أدب الرعب والعام

مذبحة العصافير

بقلم : النصيري – مصر

أغلقت خلفه أبواب حديدية لها صوت يرتجف له كل قلب

 

خالد عبد الراضي موظف بهيئة البريد عمره تجاوز الأربعين ، لم يترك له أبويه شيء من ميراث سوى شقة إيجار في عقار قديم آيل للسقوط ، قام صاحب العقار بطردهم منه بحجة أن العقار أصبح خطراً على من فيه من سكان و أصبح خالد بلا سكن ، من هنا بدأت قصة كفاح خالد براتبه الذي لا يتجاوز ألفين من الجنيهات ، فاستأجر سكن و بدأ يجمع ما يحتاجه بيت الزوجية وستغرق ذلك من عمره سنين و أستمر بحثه عن الفتاه المناسبة دون أن يوفق و أستمر ذلك ستة عشرة عاماً ، ومن الأسباب التي أخرته أنه وضع في خياله في فتاته التي يرغبها مواصفات غريبة لم توجد إلا في خياله هو فقط ، أن تكون من طبقة راقية مادياً ومعنوياً ، ونسي خالد أنه من طبقة الكادحين ، و نسي عندما طرد من شقة والده أصبح طريداً لذلك لم يوفق في العثور علي فتاة أحلامه ، فتقدم به السن و تنازل عن الكثير من شروطه ، على الرغم من ذلك كلما تقدم لواحدة رُفض وذلك لكبر سنه ، حاول صديقه السيد متولي والذي يعمل معه في هيئة البريد أن يقنعه بالزواج من فتاة تقاربه في السن إلا أنه كان مصراً على أن تكون فتاته تصغره على الأقل بعشر سنوات ،

***

أعلن المنبه عن الساعة السادسة صباحاً ، استيقظ خالد واستعد للخروج للعمل و حالما وصل ألتقى بصديق عمر السيد متولي ، : هل وفقت بالأمس يا خالد ؟ أرجو أن …. قاطعه خالد وهو يفتح دفاتره لاستقبال العملاء ، : لم أوفق يا عزيزي ، السيد مندهشاً ، : وما السبب في ذلك ؟ خالد وهو يحرك شفتيه ذات اليمين و ذات اليسار ساخراً من حظه ، : والله يا صديقي لقد أعجبتني ولكن عندما تكلمت ، تكلمت بتلعثم وتأتأة ، السيد متولي ينفجر من الضحك بشكل لفت الأنظار و أغضب خالد منه ، وجه السيد له تساؤلاً : هل هي تتكلم بطريقة الفرنسيين في النطق ؟ خالد : أنت جننت يا سيد كيف تتندرا ، فأنا اليوم في قمة اليأس والضيق ؟

بدأ العملاء يتوافدون كل معه رقم عندما يسمع الصوت المسجل برقمه يتوجه إلى الموظف ، العميل رقم عشرة ، نظر خالد إلى العميل فإذا بها فتاة على قدر من الجمال ، أخذت بتفكيره و رغب لو أن الأمر بيده أن يغلق دفاتره و يأخذها لأقرب كافيه و يبوح لها بإعجابه و رغبته في الزواج منها ، هذه صفة في خالد له تجارب كثيرة يعلن إعجابه الشديد في أول لقاء وعندما موعد الخطوبة أو عقد القران ينسحب و يضع أهل الفتاة في حرج شديد ، لفت هذا الموقف نظر السيد متولي وتابع الأمر وخالد يتعامل مع الفتاة بكل لطف و ربما ضعف إلى أن انصرفت ، شعر خالد بأنه لا يستطيع أن يكمل يومه و على الفور أدعى أنه مرهق ولا بد من الحصول على أذن وتم له ذلك ، هام خالد بها وأخذت الأحلام تداعبه و أصبح في الاستقرار والزواج قاب قوسين أو أدنى ، لم يشعر بالزحام واختفى صوت الضجيج والضوضاء واسترجع بخياله صورة تلك الفتاة التي حفر أسمها في ذاكرته ، مرفت عبد الجواد صالح قرأه وكتبه في دفاتر الإيداع ، تزاحمت عليه أسئلة كثيرة كيف الوصول إليها ؟ هل هي متزوجة ، أو ربما تكون مخطوبة ؟ ففي هذه الحالة يكون الأمل قد ضاع ، و أخذ يمني نفسه بأنه لم يجد في أصبعها ما يؤكد ذلك و أخذ يستعجل قدومها حتى يبوح لها بمكنون نفسه و رغبته في الزواج منها

السيد متولي يستفسر منه : لماذا تركت العمل ، هل حدث شيء ؟ واستطرد قائلاً : فأنا أراك في حالة جيدة لا تستدعي ذلك ، خالد وهو يغلق الباب : لم أكن متعب جسدياً والأمر و ما فيه أني شعرت بالملل من الأوراق والأرقام التي نتعامل معها منذ سنين ، السيد متولي وهو يستبعد ذلك السبب : هل الأوراق والأرقام أم الفتاة التي وقفت من أجلها مما لفت أنظار الحضور ؟ شعر خالد بشيء من الارتباك ، معقول يا سيد كانت تصرفاتي مفضوحة لدرجة أنها لفتت أنظار الحضور ؟ نعم يا خالد ، حاول خالد متردداً بأن يخبر السيد بالحقيقة ، استوقفه السيد تاركاً له حرية أن يخبره أو لا يخبره ، و بتهكم قال له السيد : ليست هذه أول مرة تقابل فتاة وتعجب بها ، أعجاب النظرة الأولى وعندما تتم الأمور بالقبول تعلن فسخ الخطوبة وتسبب الحرج لأهل الفتاة وتخسر كل ما قدمته من هدايا وتعيد الكرة مع غيرها وهكذا دون كلل أو ملل ، خالد يدر من داخل المطبخ بصوت مرتفع قليلاً : ليست المرة الأولى و إنما هي المرة الأخيرة ، إذا وافقت الفتاة مؤكد هذه المرة سأتمم زواجي بها ، واصل خالد كلامه مستعطفاً السيد : أدعو لي يا صديقي بأن تكون هذه الفتاة من نصيبي ، ضحك السيد متولي : يبدو أن دعائي غير مستجاب فأنا أدعو لك بالزواج منذ ستة عشرة عاماً ، مؤكد أنك عرفت أسمها ؟ نعم عرفته و أنا أحرر استمارة الإيداع ، و أخذ خالد يردد اسمها وكأنه يردد كلمات منظومة وموزونة تسمع منه موسيقي ، مرفت عبد الموجود صالح ،

أنتظر خالد عودة العميلة رقم عشرة مرفت عبد الموجود صالح بفارغ الصبر، فالأمر لحاجتها لمكتب البريد ربما تأتي الأن أو ربما يطول غيابها ، أخذ خالد يتفقد وجوه العميلات بشكل ملفت للأنظار و أصابه شيء من الإحباط ، و مما زاد من سوء حالته النفسية صديقه السيد متولي عندما أخبره بأن الفتاه لن توافق على الزواج به ،غضب خالد مؤكداً له أن الحب يصنع المعجزات ، نظر إليه السيد في استغراب قائلاً : أي حب و أي معجزات ! و متى أحبتك الفتاة  وهي لا تعرف ملامح وجهك ولا تعرف أسمك ؟ خالد بثقة : سأعرض عليها الأمر و أنا على ثقة كبيرة بأنها ستوافق ، السيد : و من أين أتيت بهذه الثقة ؟ خالد : لأن قلبي تعلق بها ، السيد بغيظ هذا : مرض ، أرجو لك الشفاء ، فجأة قائلاً له : أنظر يا خالد هذه مرفت ، أصيب خالد بشيء من الارتباك و حدث اللقاء وطرح عليها ما يريد دون مقدمات أو تردد ، و مما استغرب له خالد بأن مرفت وافقت دون أدنى اعتراض ، و حالما انتهت مرفت من تناول الشاي الذي قدمه لها خالد أعطته كارت به البيانات وتلفونات والدها و طلبت منه أن يطلب يدها منه ، قص خالد على صديقه السيد متولي ما حدث ، السيد مستغرباً : كيف حدث ذلك و بسرعة ؟ الأمر مخيف ، توسل السيد متولي لخالد : أرجوك يا خالد أن تنسحب من هذا الزواج ، خالد : قل لي يا سيد سبباً واحداً لاعتراضك ؟ السيد وهو منفعل : هناك أسباب كثيرة : الفرق الشاسع بينك وبينها ، هي أبنة رجل أعمال يمتلك الملايين و أنت ليس لديك شيء سوى راتبك الذي لا يكفيك إلا بضعة أيام من الشهر ، عاود السيد رجاءه لخالد و لكن لم يجد خالد هذا السبب مانع لإتمام الزواج من مرفت ،

أخذت مرفت تتردد على خالد في نهاية عمله كل يوم وعرف الكثير عنها ، ولكن الشيء الذي أنكره بشدة طريقة والدها عندما تقدم لها طالباً يدها ، أعلن له أنه موافق طالما مرفت وافقت و أنه يترك الحرية كاملة لها في تحديد موعد الزواج والمكان الذي ترغب بالإقامة فيه ، اعترض خالد : الإقامة في شقتي ، ضحك والد مرفت و كأنه فرس النهر وذلك لبدانته المفرطة : هذا يا بني إذا رغبت مرفت في ذلك ! أخذ الرجل أنفاسه و عاود الكلام : و لا تنسى يا بني أنها وحيدتي و أنا لا استطيع أن أفارقها و لو بضع ساعات ، قيّم خالد الأمر في ذهنه فوجد نفسه الرابح  ، و ما العيب في أن يقيم في منزل زوجته ويعيش في النعيم ؟ وافق خالد ونسي خالد أو تناسي أن مرفت تربت على الحرية الطائشة فهي وافقت على الزواج منه وعندما تتحقق هذه الرغبة يمكن أن تمله و تطلب الطلاق أو الخلع إذا ما رفض ذلك ، وقبل أن تتم مراسم الزواج أنكر خالد عليها اختلاطها بشباب غربا يأتون إليها ليتسامروا و يتضاحكون بشكل فج ، و من الغريب أن يحدث ذلك أمام والدها ! و مما أحزن خالد أن مرفت لم تخفي عنه مغامراتها الغرامية بأنها أحبت أحد أصدقائها وكادت أن تقع في الرذيلة ، و أيضاً قد أحبت أبن خالتها ، حاول خالد أن يبرر أفعالها بأنها صغيرة لا تدرك ما تفعل أو تقول ، و كأن الغيرة قد ماتت في صدره ، و وجد نفسه منساقاً وراءها بدافع عفا الله عما سلف و أنها بالتأكيد ستتغير ، حاول خالد أن يخفي ذلك عن صديقه السيد متولي فلم يستطع إصابته الصدمة ، كيف تقبل بذلك على نفسك ؟ فلتنهي هذا الأمر بسرعة و فوراً ، يتعلل خالد بأنه قد أحبها وتعلق قلبه بها ،

***

تم الزفاف فكانت ليلة صاخبة تحملت مرفت كل التكاليف من أفضل القاعات و أفخر الفنادق و فستان الزفاف و وجبات للمدعوين ، و لم ينفق خالد شيء ، قبل خالد بكل تصرفات مرفت التي ترفضها تقاليد المجتمع الذي نشأ فيه و فقد خالد شخصيته وتأثيره عليها فلم يستطيع أن يرفض أمراً أو يقبل أمراً ترفضه مرفت ،

مرت سنة و أنجبت مرفت أبنتها ياسمين ، فرح خالد بها فرحاً شديداً فكان يحملها بين يديه و يرفض إعطاءها للمربية إلا عند الرضاع ، وأحبته ياسمين وتعلقت به ، وعندما بلغت من العمر ثلاث سنوات و تعلمت الكلام ، يقص عليها قصص المغامرات والعفاريت فتمسك به خائفة فتنام بين يديه ، رزق منها حنين و سمية ، لم ينس خالد صديقه السيد متولي فكان يشكو إليه الحرية التي تشبه الانحلال الأخلاقي لمرفت وسهراتها التي تمتد إلى بعد منتصف الليل ، فاضطر إلى البقاء بعد الانتهاء من عملي مع بناتي ، أخذ السيد متولي يخفف عنه و يهون عليه و أن يتحمل من أجل بناته ، رجع خالد من عند السيد متولي وهو يحمل أبنته ياسمين بين ذراعيه و وجد على فراشه زوجته بين أحضان أبن خالتها ، لم يشعر خالد بنفسه وهو يلقي بياسمين على الأرض فهبت من نومها مذعورة تصرخ بابا ، مسرعاً ايقظ حنين و سمية بعنف ، موجهاً كلام لمرفت بعد أن هرب عشيقها : أيتها الفاجرة من والد البنات ؟ ترد : أنت والدهن ، أذن أنكِ تدعي الشرف ؟ بما تفسري فعلتك مع عشيقك الأن ؟ في توسل : أرجوك يا خالد أؤكد لك أنك والد البنات ، خالد امسك بياسمين متجها نحو النافذة مهدداً : إن لم تخبريني ممن أنجبتي بناتك سألقي بياسمين من النافذة ، أصابها الفزع و قالت : أنت والدهن ، و قبل أن تكمل كلامها ألقى بياسمين من الطابق الثاني ، حاول الخدم أن يكسروا الباب لإنقاذ سيدتهم ولكن دون جدوى ، كرر خالد السؤال : من والد البنات ؟ و أمام رفض مرفت ألقى خالد بحنين وسمية من النافذة و أخذت مرفت تصرخ بجنون 

إمتلأ المنزل برجال الشرطة والإسعاف محاولين إنقاذ البنات لكن سبقهم إليهن الموت ، لم يشعر خالد بالندم أو الحزن على بناته و عندما سأله السيد متولي : و ما ذنب البنات ؟ رد خالد بهدوء تام : إنهن نبت شيطاني حدث في غفلة من كرامتي ، لماذا لم تقتل مرفت ؟ أجاب خالد في تحدي : فلتموت حزناً على بناتها موتاً بطيئاً ، أنت مجنون يا خالد ، ألم أحذرك من الزواج بمفت ….. و يدعه خالد يكمل كلامه و قال : لقد دفعت الثمن من كرامتي ، فرد سيد عليه : هناك جزاء ستدفعه ، نظر خالد إلى بذلته الحمراء و قال : أعلم يا سيد أنه صدر حكما بإعدامي و رُفض الطعن وأتمنى سرعة التنفيذ حتى استريح ، انتهت الزيارة و خرج السيد وأغلقت خلفه أبواب حديدية لها صوت يرتجف له كل قلب.

 

النهاية ……

تاريخ النشر : 2019-09-29

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى