تجارب ومواقف غريبة

شقة العم محمد

بقلم : ابوعبدالله التميمي

كانت تُسمع أصوات أطفال يلعبون بالشقة الخالية

 في حقبة الثمانينات كنت مبتعثاً أدرس في جمهورية مصر العربية قسم الآداب على نفقة الدولة ، فقررت التجهز باكراً للذهاب إلى أم الدنيا لكي استأجر شقتي و أسكن فيها حتى يأتيني مصروفي للدراسة من حكومتي ، وفعلاً وجدت سيدة كريمة أسمها السيدة عائشة تملك احدى العمائر في شارع فيصل قريب من الأهرامات ، وكانت عبارة عن غرفتين وصالة ، ولكن شيئاً زاد فضولي وهو أن الشقة مفروشة بالكامل ويكتسي الكراسي شراشف بيضاء تغطي جوانبها ! فسالت السيدة عائشة : هل كان أحداً قبلي يسكنها ؟ فقالت : نعم كان هناك رجل رحمه الله يسكنها ، فقلت : رحمه الله ، واتفقنا على مبلغ الإيجار وسلمتها مقدم شهرين حتى تأتيني منحتي

و فعلاً كانت الشقة نظيفة جداً و رائعة ، و قمت وأزلت الشراشف البيضاء عن الكراسي ، و تعجبت فعلاً أن الكراسي جديدة و كأنها من اليوم ! فقلت للسيدة عائشة : هل الأثاث لكِ يا سيدتي ؟ فقالت : لا ، إنها لصاحبها ، ولكن هذا من حسن حظك يا بني ، فقلت : الحمد لله ، وخرجت السيدة عائشة من الشقة وذهبت إلى غرفتي لأنام حتى استيقظ باكراً للذهاب إلى جامعتي و أسجل بها ،

و بينما كانتا عيني بوضع النوم سمعت شيئاً غريباً بالصالة و كأن مجموعة أشخاص تجري بالصالة ، فقلت لنفسي لا بد أن الصوت يأتي من الشارع ، ونمت ، و بعد ساعة سمعت صوت طفل يبكي بشدة  فاستعذت من إبليس وقمت من فراشي لأرى مصدر الصوت ، و عندما وصلت إلى الصالة لم أجد شيئاً ، فقلت لنفسي يمكن : أنني أتخيل ، ونمت حتى الصباح الباكر وذهبت للجامعة وسجلت فيها

 و بالصدفة و بينما كنت أسجل أمام الأستاذ حسن مسؤول الطلبة المبتعثين من الخارج سألني أين تسكن ؟ فقلت له : شارع فيصل ، فرفع نظارته و قال : أين بالضبط ؟ أنا أسكن بشارع فيصل ، فقلت : عمارة السيدة عائشة ، فقال ضاحكاً : سبحان الله ، أنا أسكن هناك بالطابق الثاني ، وأنت ؟ فقلت : فوقك بالطابق الثالث ، فرحب بي وقال : أصبحنا جيران يا لحسن الحظ ! أتسمح لي بأن أدعوك لتناول وجبة مصرية لذيذة عندي ؟ فقلت : بكل رحب وسعة

و فعلاً عند الساعة السابعة مساءً ذهبت لجاري الأستاذ حسن ، فاستقبلني بكل ود وترحاب وتعشينا المحاشي والطاجن وكل ما لذ وطاب من الطعام المصري الشهير ، وجلسنا بعد العشاء نتناول شاي الكشري المعروف ، و بينما نحن نتبادل الاحاديث الودية حتى الساعة العاشرة والنصف مساءً استأذنت من الأستاذ حسن وشكرته على حسن الاستقبال والكرم الشديد ، فأصر أن يذهب معي حتى باب شقتي ، و فعلاً ركبنا الدرج لأن شقتي فوق شقته

و حينما وصلنا إلى باب شقتي لاحظت الارتباك على وجه الأستاذ حسن ، فقال لي مباشرةً : أهذه شقتك ؟ فقلت : نعم ، فأمسك يدي بشدة وقال : أرجوك أخرج منها ، لا تنام فيها دقيقة واحدة ، أطع كلامي أني أنصحك من كل قلبي ، أرجوك أخرج منها أو كلم السيدة عائشة تغير لك مكانها ، للأمانة طريقة كلام الأستاذ حسن ونظرة عينيه المرتبكة الخائفة أدخل الرعب في قلبي ، وقال لي : تعال معي منزلي لأخبرك بالقصة تفضل معي

 ذهبت معه إلى شقته وجلسنا ، فقال : أسمع يا أخي الكريم ، هذه الشقة كان يسكنها العم محمد منذ خمس سنوات ، وهو رجل طيب للأمانة وكان يعمل بسكة القطارات وكان يأتي أخر الليل ولم يكن يخرج من منزله أبداً ولم يكن متزوجاً رغم كبر سنه فهو بالخمسين و أعزب ، ولكن في أحد الأيام كانوا جيرانه يسمعون عم محمد يلاعب أطفال صغار وكان الصوت مرتفعاً حتى الجيران يسمعونه ، ومما زاد تعجبهم بأنهم يعرفون بأنه اعزب ! والغريب أكثر أن الصوت يأتي فقط حين يكون عم محمد بالمنزل ، كان يتكلم مع أطفال صغار و أمرأة  ، فتولد الشك لدى الجيران و ذهب أحدهم اليه و قال : يا عم محمد أنت متزوج ؟ فقال : لا ، فقال : نسمع أصوات غريبة عندك ! فكان يقول : هذا صوت التلفزيون ، لا تقلق سوف أخفض الصوت ،  فصدقه الجار بالرغم من تأكده بأن الصوت صوت أطفال وليس صوت تلفزيون

 حتى بأحد الأيام كان عم محمد مريض ونائم بالمستشفى الحكومي ، فسمع الجيران أصواتاً شديدة بشقة المنزل و كأنه عراك بين أطفال وسيدة  في شقة عم محمد النائم بالمستشفى ، فخاف الجار وظن بأنهم لصوص و أتصل بالشرطة التي أتت بالحال فاضطرت لكسر باب الشقة ، و حينما دخلت الشرطة مع الجار رأت منظراً غريباً عجيباً ! رأت الفوضى تسود أرجاء الشقة فالكراسي مبعثرة ولكن الصدمة الكبرى حين رأوا أموالاً كثيرة فوق الطاولة ! فقام الضابط بمعية الشرطة وتحفظوا على المال الموجود وسجلوا عهدة بالمبلغ حتى يخرج العم محمد من المستشفى

 و فعلاً خرج العم محمد من المستشفى وذهب لقسم الشرطة وسأله الضابط عن مصدر الفوضى في منزله وصراخ الأطفال  وعن السيدة التي بمنزله ؟ علماً بشهادة جيرانه بأنه أعزب ، وعن الأموال التي موجودة بشقته ؟ فقال له : اعطني تفاصيل واضحة ؟  فتنهد عم محمد وقال للضابط : حسناً يا سيدي سأخبرك بكل شيء و لك حرية تصديقي أو تكذيبي ، فقال الضابط : تفضل أسمعك 

فقال عم محمد : هؤلاء الأطفال أطفالي ، أنا متزوج من جنية يا سيدي الضابط ، والأموال التي وجدتها هي مجموع رواتبي كلها وكنت لا أصرف شيئاً لأن زوجتي الجنية تتكفل بكل شيء ! فقال الضابط ساخراً : هل أنت بعقلك يا رجل ، أتريد أن أسجل بلاغي أن زوجتك من الجن ؟ فقال عم محمد : هذه قصتي يا سيدي و لك حق التكذيب أو التصديق ، فاتصل الضابط برئيس النيابة و أخبره بالقصة وماذا سيعمل مع عم محمد ؟ فقال رئيس النيابة : افرج عنه ، بالطبع فهو لم يرتكب جريمة و أرجع ماله ودعه يوقع على تعهد بعدم إزعاج الجيران

 و فعلاً خرج عم محمد من قسم الشرطة ورجع لمنزله ، و بعد فترة بسيطة لم تزد عن شهور قليلة أشتم الجيران رائحة كريهة تفوح من شقة العم محمد فاتصلوا بالشرطة وحضرت وقام العسكري بكسر الباب و رأى العم محمد ميتا ًعلى أحد الكراسي بالشقة بملابسه الداخلية ، وكان واضحاً أنه متوفى منذ فترة . انتهت قصة عم محمد ، بعد هذا هل تريد أن تسكن الشقة ؟ فقلت : لا ، بالطبع ، لقد سمعت أصواتاً في أول يوم و لم أعر لها انتباهًا ! فقال : أخرج من الشقة اللعينة حرصاً على سلامتك 

فشكرت الأستاذ الطيب حسن على نصحه لي ، وللأمانة لم اذهب للشقة بل ذهبت ونمت بأحد الفنادق حتى اليوم التالي و رجعت لصاحبة الشقة وقلت لها : لماذا لم تخبريني عن شقة عم محمد ؟ فقالت : يا بني هذه خرافات ! فقلت : لا ، لقد سمعت أصواتاً بالشقة و جاري الأستاذ حسن أخبرني بالحكاية ، لو سمحتي سأفسخ العقد أو أسكنيني شقة غيرها ، فقالت : حسناً ، هناك شقة بجانب الأستاذ حسن ، فقلت : حسناً هذا أفضل بكثير من هذه الشقة ، و فعلاً سكنت بجانب الأستاذ حسن بالطابق الثاني ولم أمر يوماً واحداً في الطابق الثالث المخيف.

تاريخ النشر : 2019-05-08

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى