أدب الرعب والعام

بالأبيض و الأسود

بقلم : هدوء الغدير – العراق

كانت لا تزال تحدق فيه تراقبه وهو يرحل بعيداً حتى خُيّل إليها أنه يعود إلى إطار لوحته

 

شمرت عن ساعديها وقد غمرتها نشوة عارمة كتلك التي تسبق موعد غرامي ، فلطالما كانت هذه الجذوة التي تشعل فتيل رغبتها الجامحة في لقاء شخصيات و أشياء تقبع في عوالمها الخاصة ، حيث تبدأ رحلتها ما إن تغمض عينيها وتمسك فرشاتها التي تتحرك بهدوء مضيفة شيئاً من الحياة على أوراقها البيضاء .

وقفت بمنتصف الفوضى التي تعج بها غرفتها ، حيث كانت لوحات ذات أبعاد ثلاثية تنتشر بعشوائية على أرضية الغرفة وتستولي على سريرها ، فيُخيّل لوهلة وكأن تلك الفراشات التي تسرح في فضاء أبيض يستند على الحائط تكاد تنطلق متحررة من قيود إطار اللوحة ، على السرير كانت تتوسط تلك الأيدي التي تطل من جحيم أسود وتكاد تمسك بشيء مجهول لتبطش به ، وقد بانت عروق الكف والسواعد بشكل منفر و غاضب ، شرعت برفع اللوحات لتبحث عن نقاء ترمي فيه بعثرات أفكارها المزدحمة برأسها ، ففاضت برغبة ملحة في الرسم على غير العادة ، وجدت ضالتها في تلك الورقة البيضاء التي يحتضنها الإطار الخشبي و تسندها ساقي عارض اللوحات ، وكانت آخر ما تبقى من حزمة أوراقها ، حملتها و خرجت إلى الشرفة ، ومثل طريقتها المعتادة في ممارسة طقوسها توقفت لوهلة تنظر إلى السماء التي لوثتها خطوط الكهرباء و المباني العالية فلم تسمح لها بإطلاق لجام بصرها نحو الأفق المحجوب ، شهقت ببطء ثم زفرت قبل أن تثبت عارض اللوحات على مسافة قريبة من كرسيها الذي لونته بقع الأصباغ الجافة ، لا تعلم حقيقة تلك الرغبة المفاجئة بالرسم فمن المفترض أنها كانت قد اختارت اللوحات التي سوف تعرضها في معرضها الأول ، إذن فلابد أن لوحتها التي ستأكل الدقائق القادمة ليست مؤهلة للعرض ، هكذا ظنت وهي تحاول إسكات أفكارها التي تبرق على غير العادة و بصورة ملحة .

وضعت سماعتي الأذن وقد كانت تعزف في أذنيها نغمة هادئة يتخللها خرير الأمواج و تغريدات خافتة ، ثم رفعت عصبة عينيها و ربطتها ، وقد كانت عادتها في تشكيل هيكل رسمتها الأساسي والذي تعتمد فيه كلياً على ما تراه في مخيلتها ، إذ لطالما عللت ذلك بأنها لا تعرف كيف يمكن لأولئك الرسامين أن يعيشوا عالمين في آن واحد ! كيف بإمكانهم التوفيق بين عالمهم الداخلي و بين الملوثات البصرية و السمعية من العالم الخارجي التي تتسرب إلى حواسهم مدنسة خصوصية إبداعهم الروحي .

أمسكت فرشاتها والتي وجدت طريقها إلى اللوحة البيضاء و بدأت تتلوى كأفعى تاركة آثارها في صحراء قاحلة ، انسابت بعدها الدقائق بهدوء لتعلن عن مضي ساعة كاملة رفعت بعدها عصبة عينيها و حدقت في تلك الخطوط العابثة ، هي فقط من تفهم أنه أساس لوحتها وقد كان تماماً كما تخيلته ، بطوله الفارع و منكبيه العريضين يقف أمام شرفة صالة كبيرة قد أغرق الظلام جزءً كبيراً منها ، و قد تحلق خلفه جمع من الناس حول شيء ما ، يبدو و كأنه انسلخ منهم غير عابئاً بما آثار دهشتهم ، فقط ينظر إلى الفراغ الذي تضبب بفعل دخان سيجارته .

تمعنت في الصورة فانتابها شعور وكأن رائحة الدخان حقيقية أكثر مما تبدو لصورة ، فأحست لوهلة أنها تسربت إلى أنفها وملأت رئتيها ، فبدأت بالسعال وقد كانت مندهشة مما حدث للتو ! كيف يُعقل أن تتخذ الصورة بعداً واقعياً قد لمسته حواسها ؟ هزت رأسها بابتسامة وكأنها تطرد فكرتها الغبية و المضحكة ثم بدأت بإكمال تلوين اللوحة .

– لقد انتهيت .

قالت ذلك وهي تبعد يديها عن اللوحة بحركة سينمائية ، ثم ابتعدت بضعة خطوات لتتأمل ما صنعته ، كانت يمكن أن تكون إحدى اللحظات التي يخالجها بها شعور الفخر بما صنعته لولا الصداع الذي داهمها بشكل مفاجئ ، كان وكأنه يطرق رأسها ، كادت أن تفقد توازنها على إثره لولا تمسكها بالكرسي القريب منها ، وقفت لبضع دقائق كانت تمر بصورة قاسية جداً حتى خف صداعها ، فتركت اللوحة في الشرفة ثم دخلت غرفتها بخطوات بطيئة و ارتمت على السرير بقوة مستسلمة للألم الذي كان على وشك أن يقتلع عينها اليسرى من مكانها .

* * * *

استيقظت باكراً ، كل شيء قد تم تجهيزه منذ البارحة ، فبالأمس اختارت اللوحات وأمضت نهارها كاملاً برفقة صديقتها فاتن التي أخذت تروح وتجيء وتحاول أن تنظم اللوحات في أماكنها ، و ترتب المكان حسب رؤيتها التي تعارضت عدة مرات مع رؤية إسراء ، حيث تستسلم الأخيرة أمام عناد فاتن التي حاولت أن تثنيها عن عرض لوحة الرجل التي أنهتها مؤخراً ، لكنها باءت بالفشل ، فكانت هذه مرة فاتن الأولى في الاستسلام وهي تردد بضيق :

– افعلِ ما شئتِ ، إنه معرضك و ليس لي حق التدخل .

فتمازحها فاتن بابتسامة :

– أنظري ، إنه رجل وسيم ، أجزم لك أن الفتيات ستتهافت عليه ، لماذا تمقتين المسكين ؟ .

تشيح عنها فاتن نظرها وتكتفي بالصمت و ركود حركتها النشيطة التي بدأت فيها أول مجيئها .

وقفت أمام المرآة تتجهز للمغادرة "شهيق زفير"، كررت ذلك عدة مرات حتى تخلصت من توترها الذي لا تعلم مصدره أساساً ، إذ أنها ليست مرتها الأولى التي تعرض بها لوحاتها ، اختارت الإكسسوار الذي يلاءم طقمها و فستانها ثم توقفت لوهلة تحدق بانعكاسها في المرآة .

– إسـراء ، هل أنت جاهزة ؟.

جفلت من الصوت المفاجئ  والذي كان مصدره والدتها ، فكعادتها اقتحمت غرفتها وهي تحثها بصوت مؤنب على الإسراع :

– نعم ها أنا ذا لقد تجهزت .

أغلقت حلقة سوارها بسرعة و استسلمت ليد أمها التي أخذت تشدها نحو الباب .

بعد ساعة من وصولها بدأ المدعوون من الأقارب و الأصدقاء وأشخاص آخرين حاولت أن تتعرف على وجوههم أو تتذكر أنها التقتهم في مكان ما ، لكنها فشلت في التعرف عليهم واكتفت بتحيتهم بابتسامة .

بدأت بعدها الصالة تضج بصخبهم وقد انفصلت بضعة تجمعات لمشاهدة اللوحات والرسومات ذات الكيان الحي ثلاثية الأبعاد ، و بين الفينة و الأخرى كانت إسراء تتوسط بعض التجمعات الصغيرة ، تستقبل ثناءهم ومديحهم أو تجيب عن أسئلة بعض المختصين عن نوع الألوان وطبيعة الزوايا و القياسات التي تأخذها عند الرسم ، أو يسأل البعض عن مصدر إلهام الصور وإذا ما كانت توحي إلى مضمون خفي وتحاول أن توصله عبر رسوماتها .

انسحبت من مجموعة من الأصدقاء مستجيبة لنداء فاتن التي جمعتها مع أصدقاء قدامى لها كانت قد ارتبطت معهم أيام الدراسة ، و قد كانوا خلال وصولها يحدقون إلى رسمة الكأس المكسور الذي تطايرت شظاياه بالشكل الذي يجعلها تكاد تنفلت من إطار الصورة بشكل وحشي وقد تخضبت أجزائها الطرفية بلون أحمر قاني أشبه بالدم ، و بعد أن عرفتهم فاتن إليها كان أول سؤال يوجه إليها عن رمزية الصورة فابتسمت بعفوية وأجابت :

– إنها في الحقيقة لا تنطوي على مضمون ، إنه أمر مؤسف أن أخبركم بهذا ، لكنه كان نتاج مشاعر مضطربة راودتني بعد إصابة معصمي بزجاج كأس مكسور واضطر الطبيب لتقطيبه ، لكنه يأبى إلا أم يترك أثراً استمر في مصاحبتي لسنين .

ثم رفعت راحتها لتريها لهم ، فأردفت الفتاة ذات الشعر القصير والتي عرفتها فاتن باسم علياء :

– الأمر الجيد يا عزيزتي إسراء أنك تتركين مساحة التفسير للمتلقي بشكل مفتوح حيث كل شخص يفسرها على حسب المشاعر التي تخالجه حين يراها وهذا يجعل جمالية الصورة شيئاً نسبياً .

هزت رأسها إيجاباً و أيد البعض رأيها ثم انشغلوا قليلاً بمحادثات جانبية دارت بينهم ، فأصابها دوار من كثرة الأفواه التي تنفتح وتنغلق ومن كم الكلمات المترددة في الغرفة وقد تداخلت مع بعضها البعض فأدت إلى دوامة كادت أن تختنق بسببها وهي التي بدأت يومها متحمسة جداً .

همت أن تغادرهم حتى لمحت ذلك الظل الذي يقف قرب النافذة المطلة على حديقة قد حجب عنها منظرها من الزاوية التي تقف فيها ، فبدا أن النافذة تطل على فضاء غامض قد أخذ بلب ذلك الواقف المنسلخ عن الجماعة المتحلقة خلفه وقد تضبب جزء وجهه الجانبي بفعل دخان سيجارته التي كانت تصعد إلى فمه ثم تعود لتستقر في يده على جانبه الأيسر مثيرة مزيداً من الضباب الذي أضفى غموضاً على ملامح وجهه وقد أكل جزءه الجانبي ، ثم ينسل بعدها بعيداً إلى الخارج كاشفاً عن تفاصيله تماماً كما رأتها ، لكن كيف يمكن أن تكون صورتها نسخة حية عنه ، بل كيف قفز ذلك الرجل من لوحتها ليقتحم معرضها بهذا الشكل العلني مبدياً هذا الازدراء ليعطي ظهره للجميع ! كانت تظن أنها ترسم الصور بشيء من الحركات تعطي انطباع حياً ، لكن كيف يمكن هذه المرة أن يكون إنساناً حقيقياً يشغل حيزاً من معرضها الآن ؟ اخترق أذنها أنفاس حارة فالتفتت لتجد رأس فاتن ملتصق بجانب وجهها موشوشة لها وهي تصر على أسنانها :

– إسراء أنتِ تحرجيني ، لم لا تردين على السؤال ؟ .

بدا بعض التوتر على هيئتها ، حاولت أن تخفيه بعبارات أسف :

– أنا أعتذر حقاً .

ارتسمت ابتسامة على شفتي ماهر الذي كان يضع يديه في جيبه ثم كرر سؤاله مرة أخرى :

– لا بأس آنستي ليس عليك الاعتذار ، كنت قد سألت فقط إن كانت هذه اللوحة أيضاً قد رسمتيها وأنت مغمضة العينين، فقد سمعت أنها طريقتك في الرسم ؟.

نظرت إلى فاتن التي كانت تبتسم ببلاهة كبيرة ثم أجابت :

– نعم ، هذه اللوحة أيضاً لم تكن استثناء .

أرادت أن تكون إجابتها مختصرة ولا تكون بوابة لسؤال آخر إذ عليها أن تخوض مهمة البحث عن خيال قد اخترق الحدود الورقية الافتراضية بوجوده.

– أرجو أن تستمتعوا بوقتكم .

أنهت ارتباطها بهذه الجماعة واتجهت ناحية النافذة التي صعقها أن تجدها خالية تماماً ، كيف قد تلاشى بهذه السرعة ! دارت في الوجوه تبحث عن جانب حفظته عن ظهر قلب ولكن لم تسنح لها الفرصة تأمل ملامحه إذ لم يمنحها ذلك الحق حتى خيالها الذي أبدى جزءً ضبابياً منه فقط ، اقتربت من الشرفة تحاول أن تعثر على دليل يخبرها أنه كان فعلاً هنا ، فاخترق شمها ذلك الدخان الذي تركه دليلاً على زيارته الغير متوقعة ، عادت إلى القاعة تتأمل الوجوه التي لم تكف عن الثرثرة والتبسم الذي يضفي بلاهة فائقة على بعضها التي تصطنع المرح ، بدأ الحضور يخف شيئاً فشيئاً و يغادر البعض متبوعين بتحايا منها مع نظرة متفحصة لجميع الأشخاص حتى آخر شخص غادر القاعة كانت قد تفحصت هيئته تماماً لكنه لم يكن يحمل أي شيء يشبهه ، بعد مغادرة الجميع كانت القاعة خالية إلا من إسراء التي عادت مجدداً لتقف قبالة لوحة الرجل تتأملها وكأنها تنكر أنها من صنعة يديها ، يزاحم صفو تفكيرها صوت كعب فاتن يرتطم بالبلاط الرخامي محدثاً إيقاعاً يصيب بالتوتر وهي تخطو مسرعة بعد أن ودعت آخر صديق لها ، و والدتها التي كانت تبسمل وقد انتظرت رحيل الزائرين حتى تشعل بخوراتها التي فاحت في المكان آمله أن تبعد عين الشر عن ابنتها ، اقتربت منها و لا زالت تردد آياتها وتحرك المبخرة بحركة دائرية أمام أسراء التي كانت لا تزال سارحة في اللوحة حتى انتشلها من سرحانها رائحة البخار التي تسربت من أنفها لتستقر في حنجرتها فبدرت منها سعلة مفتعلة :

– أمي أرجوك ! .

قالت ذلك بتململ واضح آمله أن يحمل والدتها على التوقف ففي نظرها الأمر لا يستحق كل هذا التخوف ، استجابت الأخيرة لها أو أنها اقتنعت بأنها زودت ابنتها بحصانة كافية ، فتوجهت إلى المنضدة الجانبية سريعاً ثم عادت حيث تقف أسراء أمام اللوحة ، أمعنت النظر في المكان الذي تحدق فيه إسراء و علت وجهها الدهشة فرفعت يدها إلى فمها لتخفي شهقة كانت على وشك الانفلات من بين شفتيها التي انفرجت من شدة الدهشة :

  • يا إلهي !.

همست بصوت خافت لا يكاد يُسمع :

– والآن لقد انتهينا ..

ضج صوت فاتن في القاعة مختلطة بفرقعات كعبها المتعالية وهي تتجه ناحية إسراء و والدتها :

– هل تعتزمان البقاء هنا الليلة ؟.

قالت ذلك بلهجة ممازحة وهي ترى وقوفهن الذي لا يوحي بأي رغبة في المغادرة ، رمقتها الوالدة بنظرة كانت تحمل تخوفاً من مجهول وبشكل مفضوح استطاعت أن تستشعره فاتن لتتحول ملامحها إلى تساؤل عما حدث ! التفتت أسراء ناحية والدتها مستأذنة الذهاب لجلب حقيبتها من أجل المغادرة فانتهزت والدتها الفرصة لتسأل فاتن بشي من الهمس :

– أليست هذه اللوحة جديدة ؟ فأنا لم أرها قبلاً بين أعمالها.

– إنها لوحتها الأخيرة أصرت على عرضها الليلة .

سكتت والدة إسراء لوهلة والدة قبل أن تستفسر باستغراب :

– لكن كيف يمكن أن يحدث ؟.

– ما الذي تعنينه ؟.

اقتربت والدة إسراء من اللوحة مثبتة بصرها ناحية الرجل الذي يطل من اللوحة المعتمة :

– إنه هو ، لم يكن من المفترض أنها تذكره فكيف استطاعت أن ترسم تفاصيله بهذه الدقة ؟.

تساءلت بهمس مما دفع فاتن لتقترب حتى كاد وجهها يلتصق باللوحة ، أمعنت النظر بتفاصيلها وكأنها تشاهدها للمرة الأولى و سرعان ما فغرت فاهها مدهوشة :

– إنه وسام فعلاً ، لم أكن قد تنبهت لذلك من قبل ، إذ لم أكن لأتوقع ذلك ! كيف يمكن أن يحدث هذا و بدون أي سابق إنذار؟ هل كانت تتذكره هذه الفترة كلها بصمت ؟ لكن لماذا لم تكن تتكلم ؟.

التفتت ناحية والدة إسراء بعينيين شاخصتين :

– خالتي ، لا تسأليها عن شيء إطلاقاً ، ربما أنها لا زالت تحتفظ بمعالمه في ذاكرتها لكنها لا تتذكره شخصياً إذ كانت لتقول هذا أو تسأل عنه.

لم تبدِ الوالدة أي تجاوب مع ما قالته وكأنها قد غاصت في عالم آخر .

– سأسبقكِ إلى السيارة .

قالت إسراء ذلك وهي تجتاز الواقفتين ثم استدارت ناحية فاتن و ودعتها ببضعة كلمات ، عرضت عليها توصيلها إلا أن الأخيرة قد رفضت ذلك أن سيارتها هي الأخرى مركونة في موقف قريب ،

خرج الجميع من الصالة التي أقفرت بعد أن كانت تغص بالجموع ، دلفت إسراء إلى السيارة لتستقر خلف المقود و بجانبها والدتها ، شيء من الصداع الذي انتابها منذ يومين قد بدأ يطرق في رأسها ولكن هذه المرة كانت مختلفة ، شعرت لوهلة أنها تقع في موقع وسطي بين الحلم و اليقظة ، صوت يخترق عقلها بكلمات لم تكد لتكون مفهومة و نبرة يداخلها شعور أنها ليست غريبة ، صور متقافزة لذلك الرجل المجهول بشيء من الضبابية ، تتجاهل ذلك و تحاول أن تبدي تركيزاً أكثر على الطريق الذي بدأ يخفت و يبتلعه الظلام شيئاً فشيئاً متزامناً مع صراخ حاد وكأن بينها وبينه مسافة أميال لكنها تعرفه ، تعرف أنه تنبيه والدتها .

– إســــراء….. انتبهي !.

* * * *

كانت تقف في ذلك الممر الطويل بمفردها، شيء من الانجذاب الخفي والفضول المجهول دفعا بقدميها للتحرك باتجاه الباب القابع في نهاية الممر، تقترب أكثر فتبتعد من الباب الذي تصدر منه همهمات خافتة استطاعت تمييزها ، فخُيّل إليها أنها تصدر عن رجل وامرأة كانت تطلق بين الحين والآخر ضحكة خافتة يتردد صداها في الممر المظلم ، بدأت بالركض لتلحق بالباب فقد كانت تنسحب مبتعدة وقد أحرق صدرها ذلك اللهاث المستمر بشكل مخيف ، استطاعت أخيراً أن تطبق بكفها على مقبض الباب ، وكادت يدها تنزلق عنه وهي تديره بسبب التعرق الذي أغرق راحتها ، فتحته فكشف عن غرفة معتمة إلا من إنارة خافتة مكنتها من رؤية ذلك الظل قرب النافذة ، وتلك الشرارة الحمراء بين سبابته وإبهامه تنطلق منها الخيوط البيضاء منسابة ثم تتشابك شيئا فشيئا لتضبب معالم وجهه ، ربما نظرها اعتاد الرؤية الخافتة أو أن الإضاءة ازدادت فمكنتها من رؤية معالم الظل الآخر الذي كان يبدو و كأنه ملتصق بالرجل ، استطاعت تبين ملامح الفتاة فتمكنت منها الدهشة ، أنها هي من تقف قربه لكنها تبدو أصغر سناً ، هكذا فكرت وهي ترى ضالتها التي جعلت من فستان الموسلين الذي ارتدته يوم المعرض فضفاضاً أكثر ، بدأ عندها كل شيء يخفت بشكل مريب و كأنه يطفو في ظلام أبدي ، أحست لوهلة أن المكان صار أشبه بقبر حيث كانت حركتها مقيدة بشكل مريب ، ثم بدأ يضيق أكثر فأكثر تزامناً مع مرور نسمة هواء شعرت بها تحرك خصلات شعرها ، ثم اشتدت ضراوة النسمة الخافتة لتصبح ريحاً عاصفة مصحوبة بضوء ساطع شق كساء العتمة المحيط في الأرجاء ، ظهرت بعض النقاط الملونة في الأفق و صدح صوت يتردد خلفه صدى حتى توحد الصوت و الصدى معاً ، عندها بدأت تتخذ هذه النقاط شكلاً أكثر وضوحاً و قد ذهب التشوش عن عينيها ، وقد كانت تفتحهما ببطء ثم تعود لإغلاقهما :

– إسراء هل أنت بخير ، هل تسمعيني؟ .

كان أول شيء طرق سمعها صوت فاتن وهي تجلس على السرير بجانبها تمسك بكفها ، في حين كانت والدتها تجلس على كرسي قرب السرير وهي تضم راحتيها إلى صدرها وتلهج شفتاها بدعاء خفي.

– يبدو أنها أفاقت الآن .

قال الطبيب ذلك وهو يجتاز عتبة الباب مما جعل الأنظار تلفتت إليه ، كانت إسراء الوحيدة التي كانت تجهل ما حدث فتساءلت بصوت خافت :

– ما الذي حدث ؟ .

أجابت فاتن بهدوء :

– فقدت وعيك أثناء القيادة ، و لحسن الحظ أنك لم تصابي لا أنت ولا والدتك بأي ضرر ، يمكننا أن نصلي الآن لسلامتكما .

ثم شدت على يدها مبتسمة محاولة تهدئتها ، رغم أن ملامحها كانت تفضح توتراً خفياً يجعلها تستشعر سوء ما سيحدث قريباً لصديقتها ، حاولت إسراء أن تركز مع الطبيب رغم أنها كانت شاردة ، لكن استطاعت تمييز طمأنة الطبيب لهما ، كان إبقاءها تحت العناية مهما جداً ، بعد خروج الطبيب من الغرفة استأذنت فاتن ، سارت في الممر الطويل المفضي إلى الباب الخارجي و منه إلى حديقة تبعثر في أرجائها القليل من الناس و بأماكن بعيدة ، لم تكن قط تهتم أين ستقف وماذا تفعل كانت شاردة و غارقة في تفاصيل ، عادت لتطفو مجدداً على سطح ذاكرتها ، رغم أنها اعتقدت أن حوادث خمس سنين كانت كافية لاجتثاث تلك الحقيقة التي كانت تجهد لإخفائها ، منذ رأت لوحة الرجل التي رسمتها إسراء بقيت مسمرة في مكانها تنظر إلى نقطة مجهولة و هي تسرح في تفكير بعيد ، بعيد جداً كأمنية تأتي بعد – لو – آثمة ومعترضة على الأقدار المكتوبة .

* * * *

جلست في الشرفة كعادتها غير عابئة بأصوات السيارات الهادرة و الحياة التي تصخب أسفلها ملوثة أجوائها الصباحية ، كانت قد نسيت كوب قهوتها تماماً وهي سارحة تتأمل آخر لوحة رسمتها ، لم يكن يثيرها أن يظهر الرجل الغريب مجدداً في لوحة أخرى بقدر ما أثارها وجود تلك الفتاة التي رأتها في الحلم تقف بجانب ملاصق له ولا يظهر وجهها الذي تخفيه خصل خفيفة متناثرة بفعل نسمة تكاد تستشعر بها على جسدها هي الأخرى ، ثم ارتسمت فجأة شبح ابتسامة كانت في السابق ضحكة كلما تذكرت كلام الطبيب النفسي الذي زارته الأسبوع الماضي بعد أن استبد بها القلق من الأحلام التي تراودها ، و رسوماتها التي باتت وكأنها تحمل ذكريات سابقة خاصة مع الرجل ، وقتها أخذ الطبيب يسرد لها عن نماذج من الكتاب وقعوا بحب أبطالهم و لم ينس أن يسرد على مسامعها أسطورة بجماليون الذي وقع أسير عشق تمثال امرأة صنعه ثم هام به ، نسيت نفسها و هي سارحة ولم تشعر إلا بكوب القهوة قد صار بوضع مائل وانسكب شيء منه على ملابسها ، وضعته جانباً و أخذت تمسح بيدها البقعة ولم تلاحظ اجتياز والدتها الغرفة حتى صارت أمام باب الشرفة ، ألقت عليها تحية الصباح بابتسامة وقبل أن تفسح لها مجالا للرد استرسلت قائلة :

– فاتن اتصلت على هاتفك ، لماذا لم تردي عليها ؟.

– الهاتف في الغرفة و لم أسمعه .

– حسناً لقد اتصلت علي لتخبرني أن أحد أصدقاءها يود أن يزورك اليوم إذ يرغب بشراء بعض اللوحات .

فغرت فاهها قليلاً إذ كانت هذه المرة الأولى التي تتلقى بها عرضاً كهذا و لم تكن تنوي بيع أي شيء من عوالمها الخاصة .

– لكن ..

و اقتطعت جملتها لا تعلم ما الذي حملها على الصمت هذه المرة لتستبدل سؤالها وهي تبلل شفتيها :

– هل قالت عن موعد مجيئه ؟.

– الرابعة عصراً سيكون برفقتها ، ألن تنزلي الآن لقد جهزت الفطور ؟.

ألقت إسراء نظرة على اللوحة الأخيرة وقالت :

– سآتي حالاً ..

اجتازت أسراء والدتها التي كانت لا تزال واقفة قرب الباب فاستغلت الفرصة لتلقي نظرة على اللوحة التي كانت في الشرفة ، لم تصدر شهقة تشي تفاجأها إذ يبدو أنها كانت قد توقعت ذلك ، فرفعت يديها و ضمتهما إلى صدرها و همست بصوت خافت :

– يا إلهي !.

سمعت صوت إسراء آت من خارج الغرفة لينتشلها بشكل مفاجئ من سهوها :

– ماذا ؟ ألن تأتي يا أماه ؟ .

– أنا قادمة يا عزيزتي .

و أسرعت تحث الخطى خارجاً .

* * * *

عند الرابعة عصرا كانت تجلس رفقة فاتن و علي الذي أبدى رغبته بشراء بعض اللوحات لمطعمه الذي سيفتتحه في الأيام القادمة ، و يحاول أن يضفي عليه لمسة فنية بتعليق اللوحات على جدرانه ، لم تكن إسراء لترغب في ذلك فعلاً ،  في منح جزء من نفسها و أفكارها لتكون في عرض مبتذل كما عدته ، لكنها رضخت بعد ذلك و وافقت على بيع بضع لوحات ، بعد مغادرتهم كانت تشعر بشيء من الفراغ مما جعلها تستعيد اللقاء الذي لم يكن آخر لقاء قد جمعها بعلي الذي تكرر بعدها كثيراً في أعذار مختلفة ، لم يكن ليخفى عليها اهتمامه المبالغ بها ولم تكن تنتظر أن تغمزها فاتن قائلة بعد أن أخبرتها بلقائها مع علي في المطعم حيث عرض عليها عملاً بتصميم الإعلانات و الذي رفضته دون تفكير .

لم تكن تعلم متى وكيف قد اتخذت هذه الانعطاف التي كان يداخلها شيء من الشعور بأنها تحصيل حاصل و شيء لا بد أن يحدث يوماً ما ، ما دامت تسير في حياة ذات خط معتدل لا تشوبه أي مطبات ، لذا أبدت قبولاً فاتراً بعرض علي لخطبتها رغم حرارة النار التي شعرت بها تسخن وجهه و هو يجلس معها في المقهى ، حتى تصفد جبينه بالعرق وهو يضغط بشدة على كوب القهوة الذي زاد من حرارة اشتعاله فقابلتها هي ببرود غريب قد استغربت نفسها من الصوت الذي بدا رزيناً وغير متعلثماً وهي تسأله أن يمهلها وقت للتفكير ، ثم غادرت دون أن تنظر خلفها ، و بالبرود ذاته أو شيء من اللاشعور كانت ترد خبر موافقتها ، كان مجرد التساؤل في صواب خيارها كفيلاً بجعل رعدة تسري في جسدها ، تتجاهلها و تسلم أن كل شيء يتغير مع الوقت و ربما يولد مع الوقت كالحب الذي ينتقل بطريقة غريبة من الحبيب إلى المحبوب .

بعد مرور بضعة أشهر لم يكن ليتغير شيء من فتورها ، بل صار مثيراً للحد الذي أدى إلى شجارات ، كان علي يطالبها بالاهتمام المبالغ ، فبدا لها كأنه يريد منها اصطناع شيء يعجزها ، تحاول أن تفسر برودها وهي تقف على مقربة من صورة الرجل والمرأة التي علقتها بجانب سريرها ، ينتابها شعور بشيء خفي ، بحرارة تحرق دواخلها و قلبها يعتصرها ، لماذا ؟ لماذا لا تحمل تفسيراً لما يحدث ؟ كل الأشياء تبدو في أماكنها الصحيحة ما الذي ينقصها حقاً ليقدح الرغبة و الحب في داخلها ؟ .

* * * *

ولأن الحياة تمنح فرصاً كثيرة و أشياء جمة إلا أن منحتها الأولى التي تخلق شعور الاتقاد الأول تجاهها يبقى عالقاً دوماً ، ذلك السبب الذي ينبثق منه أول شغف للحياة يكون تفسير لكل شيء يخُمد بعد زواله ، كانت تعلم ذلك إلا أنها آثرت أن تحافظ على خط حياتها المستقيم كما هو .

تم زفافها وسط فرحة الأصدقاء و المقربين ، ولم يكد يمر ثلاثة أشهر حتى أعلنت عن معرضها الثاني الذي تقف فيه هذه المرة كسيدة ، سيدة مصطنعة تصطنع حكاية القبول بالأشياء التي تلقى إليها عرضياً في الحياة ، و كان علي ضمن الأشياء التي اعترضت طريقها فمضت برفقته مكملة ما سيتبقى لها ، كانت كل هذه البهرجة و الزينة التي ساعدتها فاتن فيها و هي تشعر بشيء من الغبطة لأجل صديقتها ، و بعد أن أكملت تسريح شعر إسراء ومكياجها و اختارت لها الفستان المناسب ابتعدت عنها و رفعت يديها بحركة سينمائية مقلدة فيها بوضوح حركة إسراء وهي تنهي لوحتها :

– لقد انتهينا أخيراً ، مما جعل إسراء تقهقه وهي تضع يدها على شفتيها .

– هل السيدتان مستعدتان للمغادرة ؟.

أطل الصوت بعد عدة طرقات خفيفة على الباب ثم ارتفع صوت كلتيهما تستسمحانه بالدخول ، دلف إلى الغرفة وسرعان ما توقفت أنظاره على إسراء، فأصدرت فاتن بعض الهمهمة ممزوجة بابتسامة تكاد تخفيها بأصابعها فالتفت إليها قائلاً :

 

– حسناً هل أنتما مستعدتان الآن للذهاب ؟.

و قد اصطبغ وجهه بشيء من الحمرة التي تلاشت سريعاً ، فأبدت كلتيهما الموافقة ، وحين همت إسراء بالمغادرة كأن شيء ما قد صفع ذاكرتها لتطير شبه صورة مغبشة لذلك الرجل لم يبدُ لها أنه كما يظهر بأي لوحة من اللوحات التي رسمتها ، وكانت كذلك الفتاة برفقته تتعلق بساعده و هما يسيران في طريق ، استطاعت أن تعلم أنها هي تلك الفتاة في مكان ما و زمان كانت تمشي برفقته ، قد التقته يوماً ما وخفق قلبها بشغف غريب ، ثم أعقبها صوت كان يصدر كهمهه خافتة :

– أنا آسف ..

اختل توازنها و أوشكت أن تسقط على الأرض لولا أن لحقها كلاً من علي و فاتن ليسندوها و يجلسوها على الكرسي ، كانت تتصبب عرقاً من جبهتها وتقاوم في محاولة لفتح عينيها مما يجعل جفنيها يتحركان ببطء .

ناولتها سريعا فاتن كوب ماء ، أمسكته بيديها المرتجفة و بللت شفتيها :

– إسراء.. هل أنتِ بخير ؟ ..

كان يرددها علي وهو يضغط على راحة يدها و يتحسس حرارة جبهتها .

حاولت أن تعثر على صوتها ولما عجزت أومأت براسها إيجاباً ، ثم حاولت أن تستند على ذراعي الكرسي متحاملة على نفسها لتنهض .

– عزيزتي لست مجبرة على الذهاب ، صحتك لا تبدو بخير .

كان يتردد صوت علي وقد بدت أمارات الخوف في وجهه ، وكانت فاتن تضيف كلمات مؤيدة له ، لكن إسراء قد أصرت على الذهاب و هي تحاول أن تسير رغم ترنحها مما اضطر علي أن يسندها من ذراعها اليمنى و تسندها فاتن من اليسرى ، بعد بضع دقائق كانت قد استعادت شيئاً من قوتها مما جعلها تطلب بلطف منهم أن يكفوا عن إسنادها كعليلة ، لن يكون ملائماً أن تقابل الضيوف بهذه الهيئة .

***

ابتعدت عنهم فاتن لتنزوي رفقة صديقتها علياء التي حضرت للمرة الثانية للمعرض حيث كانت تبدي دوماً ثناءها بشكل مبالغ فيه على أعمال إسراء .

– ماذا عنك يا فاتن ، ألم يطرأ جديد في حياتك ؟ .

صمتت علياء لوهلة و رمقت فاتن بنظرة مشاكسة فلم تبدي الأخيرة تفاعلاً معها و أجابتها بهدوء :

– لكل شيء وقت ، ولن يسبق شيء أوانه يا عزيزتي .

إجابتها كانت بوابة لصمت امتد لفترة قليلة مما جعل فاتن تدير وجهها ناحية الحضور المنتشرين في القاعة ، فلمحته من بعيد يجتاز باب الدخول و ويتجه ناحيتها رغم السنين التي مرت به ، واجتازته تاركة أثار في هيئته ، إلا أنها لا يمكن أن تخطئه أبداً ، لم تكن خمس سنوات كفيلة بطمس ملامحه من ذاكرتها ، شعرت برعدة تسري في جسدها فاستدارت بسرعة ناحية إسراء التي كانت تقف ضمن حلقة من الحاضرين بجانب علي ، ثم أعادت بصرها ناحيته ، كان لا يزال يتقدم ناحيتها ، انتابها شعور أنها هي فقط التي تراه ، ربما كان شبحاً ، ولكن.. لا يمكن أن تسير الأشباح بهذه الطريقة ، رفت جفنيها بضعة مرات ليختفي الذي ظنته شبح ، و قد كانت منفصلة تماماً عن صاحبتها التي كانت تثرثر بلا توقف حيث لم تعد تشعر أن هناك شيء يعنيها مما تقوله ، حتى التقطت أذناها تحية صادرة من علياء للضيف غير المرحب به :

– أهلا وسام ، هل أنهيت عملك باكراً ؟ .

ثم استدارت إلى فاتن التي انتصبت كتمثال وقد خلا وجهها من التعابير :

– وسام زوجي ، فاتن صديقتي .

بادلها تحية بابتسامة باهتة وتمتمت فاتن ببضعة كلمات للتحية تخلو من الترحاب الحقيقي .

عادت علياء لثرثرتها التي لم يكن كلاهما يصغي لها فاتن كانت ترمقه بنظرات مشحونة ثم تعود لتستدير ناحية إسراء ، توقفت علياء عن الكلام وجذب الثلاثة صوت هاتف انتشلهم من أفكارهم المشتتة ، تحسس وسام جيب بنطاله و استل الهاتف سريعاً و كأنه كان ينتظر هذه المكالمة لتنتشله من موقفه ، رد ببضعة كلمات مقتضبة و أغلق الهاتف :

 

– علياء عزيزتي سأذهب الآن ، لقد طرأ أمر في العمل و علي العودة الآن ، ثم استأنف وهو ينظر ناحية فاتن التي كانت تحمل الكثير من الأفكار المتخبطة و القليل من الكلمات :

– سُعدت بلقائك يا آنسة فاتن .

كان يتحاشى النظر إلى وجهها ، حاولت علياء أن تستبقيه قليلاً وقد ارتسمت ملامح الاستياء على وجهها اتبعتها بسلسلة من التذمرات التي قابلها وسام باعتذارات مكررة ثم غادر .

– هكذا هو طول اليوم مشغول ، لقد طلبته أن يحضر هذه المرة المعرض لأنه شغوف بالرسم مثلي أو كان شغوفاً في بداية زواجنا .

لم تكن فاتن قد استمعت إلى ما تبقى من حديثها وهي تشيع وسام بنظراتها ، كل شيء كان كحلم سيء قد انبثق فجأة ، راقبته وهو يخرج بصمت ثم عادت ببصرها ناحية إسراء ، لم تكن هذه المرة بجانب علي ربما قد ذهبت لمكان ما أو دعاها أحدهم ، هكذا ظنت ، لكن شعور سيئاً ساورها فاستأذنت علياء بلطف و غادرتها ، لا تعلم مصدر الخوف أو ذلك الشيء الذي أخبرها أن هناك خطأ ما ، فاتجهت بحركة آلية في حين استمر شريط الذكريات يمر أمام عينيها .

* * * *

قبل خمس سنوات ..

كانت تقف خارج غرفة المستشفى ، بجانبها والدة إسراء التي شاخت في بضعة أشهر فقط و انحنى ظهرها كأنما تراكمت الأيام على ظهرها ، فلمحته آت من بعيد و لا زالت جبيرة يده معلقة إلى عنقه و يمشي بحركة بطيئة إذ لم تمض سوى بضعة أيام على تخلصه من جبيرة ساقه اليمنى ، ركضت ناحيته في حين بقيت والدة إسراء جالسة على كرسيها وكأن ما حدث كاف لجعلها مستهينة بما سيحدث لاحقاً .

– وسام ، إسراء لقد أفاقت من الغيبوبة .

كان الخبر كاف للجم لسانه وشحذه بقوة ليخطو بضعة خطوات قبل أن توقفه فاتن بإمساكه من ذراعه :

– لكن ، لكنها لا تذكر شيء ، حتى أنها لم تتعرف إلينا .

ترنح قليلاً من الصدمة فاستند بظهره إلى الحائط فاسترسلت قائلة :

– ومن المفترض ألا تدخل الآن عليها ، ربما سيستمر الحال لبضعة أشهر أخرى قبل أن تستعيد ذاكرتها ..

تغبشت الذكرى من مخيلتها لتحل محلها تلك الصورة التي ظنت أنها انقضت ، كان وسام يجلس على الكرسي في المطعم قبالتها يحني رأسه ويمسكه بكلتا يديه وقد استند ساعداه على الطاولة ، حاولت أن تمنحه بعض الأمل قائلة :

– وسام كل شيء سيكون بخير .

رفع رأسه ببطء وقد احمرت عيناه حتى بدت كأنهما سماء بأصيل غاضب :

– مرت سنة يا فاتن ، لم تبد أي إشارة خير ، بالإضافة لهذا قد منع الطبيب علي رؤيتها .

– أنت تعلم أن ذلك لصالحها ، ألم يخبرك الطبيب أنها يجب أن تبتعد عن كل شيء يذكرها بالحادث ؟.

ابتسم بزاوية فمه ساخراً :

– نعم ، أنا المتسبب في ذلك الحادث اللعين ، لا بد أن أُقصى عنها قسراً ، يا للسخرية ، ألم يفكر أحد أنه ربما تعود عليها رؤيتي بنتيجة إيجابية ، هل أصبح كل ما بيني وبينها من ذكريات مقتصراً على حادث سيارة لعين كنت متضرراً معها فيه ؟ .

علا صوته و قد أمال جذعه ناحية فاتن وقد قدحت عيناه شرراً مما جعلها ترتعد فحاولت التماسك :

– لن أخاطر وأسمح لها بأن تلقاك ربما سنعود إلى نقطة الصفر وتفقد ذاكرتها كلياً ، ستضيع علينا لسنة أخرى أو ربما لبقية العمر .

حاول أن يمسك أعصابه هذه المرة وقد انتفض واقفاً والتقط سترته من على ظهر الكرسي و وجه كلماته بهدوء تام يتناقض مع هيئته الغاضبة :

– أتعلمين ؟ ولا أنا سأسمح بمخاطرة تضرها ، إنها تعنيني أكثر مما تعني الجميع وحسبي أن أراها بخير معي أو بدوني .

ثم غادر بعدها المكان حيث بقيت جالسة ترقبه وهو يحث خطى سريعة ، أحست عندها بشيء من البرود يسري في داخلها وكأن هذا ما انتظرته أن يرحل فقط ، ربما لأنها لم تستلطفه لصديقتها ولطالما شعرت أن صديقتها بلهاء لأنها أحبت معدماً مثله ، لكن كان هناك جانب خفي هي فقط من تعلمه ، هي فقط من تعلم أن هذا رداء يكسو هواجسها الحقيقية ، كيف تحصل تلك المجنونة صديقتها على حب حقيقي لم يدق يوماً بابها ولم تعرف هي له طعما ! تنهدت بهدوء وكأن حملاً قد زاح عن كاهلها وتخلصت منه أخيراً حيث بعد رحيله لم تسمع عنه شيئاً وكأنه اختفى عن الوجود .

استعادت نفسها من الماضي لترى نفسها تقف بجانب علي ، قد ساقتها أقدامها ناحيته منذ لم تلحظ أثراً لإسراء بين الجموع ، اقتربت منه وكان قد اختلط بحلقة من الأصدقاء فهمست له :

– أين إسراء ؟ .

– استأذنت قبل قليل وقالت أنها ستعود بعد دقائق .

* * * *

في ظل تلك الثرثرة التي زادت من صداعها بشكل غريب كانت تتشبث أكثر بين الحين و الآخر بيد علي الذي راح غارقاً بمسايرة أحاديث أصحابه الأرستقراطيين عن العمل و المشاريع ثم تعود دفة الحديث إلى الفن الذي كان أقل نصيباً من حديثهم ، فتضطر لأن تشاركهم بإجابات مقتضبة مما أشعر عليا أنها ضاقت بالمكان ، فهمس لها وهو يسألها إن كانت تود المغادرة و سيتولى إغلاق المعرض وتوديع الأصدقاء ، فرفضت ذلك شاكرة له ، في تلك اللحظات كانت تراه مجدداً كلوحة قد سرت بها الحياة تجتاز باب الصالة الكبيرة ، فكرت ربما أن الصداع قد أثر عليها ، حاولت ألا تولي اهتماماً كما المرة السابقة ، لكن ذلك الفضول الذي يداخلها قد غلب على أمرها لتعود تتبعه بعينيها وهي تراه يقترب من فاتن و صديقتها شردت للحظة فشعرت أن فاتن تستدير ناحيتها مما جعلها تتصنع التجاهل و هي تبتسم للمرأة أمامها التي أخذت تحدثها بأمور تتصل مع بعضها بحلقة لا تنتهي ، استمرت نظراتها الخاطفة له ، شاهدته وهو لم يلبث سوى بضع دقائق وها هو يعود ثانيةً ليغادر ، شردت معه حتى شعرت أن كفها تراخى عن الإمساك بكف علي فهمست له قائلة :

– سأعود بعد بضع دقائق .

تحركت بشيء من الجذب وكأنها في خضم حلم قد اعتادت رؤيته عن ذلك الغريب ، و مثل كل اللحظات الغريبة التي تملك هوية المعايشة المسبقة في زمن و مكان مجهول كانت تتردد عليها تلك الأصوات و الذكريات ، تتدفق كسيل يهوي إليها من منبع غير معروف ، شيء من الصور التي تكاد تكون خاطفة ، تبرق لتضيء ذكرى كأنها عابرة من حياة أخرى ، فتهمي عليها سيول المشاعر المضطربة ، أصوات قادمة من بعيد لا تملك قدرة تمييزها ، وجوه ضبابية تبدو كخيالات تمر بعقلها ، ذلك الوجه الذي تراه جانبياً كانت ملامحه تتكشف تتضح أكثر مما تظن و تأمل ، لم تعد تلك اللقطات تعرض كشريط خرب باتت أكثر تناسقاً ، تراه في الجامعة يبادلها التحية ثم يمضي ، تعود لتبرق خطفة أخرى تقف فيها بجانبه و قد تشابكت أيديهما على هضبة شاهقة ، سرعان ما تتضبب و تحل محلها صورة تبدو وكأنها منذ أمد بعيد ، كان يجلس في المقعد الذي بجانبها في السيارة ، بعد أنهى لتوه سيجارته التي تسببت بسعالها فتذمرت ببضعة كلمات،  نظر لها بخبث بطرف عينه و التقط سيجارة أخرى سارعت لانتشالها من بين أصابعه ومسكتها من منتصفها بين أصابعها فكسرتها ببطء مستفز ثم التقطت العلبة و رمت بها من نافذة السيارة ..

– هيي ماذا تفعلين ؟ .

صرخ فيها بغضب فأجابت بلامبالاة وهي تدير المرآة ناحيتها لتعدل من أحمر شفاهها بغرض أن تغيظه لا مبالاتها المصطنعة :

– مضرة بالصحة كما تعلم .

يضرب المقود براحته و ينظر ناحيتها بمكر :

– لن تستطيعي منعي يا جميلة ، لدي علبة أخرى مما يعني أني سأستمر بإزعاجك.

و انحنى سريعاً ناحية ليخرج علبة أخرى قد وضعها في درج مقفل وقبل أن يمسكها كانت قد أسقطتها وهي تضحك :

– لا تحاول  .

كانت كلمتها كافية لتجعله ينحني يحاول البحث عن العلبة التي وقعت قرب قدميه :

لم يستغرق ذلك سوى ثواني ، ثوان فقط ليعلم أن هناك أخطاء مجنونة مضرة على نحو أكبر ، أفزعه صوتها وهي تصرخ :

– وسام انتبه ! .

ثم تبعتها صدمة قوية كان آخر ما شعر به ، ضغط جسدها عليه وهي تتمسك فيه بقوة وحرارة سائل لزج لطخ قميصه حتى التصق به ثم انحدر ملطخاً راحته المتشبثة بها .

أدركت أنها اجتازت عتبة الفندق الذي شغلت فيه صالة الضيوف لإقامة معرضها ، انزلقت من على عتباته بسرعة لتصبح أمام الشارع الذي انحسر فيه عدد المركبات في هذا الوقت الآيل إلى الأصيل تلفتت إلى اليمين و اليسار تبحث عنه فلمحته بالطريق المعبد الذي يفصلها عنه رصيف يتجه إلى سيارته المركونة ، كانت تدرك أن دقائقها معدودة ، و ها هي توشك على الانتهاء لولا حثت قدميها على الركض غير عابئة بذلك السائق الذي فاجأه اجتيازها الشارع بهذا الشكل الغير مسؤول مما جعله يتوقف بصورة مفاجئة ، ويرفع صوت زماره و يحذرها بصوت عال ، استغرق ذلك بضع ثواني لتكون على بعد خطوات منه حيث كان موشكاً على أن يركب سيارته :

– وسام ..

جعله ذلك الصوت يتوقف بحركة مفاجأة استغرق بضع ثوان عقله يقلب فيها الأحداث و الأشخاص بشريط سريع قبل أن يستدير ليراها أمامه ، جحظت عيناه و سرت قشعريرة بجسده مفاجئة ، ها هي ذاتها تقف أمامه رغم أنها تخلت عن عبثية وتمرد شعرها استبدلته بتسريحة أرستقراطية ، قد تغيرت كثيراً إذ لم يكن ليتخيل يوماً أن يراها تستبدل جينزها وحذائها الرياضي بفستان يضج بالأنوثة و كعب يرتفع بضعة سنتيمرات ، منذ تلك النظرة الأولى كان يستطيع أن يحدث قائمة من المفارقات بين إسراء حبيبته وإسراء التي تقف أمامه ، و رغم تلك الصورة الجديدة التي لم يعهدها إلا أنه قد خبر رقرقة عينيها وارتجافه شفتها السفلى بحركة طفولية لم تتغير منذ تركها قبل خمس سنوات :

– وسام لماذا عدت ؟ .

كان ذلك السؤال قد تبادر إلى ذهنه منذ أول مرة حضر معرضها ، حيث لم يلبث سوى بضعة دقائق ، ألم يكن يستطيع أن يقدم حججاً واهية لزوجته علياء يتملص فيها من الحضور اليوم منذ حضر معها المرة الأولى ليتفاجأ بأن إسراء هي صاحبة المعرض حيث حاول أن يختفي عن أنظارها بوقوفه أمام الشرفة ثم سرعان ما غادر بعد أن بقي لفترة وجيزة .

مسح شعره براحة يده وتحاشى النظر إلى عينيها ، كان سيضعف ، حتماً سيضعف حينها و سيتهور ربما إلى تلك الدرجة التي تجعله يخطفها ليبتعد معها إلى أقاصي الأرض حاول أن يعثر على صوته ليرد :

– تلبية لدعوة زوجتي علياء ، قد حضرت معرضك السابق معها ، و ألحت علي في الحضور معها هذه المرة أيضاً لأني قد رحلت في المرة الأولى ولم ألبث سوى دقائق فقط فطلبت مني تعويضاً بهذه المرة .

همهمت ثم ابتسمت ساخرة ولم تبد أي مقاومة لذلك الخط الشفاف الذي انحدر ببطء من عينيها :

– زوجتك ! أرى أن حياتك استقامت ، فعلاً كان لا بد لها أن تستقيم ، فلا أنا ولا أنت توقفنا عند نقطة معينة .

كان لا يزال يتحاشى النظر إليها ، و في تلك الثواني التي كان يمر بها على وجهها يتوقف قليلاً لتنغزه نظرة الرجاء في عينيها فتزيد من اضطراب نبضاته ، لم يكن يعلم أنه هش لتلك الدرجة التي تبعثره زوبعة لقاءها ، إنه لم يشف بعد منها ، هذه الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الآن كما يعرف ذاته ، تنهد محاولاً أن يستجمع كلماته :

– أتعلمين يا إسراء الحياة ليست عادلة ولم تكن يوماً ، وإمعانا في مسرحيتها الهزلية لم يكن يتوجب أن تتقاطع طرقنا بأي شكل من الأشكال ، و المثير للسخرية أننا أكملنا تلك الإنعاطفة دون أي محاولة للعودة إلى المسار القديم ، وها نحن ذا نتقابل اليوم ، السيدة إسراء زوجة علي  و السيد وسام زوج علياء .

بحثت عن تلك الكلمات و الجمل التي أمضت أياماً تصوغها لذلك الشخص المجهول الذي ستلتقيه يوماً ، ومنذ أدركت أنه كان جزء من حياتها لم يشغل حيزاً في ثنايا روحها بل أيقنت تماماً أنه شغل كل جوارحها ليعود مجدداً أمامها  معرياً حقيقته كما خمنتها تماماً ، فلم تكن ترى في داخلها سوى فوضى مضطربة مما جعل نوبة الصداع تزداد بشكل غريب لتلك الدرجة التي جعلت الرؤية تتشوه أمامها :

– لكن لماذا ؟ لماذا لم تكن بجانبي في ذلك الحين ؟.

رددت كلماتها همساً بالكاد سمعه

نقل بصره ناحية بوابة الفندق الكبير و فتر ثغره عن ابتسامة باهتة مطت زاوية شفتيه :

– يبدو أن صديقتك المصون لم تصدقك المقال إن كانت أخبرتك بكل شيء.

– من تعني ؟ .

– فاتن ، تلك العائق التي وقفت في الطريق إليك .

– ماذا تعني ؟ .

– بعد ما حدث ..أعني ….

قاطعته بنبرة جازمة :

– الحادث ؟.

– أرأيتِ ؟  ها أنت الآن تذكرين ، تمردت على كل حواجز صنعتها اللعينة لتقف حائلاً بيننا ، حاولت أن ألتقيك مراراً بعد الحادث لكن الغيبوبة استمرت لأشهر ، و في كل تلك الأشهر كنت أزورك يومياً ، أقف بجانبك وأهمس لك أني آسف ، وأكلمك كما أنك تسمعيني تماماً ، أقص لك الحكايا وأعيد تذكيرك بالمواقف التي أثارت ضحكك مرات كثيرة ثم أسرد لك تفاصيل يومي المملة التي أقضيها بالجلوس لساعات بسبب جبيرة ساقي ، لكن شيئاً ما كان يعتصر قلبي وأنا اسردها لك وأنت لا تسمعينني ، تغوصين في ذلك النوم الذي خلته سيكون أبدياً ، ولما كنت سبباً في ذلك كان يدمي قلبي فيسري الضعف بداخلي وتدمع عيناي ثم يتبعها سيل لم يتوقف ، منذ الحادث رددت كثيراً أني آسف ، خلتك ستصحين ، تلمسين كفي و تمسحين خدي براحتك و تقولين لي : لا بأس كل شيء بخير ، لكن لم يحدث شيء ، ثلاثة أشهر تنهار فيها حصوني و كبريائي ليسمع كل من مر بالمستشفى تلك الحكايا التي يمازجها نحيب خفي تلاشت بعدها الحكايا واستمر النحيب ، وفي تلك المرة التي طلبت فاتن مني مغادرة المستشفى لم أنم الليلة بطولها وعدت صبيحة اليوم التالي باكراً لأجدها تذرع الممر جيئة و ذهاب كمن غم و احتار في أمر عظيم ، ركضت ناحيتي لتخبرني أن إسراء قد استفاقت ، لم تكد قدماي لتحملني هممت بالهرولة بساقي الثقيلة حيث لم يكن قد مضى وقت طويل على فك جبيرتها ، أوقفتني بيدها وهي تامرني بلهجة حازمة :

– إسراء لن تتعرف عليك ، أفاقت ولم تتعرف على أي منا ، كل ما تذكره حادث و صراخ حتى لم تكن تعلم من كان برفقتها وقت الحادث ، أظن أن رؤيتك ستزيد الأمر سوءً عليها و ربما تجعلها تنهار .

هل تظنين أن كلامها هذا استمر لفترة معينة ؟ استمرت لسنة كاملة ، كلما هممت بلقائك تخبرني أنك ستعودين لتفقدين ذاكرتك بمجرد رؤيتي ، هذه كانت مخاوف الطبيب وقتها ، لم يكن يخفى علي أنها ربما تكذب حتى قابلت الطبيب شخصياً و أكد كل ما قالته ، في المقابل لم يكن ليقطع كل آمالي و عقد لي حبل أمل طويل و بعيد المدى ، و حتى بعد ما سمعته لم يكن ذلك ليمنعني وقتها ، فذهبت إلى بيتك عاقداً العزم على أن أفعلها وليحدث ما يحدث ، لكن تلك العقبة الأخرى التي وقفت أمامي تتباكى وتولول بصوت خافت منذ رأتني على الباب ، لم تكن لتسمح لي بالدخول و أخبرتني أني السبب في فقدها لابنتها ولن تتحمل فقدها للمرة الثانية ، ما الذي تبقى لأفعله بعد أن أدركت أنني أقُصيت تماماً ، صرت أمسك الهاتف يومياً ، فحتى الشاشات كنت أخشى أن تطردني و تنطق أني أنا السبب فيما حدث ، و ما الذي سأصلحه الآن بعد أن أفسدت كل شيء بسبب غلطة ؟ وما أدراك ما غلطة تشرع مصراعي الموت و تلفظني بعيداً عنك ، حتى تشجعت بعدها وضغطت زر الاتصال لأسمع صوتك فقط يستمر دقائق قليلة ، أسمع ندائك عن هوية المتصل بينما أقف على الجهة الأخرى أصمت و أصمت ، ويبقى الصمت حليفي حتى تغلقين الهاتف ، أخشى حتى أن يكون صوتي خطراً لتلك الدرجة ، فكرت أن أتكلم لكن ما الذي ساقوله ؟ كيف أعرف نفسي ؟ كيف أسرد حكايات عشناها ثلاث سنوات ؟  توقف لوهلة يلتقط أنفاسه التي صارت لهاثاً بعد أن تسارعت كلماته التي بقيت محتشدة سنين في جوفه ، أعاد مراراً الكلمات و الاعتذارات التي سيقولها لها يوم تراه وتتذكره ها هي العبارات تخذله فيلاحق الكلمات المبعثرة بأنفاس متقطعة و أيدي ترتجف و جبهة قد تقاطر فيها العرق ، كان يشعر بإعياء ، إعياء يثقل جسده و يدور بعينيه التي انتبه لاحقاً ، أنها تبتل هل كان يبكي ؟ هل كانت تجتمع الدموع في عينيه منتظرة إشارة خوض معركة المشاعر لتنزل إلى الساحة و ترفع أعلام الانكسار ؟ استند بيده التي أبدت ارتجافا أكثر على باب السيارة في حين كانت تنظر له بأعين زائغة ، تتابع كلماته ، تحاول أن تلتقط كل حرف يقوله وهو يكشف لها عما أقض ليالها من ذكريات تربطها معه ، لم تكن لتفصح بذلك لأمها و صديقتها ، كيف ستخبرهم أن هناك غريباً يقتحم يقظتها و أحلامها ! كيف ستخبرهم عن شخص يبدو أنها عاشت معه حياة ومع هذا لم تسمع اسمه ينطق على لسان والدتها أو صديقتها ؟.

استأنف كلامه بنبرة اكثر هدوء :

– أتعبتني تلك السنة ، و انتقلت لي حمى اللوم بما حدث فأرقدتني أياماً تخنقني فيها وحدتي ، وكأني مسجون بين عقارب الساعة التي تمضي وتنتهي معها الأيام حتى انتهت سنة كاملة ، طلبت بعدها لقاء فاتن علها تخبرني بأي بادرة ، أنك ربما رددتي اسمي ولو سهواً فقد كان غريباً لي أن اسقط أنا وذكرياتي كلها مرة واحدة ، كنت ألمح الكذب أو أتخيله في عينيها فقط لأني لم أكن أصدق أن هذا يحدث ، لكن ماذا عساي أفعل ؟ أمك أيضاً كانت تثور وتفزع كلما رأتني وكأنها ترى الموت يقبل عليها ، فاخترت أن أمضي وأبتعد ، ومن وقتها محيت كل أثر من حياة الجميع ، انتقلت إلى مدينة أخرى و عشت كوسام آخر ثم تزوجت بأول فتاة استلطفتها ، تحسس وجنته المبللة بحرارة دموع أريقت بلا موعد ولا إذن بالانهمار ، و ابتسم بانكسار وهو ينظر إلى الأرض :

– إنها الحياة كما ترين ، قالوا أنها قصيرة وأقول إنها محتالة و لعوب .

كان ينتظر منها أن ترد أو تهمس بحرف فاستنفرت كل حواسه لاحتضانه ما إن تنطق ، لكن لا تعلم لماذا اختارت أن يلفها الصمت ، الباهت والرطب بتلك الدموع ، يتخلله مزيج من المشاعر المختلطة قد أطاحت بكل كلمة كانت تحاول أن تهمسها ، كان يرى شفتيها تنفرج ، تغمره الحرارة والشوق متناسيا تلك الحصون و الحواجز التي تفصل بينهم، فتعود لتزم شفتيها ، تحدق في وجهه كأنها تراه للمرة الأولى ، تسرح لوهلة في عينيه التي صارت قطرتين من دم فتزيد من زوبعة مشاعرها التي كانت تزوم بلا هوادة ، ولما يأس من أن تتكلم فشعر أنه على وشك أن ينهار ليصبح طفلاً صغيراً ينوح بلا توقف ، أو متهور لعين يقضي على الجميع بطرفة عين لسلبهم حبيبته منه، فقال بهدوء :

– أظنك تأخرت أكثر من اللازم ، وأنا كذلك ، إلى اللقاء يا سيدة إسراء .

ولج سيارته و مضى بعيداً ، أمسك نفسه كي لا يراقبها بمرآة السيارة ، لكن تلك الرغبة الجامحة والشوق ليحتضنها مرة أخيرة بعينيه المشوشة رؤيتها بدموعه التي تكاثفت كسحب أمام أنظاره قد حتمت عليه أن يراقبها حيث لا زالت تقف في مكانها ، تساءل عما تفكر فيه إذ لم يعد يعلم ماذا يمكن أن يخطر لها ، هي غريبة ، غريبة عنه تماماً ، جردتها خمس سنين من هويتها التي عرفها بها .

كانت لا تزال تحدق فيه تراقبه وهو يرحل ، يرحل بعيداً حتى خُيّل إليها أنه يعود إلى إطار لوحته حيث يمكن أن تتلاعب بتفاصيل هيئته و تخنقها دخان سيجارته ، كان قد تلاشى تماماً و هدأت ثورة الغبار التي خلفتها إطارات سيارته فرفعت كفها بحركة باهتة وضعيفة لتلوح لشبح قد مضى بعيداً ، أفتر ثغرها عن ابتسامة مغتصبة وهي تردد كلمته :

– إنها الحياة .

تلاشت بعدها ابتسامتها لتستبدل بنشيج خافت تودع معه ما كان يجب أن يكون ، لتكون هي بكامل روحها إذ علمت أن هذا ما كان ينقصها ، هذا ما ينقص خط حياتها المستقيم ، تلك هي الحلقة المنزوعة و التي لن تعود لمكانها يوماً .

 

النهاية ……

تاريخ النشر : 2019-10-07

guest
48 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى