أدب الرعب والعام

رحلة ذهاب أم عودة ؟

بقلم : تقي الدين – الجزائر

صوت الأمواج الممتزج بالرعود كان كافياً بزرع الرعب في قلوبهم

 

القصة تطرقت لبعض المواضيع الاجتماعية بطريقة ساخرة نوعاً ما ، لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن الكاتب يستخف بالمواضيع أو يقلل من أهميتها.

كل الأحداث المذكورة في هذا العمل هي من وحي خيال الكاتب.

" أمي أنا آسف حقا لأنني فطرت قلبك فأنا لم أقصد ذلك.

أبي أنا أسامحك على كل تلك المرات التي أغلقت فيها المولد و تظاهرت أن شركة الكهرباء هي التي قطعته " .

قبل يوم لم يكن صهيب يتوقع أنه سيحمل هاتفه و يسجل هذه الرسالة، هاه ! بل لم يتوقع أن لديه هذا الرصيد اللغوي أصلاً فهو لم يكن أكثر الشباب يقظةً و لا ذكاءً ، إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن أو القوارب في هذه الحالة.

بدأ الأمر كله حين تلقى صهيب ذلك الاتصال الذي يؤكد جاهزية رحلته.

" آلو "

" نعم، هذا أنا علي ، أسمع القارب سيغادر غداً على الخامسة صباحاً و لا تنسى ذلك و إلا رحلنا بدونك " .

شعر صهيب بسعادة غير كاملة ، سعادة ممتزجة بالخوف بعد تلك المكالمة إلا أنه لم يخفها و رسم ابتسامة صغيرة على محياه ، أنزل قدميه من فوق مكتب كمبيوتره و أخرج من الدرج ريشة سوداء جميلة قُدمت له في حفل تخرج مدرسي قبل بضع سنوات و تناول ورقة من أوراق الطابعة البيضاء ثم مرر قلمه فوقها كاتباً :

" يحين وقت في هذه الدنيا أين يتوجب عليك الرحيل، فأحلامك اعظم من أن تُسجن في هذا السجن الكبير "، كان فخوراً بكتابته تلك على ما يبدو فقد ظل يحملق لها ببلاهة لمدة.

عاد للوضعية التي كان فيها و سبح في خيالاته بعيداً ، إنه يرى نفسه على يخت جميل فخم ، حاملاً في يده منديلاً حريرياً يمسح به بقايا طبق الكافيار الفاخر الذي أنهاه تواً ، و بقي رأسه يموج في تلك الخيالات حتى الصباح.

كانت وجهته في تلك الصبيحة ذلك الشاطئ المهجور الذي حمل اسم " شاطئ الصخور السوداء "، و قد كان يبتسم بثقة طول الطريق إلى هناك إلا أنه أصطدم بحاجز الخوف حين وصل لرأس الشاطئ و رأى تلك القوارب مصطفة هناك تنتظر إما أن تقتل أو تنقل من عليها للضفة الأخرى ، لكن دفعة من صديقه علي النحيل ذا الشعر الأشعث الطويل كانت كافية لجعله ينفض خوفه و يصعد ، إلا أنه تساءل بمنطقية " هل ستوصلنا هذه الخردة ؟ " ، لأن ما تمعن فيه للحظات قبل ثلاث دقائق لم يكن حقاً قارباً بل كان كومة خشب يبدو أنها حُملت من أحد ساحات الخردة و أُلصق عليها محرك صغير.

صديقه علي طمئنه بقوله " إن البحر هادئ و سنكون هناك في وقت قصير " إلا أن الخوف تملكه كما تملك العفن تلك القوارب و شعوره لم يكن طبيعياً ، لكنه كان يعلم منذ البداية أن هذه الرحلة هي أخطر ما سيقوم به في حياته و أن الرهان هنا على أعظم ما يملك، حياته.

امتلأ القارب بعد لحظات قليلة و علا صوت الغناء الشعبي و الصراخ ثم لامست تلك الكوم الخشبية المياه و هي منطلقة في رحلة شبيهة برحلة تيتانيك.

*****************

الأم كعادتها كان لها حدس غريب جعلها تتقلب في فراشها ، و أخيراً و بعد عدة محاولات للنوم استيقظت بهدوء كي لا توقظ زوجها و ذهبت لتطمئن على ابنها ، لكنها اكتشفت لحظة دخولها أن حاستها السادسة قد تأخرت و أن ابنها قد اتخذ طريقاً خاصاً به ، طريقاً بعيداً عن هذا السجن الكبير كما قرأت في الورقة ، فما كان عليها إلا أن تهلع و تصرخ طالبة الأب الذي انتفض من مكانه و الارتباك واضح جداً على وجهه الغليظ.

" هل جُننت ؟ " سأل الأب بغضب.

فردت " إنه أبننا أيها الأخرق ، لقد هرب "

كانت خطواته و هو عائد لغرفته كخطوات غوريلا و هو يغمغم " سأقتل ذلك الفتى بيدي " ثم حمل الهاتف و اتصل برقم الطوارئ.

*****************

أخذ الضابط قمر رشفة من كأس قهوته الأزرق إلا أنه لم يتذوقها جيداً فقد علق معظمها في شاربه الأسود الضخم فأخذ رشفة كبيرة هذه المرة ، لكنها كانت الأخيرة فقد أجفله صوت الهاتف الأرضي المزعج لدرجة جعلته يرتعش و يسكب فحوى ذلك القدح.

تناول الهاتف بعنف و قال " الضابط قمر ما هي حالتك الطارئة ؟ "

فرد صوت الأب القلق من الجانب الآخر " إنه إبني… لقد رحل… غادر "

" أين رحل سيدي… هل سافر لأحد أقاربه أو….؟"

سمع نفساً عميقاً من خلف السماعة ثم تلته صرخة

" لا آيها الغبي… لقد أخذ أحد تلك القوارب و الله يعلم أين اتجه "

" حسنا سيدي لا داعي للغضب… فقط أعطني عنوانك "

كتب الضابط العنوان على أحد القصاصات الصفراء الصغيرة الموضوعة فوق مكتبه ثم حمل وزنه الضخم من الكرسي تاركاً مكتبه في حالة الفوضى تلك وخرج و هو يتمتم " ربما كان يجدر بك الاتصال بأحد حراس الشواطئ أحسن أيها الفظ".

ركن سيارته أمام منزل الأب و نزل منها فارتفعت بضع سنتميترات عن الأرض بعدما تخلصت من وزنه الثقيل ، نظر لإطار الباب كله فلم يجد قابساً للجرس فطرق الباب بلطف و نزع قبعته من على رأسه و مررها بين يديه ، فتح له الأب الباب فقال الضابط بابتسامة مصطنعة على وجهه السميك " صباح الخير سيدي ، أنا الضابط قمر ، تحدثت معي عبر الهاتف " .

رد الأب " آآه نعم تفضل بالدخول " و ابتعد عن الباب فحجمه الضخم المشابه لحجم الضابط لن يسمح له بالمرور عبر الباب بل و يجب عليهما أن لا يصعدا الدرجات للطابق الثاني دفعة واحدة و إلا سقط بهما !.

وضب قمر الرسالة التي تركها صهيب في كيس الأدلة و أخذ جولة خفيفة في المكا ن، لقد تعجب من ذوق العائلة في الفن فالمنزل كان مليئاً بلوحات سريالية رخيصة و معظم جدرانه طليت بلون بني شبيه بلون الخشب ، و بما أن الضابط قمر لا يستطيع كبح فمه من التحدث فقد أبدى إعجابه بنوع من السخرية قائلا " منزلكم جميل و عصري إن لم تمانعوا قولي ذلك " ثم أعقب بالجملة التي تعتبر العلامة المسجلة لكل شرطي " سنقوم بكل ما في وسعنا لإيجاده ".

أومأ الوالد برأسه و علامات القلق قد زادت بعد رؤيته للضابط فقد توقع شخصاً أكثر شبابا و لياقة خاصة و أن الشباب ينخرطون بالآلاف في سلك الشرطة كل عام ، عاد قمر لسيارته و هو يفكر في أسلوب المنزل و يضحك مردداً " يبدو أنه يحب المعارض الرخيصة " ثم أخذ طريقه عبر تلك الشوارع الضيقة عائداً لمكتبه فلا يمكنه القيام بشيء في اليوم الأول و هو يحدق عبر نافذة سيارته لجميع أولئك الناس بمعاطفهم الضخمة و هم متوجهون لعملهم في صمت ، لا يمكن أن يلومهم حقاً فهذه القرية الصغيرة لم تتذوق الصيف قط و إنما تحتفي كل عام بشتاء طويل و بارد جداً حتى أنه يمكن القول أن نزع المعطف في هذا المكان قد يعتبر جريمة.

*****************

النعاس تسلل لعقل صهيب الذي يضج بالأفكار و أجبره على أخذ قيلولة صغيرة ، إلا أنه كان متعباً أكثر مما كان يعتقد و غط في نوم استيقظ منه مع بدايات فجر اليوم التالي ، الجميع كانوا ملتصقين في بعضهم و يستعملون أكتافهم كوسائد ، كما أن المحرك كان مغلقاً ، لكن صهيب لم ينتبه لكل تلك الهوامش بل ركز على تلك الغيمة السوداء الضخمة البشعة و التي كانت تقترب منهم تدريجياً ، لم يشأ الفزع و الصراخ لأنه على الأرجح سيتعرض لضرب مبرح لذا قرر الصمت و ترك الأمور تأخذ مجراها لعل تلك الغيمة تغير طريقها و قد حاول إقناع نفسه بذلك.

" هذا يحدث طوال الوقت في التلفاز " قال في سره ثم تحرك ليعود لوضعيته السابقة ، إلا أن عقله لم يسمح له حتى بتعديل نفسه للعودة للنوم و أيقظ علي الذي أفزعه بشعرة الطويل الأشعث المنسدل على وجهه و الذي جعله شبيهاً بأحد أساطير الرعب القديمة ، سأل علي صهيب بصوت هامس " ما الذي يحدث ؟ " فأمسك صهيب برأسه و أداره للاتجاه الآخر مما ترك علي ينظر لتلك الغيمة بنفس الملامح الفزعة التي ارتسمت على وجه صهيب.

" لماذا لم توقظ أحداً ؟ " قال علي هامساً لكن بغضب.

فرد صهيب " لقد رأيتها للتو ، ثم لا يمكنني أن أبدأ بالصراخ فقط سيرمونني من على القارب ".

"آآه… معك حق ".

قرر الاثنان عدم قول شيء و الاكتفاء بإكمال نومهما الهانئ معلقين أمل حياتهما على مقولة صهيب أنه يرى ذلك في التلفاز دائماً ، لكن ذلك كان أغبى قرار قاما به في حياتهما.

*****************

أوقف الضابط قمر سيارته أمام مقر خفر السواحل ذا الطلاء الأحمر الباهت مع نسمات الصباح الأولى الباردة و نزل من السيارة وهو ينظر بدوره لتلك الغيمة الضخمة التي بدت بعيدة جداً ، لم يكن يريد دخول المكان فمعظم من يعملون في خفر السواحل شبان ذوي لياقة جيدة و متدربون لدرجة عالية و قد كان غير واثق بشأن وزنه إلا أنه دفع نفسه للدخول بقوله " تبا لذلك أنا أحمل سلاحاً "، فتح الباب بقوة بعدما ضخت تلك الجملة الأدرينالين لجسمه ، إلا أن موظف مكتب الاستقبال صرخ قائلاً " ستقتلعه في المرة القادمة ؟ " عدّل قمر سرواله كحارس أمن ضخم في لعبة فيديو و رفع حاجبيه حتى تموجت جبهته ثم سار نحو الموظف الشاب أسمر البشرة و قال بفظاظة " هل يوجد ضابط حقيقي يمكنني التحدث معه ، الأمر طارئ ؟ "

نظر له الموظف من رأسه لأخمص قدمية كأنه يحلله فقد أحس بالإهانة على ما يبدو ثم اختفى في الخلف بضع لحظات و عاد و معه شاب آخر ضخم البنية الأمر الذي اغضب صهيب و جعله يتمتم " هل يصنعونهم هنا ؟ "

" مرحباً سيدي ، أنا الرقيب بدر، كيف يمكنني مساعدتك؟ "

نظر الضابط لوجهه المربع الضخم و تلك الابتسامة المزيفة و قال " لدي حالة فرار منزلي هنا ، و الوالد يقول أن ابنه قد أخذ أحد تلك القوارب المميتة ، ربما يمكنكم استكشاف المنطقة أو ….؟ "

نظر الرقيب لصديقه في مكتب الاستقبال ثم قال " ربما أنت غير عليم بالقوانين سيدي ، لكن نحن لا نستكشف بناءً على شكوى وإنما علينا أخذ إذن من أي نوع من مدير الأمن ".

تعجب قمر و سأله بصوت خافت " ألا يمكننا أن نوفر على أنفسنا بعض الوقت ؟ " .

فرد الرقيب بنفس اللهجة " لا ، لا يمكننا ذلك ".

نظر له الضابط قمر باشمئزاز و خرج كما دخل ، فاضي اليدين.

الريح بدأت تعصف في الخارج ممهدة لعاصفة لم تشهد لها المدينة مثيلاً ، فركض الضابط لسيارته إلا أن القبعة أبت أن تدخل معه و استسلمت للرياح التي حملتها كما تحمل الموجة القارب ، قمر بالطبع فكر أن لا يركض خلفها فهو في لياقة لا تسمح له بذلك ، إلا أنه و بعد الوقوف بضع لحظات و التفكير قرر فعل ذلك فراح يركض خلفها و هي تتأرجح في الأرض و تتشقلب ، لقد كان يلاحقها بطريقة شبه قرفصية منعته من رؤية ما كان أمامه – لم يحتج الرؤية أمامه كثيراً حقاً – و أخيراً بعد حصة هرولة خفيفة انقض عليها كما علموه أن ينقض على المجرمين في الأكاديمية منذ 25 سنة مضت ، لكنه أحس بيد تربت على كتفه و صوت أنثوي لطيف يقول " أيها الضابط لقد جاءت في وقتك " .

رفع رأسه من وضعية القرفصاء تلك فأصبح يشبه عنكبوتا ضخماً و سألها " ما المشكلة ؟ ".

فردت بقلق " لقد قطع ابني الشارع المقابل ليشتري وجبة خفيفة من المحل و هو يريد العودة و أنا خائفة أن الموكب سيمنعه من ذلك ".

تقاطعت الأفكار في ذهن قمر و ترجم ذلك بملامح الارتباك على وجهه ثم سألها " أي موكب ؟ " .

فقالت " موكب الحاكم سيمر اليوم بعد إنهاء رحلته على المدن الإحدى عشر للولاية ".

هنا أُضيئ المصباح فوق رأسه الضخم و تذكر صديقه محمد سكرتير الحاكم شخصياً و الذي قد يدبر له موعداً معه الذي بدوره له صلات يمكن أن تقوده لرئيس الأمن.

" هل أنت شرطي حقيقي ؟ " سألت المرأة الضابط قمر الذي شرد بابتسامة بلهاء على وجهه فاستفاق من شروده و هرع ليجلب الطفل.

*****************

صوت الأمواج الممتزج بالرعود كان كافياً ليجعل حتى أكثر الرجال شجاعة يرتعشون من الخوف ، فما بالك بصهيب البريء الذي احتقنت الدموع في عينيه حين سمع تلك الأصوات و رأى تلك الموجة العالية تتقدم نحوه كجبل متحرك ، لم يمكنه فعل شيء حقاً فأغلق عينيه و انتظرها لتصدمه بقوة ، و هي بدورها كانت لطيفة كفاية كي لا تخيب ظنه و ضربت ذلك القارب بقوة جعلته يرمي كل من فوقه و ينقلب مستسلماً.

صهيب الذي كان جديداً على مسألة السباحة هذه بدأ بتحريك يديه بكل طريقة يعرفها و في خضم تلك الفوضى تذكر تلك المرة التي ذهب فيها مع الحديقة المائية لوالده و غرق ، فاستعاد ذلك الشعور المقزز للمياه و هي تخترق أنفه و تجعل عينيه السوداوين تبدوان كعيني مصاص دماء من الحمرة ، فواصل لطم الماء بيديه على أمل أن يتعلم السباحة في تلك الفترة القصيرة على ما يبدو و من يعلم فإن الأزمة تولد الهمة.

*****************

أسند الضابط يده على الدرابزين الذي وضع على حافتي الطريق و هو ينظر لكل تلك السيارات السوداء الضخمة و التي تراصفت خلف بعضها البعض فقال في سره بسخرية " موكب عرسي كان أقل حماسة من هذا الهراء " ثم تحرك نحو عربته بنية التوجه نحو محمد.

مبنى الولاية كان يعج بالأشخاص الذين لا عمل لهم سوى الوقوف و انتظار شخص لا يعرف أحداً منهم ، إلا أن قمر كانت له أفضلية الزي الرسمي الأمر الذي سمح له بالتسلل للداخل ، لكنه صفع فخذه بغضب و استند على ركبته حين رأى تلك الأدراج المؤدية للطابق الثاني ، نظر لها بضع لحظات كأنه يترجاها أن تكون رحيمة به ، ثم انطلق يخوض غمارها و هو يردد بغضب " كان عليه أن يهرب في مناوبتي ، أليس كذلك ؟ "، وصل أخيراً لرأس الدرج و هو يتنفس بثقل ثم سار في ذلك الرواق و هو يحاول استرجاع أنفاسه استعداداً للتحدث.

محمد استقبله بصدر رحب و قدم له كأس ماء ثم تساءل عن سبب مجيئه قائلاً " لم تزرني منذ فترة طويلة يا تقي ما الأمر ؟ " .

رد الضابط بنوع من التحاذق " سأكون أول من يدخل مكتب الحاكم حين يعود ".

هذه الجملة جعلت محمد ينفجر ضحكاً ، و هو الأمر الذي حير قمر فسأله " حقاً ! هل علي أخذ موعد ؟" .

فرد السكرتير و هو يلتقط أنفاسه " لا ، الأمر ليس كذلك ، إن الحاكم هنا منذ خمسة أيام ، ألا يعلمونكم هذا في الأكاديمية ؟ ".

ارتفعا حاجبا قمر و سأله " أنرني من فضلك ؟ ".

فقال محمد " إن الإعلام يوثق أول يوم فقط من الزيارة و هو اليوم الذي عليه أن يظهر وجهه في محاولة لحفظ منصبه للانتخابات القادمة "

" حسنا إذاً " قال الضابط و هو يفرقع أصابعه، ثم اندفع نحو مكتب الحاكم فوجده جالساً فوق كرسيه المبطن مرتديا بدلة رمادية أنيقة و ربطة عنق حمراء يوقع بعض الوثائق فوق مكتبه الخشبي المطلي حديثاً على ما يبدو ، تناول قمر قبعته من على رأسه و قال بسخرية " أرى أنك مشغول "

فرد الحاكم دون أن يرفع رأسه " كثيراً… ما الذي تحتاجه أيها الضابط ؟ "

" لدي قضية فرار منزلي…. أو بالأحرى هجرة غير شرعية و خفر السواحل لن يسطيعوا القيام بشيء بدون إذن من رئيس الأمن ".

قطب الحاكم حاجبيه الكثيفين و قال " و هل أبدو لك كرئيس الأمن؟ "

فرد الضابط قمر بنبرة خافتة " لا سيدي على الإطلاق لكن يمكن أن توصل له الرسالة "

نزع الحاكم نظارته و ابتسم للحظة ثم قال " هل تتوقع مني أن أسدي لك خدمة ؟ "

لم يرد قمر بشيء ، ثم أعقب الحاكم " لا تجب على ذلك فقد كان سؤالاً بلاغياً ، ثم لأستمع لمطالبك عليك أن تكون أحد المدعمين لحملتي أو أن تبدأ ثورة ضدي و أنت لا تملك أياً من الأمرين لذا اعذرني فأنا مشغول ".

قد تعتقد أن الضابط قمر قد خرج فاضي اليدين مرة أخرى لكنك مخطئ فكلمة ثورة أعطته فكرة سديدة عن الخطوة القادمة.

*****************

فتح صهيب جفونه ببطيء و هو يسمع كل أنواع الصرير و الأنين في رأسه فرأى علي مستنداً على القارب المنقلب فضحك ضحكة هستيرية لم يعرف من أين مصدرها ثم قال " نحن أحياء يا علي "

فرد صديقه بفتور " أنت درامي أكثر من اللازم يا صهيب " .

نظر صهيب يميناً ثم يساراً و سأل علي بقلق " هل ، غرق الجميع " فرد علي بسخرية " هاه ! لقد تقاسموا الأماكن في القوارب ، ثم تباً لذلك ، أنا لا أريد الموت و إن كان علي تحقيق أحلامي الصغيرة في بلدي فسأفعل ذلك عوضاً عن الموت في البحر و أنا أطارد حلماً واهماً " .

أومأ صهيب برأسه و قال " ذلك عميق حقاً و الآن ما العمل ؟ " .

فرد علي " حسنا… لنتمنى أن يرسلوا أحداً للبحث عنا قبل أن تشتد العاصفة "

حقيبة صهيب لم تكن أقل جفافاً منه إلا أنها أبقت هاتفه شبه شغال فأخرجه و وضعه أمام فمه و هو يتنفس بعمق.

نظر له علي بحيرة و سأله " ما الذي تفعله لا توجد تغطية هنا أيها الذكي ".

فرد صهيب سأسجل اعتذار رسالة لوالدي حتى إن لفظنا البحر سيعرفان أنني آسف "

صهيب ظن أن الأمر سينتهي هنا لكنه لم يعلم أن هناك فارساً من نوع خاص يدافع عنه داخل أسوار قريته.

*****************

نظر قمر لتلك العريضة بفخر و التي كتب عليها " أنقذوا أولادنا من براثن البحر " بخط سميك و وواضح ، كان يقف أمام مكتبة لبيع اللوازم المدرسية و قد سد المدخل بوزنه الضخم مما دفع صاحب المحل لدعوته للدخول قائلاً " من فضلك لا تتردد "

توجه الضابط نحو ذلك الشاب الهزيل الأصهب و صفع الورقة فوق المكتب ثم قال بنبرة حادة غير معتاد عليها " أريد 300 نسخة حالاً ".

نظر الفتى للورقة بارتباك ثم قال " لا يمكنني أن أقوم بذلك حالاً سيدي فالآلة لا تتحمل الضغط "

انخفضت معنويات الضابط و قد ظهر ذلك على وجهه ثم قال بفتور " حسناً سأعود بعد وقت الغداء ، آآه كما أن لدي مكتباً لأنظفه ".

بعدما انتهى قمر من مسح مكتبه و التهام غدائه الدسم فوقه بذكاء عاد للفتى فوجد أن الأوراق قد حضرت ، فحملها بغبطة كبيرة و غادر بنية بدأ ثورته الصغيرة آخذاً بنصيحة الحاكم.

ركن في مكان ما في أحد ضواحي المدينة و أخرج من صندوق سيارته علبة عدة صغيرة، تناول الغراء و ألصق أول ورقة على عمود خشبي طويل أمامه ثم انطلق في ذلك الشارع الضيق المحفوف بالمنازل و هو يلصق الأوراق في كل عمود يراه أمامه حتى أنه ألصق ورقة أمام بيت منزله.

في اليوم التالي استيقظ بنشاط لم يمر عبر عروقه منذ كان في العشرينيات و أخذ كوب قهوته المعتاد من زوجته اللطيفة و غادر لمكتبه تحت زخات المطر، كان ينتظر أن يسمع صوت المتظاهرين الذين خرجوا من أجل مصير أولئك الأولاد إلا أن هذا لم يحدث ، تعجب قمر من الأمر و قال مع نفسه " ربما لم ينهضوا مبكراً " لكن هذه الكلمات لم تساعد قط مما دفعه بالتوجه لنفسه للضواحي فقط ليصطدم بعامل البلدية و هو ينتزع آخر ورقة من على العمود. " ذلك الحقير " تمتم قمر بتلك الكلمات داخل سيارته ثم انطلق عائداً لمكتبه المتواضع حيث قرر نسخ مجموعة جديدة من الأوراق و قد عبر عن سعادته بصرخة قوية فحواها " أنا لن أتوقف " و ضرب المكتب بقبضته ، تلك الصرخة وصل صداها لرئيس المركز الذي بدأت الشكوك تتلاعب في رأسه.

للمرة الثانية فاجئ القمر ذلك الفتى الهزيل في المكتبة بإعلان جاذب للعين أكثر و مزخرف أكثر لكن هذه المرة طلب 400 ورقة و قد قرر نثرها في جميع أرجاء المدينة بسيارة الشرطة خاصته و الأضواء مشغلة لعله يجلب الانتباه بهذه الطريقة، ، و قد كان له ما أراد فقد أحدث بلبلة لم تشهدها هذه المدينة الهادئة منذ فتر ة، فالجميع كان ينظر متعجباً لذلك الضابط السمين المحشو داخل تلك السيارة الزرقاء الصغيرة و هو ينثر الأوراق بيديه يميناً و شمالاً على طول الطريق حتى وصل لمنزل عائلة صهيب أين قدم لهما ورقتين قائلا بحزم " إنه دوركم للقيام ببعض العمل ".

في صباح اليوم التالي ، كان قمر على دراية أن جميع سكان المدينة قد رأوا ما قام به أمس، بل و اعتمد على ذلك لذا فإنه قد نهض من فراشه مبكراً و متحمساً ليشارك هو بدوره في مشيتهم الصغيرة، لكنه توجه أولاً لمكتبه حيث اصطدم بالحاكم و رئيس الشرطة في آن واحد ، و ما إن عرج الباب حتى انفجر فيه الحاكم و هو يشير له بسبابته مهدداً إياه " أنا أعلم أنك خلف هذه المهزلة و أريدك أن توقفها حالاً " .

علق قمر معطفه بكل هدوء و جلس خلف مكتبه ثم قال بصوت دقيق و رزين " لأستمع لمطالبك عليك أن تدعم حملتي أيها الحاكم ، بإرسال طوافة للبحث عن أولئك الأولاد أو بدأ ثورة ضدي ، لكن علي أن أخبرك أنني سبقتك لهذا نوعاً " ثم أدار كرسيه نحو النافذة و رفع الستائر فرأى المنظر الذي كان يتوق له منذ مدة طويلة ، عشرات من الناس تعالت أصواتهم معاً مطالبين برحلة بحث عن أولئك الأولاد.

استدار قمر بابتسامة خبيثة مرتسمة على وجهه و قال " هل تريدني أن أفتح النافذة لتسمعهم ؟ ".

ظهرت ابتسامة خفيفة على الوجه المستدير لرئيس الشرطة و قد حاول تغطيتها بوضع يده على فمه فهو لا يمكنه قط مواجهة الحاكم بهذه الكلمات بحكم منصبه ثم قال بهدوء " أيها الحاكم فكر في الأمر على أنه تدعيم لحملتك ، أنقذ الأولاد و أنسب الأمر لنفسك ، الناس سيحبون هذا ".

عدل الحاكم ربطة عنقه الحمراء التي تطابقت مع وجهه ثم قال " حسنا أيها الضابط ، ستجد طوافة في السماء قريباً " و خرج صافعاً الباب خلفه ، نظر الرئيس لقمر و قال له بصوت خافت " من الأفضل أن يجد أولئك الفتيان ".

ضحك قمر ضحكة النصر و استمتع باللحظة في مكتبه قليلاً بطريقة طفولية ثم توجه نحو الشاطئ و وقف منتظراً بضع لحظات و هو يتأمل الأمواج تتلاطم حتى تناهى لأذنه صوت مراوح تلك الطوافة الحمراء الجميلة خلفه ، نزع قبعته من رأسه و لوح لها و هي تختفي وسط تلك السحب السوداء ثم تمتم و هو يغادر " كل ما تطلبه الأمر هو مكالمة هاتفية ، و كنت أعتقد أنني كسول ، كما كانت تقول أمي دائماً ، إن منعتك عزة نفسك من القيام بعمل صالح فإنها ليست عزة بل تكبر ".

*****************

بالعودة للبحر كان كل ما ينقص وصفة صهيب للإحباط هو رشفة من انعدام الأمل و قد رماها وسط القدر صبيحة اليوم عندما استيقظ مرة أخرى ليرى السحب السوداء فوقه و البحر أمامه ، علي من الجهة الأخرى كان يستمتع بنوم هانئ و لطيف لكن صهيب صفعه ليستيقظ و هو يتلفظ بكل كلمة سيئة يعرفها.

" كيف يمكنك النوم أيها الأحمق " قال صهيب بغضب.

فرد علي " حقاً ! هذا الموضوع مجدداً ، لقد تركت رسالة لوالدك و سيعرف ما العمل "

رد صهيب بعنف " والدي لا يمكنه القيام بشيء فأنا من رميت نفسي هنا ، و نحن هنا مدة طويلة هنا دون أي إشارة لأي شكل من أشكال الحياة و لا حتى قرشاً ضخماً ليلتهمنا و ينهي معاناتنا "

" آآه ما الذي يمكنني قوله ص…. "

قاطع كلمات علي صوت كان أعذب لأذنه من صوت سمفونية لبيتهوفن ، صوت تلك المراوح الحديدية للطوافة و هي تقترب منهم شيئاً فشيئاً حتى أصبحت فوقهم و رمت لهم بسلم الإنقاذ خاصتها، وسط هلع و فرح في نفس الوقت من صهيب و علي.

بعد رحلة قصيرة فوق المحيط و وسط السحب حط صهيب أخيراً قدميه على أرض قريته الصغيرة و احتضن والدته و والده الذي همس في أذنه " لديك عقاب طويل ينتظرك عند العودة للمنزل ".

حسنا إذاً ! مرت الأمور بخير للجميع ، ليس للجميع حقاً فقمر و خلال استمتاعه بإجازته الصغيرة أمام التلفاز قبل حفل ترقيته رأى خبر " القبض على مجموعة كبيرة من المهاجرين في الضفة الأخرى و هم الآن خلف القضبان."

النهاية ….

تاريخ النشر : 2019-08-15

تقي الدين

الجزائر
guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى