارج في الصيف الحارّ أو الشتاء قارس البرودة 

هو شابّ قارب عمره الثانية والعشرون، طويل القامة، تبدو عليه النحافة واضحة، كأنّه فزّاعة متحرّكة، ذا شعر خشن، يظهر عليه قلّة النظافة، بشرته سمراء، ويظهر في كلامه التلعثم والبلاهة، يرتدي جلباب لم يغيّره منذ فترة طويلة، اعتلته علامات الإتّساخ، حافي القدمين، تظهر الشقوق واضحة على كعبيه، لم يعرف ل”عبد الرشيد الجعر” أب أو أم، فهو جاء تائه إلى القرية . ومنذ أن كان طفلا في الرابعة من عمره، لم يسأل عنه أحد . فتكفّله أهل القرية بمأكله ومشربه وملبسه . وعندما كبر وأصبح شابّا، أصبحت دار المناسبات بالبلدة مسكنا له . وإذا كان هنالك مناسبة عرس كانت أو ميتم، كان “عبد الرشيد الجعر” ينام خارج الدار على أحد المصاطب المصنوعة من الطين، دون غطاء أو فراش . 

لم يكن أحد ليعرف كيف يفكّر.. هل عبد الرشيد له أحلام يرغب في تحقيقها ؟ هل يريد أن يكون له أسرة ؟ زوجة ؟ وأولاد ؟ أهل القرية كانوا ينظرون إليه على أنّه كائن بلا مشاعر ولا رغبات . فهو يشرب ويأكل فقط . وربّما يذهب إلى مقهى القرية ليتعاطى التبغ . كان المقهى عبارة عن بناء مصنوع من الطين . تبدو عليه الكآبة . يتواجد به من تجاوز الستّين من أهل القرية أو بعض الشباب الذين لا يجدون عملا يقومون به سوى لعب الورق . وكثيرا ما كانوا يرفعون أصواتهم وهم يلقون بالورق أو قطع الدومينو على المنضدة بقوّة ثم يعقب ذلك الشجار على من يدفع ثمن المشاريب 

ذات مرّة، عجز أحد الشباب عن سداد ثمن المشاريب لصاحب المقهى . فأصرّ صاحب المقهى أن يأخذ ملابسه رهن . فخرج الشابّ بملابسه الداخليّة، مفضوحا، يضحك عليه الجالسين والمارّة في الطريق . ولم يمتنع عن الجلوس على المقهى . فسرعان ما عاد ليسدّد ثمن المشاريب لصاحب المقهى . عاد للعب الورق الذي أدمنه إدمانا فسار يجري في دمه . كلّ ذلك يحدث و”عبد الرشيد الجعر” في موقف المتفرّج . فعرف كلّ أفراد القرية . وعرف طباعهم . كره من كره، وأحبّ من أحبّ دون أن يبدي ذلك . فهو مطيع للجميع من أجل الحصول على وجبة طعام أو بعض القروش ليشتري بها التبغ أو الحلوى . وبالمقهى تلفاز قديم، كان “عبد الرشيد” مدمن عليه لمتابعة المسلسلات . ينظر بإمعان إلي النساء الجميلات . وفي قرارة نفسه يودّ أن يخرجن له من التلفاز ليراهنّ على الطبيعة . لكن من لقبه ب”عبد الرشيد” ؟

سأله الجميع عندما عثروا عليه تائها وهو في الرّابعة من عمره: « ما اسمك ؟ » فلم يجبهم.. يبدو أنّ الموقف الذي تعرّض له من فقدان أمّه أو أبيه أنساه اسمه الحقيقيّ . فاقترح أحد الأهالي أن يسمّوه “عبد الرشيد” على اسم سائق عربة الأجرة الوحيد في القرية . ولكن لماذا ذلك الشخص بعينه ؟ ربما لأنّه كان شبيها به

ومرّت السنون، فكان عبد الرشيد بطيئ الفهم، فإمّا أن يأتي بعكس ما يطلب منه أو أن يعود مرّة أخرى ليستفسر عما طلب منه . فأطلق عليه لقب “الجعر” . فلم يؤذه هذا اللقب الجديد الذي أحلّ مكان اسمه . فنسي النّاس “عبد الرشيد”، ونادوه بلقبه الجديد “عبد الجعر”

كان عبد الرشيد ينظر خاصّة إلى نساء القرية دون أن يعيروه أيّ انتباه . وهو يطّلع على مفاتنهنّ . فهو في نظرهنّ لا يدرك شيئا . فهو على الرغم من علامات الرجولة التي ظهرت عليه، إلّا أنهنّ يعتبرنه كالطفل . أحسّ “عبد الرشيد” في ذلك بمتعة . فكان يطيل النظر ويـتأمّل ولكن كشف أمره ذات مرّة . فقد أدركت إحداهنّ نظراته الحادّة فأسرعت بلطمه على وجهه وأخرجته من الدّار، وبدأت تقصّ لكلّ من تقابله بما حدت من عبد الرشيد الجعر، إلّا أنّ كلّ من تقصّ له كذّبها واستغرب منها ذلك . إلّا أنّ هذه الحادثة جعلت النسوة يحترسن منه ويتحشمن في وجوده . وحرم من دخول الدور في غياب أصحابها . وقدّم له الطعام حيث يقيم في دار المناسبات فضاقت عليه القرية ولكن ما بيده حيلة . أصبحت دنياه و وطنه المقهى ودار المناسبات والترعة التي كان يستحمّ بها

***
 
“مراد السيّد”، أحد شباب القرية، تعلّم حتّى نال درجة اللايسنس في علوم اللغة العربّية وآدابها . تميّز بفصاحة اللّسان إذا ما دخل في حديث مع أحد . واستمرّ في تحصيل العلم حتّى نال درجة الماجستير في دراسة عن شعر أبو الطيّب المتنبّي . وهو ينتظر مناقشة رسالة الدكتوراه التي قارب على الإنتهاء منها . وهو يأمل أن يعمل بها كأستاذ بأحد الجامعات المصريّة . وكان يشعر بسعادة بالغة عندما يناديه الناس بلقب “دكتور” . وكان بعض البسطاء من الناس يستغرب ذلك .. « كيف يكون دكتور من دون أن يمتلك عيادة يعالج بها المرضى ؟ » يردّ على هؤلاء على أنّه دكتور في الآداب . يستغربون ذلك.. « هل للأخلاق دكتور ؟ ومنذ كان لها دكتور ينظر لهم نظرة استعلاء فهو لا يرى فيهم إلّا “عبد الرشيد الجعر” فهم أقلّ منه فهما »

“مراد السيّد” تراوده أحلام كثيرة، فهو على يقين أنّه بعد حصوله على درجة الدكتوراه التي أجّل بسببها أمورا كثيرة، فهو يرغب بالزواج، وقد تخطي عمره الثلاثون . وكثيرا ما ينتابه الشعور بالخجل من والده المسنّ الذي أرهقه في الإنفاق عليه وعلى تعليمه دون مقابل أو عمل يدرّ عليه ربح . كان لا يجيد أعمال الزراعة . ويأنف أن يعمل بها لمساعدة والده المسنّ وإخوته الذين فضّلوا العمل كمزارعين على الإلتحاق بالتعليم . فأصابهم الجهل . فكان مراد السيّد أو الدكتور كما يناديه أهل القرية يشعر بالعار أنّ إخوته أميّون . حاول أن يعلّمهم، فواجه صعوبات كثيرة . وكثيرا ما كان والده يتندّر عليه قائلا له ما الذي سيجنيه إخوته إذا تعلّموا القراءة. وكان يأنّبه دون قصد: « يا مراد ! أفنيت جزءا كبير من عمرك في التعليم.. ما الذي عاد عليك منه ؟ » يشعر مراد بالحزن من كلام والده ويقنعه أنّه بمجرّد حصوله على درجة الدكتوراه، سيعمل أستاذا للّغة العربيّة في إحدى الجامعات المصريّة بمقابل كبير . وسوف يعوّضه عن شقاءه بأن يجعله يؤدّي فريضة الحجّ . ويحجّ عن المرحومة أمّه التي تمنّت هذه اللّحظة . يضحك والده ضحكة كلّها أمل في أن يتحقّق حلم مراد . 

هل سيتزوج مراد السيد بعد حصوله على درجة الدكتوراة مباشرة ؟ وهل سيجد وظيفته في الإنتظار ؟ ومن التي سوف يتزوّجها ؟ هل سيتزوّج فتاة أميّة من قريته، وهو أستاذ في اللّغة العربيّة ؟ أم يسعي من الزاوج من إحدى فتيات المدينة يسعد بها وتسعد بيه، وتتفهّم ما حصّله من علوم، وتزرع ذلك في أولادهم مستقبلا ؟ ولكنه انشغل بدراساته وأبحاثه وبدأ ربيع العمر والشباب في طريق العودة، إذا طريق الزواج من أولوياته . بمجرد انتهاء المناقشة وإقرار اللّجنة منحه درجة الدكتوراة، سيبحث عن الفتاة المناسبة ليتزوّجها .. دارت في ذهنه الكثير من التساؤلات.. ماذا لو تأخّرت وظيفته ؟ هل سيصبح عالة على والده المسنّ وإخوته ؟ .. حاول طرد ذلك الهاجس من تفكيره ولكن لا.. لا يمكن أن يحدث ذلك . إذا لو حدث ذلك، فما الفرق بينه وبين عبد الرشيد الجعر ؟؟ انتابته رعشة خوف عندما تذكّر “الجعر” ربّما يكون “الجعر” أفضل منه، فهو يعمل مقابل طعامه ويمكن أن ينام في أيّ مكان دون أن يلومه أحد ولكن الأمر يختلف معه . فكيف له كأستاذ في علوم اللّغة العربيّة وآدابها يعمل حتّى لو بفلاحة الأرض أو يتّخذ منزلا متواضعا ؟ .. تسلّل إليه شيء أنكره قبل ذلك. عندما عرض عليه والده أن يعمل بمدرسة القرية بنظام الحصّة، بعد أن حصل علي مؤهّله الجامعيّ ولكن كيف يعمل بأجر زهيد وعمل غير دائم من الممكن أن يضيع في أيّ وقت ؟ هل هو الآن يشعر بالندم على تفريطه في مجهوده وعمره لنيل درجة الدكتوراه ؟ هل هو أذنب في ذلك ؟ هل هو ارتكب جريمة في حقّ والده وإخوته الذين أنفقوا وما زالوا ينفقون عليه ؟ 

تسلّل اليأس إلى قلبه . وشعر أنّه لا يستطيع أن يستنشق الهواء . كيف سينظر إليه أهل القرية وهو بلا عمل ؟ وهم متأكّدون أنّه الأستاذ المرتقب والذي جاءت به قريتهم لخدمة العلم ورقيّه ؟ كيف وهو قد نسي اسمه من كثرة تداول لقب “دكتور” ؟ .. « أهلا يا “دكتور” ‏».. « وعليكم السلام يا “دكتور” ‏».. «اسألوا “الدكتور”‏» أمّا اسمه، “مراد السيد” لم يذكره أحد.. كلّ هذه الأفكار والخواطر راودته وهو في الطريق إلى الأرض التي يعمل فيها والده

قبيل آذان العصر، تكون الشمس مالت قليلا عن كبد السماء لتقلّ حرارتها . فيستأنف الفلّاحون أعمالهم . لم يتعوّد “مراد السّيد” ركوب الحمير . ولم يجد ذلك، بل كان يفضّل السير على أقدامه، بل إنّه يجد في ذلك متعة له . وربّما يجد حلولا مع نفسه لكثير من مشكلاته . وقد لاحظ البعض أنّ مراد كثير الشرود . وربّما يصل الأمر به أن يحدّث نفسه بصوت شبه مسموع . فكان من يراه يلتمس له العذر بأنّه يعيش بين أكوام الكتب.. أو بمفهوم أخر، أنّ كثرة القراءة كادت أن تمحو عقله . فجعلته في عالم آخر يختلف عن عالمه

قبل أن يقترب مراد السيّد من حقلهم، شاهد إخوته يعملون، مرهقين . فخفق قلبه إشفاق عليهم . فعزم الأمر أن يساعدهم . وحالما وصل إليهم، شمّر عن ساعديه وأمسك بالفأس . وحاول تنقية بعض الحشائش من بين أعواد الذرة الشامية . فلم يجد ذلك . فضحك أخوه الأصغر . وأمسك منه الفأس وقام بتنقية الحشائش بحرفية وإتقان . وقال له بما معناه أنّك لم تخلق للفأس . لم يجد مراد مفر من ذلك الموقف إلّا الجلوس على الأرض

***

اقترب موعد مناقشة رسالة الباحث “مراد السيّد” . وقد حدّدت له لجنة المناقشة والحكم يوم التاسع من سبتمبر عام 1998 في القاعة بجامعة القاهرة، وهو في منتصف أغسطس . لم يتهيّب مراد الموعد، فهو في شوق إليه حتّى يتفرّغ للبحث عن عمل . ويصبح له شأن ويثبت لوالده أنّه أصبح على قدر المسؤوليّة . واستمر في مراجعة فصول الرّسالة والمراجع التي جمّع منها المادّة العلميّة . واستمع جيّدا للجنة الإشراف . وأصبح جاهزا لأيّ أسئلة أو نقد يوجّه إليه من قبل لجنة المناقشة والحكم . سافر معه بعض أعمامه وأبناء عمّه وأخواله ليشاهدوا منحه الرّسالة . معظم من سافر معه لا يعرفون القراءة، أميّون ولكنّهم سافروا معه لأنّهم يدركون تماما أنّ مراد سيكون له شأن عظيم حتّى أنّ أحد أعمامه غضب غضبا شديدا من لجنة مناقشة الماجستير وهي تنتقد مراد، وهو لا يستطيع الردّ، لا يملك إلّا أن يهزّ رأسه علامة على السمع والطاعة واعترافا بخطئه . وعندما اعلنت النتيجة، وصفّق من بالقاعة، زادت دهشته . كيف تكون المناقشة حادّة و تنتهي بالتصفيق ؟ لفت مراد نظره هذه المرّة بألّا يغضب إذا حدث الأمر مرّة ثانية .

اجتمع الطلّاب والضيوف في القاعة وبدأت المناقشة . خفق قلب مراد في بادئ الآمر ربّما يكون فرحا باقتراب نهاية مشوار كفاحه وبداية حياته العمليّة . انتهت اللّجنة بمنحه درجة الدكتوراه بتقدير امتياز . ملأ التصفيق القاعة . وصعد إخوته يقبّلونه ويحتضنونه . لم يسمع مراد شيء من ذلك، ولم يرى أحد، فشرد عقله بعيدا كأنّه حقن بمخدّر . غاب عن الوعي، عن من في القاعة، وانتقل إلى عالم آخر مفروش بأحلام الورديّة والحياة الناعمة بعد طول شقاء وعناء البحث والتنقيب والتقلّب بين آراء المراجع المختلفة .

علمت القرية النائية في صعيد مصر المرتمية في حضن الجبل بأنّ مراد السيّد حصل على درجة الدكتوراه . وانقسم الرأي حوله بما أنّه أوّل من يحصل على درجة الدكتوراه في القرية. وربّما يكون عدد الحاصلين على درجة اللايسنس أو البكلوريوس لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة . إنّ التعليم لا يكون مثمرا إلّا إذا حصل صاحبه علي فرصة عمل وإلّا ما فائدة المؤهّلات إن لم تعد علي صاحبها بالمال ؟ ورأي آخر بأنّ العلم وسيلة تنير العقل وترقي بصاحبه في عيون الناس . 

وكان من أصحاب الرأي الأوّل “ممدوح عمران” هو رجل قد تجاوز الأربعين من عمره، ممتلأ الجسم، له رأس ضخم كأنّه وضع علي كتفيه دون عنق، له شارب كثّ عينان حمراوان كأنّهما تعانيان من حساسيّة مزمنة . يضحك بصوت لا يتناسب مع حجمه، وتشعر عندما تسمعه أنّك تسمع صبي صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره . وهو غريب الأطوار، غير واضح، كأنّه يخفي إسرار عديدة، ليس له عمل محدّد، يقضي معظم أوقاته على مقهى القرية الكئيب، وينفق في سخاء، لا تعلم من أين يأتي بالأموال، ليس له من الأرض إلّا نصف فدّان لا يزرعه وإنّما يؤجّره . كلّ عمل لا يعود عليه إلّا بمبلغ زهيد لا يتناسب مع إنفاقه وبذخه الذي احتار فيه أهل القرية حتّى أنّهم نسجوا حوله الأقاصيص . منهم من قال أنّه يتاجر في المخدّرات، ومنهم من أنكر ذلك وردّ الآمر إلى البركة وأنّ ممدوح عمران رجل خيّر وبارك الله له في ماله . 

ومن الغريب، أنّ ممدوح عمران يختفي أحيانا لفترات قد تطول لشهر ثمّ يظهر بعد ذلك أكثر إنفاقا وأكثر بذخا . وأحيانا، يأتي معه بعض الرجال . يمضون معه بضعة أيّام في بيته التي هي في معزل عن منازل القرية التي هي في حضن الحقول المزروعة. ولا تعرف ماذا يفعل هؤلاء الغرباء في منزله طوال هذه الأيام . وتساءل البعض.. طالما ممدوح عمران بهذا اليسر والمقدرة، لماذا لم يتزوّج حتّى الساعة؟ أفتى أحدهم بأنّ ممدوح عمران، في شبابه، أحبّ إحدى الفتيات . كانت على قدر كبير من الجمال . وكان والدها رجل معدوم الحال. وتقدّم للزواج منها ووافق والدها. وكان ممدوح كثير التردّد على منزلها إلّا أنّ النّاس لا ترحم. فشيع أنّه يمارس الرذيلة مع خطيبته، وهو سرّ تأخّر “ممدوح عمران” في الزّواج بها . وعندما أخبرته بذلك، هوّن عليها الآمر وأقنعها بأنّه لا يمكن أن يستغني عنها . وانّه في طريقه لإعداد الجهاز ولكنّه يبدو أنّه كان شيء ما يشغله . ومن المؤكّد أنّ هذا الشيء ضروري لأنّه يرغب في إتمام الزواج وبسرعة . وهذا الآمر يعطّله ولكنّ الفتاه أحسّت أنّه يتلاعب بها . فأقدمت على الموت بأن أشعلت في نفسها النيران . انسحبت من أمام الشائعات التي طالت سمعتها وكرامتها . عندما علم ممدوح بذلك، حزن عليها حزنا شديدا، لدرجة أنّه ظلّ فترة طويلة مكتئبا، لا يخرج من بيته النائي إلّا من بعد أن جاءه الغرباء، فأقنعوه بالخروج، وأن يعود إلى عمله الذي لا يعرفه أحد من أهل القرية . ومنذ ذلك الحين، وممدوح عمران اعتزل الزواج كأّنه أقسم على نفسه ألّا يتزوّج غيرها بل واعتزل النساء تماما . وإذا ما تعامل مع إحداهنّ، تعامل بجفوة وقسوة قلب وكأنّ ذلك سيبعده تماما عن التفكير في الزواج بغيرها 

أفتى “ممدوح عمران” بأنّ الدكتور مراد السيّد إن لم يتمّ تعينه، فهو على رأي المثل “كأنّك يا أبو زيد ما غزيت” وكأنّ الدكتور لم يجني ثمرة مجهوده في البحث ولكنّه يجد معارضة شديدة بأنّ “مراد السيد” إذا لم يجد عملا في مصر، فالمجال مفتوح أمامه قي دول الخليج، حيث الأموال وفرص العمل الكثيرة ولكن في إصرار شديد يردّ “ممدوح عمران” بصوت كصوت الأطفال مع جحوظ عيناه الحمراوتان، مؤكّدا كلام معارضيه : تمام.. تمام.. سيجد عمل ولكن ربّما يعمل معلّم أطفال وليس في الجامعة

فإذا سمعت ممدوح عمران ونظرت إليه وهو يتكلّم، تشعر بالحيرة في من يتكلّم وربّما تبحث عن مصدر الصوت . وذلك لعدم ملائمة الصوت مع حجمه .

يكون الردّ : وماذا يعني معلّم أطفال ؟ المهمّ الراتب والأموال . يضحك ممدوح بصوت حادّ : شيء غريب وإذا ما فائدة الدكتوراه ؟

قاطع “ممدوح عمران” رجل قصير القامة خفيف الحركة كأنّه طائر أبو فصاد مؤكّدا أنّ التعليم فقد قيمته وأنّ معظم الفقراء من كبار المتعلّمين وأصحاب أكبر المؤهّلات . ثمّ أعقب كلامه مؤكدا أنّ التعليم كان له قيمة في الماضي . لم يستطع أيّ فريق أن يقنع الفريق الآخر برأيه. وتفرق الجمع  

حلّ الظلام بربوع القرية . وسكنت الحركة . ولم يسمع إلّا صوت حشرات الأرض وصوت “عبد الرشيد الجعر” وهو يطارد أحد الكلاب التي حاولت أن تخيفه بعوائها . ثمّ عاود السكون مرّة أخرى وأخذ “عبد الرشيد الجعر” يمشي في الظلام وكأنّه يحفظ الطريق إلى أن وصل عند الطريق الرئيسي المؤدّي إلى المدينة بعد أن تخطّى مقهى القرية الكئيب الكائن بجوار كبري يمرّ فوق الترعة الرئيسة . وعند نهاية الكبري، جلس “عبد الرشيد” في نسمة الليل في جوّه المعتدل الذي لا يعيبه شيء إلّا لدغات الباعوض من بين أعواد الغاب . على جرف الترعة، جلس “عبد الرشيد الجعر” وكأنّه ينتظر أحد . مرّت ساعة.. نظر” الجعر” حيث صوت وقع أقدام تقترب منه . فإذا بيه ممدوح عمران بصوته الطفوليّ، موجّها الكلام ل”عبد الرشيد” وكأنّه يستفسر: هل الذي أمامه هو “عبد الرشيد” أم لا ؟ فهو لا يتبيّن ملامحه في الظلام

ردّ عليه “عبد الرشيد” وقد احتواه الخوف وتلعثم في ردّه معلنا أنّه “عبد الرشيد” . دفعه “ممدوح عمران” برفق وجلس كأنّه يستريح من مشوار قد أرهقه . وظلّ عبد الرشيد واقفا بصوته الطفوليّ . أمره بالجلوس ولكنّ “الجعر” تردّد . فنهره ممدوح فجلس على الفور كأنّه شبح . وجه إليه “ممدوح” سؤال:

 

– هل تعرف يا “جعر” ماذا ستعمل ؟ (بصوت متقطّع غير واضح(

– لم أعرف

أصاب ممدوح عمران الغضب: يا ولد أنا قلت لك بالأمس أنّه يوجد حقيبة أريد منك أن ترسلها إلى المدينة إلى شخص يدعى “أبو خليل سمعان” وتقول له: هذه الحقيبة أرسلها إليك “عمر ممدوح عمران”.. وسوف أعطيك أجر المواصلات ذهابا وإيّابا . وعندما تعود، سوف أقدّم لك طعاما شهيّا 
عبد الرشيد بسجيّة تامّة : ولماذا لا توصلها أنت بنفسك؟ 
ممدوح (كمن لا يتوقّع ردّا كهذا) : إنّ وقتي لا يسمح بهكذا عمل ثمّ إنّي أريد أن أعطيك عملا وطعاما .. ماذا تقول ؟ 
لم يسمع ممدوح منه إلّا بعض التلعثم الذي يعني أنّه موافق 

عاد “ممدوح” إلى منزله تاركا “عبد الرشيد” وقد وضع ذراعه تحت رأسه نائما على حافة الكوبري

أبو خليل سمعان صاحب محلّ بقالة في المدينة القريبة من القرية الكائن بها ممدوح عمران .. ويبدو أنّه أحد الغرباء عن القرية الذين تعودوا أن يذهبوا إلى “ممدوح عمران” . ثمّ يذهب معهم في فترة غياب طويلة قد تصل لشهر أو شهرين . ويعود “ممدوح عمران” أكثر إنفاقا وبذخ لدرجة أنّ صاحب المقهى يشعر بسعادة بعودته وكأنّه سيفتح له باب الرزق هذا . غير انّه من هواة لعب الورق، فإذا حضر ممدوح عمران، ينفق الكثير على اللعب والمشروبات. أمّا “أبو خليل سمعان” فلم يعرفه أحد في القرية إلّا “ممدوح عمران” . وهو أحد الغرباء الذين يأتون في وقت متأخّر من الليل لزيارة “ممدوح عمران”

ذهب ممدوح عمران إلى المدينة بعد أن اتفق مع “عبد الرشيد الجعر” أن يحمل الحقيبة المزعومة ل”أبو خليل سمعان” …فأراد أن يشير عليه أنّه كلّف “الجعر” بحمل الحقيبة إليه .. فوجئ “أبو خليل سمعان” بما عرضه “ممدوح عمران” عليه . فاعتلاه الغضب موجّها اللّوم إليه: 
هل أصابك الجنون يا عمران ؟ كيف لك أن تعطي رجلا مكذوبا حقيبة يمكن لما يوجد داخلها أن يزجّ بنا في السجن ؟ 
يردّ عليه ممدوح عمران مهدئا إيّاه من انفعاله : لا تقلق فهو كما قلت رجل مكذوب فلن يشكّ فيه أحد . وإذا كشف أمره، فما شأننا نحن؟ لن يصدّق أحد ذلك المكذوب 
يردّ “سمعان” وما زال فيه شيء من الفزع : يجب ألّا يكشف أمره . فما تحتويه هذه الحقيبة يساوي الكثير.

عرض “سمعان” على ممدوح أن يأتي هو بها كما كان يفعل. ويبدو أنّ ممدوح عمران شعر بأنّ العيون بدأت تراقبه فأحسّ بالخوف . ففضّل أن يختفي قليلا حتّى تضيع علامات الإستفهام نحوه . واختار “عبد الرشيد الجعر” لكونه لا يدرك شيئا ويمكنه أن يؤدّي المهمّة بسهولة . ابتسم “أبو خليل سمعان” ابتسامة عريضة موجها الكلام ل”ممدوح عمران”:

 
– أنت يا ممدوح صنعت خيرا بأن تستعين ب”الجعر” ولكن ليس في توصيل البضائع بل سيقوم بتوصيل البضاعة للزبائن . سيكون همزة وصل بيننا وبين الزبائن. حينها، لو أمسكت به الشرطة، سيكون هو الضحية والمجرم . وسيأخذ نسبة بسيطة حتّى لا يشعر بالملل . ويواصل العمل معنا . اقتنع “ممدوح عمران” برأي “أبو خليل سمعان” وبدأ يأخذ “عبد الرشيد الجعر” إلى المدينة . فأنعم عليه بجلباب جديد وأصبح معه حذاء . وظهرت عليه علامات التجديد . فأصبح بالنسبة للناس غريبا . لم يكن هكذا هو “عبد الرشيد الجعر”

فوجئ أهل القرية بعد سنوات من غياب “عبد الرشيد الجعر” بعودته في سيّارة فارهة، مرتديا جلباب نظيفا، وقد ضاعت نحافته، فاختفت عظامه، وتبدّل شحوب وجهه بلون الحمرة وكأنّه بدّلته النعمة بإنسان جديد . نزل من السيّارة عند مقهى القرية . شدت إليه الأنظار .. ما اسم هذا الغريب الذي وقف بسيّارته أمام المقهى ؟ هل هو “ممدوح عمران” الذي اختفي منذ سنوات مع “عبد الرشيد الجعر” ؟ والذي انتشرت عنه الإشاعات بأنّه مات غريقا وأخرى تقول أنّه عثر عليه أهله . ورجع معهم

 

 

يصرخ أحد الشباب تاركا لعب الورق مستغربا: هل يقال عن هذا الشخص أنّه “الجعر” ؟

يركّز النظر فيه ويعاود الصراخ: نعم إنّه هو.. “عبد الرشيد الجعر”

وينتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم.. نعم.. إنّه “عبد الرشيد” ولكن الألسنة وقفت عاجزة عن النطق بلقب “جعر” وبدأت الأسئلة تنهال عليه: يا عبد الرشيد أين كنت كلّ هذه السنوات ؟ وما الذي جعلك ترجع إلى القرية ؟ هل ورثت أحد أقاربك ؟

يردّ آخر: أقاربه ؟ ومنذ متى كان ل”لجعر” أقارب ؟ إذا قد وجد كنزا ؟ أو ربّما وجد الفانوس السحري 

أقام “عبد الرشيد” مؤقّتا في دار المناسبات لحين الإنتهاء من بناء منزل على مساحة قيراطين، أمامه حديقة، بثلاثة طوابق . وجعل الطابق الأرضي دار مناسبات واشترى فدّانين من الأرض الزراعيّة وأضاف إلى سيّارته الفارهة سيّارتين أخرى . لفت “عبد الرشيد” أنظار سكّان القرية الفقراء وخاصّة الشباب العاطل الذي لم يجد قوت يومه فلم يجد وسيلة لقتل الوقت سوى مقهى القرية الكئيب للعب الورق وتدخين التبغ . فأصبح “الجعر” مثلا له وأصبحت داره قبلة لمن يرغبون في الثراء السريع ونودي من قبلهم ب”الأستاذ عبد الرشيد” ولكن عبد الرشيد من؟ فهم لا يعرفون له أب أو أم، فهو تائه، أشبه بالطفل اللقيط . ومن الغريب أنّه أصبح فتى أحلام معظم فتيات القرية . وتسابق الآباء في عرض بناتهنّ للزواج . وبقي السرّ الذي لا يعرفه إلّا القليل من أهل القرية ولكنّها مجرد تخمينات . ليس من المعقول أنّ “الجعر” بغباءه، عمل بتجارة فربح كلّ هذه الأموال . فأمر من الإثنين لا ثالث لهما يمكن أن تجعل “الجعر” يجمع هذه الأموال الضخمة، هي تجارة المخدّرات أو العمل مع مهرّبي الآثار ولكن ما الدليل على ذلك ؟ ولكن يمكنأن يكون” الجعر” قد استغلّه أحد المسؤولين فقام “الجعر” دون قصد بتنفيذ الصفقات مقابل الفتات . يردّ البعض: كل هذه الأموال فتات ؟ وبما أنّ المسؤولين خلف ذلك فالذيل مفقود لا يمكن أن يظهر وإلّا ضاع “الجعر” وضاع المسؤولين أمام التحقيقات

 

يتبع ..

تاريخ النشر : 2019-05-04

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى