أدب الرعب والعام

المستقبل بين يدي

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

لقد حبست نفسي يومين في هذا المربع الكئيب لعلي أستعيد حتى لمحة من ذاكرتي
لقد حبست نفسي يومين في هذا المريع الكئيب لعلي أستعيد حتى لمحة من ذاكرتي

انتفضت من مكاني مفزوعا بعد كابوس رأيت نفسي فيه أقتل برصاصة في الجمجمة. هذه أول مرة أرى نفسي أموت بهذه الطريقة البشعة، رأسي سينفجر من الألم و حلقي جاف كأنني أمضيت أسبوعا في صحراء قاحلة، ضغطت بيدي على رأسي و أغمضت عيني بقوة لعل الألم يخف لكن دون جدوى، إنها الليلة الثانية لي في هذه الشقة البائسة وسط هذا النزل العفن، حملت وزني من السرير المهترئ الذي يصدر صريرا كلما أحس بوجود شيء فوقه و توجه للحمام، حملت سطلا من الماء من الصهريج الأزرق الصغير المتكئ على الزاوية، و انكبيت أغسل وجهي لعل الذاكرة تعود لي بهذه الطريقة ، لكن من أمازح فهذا لن يحدث فرقا

لقد حبست نفسي يومين في هذا المريع الكئيب لعلي أستعيد حتى لمحة من ذاكرتي لكنني خائب الظن لحد الآن، تمددت مرة أخرى على السرير و أغلقت عيني لأشعر بالفراغ التام، لا شيء لا صورة قديمة و لا حتى محادثة لا شيء فقط سواد حالك و صمت مقبرة اخترقه صوت قطرات المطر بالخارج.

” هل يوجد دواء صداع في هذا المكان ” سألت نفسي، ثم نهضت أتحرك بين أرجاء الغرفة لعلي أجد قرصا أي قرص إن لم يخفف الألم فيقتلني أفضل، دخلت المطبخ فلمحت خزانة مربعة خشبية مثبتة يمسامير صغيرة في الحائط ففتحتها ووجدت ما يشبه ثروة في تلك اللحظة، علب أدوية موضوعة بعناية أمام بعضها البعض و مصباح يديوي، إن دواء الصداع بينها حملت حبة و أدخلتها فمي، أبقيتها هنيهة ثم مررتها عبر حلقي بقليل من الماء ووضعت العلبة في جيبي ثم خرجت للشرفة أمتع نفسي بقطرات المطر المنهمرة على البنايات الشاهقة السوداء مخترقة عنان السماء ..

إن الظلام حالك في الأسفل، شردت في ذلك المنظر ووجدت نوعا غريبا من الراحة في صوت المطر لكن ألم رأسي كسر تلك اللحظة، ألم جبار لا يقاوم زاد عن ذي قبل إن عيناي قد أحيطتا بما يشبه هالة غريبة، جثيت على ركبتي من قوة الصداع و حاولت أن أخرج علبة الدواء من جيبي بيدي المرتعشة لكن ما إن سحبتها حتى فقدت السيطرة عليها و سقطت، إنني أسمع أصواتا في رأسي، هل أنا أهلوس… آآه أظن أنها ذكرى لكن الألم لا يقاوم، أنا جالس على طاولة مستديرة أنظر لأربع رجال مرتدين بذلات سوداء، إن واحدا منهم يتقدم إلي بابتسامة خبيثة مطبوعة على وجهه المستدير

لقد وضع يده اليسرى على كتفي و سلمني ملفا عليه رمز أذكره دائرة تتوسطها ثلاث خطوط سوداء، أنا متأكد أنني رأيت هذا الرمز من قبل …. آآه الألم إنه يشتد، أغمضت عيني و أطبقت على يدي بقوة فنقص بعض الشيء، يبدو أن المشهد الغريب الذي اخترق رأسي قد تبخر، حملت علبة الدواء المرمية على الأرض بسرعة و وضعت حبة أخرى في يدي لكنني توقفت بعدما تذكرت الألم الرهيب و قررت ترك ما تبقى من أقراص للضرورة

حملت المغطف الجلدي الأسود المرمي فوق الكرسي البلاستيكي الأبيض و غطيت به نفسي ثم حملت المصباح من المطبخ و خرجت مسرعا من المكان، نزلت الأدراج الحديدية مصدرة صوتا طقطقة كل مرة أخطو و أنا أتأمل في رسومات الغرافيتي ذات الألوان الفاقعة مزخرفة الحائط، قابلني في الطابق الأرضي مكتب الاستقبال لكن الموظف غير موجود

رنيت الجرس الحديدي مرتين لكن لا أحد يجيب، حملت الجريدة الموضوعة فوق المكتب الخشبي و توجهت لباب المخرج الذي انزلق عندما اقتربت منه، غطيت رأسي بالجريدة من سيول المطر و انطلقت مسرعا بين الشوارع المظلمة ظلاما دامسا و أقدامي قد حملت من الماء ما يكفي لملئ دلو . إن المكان هادئ تماما، فعلى ما يبدو الوقت متأخر جدا، حركت عيناي هنا و هناك و المصباح في يدي لكن لا شيء، لم أر شيئا يذكرني بذلك الرمز، أكملت طريقي حتى وصلت لوسط المدينة و حملت رأسي أنظر للمباني الشاهقة التي كانت تبدو بعيدة من شقتي، يبدو أن الكهرباء مقطوعة فالأضواء مطفأة . نظرت يمينا ثم يسارا فلمحت مبنى متفحما و أعلاه طابع الرمز الموجود على الملف، توجهت بسرعة نحوه و وقفت أمامه أتأمل ما بقي منه و أنا أتساءل ” ” ما هذا المكان “، ثم أجفلني صوت خشن عميق قادم من مكان قريب يقول ” لقد نالوا ما يستحقونه ” استدرت بخفة فرأيت رجلا واقفا في ظلام المكان لم أستطع رؤية ملامحه ضيقت عيني محاولا معرفة من هو هذا الضيف الغريب فأخرج سيجارة من جيبه و أشعل ولاعته فلمحت ندبة تحت عينه، نفث سيجارته ثم قال ” إن هذا هو مقر شركة أمن خاصة … أو هذا ما كنا نظن فعلى ما يبدو أنهم كانوا يوظفون قتلة مأجورين هنا “

أجبت بسرعة محاولة إيهامه أنني أعرف ما يحصل ” لقد سمعت بذلك ”
فرد و هو يستدير مغادرا ” بالتأكيد و إلا ما كنت لتقف هنا “، ثم اختفى في الظلام و تركني أتخبط في أفكاري ” هل كنت حقا أقتل الناس من أجل المال”
تبعته وسط الظلام فوجدته واقفا في زاوية بعيدة لا يظهر منه شيء سوى جمرة السيجارة الحمراء تضيء سبابته، تقدمت منه و سألته بفضول: ” من أنت ”
فرد: مجرد عابر سبيل.
اقتربت منه بخفة و قلت بنبرة غضب: إن وقوفك خلفي لحظة وصولي للمكان لم يكن صدفة… أنت تتبعني.
أطفأ سيجارته و قال: حسنا إذا بما أنك تريد الدخول لصلب الموضوع، أريد مساعدتك، فأنت ملاحق من طرف رجال سيئين يريدون إنهاء مسألة عالقة.

مسحت على وجهي بتوتر و قلت: أنت تعني شركة الأمن الخاصة.
فرد: نعم، نحن آخر عملائهم، لقد وصلو إلى منزلي و وضعوا أقدامهم القذرة على أرضيتي و أيديهم العفنة على وجهي لكنني تمكنت من الإفلات من قبضتهم.
سألته متعجبا: لماذا لم يقتلوك.
ضحك ضحكة سخرية و قال: إنهم يحتاجون ما في رأسي، و ما في رأسك كذلك و إلا كانوا ليفجروا النزل الذي كنت فيه و حولوه لرماد في رمشة عين.
رفعت رأسي للسماء لحظات لعلها تعطيني إجابة عما أنا فيه… ثم فكرت في النزل لعل بعض أشيائي مازالت هناك ربما يمكنني أن أعرف من أنا و ما الذي أدخلت نفسي فيه.
نظرت إليه وسط الظلام و قلت حسنا علي الوصول للنزل…
قاطعني قائلا: أنا خلفك مباشرة.

مشيت بين الأزقة المظلمة و الهادئة عائدا للنزل البائس مرة أخرى، دخلت المكان و دقيت على الجرس لكن لا شيئ، قفزت بخفة خلف المكتب ووضعت أصابعي برفق على مقبض الباب و أدرته ففتح، دخلت بحذر فرأيت عامل الإستقبال مستلقيا على بطنه، ذهبت لآديره ظنا مني أنه حي لكن ما إن رأيت وجهه حتى قفزت من عائدا للوراء بفزع، ثقب رصاصة مستقر في رأسه ووجهه مازالت علامات الفزع مطبوعة عليه،ولمحت صندوقا عتيقا موضوعا في الزاوية فتوجهت نحوه و فتحته، كان مليئا بأوراق و أغراض أخرى خاصة كمفاتيح . انهمكت في التفتيش بالصندوق بينما كان الرجل الغريب واقفا أمام الباب ينظر إلى المكان كطفل صغير شاهد فلم رعب، سألته عن اسمه لأخفف وطأة الصدمة عنه فقال: علي… آآه نعم.

استقرت عيناي على ما يشبه صورتي عميقا في الصندوق فأدخلت يدي و سحبت بطاقة هوية، أخيرا دليل عن ما أكون ” تقي الدين ” هذا هو اسمي، سبعة و عشرون سنة من العمر، حملت البطاقة بفرح و استدرت لأريها له فقال: يبدو أنك وجدت شيئا مثيرا للاهتمام.
لاحظت أن علامات الفزع قد تلاشت عن وجهه نهائيا بعدما كان شبه متصلب في مكانه، إن حدسي يخبرني أن هذا الشخص يدعي ما هو عليه، وضعت البطاقة في جيبي و قلت له بفتور: سأذهب للغرفة لحظات أحس أنني لست على ما يرام.

صعدت للغرفة مسرعا و توجهت مباشرة نحو الحمام ثم ابتلعت حبة أخرى من ذلك الدواء دون أي تفكير و انزلقت على الحائط الوسخ منتظرا الألم الذي لبى ندائي و جاءت معه رؤية آخرى، حسنا إنه يفتح الملف إن اسم الهدف أحمد على ما يبدو، قلب الصفحة ليريني صورته فانصدمت في لحظة غريبة جمعت بين ماضي و حاضري ” إنه هو ” أخرجت هذين الكلمتين من فمي كالسم من شدة الألم ثم انتهت الرؤيا.

أخرجت البطاقة من جيبي و نظرت إليها مطولا ثم قرأت العنوان الغريب الموجود عليها 711019 إن هذا ليس عنوانا بل رقم سري لكن ماذا يفتح نظرت للبطاقة مرة أخرى لكن لم أجد شيئا فنهضت من مكاني و بدأت أفتش كل شبر من الغرفة ثم توقفت لحظات و بدأت أفكر خارج الصندوق، فاقتربت من الهاتف العتيق الملصق في الحائط و نظرت على حوافه لكن لا شيء، فحولت نظري للسرير و بعثرت كل قطعة منه لكن مثله مثل الهاتف، بقي مكان واحد لأفتش فيه، دخلت الحمام و حركت المرآة فتزحزحت ثم وضعت يدي علي و أحكمتهما و سحبت بكل ما لدي فاقتلعت من مكانها وورائها كان هناك خزنة عليها أرقام، أخرجت البطاقة من جيبي بخفة و أدخلت الأرقام ففتحت الخزنة و بداخلها كان هناك مسدس أسود صغير و خزان ذخيرة، لقنت المسدس و أخفيته تحت قميصي ثم فتحت باب الشقة ناويا التوجه للأسفل فوجدته أمامي مصوبا مسدسه نحوه.

رفعت يدي مستسلما لكنه أطلق النار و أحسست بشيء يحرق معدتي فسقطت على الأرض متألما ووضعت يدي اليمنى على مكان الجرح محاولا التخفيف من الألم، ثم أرجعت يدي اليسرى ببطء نحو الخلف لأسحب المسدس بينما كان هو يفرغ خاصته من الرصاص و يمسحه من البصمات ووضعت رصاصة بين عينيه تاركا إياه ساقطا جثة هامدة دون أن أشعر بقطرة ندم . زحفت للداخل فرن الهاتف الأسود بنوتته القديمة فصارعت للوصول إليه ثم أجبت بصعوبة: آآلوو!
تحدث صوت خشن من الجانب الآخر: تهانينا أيها العميل، لقد آنهيت مهمتك التجريبية بنجاح…
قاطعته و آلاف الأسئلة في رآسي لكنني قلت بغضب: لقد أطلق النار علي هل تسمي هذا نجاحا؟
فرد ببرودة: تمهل أيها العميل، استرخي و أبعد يدك عن مكان الجرح، ستجده قد زال تماما.
رفعت قميصي بسرعة و أصابعي قد تشابكت ثم قلت: ما الذي حدث لقد اختفى الجرح تماما… ما الذي يحصل من أنا؟

أخذ نفسا طويلا و رد: آنت الجيل التالي من الذكاء الاصطناعي، تم تصنيعك عام 2030 و بدأت عملك اليوم كعميل لصالحنا.
وضعت الهاتف على كتفي لحظات و قلت: هذه مزحة أليس كذلك.
فرد: ليس لدي وقت كاف أيها العميل… ابقى في غرفة النزل و انتظر مني اتصالا ثم تناول حبة أخرى من ذلك الدواء لتعرف هدفك التالي و تذكر… أنت تقوم بهذا لأجل الصالح العام و لضمان مستقبل أفضل،ولا تقلق ستفهم كل شيء قريبا.
ثم أغلق…

استلقيت على الأرض لحظات بعد هذه الليلة المجنونة محاولا استيعاب ما يحصل ثم أحسست بضوء الشمس ينساب للغرفة تدريجيا للغرفة فنهضت متثاقلا و توجهت للشرفة فإذا بي أرى مدينة أشباح، بنايات مهدمة و شوارع خالية و هدوء تام، نظرت للمباني العالية المتوسطة للمدينة فوجدتها ميتة ، مجرد هياكل مهترئة واقفة بلا حراك و في هذه اللحظة عرفت أننا دمرنا مستقبلنا أيدينا كما كنا نتوقع و أنني هنا لقتل كل من يريد الاستمرار في هذا التدمير . تأكدت من أن المسدس ملقن ثم جلست على الكرسي منتظرا الاتصال

النهاية

تاريخ النشر : 2019-05-19

تقي الدين

الجزائر
guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى