أدب الرعب والعام

الطاحون

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
للتواصل : [email protected]

وكم سألني عن ماهية رأس الأخطبوط هذا الذي يراه كثيرا على اليافطات.
وكم سألني عن ماهية رأس الأخطبوط هذا الذي يراه كثيرا على اليافطات.

-1-
استيقظ أسامة ذات صباح متأخرا ومنزعجا كعادته. فكّر للحظة أن يرجع لنومته، إلا أنه نفض الفكرة عن رأسه وأزاح الفراش بتوتر، ليضع رجليه الحافيتين على البلاط البارد الذي أعاد إليه الشعور بالواقع. ثم انتصب مترنحا يمشي على غير هدى..
نظر إلى وجهه المتورّم بمرآة الحمام ومسح عينيه بظهر يده..

ثمة شيء ليس على ما يرام !.. إحساس غريب يراوده مذ فتح عينيه لا يقدر على تفسيره.. رشّ وجهه بالماء مرة ومرتين، وعزى ذلك الإحساس لقومته المفاجئة من الفراش. ثم توجّه للمطبخ..
أمه البدينة واقفة وقفتها الأبدية أمام الحوض تغسل الأواني..

– نمتَ طويلا يا أسامة .. من عشاء البارحة إلى ظهر اليوم، هل تشكو سوءا ؟
– خير يا أمي.. لا أشكو من شيء، صداع رأس وقد زال.
– الحمد لله.. اقعد الآن يا حبيبي حتى أسخن لك الإفطار.
– حسن..
قالها شاردا وهو يمشي بآلية تجاه مائدة الطعام..
لماذا يشعر بخطر غامض يتهدّده ؟ أهو كابوس لا يذكره ؟ أم ذكرى راودته قبل النوم لم تزل عالقة بمخيلته، وذلك سبب ما يجد من (مذاق) مر، وهذا الجو الغريب المشحون بالتوتر والخطر ؟

* * *

البداية الفعلية كانت عقب عثوره على ذينك النتوءين برأسه..
لم يكن انتبه لهما من قبل.. ربما بسبب شعره الكثيف. ولكنه ذات أحد بينما كان مستغرقا في اغتساله، إذ التصق الشعر المبتل بفروة الرأس، فانتبه عفوا في المرآة إلى نتوئين ظاهرين.. كقرنين !
صرخ صرخة قصيرة وحبس أنفاسه وهو يتلمّس المكانين ببطء غير مصدّق، ثم انتابته دوخة كاد على إثرها أن يغمى عليه لولا أنه استند إلى الحائط. وبقي على تلك الحال مدة لا يذكر مقدارها، وهو يعدّ ضربات قلبه ويسمع الماء المنهمر من الرشاش كأنه قطر المطر..

* * *

– وما الغريب في ذلك ؟
كذا أجابه أبوه وقد وضع الجريدة جانبا ليتلمّس البقعة التي يُشير لها أسامة في رأسه..
– ألا يبدو لك هذا غريبا بحق ؟
– نعم.. لا أرى فيه غرابة تُذكر.
– أتهزأ بي يا أبي ؟
– كلا يا بني.. انظر إلي، فلن تجد في سُحنتي ذرة مزاح.
ثم لم يجب أسامة بعدها، وانصرف بصمت مطرقا..
في الأيام التي تلت لم يفارق الطربوش رأسه إلا إذا أراد الخلود للنوم، حتى أنه بدأ يتناسى المشكل ويعود لحياته الطبيعية رويدا رويدا..
وهاهوذا يقهقه ملء شدقيه مع أقرانه في الثانوية ذات صباح، ويُتابع أحاديثهم الضاحكة بوجه طلق بسّام، حتى إذا تكلّم أحدهم انقلب وجهه وجحظت عيناه..
– ألم تعلموا يا أصحاب أني بلغت قبل أيام السادسة عشرة.. فوجدت أنّي من (القرنيين) !
ثم أحنى رأسه ليريهم نتوئين بارزين كأنهما قرنين صغيرين !
وتعالت الصيحات..

* * *

-2-
منذ تلكم الحادثة لم يقهقه أسامة، ولا رُأيت على فمه ضحكة قطّ !
ماذا حلّ بالعالم ؟ ولماذا يرى الناس مُطمئنّين إلى هذه العجائب المفزعة ؟ أتراه يحلم أم أنه ضحية مقلب كبير سرعان ما ينتهي – كمثل (الكاميرات الخفية) إياها – فينفجر الناس حوله ضاحكين ؟.. هذا إن بقي له حينها عقل يميز به المزاح من الجد.
وكان قد لحظ عشرات الملاحظات الغريبة والصور المريبة التي تمر على ناظريه سريعا، فيجد فيها شذوذا غير معتاد، وتفاصيل غير مألوفة تبث في قلبه الفزع ، فيحس كأنه في بلاد غير بلاده أو كوكب غير كوكب الأرض الذي عهده واعتاده.
كان يرى في طريق الثانوية – مثلا – أناسا بهيئات غريبة، بعضها غير إنسي البتّة !.. رؤوس أكبر من المعتاد، أطراف أقصر من اللازم. أشياء خارجة من الظهور أو أماكن أخرى.. ولكنه لم يكن يطيل النظر، إذ قلبه الصغير ما عاد يتحمّل.
بعض اللافتات كذلك غير معهود.. رموز ورسومات غريبة لكائنات لا يمكن وصفها من نصف نظرة.. فإنه – كما قلنا – لم يكن ينعم النظر دقيقة حتى يشيح بوجهه بعيدا، كأنما لكي لا يقف على الاستنتاج القاسي الذي بقي، وهو أن عقله اختلط وصار يهلوس ويخرّف، ويرى غريبا ما ليس بغريب.. ولذلك إنما كان يهرب ببصره ليبعد هذا الاستنتاج أو يُأجّله إلى حين.. أمّا يوم يتأكّدُ عنده ذلك الاستنتاج، فعلى الدنيا السلام !

* * *

مسألة (القرنيين) هذه أعادت إليه القلق والذعر أضعافا مضاعفة، حتى بات لون وجه الفتى مُصفرّا شاحبا، وصار لا ينام إلا غمضات يقوم خلالها كل حين مفزوعا !
ما عاد أسامة يجد الجرأة حتى ليسأل أباه عما أصاب العالم، أو يُجيب سؤالات أمه عما أصابه هو فأرداه كالميت الحي !
حتى جلس ذلك المساء إلى مكتبه، وجعل ينقر على لوحة المفاتيح البيضاء بأصابع شاردة مترددة عبارة (القرنيون). ثم ولج – بعد برهة انتظار قصيرة – صفحة (ويكيبيديا) المخصّصة للموضوع.
“القرنيون فصيلة بشرية منحدرة من نوع (البشر الوعلي). من علاماتها بروز قرنين صغيرين في الفترة العمرية ما بين 16 و18.. نسبة هذه الفصيلة نادرة في البشر، تُقدّر في حوالي 0.5 في الألف.
من خصائص القرنيين: الوحدانية، والعاطفية الشديدة، والنسبة الكبرى منهم نباتيون.. لا يطيقون السمك، أما طعامهم المفضل فهو – غالبا – البازلاء أو العدس أو بعض أنواع الفطريات”.
أغمض أسامة عينيه وبلع ريقه الذي تكاثر لدى ذكر هذه المأكولات..
ما الذي دفعه لهذا البحث أصلا ؟
عاد يفتح عينيه ونزل بدافع من الفضول أسفل الصفحة ليرى طول المقال.. فوجده متوسطا، وكاد يغادر الصفحة مكتفيا بما قرأ لولا أن عيناه التقطتا عبارة من بين السطور.. كما يحدث كثيرا حين نمر بأعيننا على صفحات ملأى، فلا نلتقط إلا عبارات بعينها..
“القرنيون هم الطعام المفضّل للطّاحون !”

* * *

-3-
انقطع أسامة عن الثانوية، وتدهورت حالته فلم يعد يظهر إلا نادرا.. ذاهبا أو آيبا من المرحاض. وكان يغلق عليه بابه ويمتنع عن جواب كل من يناديه.. أما الطعام فكان يوضع على عتبة الباب في أوقات بعينها. ولا حاجة لذكر حالة الأم المسكينة، والأب الذي لا تعرف – ككل الآباء – إن كان حزينا أم غاضبا !
ما الطّاحون ؟.. هذا هو السؤال الذي عذّب أسامة، وكاد يطير له عقله شعاعا..
ومن هم هؤلاء (القرنيون) ولماذا هو منهم.. وصاحبه الذي اكتشف أنه من نفس فصيلته لماذا سخر منه واتهمه بالجنون إذ سأله في ذلك ؟..
أي فصائل بشرية تتحدث عنها ويكيبديا اللعينة ؟ ولماذا لا يعرف كل هذا، وهو منشور في مقال عادي، مبثوث بين الناس كأنه وصفة من وصفات (شميشة) !
ما هذا العبث ؟.. ولماذا يشعر كأنما هو كائن من الفضاء الخارجي نزل على سكان الأرض، وانطلق يمشي بينهم على غير هدى ؟
وهل هذه الأرض أصلا أم… ؟
هنا انفجر الباب انفجارا مدوّيا، وبرز من خلفه رجال أشدّاء بيض الثياب، قدّر فورا أنهم رجال المارستان، إذ كانت أمه لا تنفكّ تتحدّث عن ضرورة تدخلّ الأطباء..
دخلت الأم ممسكة ذراع أبيه، وعلى وجهها علائم اللوعة.. وشرعت تتكلم كلاما محموما من غير توقف.. التقط أسامة بعضه حين كان يقاوم رجال المستشفى الذين يمسكونه من كل جانب..
“.. أرجوكم مرة أخرى أن تعتنوا به كما لو كان ولدكم، وابذلوا وسعكم لتعيدوا لفلذة كبدي رُشده.. لا أعلم ماذا حلّ به منذ استيقاظه من نومه قبل أسبوع.. صار يُنكر كل شيء تقريبا، كأنما فقد جزءا من ذاكرته. آه يا ولدي الحبيب.. لم يعد يعرف شيئا عن عالمنا، وقال أشياء غريبة عن الإنسان الواحد.. من ذكر وأنثى. لعله رآى ذلك في أحلامه..”
توقّفت تلتقط أنفاسها، وهي ترقبهم يلبسونه ثيابا بيضاء وهو مستسلم جاحظ العينين، ضائع التركيز.. فقبّلته ومسحت على رأسه بحنوّ وقالت:
” لم يعد المسكين يُصدّق أن الإنسان فصائل وطوائف، وأنه ليس من يعتلي (السلسلة الغذائية).. حتى أنه يذعر كلما سمع (الطاحون) أو رأى لافتات تحذر منه في الشارع، وكم سألني عن ماهية رأس الأخطبوط هذا الذي يراه كثيرا على اليافطات..”
نزلت الدموع على خدها تباعا، وأردفت كلامها غير مبالية بزوجها الذي يجرها ليبعدها عن الغرفة:
“لا يريد أن يتقبل واقعنا.. لا يريد أن يتقبّل أننا فرائس للطاحون، لاسيما (القرنيين) الذين هو منهم للأسف.. وقد لاحظ أبوه ذلك وما أراد أن يفزعه و..”
قاطع الطبيب كلامها بإشارة حازمة من يده، وقال:
– لا عليك سيدتي الطيبة.. انعمي بالا، سنتولى أمر ابنك، فحالته ليست بالجديدة علينا.. لقد اختلط عليه الحلم بالواقع، فظن أن الحياة ما رآه في حلمه، ولفظت ذاكرته بشكل من الأشكال طرفا مهما من معارفه السابقة.. سنشرح له كل ذلك بالتدريج حتى يعود له وعيه ويتقبل واقعنا كما هو.. والآن سلام عليكم.

تمت

ملاحظة : هذه القصة منشورة سابقا على مدونة الكاتب

تاريخ النشر : 2019-08-11

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى