أدب الرعب والعام

غدير وظلالها

بقلم : هيـباتوس

طرقت بابها وانتظرت حتى خرجت لي
طرقت بابها وانتظرت حتى خرجت لي

أفقت على صراخها ، كانت في حالة من الغضب الشديد ، أخذت تُحطم كل شيء في غرفتي ، زجاجات العطور ، ساعة يدي التي لم ألبسها مطلقاً ، مكتبي الصغير ، حتى أنها مزقت أوراقي وألقت ملابسي على الأرض .
لأول وهلة ظننت أني أحلم ولكن ، صفعتها على وجهي أكدت لي أنني مستيقظ .

قالت لي بعد أن صفعتني.. أيها اللعين كيف تجرؤ على مغازلة فتاة أخرى ؟
لم أجبها فعقلي لم يستوعب بعد هذا الذي يحدث ! ما الذي يحدث هنا ؟ أردت النهوض من سريري ولكني أدركت أن يداي مقيدتان ، صفعتني مرة ثانية ، قالت وهي تمسك بيدها “كرت معايدة” :
– ماذا أهدتك الحمقاء ، أكانت زجاجة العطر أم الساعة أم.. ، ثم نظرت إلى الكرت وقرأت إلى الرجل الذي يشعرني وجوده بالأمان والاطمئنان ، كل عام وأنت بخير “صديقتك رهام” . الحمقاء اللعينة كيف تجرؤ على قول هذا لك ؟
كل الذي كان يجول بخاطري أن أسـألها :
– من أنتِ ؟ كيف دخلتِ إلى هنا ؟
لم تجبني ، وقفت أمام المرآة وأخذت تنظر إلى نفسها بغرور وكأنها أميرة ، والحق يقال كانت كذلك . قالت وهي تضع يديها على خصرها :
– قل لي أيها الوغد ، أيهما أجمل أنا أم هي ؟
اشتد بي الغضب وخطر في عقلي أن يكون هذا مقلب سخيف من صديقي وزميلي في الشقة      ” وليد ” وأقسمت على قتله لو كان له يد في هذا الموضوع .

حركت يداي محاولاً التخلص من قيدي ، تألمت.
صرخت بأعلى صوتي : وليد ، يكفي مزاحاً !! إن يدي تؤلمني من هذا القيد ، ثم صمت قليلاً وأردفت :
– فكي قيدي ، اللعبة انتهت.
ضحكت الفتاة وقالت وهي تخرج من حقيبتها أحمر شفاه :
– أيها الأحمق ، أنت وحدك منذ يومان. نحن نراقبك منذ زمن .
ازدادت دقات قلبي عندما تذكرت  أن وليد قد سافر منذ يومان ليحضر زفاف أخته. ودب الرعب في قلبي ، الأمر جدي إذن .
أنهت الفتاة وضع أحمر الشفاه ، خبأت أحمر الشفاه في حقيبتها ثم اقتربت من سريري وجلست بجانبي. :
– والآن قل لي ! أتحبها !
– من أنتِ ؟ قلت لها وكيف دخلتِ إلى هنا ؟
– صفعتني مرة أخرى على وجهي وقالت : أتحب رهام ؟ أجبني.

اشتد بي غضب شديد ، أردت قتلها و تمزيقها  ، حاولت دفعها بقدمي ولكنها تفادت الضربة، تألمت يداي من حركة جسدي ، أخذت أشتمها وألعنها .
أنهكت قواي في محاولة تحرير نفسي وصراخي.
– أتحبها ؟ أعادت السؤال مرة أخرى .
بالنسبة لي رهام لم تكن سوى زميلتي في العمل ، لم تكن هناك علاقة تربطني بها سوى العمل ، أذكر مرة حينما سألتها عن سبب اهتمامها بي واحتفالها بعيد ميلادي..قالت : بوجودك أشعر بالأمان والاطمئنان .
لا أعلم ما الذي فعلته لها حتى أوحيت لها بهذا الشعور  ، بالفعل علاقتي معها لم تكن سوى بالعمل وعن العمل وفي العمل.
أفقت من شرودي على صوت هذه الغريبة وهي تقول لي :
– تُفكر بها ، ها؟ هل تحبها ؟
أجبتها وقد ضاق صدري منها :
– لا ، لا أحبها ، هل ارتحت الآن ؟

لم تُجبني ، وقفت أمام المرآة مرة أخرى وأخذت تنظر إلى نفسها بانتصار.
– لم تقولي لي ، من أنتِ وكيف دخلت إلى هنا ؟
أجابت دون أن تنظر لي :
– أنا “مايا” صديقة “غدير” ، أمسكت حقيبتها وأردفت :
بقي لدي سؤال واحد ، كن رجلاً وأجبني بصدق، أيهما أجمل صديقتي “غدير” أم رهام ؟

رهام لم تكن تختلف عن باقي نساء العالم ، جمالها كجمال باقي الفتيات ، لا شيء مميز فيه ، ولكن “غدير” كانت تمتلك جمالاً لا يمكنك أن تمل من رؤيته، لها جاذبية تأخذك إلى ما وراء الأحلام، كأن هذه الفتاة خلقت من نور ، هي “البذرة” التي خرج منها الجمال والأنوثة ، حادة الذكاء ، طيبة القلب ، ماكرة ، طموحة ، قوية ، كأن هذا الكون خلية من خلايا جسدها ، غدير ، إنها أكبر من هذا الكون ، هي كون وحدها ، لا يستطيع أعظم رسام رسمها و لا يستطيع أعظم شاعر وصفها ، لا يمكن لأي شخص مقاومة حبها واحترامها.

قلت لها : بالطبع غدير ، لا يمكن مقارنة غدير بامرأة أخرى.
ضحكت وقالت لي : أعلم ذلك أيها الأحمق ، ثم استدارت وخرجت من الغرفة متجاهلة ندائي لها .
تركتني مقيداً عاجزاً وحدي.

ما أن غادرت مايا الغرفة حتى تفاجأتُ بطفلة صغيرة تخرج من تحت السرير ، كدت أموت رعباً منها.
وقفت على سرير وأخذت تقفز ، براءة الكون في عينيها ، رغم الموقف الذي أنا فيه ، إلا أن وجود هذه الطفلة جعلني أشعر ببعض الطمآنينة .
– يا جميلة ، قلت لها ، ساعديني .
توقفت الطفلة عن القفز ، نزلت من السرير وقالت :
– أنا لست جميلة ، أنا اسمي زينة .
– اسمك جميل ، هلا ساعدتني يا زينة و فككت قيود يداي.
– لا ، أنت أغضبت صديقتي”غدير” ولا تستحق المساعدة ، إلا إذا ..!
– ماذا ؟
قالت الطفلة بمكر : إلا إذا توسلت لي !!
اللعينة تريدني أن أتوسل لها ، لا بأس . أتوسل إليك ، ساعديني .
ضحكت الطفلة وقالت لي : لا ، لن أساعدك .
تمنيت لو كنت أمتلك قوة خارقة ، لأمسكت هذه الطفلة اللئيمة وعلقتها من قدميها.
صرخت بها مهددًا ومتوعداً : فُكِ قيدي وإلا قتلتك .
لم تكترث لي ، أخذت ترقص وتغني ، استفزتني هذه اللعينة الصغيرة .

بعد لحظات دخلت الغرفة فتاتين غريبتين .
قالت إحداهن :
– حسناً ، لننهي الأمر ، هل نقتله أم ماذا ؟
توقفت زينة عن حركاتها المستفزة وغادرت الغرفة .
بقيت وحدي مع هاتين الغريبتين.

**

عَرَّفت عن نفسها وقالت :
– اسمي “بيلسان” وهذه “ليلى” ، ربما تسأل نفسك ما الذي يحدث ، سأقول لك :
-نحن صديقات غدير وعلمنا أنك أغضبتها ، كل ما نريده منك أن تعتذر لها و تطلب العفو منها..
اقتربت ليلى مني ، فكت قيودي وهي تقول :
– حسناً والآن ، ماذا ستفعل ؟
تحسست يداي ثم نهضت من السرير . قلت بغضب
– كيف دخلتم إلى هنا ؟
قالت بيلسان : لا وقت لهذه الأسئلة السخيفة ، عليك أن تعتذر لغدير وتطلب الصفح منها.
– تباً لكم . لن أعتذر من أحد.
أمسكت ليلى ذراعي ؍ لوتها حتی كسرتها ، وقعت على الأرض وأخذت أتلوى من الألم وأصرخ.
قالت بيلسان لـ ليلى :
– بما أني فنانة أقترح أن نقطع أذنه ونرسلها إلى غدير ، كما فعل الرسام “فان جوخ”.
ردت ليلى :
– لا ، سيذهب هو بنفسه ليعتذر لها .
وضعت ليلى يدها اليمنى على ظهري ويدها اليسرى على صدري ، شعرت بنار حارقة تخرج من جسدي ولشدة الألم فقدت وعيي.

***

استيقظت وأنا أشعر بألم شديد يجتاح جسدي ، وقفت على قدماي ، لم أستطع تحريك رأسي و ظهري ، كأن هناك صخرة عملاقة نبتت في ظهري فأحنته ، خرجت من غرفتي وأنا أشعر بدوامة من الغضب واليأس والجنون والألم والخوف ، أحاول رفع رأسي دون فائدة ، لم أعد أرى سوى الأرض .
عدت إلى سريري وأخذت أبكي ، بكيت بحرقة ،شعرت بضعفي وقلة حيلتي ..
ماذا سأقول لها ؟

أنا رجل ارتيابي شكاك ، لا أثق بأحد ، أشعر بالخوف دائماً ، عقلي دائم التفكير ، تتملكني السوداوية وتتلبسني ، لا أرى في المستقبل سوى الشر ، أحلم بالكوابيس دائماً ، لا يكف عقلي عن تخيل المصائب والأحداث الشريرة ، أأقول لها أنني دائم الشرود لذلك لا أستطيع قيادة السيارة ولا أستطيع حفظ الوجوه من المرة الأولى ، أجلس مع غريب وأحدثه ليوم كامل وفي اليوم التالي لا أستطيع تذكر وجهه، لماذا ؟ لأن عقلي لا يكف عن التفكير حتی عندما احدث احدهم.
أجلس وحدي وأتكلم مع نفسي كثيراً ، قد أضحك وبعد لحظات ينقلب مزاجي وأغضب .
أنفعل سريعاً وأرتكب العديد من الأخطاء ، لا أرى حولي سوى الوحوش ، هكذا يُخيل إلي.
أخاف تكوين صداقات جديدة لذلك اكتفيت بأصدقاء الطفولة ، أخاف أن أفقد عزيزاً علي .
لو كنت أستطيع الرسم لأريتك الوحوش التي أراها في أحلامي وفي يقظتي .
لا أنام سوى ساعتين في اليوم ، أكره النوم ، أحاول الهروب منه حتى لا أرى الكوابيس.
لستُ أديباً وأعلم أنني لا أستطيع الكتابة ولكني أكتب لأهرب من عقلي ، عقلي هذا الذي لا يكف عن اختراع القصص المرعبة ، عندي آلاف الأوراق كلها قصص مرعبة أراها في يقظتي ومنامي.
حياتي غير مستقرة، سيئة مثلي ، أنا سيء أعلم ذلك ، لذلك ابتعدت ، ربما لم ولن تفهميني ولكن..
أنت تملكين روحاً نقية وأنا أملك ، لا، أنا لا أملك شيئاً ، لست سوى جثة عفنة تمشي على الأرض .

****

خرجتُ من الشقة وأنا ألعن وأشتم غدير وصديقاتها ، مشيتُ كالمجنون في الشارع ، أصرخ وأشتم ، لا أرى أمامي سوى أقدام المارة والأطفال الصغار .
أصابني الخوف عندما خطر في عقلي أنني لن أرى السماء مجدداً ، لن أرى الكون ونجومه ، كدت أن أفقد عقلي ، كنت أسير وكأني أبحث عن شيء ضاع مني ، وكـأني أبحث عن قـلبي..
وأمام منزلها وقفت ، رائحة الفراولة التي طالما عشقتها غدير دلتني على مكانها .

طرقت بابها وانتظرت حتى خرجت لي ، قلت لها :
غدير : ها قد جئتك مخفض الرأس محني الظهر ، أتوسل إليك أن تصفحي عني وأن تتقبلي إعتذاري، كل ما أريده أن تغفري لي وتسامحيني وأرجو لك من كل قلبي والله أن تجدي رجلاً يليق بفتاة مثلك ، رجل يستطيع احتواءك..
أنا أعتذر منك مرة أخرى فالذنب ذنبي ، لو أمسكت نفسي عن الحديث معك منذ البداية لما حدث كل ذلك.
كنت أنظر إلى ظلها بل إلى ظلالها . رأيت ظلالها تُغادر دون أن تجيبني إن كانت ستغفر لي أم لا .

تاريخ النشر : 2019-05-08

guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى