أدب الرعب والعام

حمم الحياة

بقلم : حوريه الحديدي – مصر

نظرت من النافذة لترى جيرانها يجتمعون في منتصف الشارع وعلى وجوههم اجتمع الحزن والجدية

 

أسدل الصمت عباءته على العالم بأكمله ، و خيم كسحابة تحجب نور الصوت عن الوجود ، ولا يكاد يُسمع إلا صوت الرياح المتلاطمة العابرة بين النوافذ والأبواب المفتوحة على مصرعيها ، وقد أصبحت الشوارع ميادين مهجورة خالية حتى من الأشباح ، ولوهلة قد يظن الناظر أن العالم قد انتهى واختفت الحياة عن الوجود ، ولكن في الواقع العالم كان على وشك أن يكون عدمًا.

كان المنزل شبحيًا خاليًا من معالم الحياة إلا من جثتين لأم وطفلها ، لا ينفي موتهما إلا صدريهما اللذين يعلوان و يهبطان بتناغم ، جلسا على أريكتين متقابلتين ولكن لم تتجاوز أعينهم شاشات الهاتف المحمول التي يناظراها بثبات شديد ، وكل منهما غير مهتم بالوضع المؤلم لذراعه المرفوعة لأعلى ، حتى لا تفلت الهاتف الخلوي المتصل بكابس الكهرباء الذي يمده بالطاقة.

كانت تشعر بالخدر في كامل جسدها من الثبات لوقت طويل ، ولقد امتد هذا الخدر لعقلها وقلبها ، فكانت مشوشة تشاهد برنامجًا تلو الآخر، وتتواصل مجازيًا مع أناس كُثر منهم أبنها الجالس أمامها دون أي مشاعر، فقد ماتت مشاعرها منذ زمن بعيد دون فهم أو استيعاب لأي شيء ، ولكن هذا التشوش لم يربك عقلها كفاية لتحدث الصدمة اللازمة لخروجها عن حالة الخدر الواعي الذي تعانيه.

لم يكن يخرجها من حالتها سوى التضور جوعًا وعطشًا بعد أيام طوالٍ من معاناة الجوع الصامت ، فاعتصار ضلوع معدتها ألمًا  يجعلها بالكاد تستفيق جزئياً بشكل كافي لتتحرك من مكانها ، فتعتصرها ضلوع جسدها المتيبسة ألمًا لفرط الثبات دون حركة ، حتى اقتنع جسدها أنه تحول لتمثال حجري أقل حركة فيه تسبب ألمًا بشعًا ، وكأن حزامًا من نارٍ وجليدٍ قد أحاط بجسدها.

وصلت للمطبخ وهي تئن بخفوت ، فحتى صوتها يخاف الإفصاح عن نفسه ، بعدما أنكتم لوقت طويل ، جلست على مقعدٍ حول منضدة و وضعت الهاتف والإناء أمامها بحيث ترى الاثنين دون أن يختبئ أحدهما بالآخر، وتناولت الأرز نيئًا وهي ما تزال لا ترفع عينيها عن شاشة الهاتف ، غير متأثرة بالألم الذي تشعر به جراء تكسير ما تبقى من أسنانها بسبب الأرز الصلب ، فهو لا يضاهي أبدًا ما تكبدته من ألم للوصول لهذا الطعام النيء.

عادت إلى الأريكة مرة أخرى وقد انسدل الستار على عقلها مجددًا ، فتغيب عن الواقع ، بينما هي تنتقل بين المواقع والبرامج على هاتفها والموسيقى العالية تُضَخ من سماعات الأذن إليها فانعزلت كل حواسها عن العالم من حولها ، وعاد التمثال إلى حاله الأولى.

دخل من الباب كلب كبير وجروين ، وقد كان ذلك بيتهم قبل أن تحل اللعنة التي قلبت الموازين كلها ، و أختبأ أسفل الأريكة التي يجلس عليها الطفل ، وقد اقتربت الجراء من الكلب الأكبر كأنها تحتمي به من خطر ما وهي تئن بصوت خفيض خوفًا وضعفًا ، وقد لعق الكلب فروهما وكأنه يحاول طمأنتهما ، رغم أن عينيه ثبتت على طرف سروال الفتى آملًا أن يكون قد شعر بوجوده فيَقدُم للعب معه وطمأنته كما اعتاد.

و قد عض الكلب على سرواله كما اعتاد قديمًا ، على أمل أن تكون معجزة قد حلت وينزل له الطفل ليطمئن عليه كما كان يفعل سابقًا ، ولكن لم يحدث هذا فتكونت نظرةً حزينة لائمة على وجه الكلب وأخذ ينبح ويعوي لعله يجذب انتباه الصبي  ولكن دون جدوى ، فأخذ جرائه وعاد لحيث كان يجر ذيول الخذلان من ورائه.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يتخلى فيها الصبي عن الكلب الذي اعتاد الاعتناء به واللعب معه قديمًا ، وكأنه نسي صديقه الوحيد الذي آنس وحدته قبل أن يعرف الهاتف الخلوي الذي سرق الطفل من العالم بأكمله.

صدح في الأرجاء صوتٌ عنيفٌ مرعبٌ ، قد اهتزت له الجدران من شدته واهتزت معه الأجساد الحية الميتة الجالسة على الأرائك ، ولكن لم ترمش أعينهم أو تصدر أجسادهم أي ردة فعل تشير إلى قلق أو ارتباك مما حدث.

كان صوتًا عظيمًا قد تُسمع من خلاله الحرية، والنضال، والأمل ، وصرخات كسر القيد ، واهتزازات وتخبطات الحرية غير المتوقعة، وترى الطيور تغرد بسعادة وانتشاء موعد وأد هذا العالم الميت بالفعل ، لكن العالم لا ينقلب ويصيبه الجنون ثم يعود لرشده من تلقاء نفسه وإنما نحن من نفعل .

لم يتحرك أي منهما لحمل ساعة الحائط التي وقعت جراء الاهتزاز المرافق لصوت الدوى الهائل على الأرض ، فهما غير مهتمين بها ، ولِما قد يفعلا وقد خسرا كل معاني الوقت وأدراكهما به أو بأي شيء يحيط بهما ، حتى الجسد المقابل الذي من المفترض أن تربطه به وثاق العائلة ، فالشيء الوحيد الذي يجذب انتباههم هو الهواتف التي يحملونها ، مرت دقائق عديدة وهي هادئة ثابتة لا تتحرك ولكن ظاهرياً فحسب فلسبباً ما شيء قد تغير.

بعد مرور دقائق من صوت الدوى العظيم اختلج قلبها شعور بالضياع والفقدان ، وكأنها تائهة لا تدري أين هي أو ما هي وجهتها ، وفي نفس الوقت شعورٌ أنها قد أضاعت شيئًا مهمًا قد حاولت الحفاظ عليه طويلًا ولكن بلا فائدة ، ولكنها لا تتذكر ما هو أو لِم تشعر بهذا الشعور الذي يعذبها بعدما كان الجوع والعطش وحدهما ما يثيران لوعتها.

تسارعت الأفكار والذكريات في رأسها ، بعدما كانت كالآليين لا تشعر بشيء ، ومعها تدفقت الصور إلى عقلها كأنها تستدعيها ، صور لها في صغرها ولابنها ولزوجها المتوفي وأخواتها وأصدقائها وصوتها يرن في ذهنها بحديثها عن حياتها وكيف تريدها أن تكون.

شعرت بالحزن يُولد في قلبها لسبب تجهله ، و وجدت قلبها يشتاق لحياةٍ لا تميزها ، ولا تعرف كيف كانت ، وإنما فقط تعرف عنها لمحات صغيرة بفضل الصور التي تومض في عقلها ، وكأنها حدثت من زمن بعيد ، أو أنها فقدت ذاكرتها ، ولكن فوضى الثورة التي يعج بها عقلها قد منعتها من التفكير بهذا الشأن.

يقاطع صوتها همس آخر يُبث لعقلها يحثها على الاستيقاظ واستعادة حياتها، بينما يداها تتشبثان بقوة أكبر بهاتفها وكأنما تتشبثان بالحياة ، كأن يداها قد خرجتا عن طوعها فتتصرفان دون مشيئتها وتتمسكان بالهاتف أكثر وكأنه المخدر الذي غابت بسببه عن الوعي ويحاول عقلها أن يحاربه.

حاولت أن تُبعد الهاتف عن قبضة يدها فلم تنجح ، وفي وسط هلعها لعدم سيطرتها على جسدها تساقطت عبرات عديدة على وجنتيها ، فهي تشعر أنها فقدت شيئًا هامًا لا تعرفه ، ويجدر بها محاربة مجهول ، و وسط كل هذا فإذا بضباب أسود يريد أن يبتلعها مجددًا وجزء منها يريد أن يستسلم له وللفراغ الكامن به.

بعد بعض الوقت أصبحت بوعيها ، وبعد عديدٍ من العبرات والشهقات التي لا تقوى على أن تُولد ، انطلقت صرخة من أعماق قلبها ، استعانت بها على ترك الهاتف اللعين من يدها  و دفنت معها الجزء المستعبد من روحها الذي يريد الانصياع للفراغ والصمت مجدداً ، وأخيرًا استطاعت أن تتحرر وترى ما يتجاوز الشاشة الصغيرة التي احتجزتها.

حركت جسدها بصعوبة ، فكل حركة تسبب لها ألمًا شديدًا تشعر به أشد من ذي قبل ، فالخدر كان يخدر بنسبة صغيرة جسدها كذلك في نهاية المطاف ، خلعت سماعات الأذن عنها واستقامت واقفة تنظر لما حولها ، وتشتم رائحة الهواء وما يصاحبها من رائحة حريق، فتتدفق المزيد من الأفكار والذكريات إلى عقلها حتى كادت ذاكرتها تكتمل.

أما سمعها فانعدم من كل شيء فالسكون يعم محيط المكان وكأن كل البشر الذين يقطنون الحي قد ماتوا.

استقرت عيناها على طفلها يجلس أمامها على الأريكة وكامل اهتمامه لهاتفه ، دعت الله أن يكون ما تفكر به خطئًا ويكون بخير، توجهت له تمسك بكتفيه وتضمه إلى صدرها وهي تناديه “حمزة ، يا بني رد علي أرجوك ، رد على أمك يا صغيري ، أرجوك لا تحرق قلب أمك عليك أكثر من كونها مُلوَعة بحالها”.

لم يستجب لها أبدًا ، رغم محاولاتها المستميتة بجذب انتباهه بشتى الطرق ، حتى حاولت أن تشد هاتفه بعيدًا عنه ، ورغم تشبثه العنيف به إلا أنها نجحت في أخذه منه ، ليثور كوحش كاسر يحاول أحدهم سرقة مأواه ، فقام صارخًا ودفعها بعنف حتى أسقطها أرضًا فوقع الهاتف من يدها ليلتقطه ويعود لمكوثه الأول مجددًا.

جلست على الأرض وطوقت جسدها بذراعيها تبكي وتشهق بقوة ، وكانت تنظر إلى صغيرها مرتعبة من مصيره وهي شاغرة اليدين لا تستطيع مساعدته ، فهي لا تدري ما الذي حدث لهما ، أو كيف نجت منه ، أو حتى كيف تظفر بصغيرها بعيدًا عن هذا الملعون.

فهي لم تنشئه على العنف وليس من شيمه أن يصيح بها أو يدفعها ولا يأبه حين تسقط أرضًا ، فهو كان أحن الناس عليها وكانت احبهم إلى قلبه ، فشعرت أن هذا الجهاز الملعون يحوله إلى شخصًا غير الذي كان عليه ، شخصًا لا تريد معرفته أو التعامل معه حتى لا ينكسر قلبها.

كان أمرها مريرًا ، فهي مشوشة خائفة من أجلها وأجل طفلها ، بينما الفوضى تعم حياتهما فهي لا تعرف ماذا كانت تفعل قبل أن تمسك بهاتفها ، أو ما يجدر بها فعله الآن ، أو لماذا شاشة التلفاز المُشغلة لا تحوي مذيعًا أو عرضًا ، فالأمر يبدو كاستديو برنامج لكن قد رحل المذيع وطاقم العمل بأكمله ، مما يدل على أن الفوضى تعُم الأرجاء خارج بيتهما الصغير.

دب الخوف في قلبها بثُقل صخرة ضخمة ، إثر تفكيرها أن هذه الفوضى من الممكن أن تكون منتشرة في العالم كله ، ولكن عادت تفكر في أنها ليست متميزة، فلِم تستيقظ هي وجميع الناس في هذه الحالة، أيمكن أن يكون العالم قد بدأ بالاستيقاظ والوعي.

ركضت إلى النافذة تنظر منها إلى الخارج لتجد الشارع فارغًا  لا يوجد به غير بعض الحيوانات الضالة التي يبدو عليها الإرهاق والتضور جوعًا في حركتها البطيئة الهزيلة ولكن لا بشر أبدًا وكأن بلاءً ما قد قتلهم جميعًا وقد عرفت ذلك البلاء فقد نزل بها من قبل.

بدا لها الأمر كأنها الحية الوحيدة وسط العالم ، فاهتز قلبها وتكونت غصة في حلقها ابتلعتها بعد معاناة ، ولكن فقط لتتأكد من الأمر وكأنها تلتمس واقعًا آخر، غيرت قناة التلفاز لقناة ثانية ثم لثالثة و رابعة وجميعهم بنفس المظهر، استديو خالٍ وكأن خلال التصوير قد ترك الجميع أماكنهم وتركوا المعدات دون وقفها و رحلوا.

جلست على الأريكة وقد أحاطت رأسها بيديها ، وقد آلمَتها لكثرة التفكير، فلا تجد تفسيرًاً لما يحدث ، ولا تجد مخرجًا منه ، فكيف يجب عليها التصرف وعلى ما يبدو أنها الواعية الوحيدة على وجه الأرض ؟.

كثيراً ما قد صنعوا أفلامًا بهذا الشأن ، وقد كانت أفلامًا مسلية استمتعت بمشاهدتها برفقة حمزة، ولكن لم تعلم أبدًا أن العالم سيكون وحيدًا ، وحزينًا ، ومرعبًا هكذا ، فهي لا تستطيع أن تتشارك مخاوفها مع أحد آخر.

خافت أن تخرج للطريق فتجد ما يؤذيها في هذا العالم الموحش ، أو لا تجد شيئًا فيصعب أمرها أكثر، فكرت بضع دقائق وقد مكثت بالمنزل تبكي تارة وتنظر للطريق تارة لعلها تجد إنسانًا فيخف حملها.

دوت صرخة لصوتٍ أنثوي تعرفه جيدًا ، فهو لسارة التي تسكن الشقة أدناها ، فتحركت سريعًا تخرج من شقتها لشقة جارتها وهي تهرول على الدرج حتى أنها كادت تسقط ، وصلت لتجد باب المنزل مفتوحًا وتندفع داخله.

وجدت سارة تجلس أرضًا  وتسند رأسها على الأريكة وهي تنوح وتبكي ، ولشدة بكائها فأصبحت كلماتها غير مفهومة ، بينما زوجها وأطفالها يجلسون كتماثيل متفرقة لا يعبئون لصراخها ، فتوجهت إلى سارة بحذ، فتدنو منها وتضع يدها على كتفها في قلق بينما تحدثها بتلعثم، “سارة ، هل أنت واعية ؟ “، لترد عليها المسكينة بصوت ضعيف لكثرة بكائهما ، “أدركيني في مصيبتي يا ليلى ! لقد حلت علي لعنةً ولا أدري ما هذا الذي فعلته بيداي هاتين ! أأقطعهما كي أطهرهما من ذنبي؟ أم أقتل نفسي وأتبعها ؟ أدركيني يا ليلى” كانت تتحدث بهيستريا كالمجنونة ولم تفهم ليلى ما تقصد بحديثها ولكن ما رأته قد أفهمها كل شيء.

ارتجف جسدها وهي تقف سريعاً تنحسر خطواتها إلى الوراء بصدمة ، فما حدث لا يقدر مخلوق على تصوره أو تحمله ، وأيما ألم تشعر به سارة التي لُعِن قلبها فيعيش مأساته هذه إلى الأبد.

اقتربت ليلى إليها وأوقفتها وتحدثت إليها بصوت مهزوز “سارة، أخبريني ما حدث”، انهارت سارة بكاءً فعانقتها ليلى ، لا تستطيع أن تنظر لوجهها بكم الأسى الذي يحمله ، وقد شدت سارة على عناقها وكأنها غريق يتعلق بأمل للنجاة.

“لقد أفقت من تلك الحالة الغريبة لأرى ندى ابنتي، صغيرتي الرضيعة وكانت ساكنة لا تتحرك ومغطاة بشالي حتى وجهها لا يظهر بوضوح منه ، فأخذت أهزها ولكنها لم تستيقظ ، لم تستيقظ يا ليلى” ابتعدت عن صديقتها وهي تلطم وجهها وتشد شعرها من شدة الجزع وأردفت ” لقد ماتت بين أحضاني ولم أهتم سوى بهذا اللعين ” أمسكت بهاتفها بحنق وفتحت النافذة وأطاحت به للخارج.

” ماتت جوعًا ولم آبه ، أنا قتلتها ، ولم أرحمها حتى حينها فلم أوري جثتها بين التراب وإنما بقت حتى ، لم تستطع أن تنهي جملتها، و وقعت على الأرض تضرب وجهها وتصرخ بألمٍ لما حدث لها وتكرر” ما الذي فعلته بك يا ابنتي ! يا الله ارحمني والحقني بها “.

خرجت ليلى جازعة بين صرخات صديقتها المتتالية ، فهي لا تتحمل ما جرى أو ما يجري الآن ، فلا يهون بقلبها تلك الرضيعة التي حملتها فور ولادتها وشعرت بالحياة تنبض فيها ، لا تستطيع أن تتحمل أن تنظر لها وقد فارقتها الحياة  ولا تهون عليها صديقتها وما تعانيه من ألم لا يفوقه ألم ، وإنه ليلازمها حتى يهلكها.

خرجت إلى الشارع وعيناها يتساقط منهما الدمع تباعًا ، وكانت في قمة الانهيار مما شهدت في بيتها وبيت صديقتها ، ولم تقوى على العروج على منزلها فتزيدها حالة أبنها حزنًا.

أخذت تركض بين الطرقات بينما تصرخ وتبكي، ومن بين شهقاتها تنادي الناس “أين أنتم ؟ أفيقوا ! عالمنا ينهار ! لِما لا تردون ، استفيقوا وأجيبوا ! أيها الناس ألا من مغيث لعالمنا ، ألا من معين على مصيبتنا ؟ ” كان صوتها جهورًا عاليًا حتى شعرت بالألم يدب في حنجرتها ، وقد سقطت إلى الأرض متعبة من كثرة الركض والصراخ وهمست بصوت خفيض “ألا من معجزة تغير الواقع الأليم وتعيد الماضي الوسيم”.

أكملت ركضها في الشوارع بينما تصرخ على الناس بالنداء ولكن لم يجيبها أحد، ولم تعرف أهناك من استفاقوا ولكن لا يجيبوها خوفًا من المجهول الذي يناديهم ، فربما ظنوها أمرأة جنت بسبب ما يدور أو ربما تكون وحدها الواعية بين هذه الطرقات والميادين.

وجدت نفسها تقف أمام مدرسة أبنها حمزة ، ها هو محراب العلم  يقف شامخًا بين الشدائد والصعاب و ربما يكمن الجواب بداخله ، فعديد من المعلمين لم يهتموا لهواتفهم سوى لإجراء المكالمات ، ربما يكون أحدهم قد تغلب على هذه اللعنة ولعله يمكث في الداخل ، بين الكتب والمراجع يأنس بهم ، فقد تختلف قوانين الحياة هنا.

دخلت المبنى تمشي بين الردهات الضيقة المضيئة ، فعلى الأقل ترى ما أمامها جيدًا ، وكان الصمت جامحًا فخافت النداء أو التحدث فكانت صامتة هي الأخرى ، ولكن من بين الصمت سمعت صوتًا غريبًا يصدر من بعض الصفوف الدراسية.

كان الباب بالكاد مفتوحًا ، فنظرت إلى داخل الصف تلتمس أستاذًا أو أستاذةً يكونوا ملاذًا لها ، ولكن ما كان بالداخل كان أبعد ما يكون عن الملاذ فقد كان مخيفًا وصادمًا ومروعًا لها.

كان يقبع بالداخل بعض الذئاب التي بدت هادئة مرتاحة ، فالصغار يلعبون في ركن ما ، بينما الكبار مشغولون بشيء في زاوية أخرى ، لم تركز على حالتهم بقدر تركيزها على أنيابهم وأسنانهم الضخمة الحادة الملطخة بدماء تبدو حديثة ، والتي لن تمانع أبدًا تقطيعها إربًا.

و لكن فجأة حين بدأوا بالتحرك ، رأت ما جمد الدماء في عروقها وكاد يذهب بحياتها لشدة الفزع ، فرأت بقايا جسدًا ممزقًا ، كان مشهدًا مريعًا.

بدأ جسدها بالارتجاف من شدة الخوف ، فلا رحمة لها إذا اكتشفوا وجودها ، و ها هي ترى المصير الذي ينتظرها إن علموا بها ، تراجعت ببطء وقد وضعت يدها فوق أذنيها تحاول منع أصواتهم من الوصول إليها ، وقد انفتح فمها للنهاية في صدمة مما رأته وبدأت العبرات تغرق وجنتيها.

عادت أدراجها إلى بوابة المدرسة بحذر ، وبمجرد وصولها حتى أطلقت ساقيها للريح عائدة إلى منزلها ، ولكن هذه المرة لم تصرخ فهي لم تعد تدري ما يختبئ بين المنازل وما تأويه البيوت ، فربما أحد الحيوانات الضارية يفضل البقاء في أحد المنازل عوضًا عن المدرسة.

قابلت بعض الأشخاص القلائل في طريق العودة ، بعضهم يبكي ويصرخ وبعضهم يمشي هائمًا على وجهه كأنه تائهًا لا يدري وجهته ، وبعضهم يوقف الآخرين ليسألهم عما يجري ولكن غالبًا لا يجدوا إجابة.

صعدت درج المنزل سريعًا  فقدميها لا تقويان على التوقف خوفًا وفزعًا مما شهدته ، وأثناء صعودها سمعت صراخًا يصدر من شقة سارة ، ولكن هذه المرة لم تكن سارة تبكي وتصرخ بمفردها بل شاركها زوجها وأطفالها ، ولكن ليلى لم تلتفت إليهم بل صعدت إلى شقتها.

كان الباب مفتوحاً فمن العجلة نسيت أن تغلقه عند خروجها ، دخلت مسرعة وأغلقته ورائها ، واستندت إليه تشهق في محاولة أن ترغم رئتيها على التنفس وقد هربت منهما الدماء بعدما حدث ، فمنذ استفاقت وهي لا تسمع سوى الصراخ والبكاء والعويل ولا ترى سوى الموت والدمار والهلاك ، ولا يدق قلبها إلا بالخوف ، والآن قد بدا لها أن ما يفصلها عن كل هذا الشقاء هو الجدران المكونة لشقتها الصغيرة.

لم تجد صبيها على الأريكة فشعرت بفزع مضاعف ، وتكاثرت الأفكار في رأسها ، فهل يكون غادر المنزل أو تأذى ؟ أو ربما فقد عقله تماماً ففر هاربًا من المنزل ؟ كانت تدور في غرفة المعيشة لا تدري ماذا تفعل فقد توقف عقلها عن العمل من هول الصدمات ، حتى سمعت صوتًا خافتًا يبدو كأنين من غرفة الصبي فاتجهت إلى الداخل مسرعة مهرولة لا تدري أيكون بخير أو يلفظ أنفاسه الأخيرة جوعًا كطفلة جارتها ؟ أو تأكله الحيوانات الضارية ؟.

وجدته جالسًا جوار سريره وقد تكور على نفسه خوفًا وبدا كطفل صغير بدلًا من فتى قارب الثالثة عشر ، كان يناديها وقد تساقطت دموع عديدة على وجنتيه.

تعانقا بقوة وبكى كلاهما بعنف ، فالصغير قد بكى خوفه من فقدان أمه وخوفه من المجهول الذي يحاصره ، ومن الفزع الذي دب براثنه بالمنطقة ، فالجميع يبكي ويصرخ ولا يدري ما قد جرى ، أما هي فبكت كل ما حدث في ذلك اليوم ، وكل ما فُقد في فترة خدرهم التي ما زالوا لا يعلمونها بدقة ، وبكت كل الفزع الذي ابتلعت غصته كيلا تنهار، وصغيرها الذي لا تعلم مدى تأذيه و رعبه مما يحدث ، وتبكي كل الأيام التي لا تذكر عنها شيئاً باستثناء البرامج التي كانت تشاهدها.

جلسا في صمت كل منهما يدور برأسه الكثير من الأفكار والأسئلة ، ولكنه لم يُرد أن يثقل الآخر بها فلم يتشاركها معه وفضل إبقائها حبيسة رأسه.

بعد ما يقرب من ساعة سمعا صوت مذيعة النشرة الإخبارية يصدر من التلفاز ، فانطلقا إلى غرفة المعيشة ليتابعا ما يحدث ، فهي حتماً ستتحدث عن هذا الوضع الغريب.

تحدثت المذيعة من الأستوديو التحليلي بصوتها الجهور تُقدم ضيفها ” مساء الخير جميعًا ، دون مقدمات يبدو أننا في ورطة كبيرة ، ولذا قد أتينا بالسيد الخبير الحيوي خالد سعيد ليعرفنا على الوضع الحالي وما حدث ، من فضلك أستاذ خالد حدثنا عن سبب الأحداث الجارية ؟ “.

جلس قبالتها رجل أسمر رفيع بملامح دافئة مريحة ، وقد تحدث بعدما ارتدى نظاراته الطبية “مساء الخير لجميع المشاهدين ولك سيدتي ، لقد أجرى المختبر الرسمي الرئيسي عدة تجارب في الساعات القليلة الماضية ،  يبدو أن سبب انسياق البشر في أرجاء العالم وراء هواتفهم بهذا الشكل الهستيري هو تفاعل الأشعة الصادرة من الهواتف مع بعض أنزيمات بالمخ بطريقة ما فخدرته واستولت الهواتف منصب المخ متحكمة في الجسد ، حتى أنها فاقت تحكم البشر وسيطرت عليهم بشكل كلي” أنهى حديثه بأسى فمن كان يصدق أن البشر قد يمرون بمثل هذا ، إنه لا يحدث سوى في الأفلام وهذا النوع من الأفلام يفترض به ألا يتحقق أبدًا.

أردفت المذيعة ” ولكن يا سيدي كيف نجونا من شيء كهذا ؟ ، لقد قلت لي قبل البدء بالتسجيل أنها رحمة الله بنا ، اشرح لنا قصدك ؟ “.

استرسل بحديثه ” لقد رحم الله خلقه فأرسل لنا كارثة طبيعية هائلة كهدية لتخلصنا ، فلم يساعد في تنحي تلك السيطرة إلا انفجار بركان تامو مسيف شرق اليابان بشكل ضخم مما أدى إلى تحرير البشر حيث أن الحمم قد أطلقت أبخرة عظيمة وغازات شتى بعض منها أثر على الهواتف وأضعفها وبالتالي أعاد السيطرة إلى المخ والبشر”

سألت المذيعة ” ولكن أيمكن لبركان واحد أن يحدث أثرًا في كامل الكوكب بهذا الشكل ؟ ” كانت متعجبة فالبركان بالكاد يمكن أن يؤثر على المنطقة و ربما القارة ولكن ليس العالم بالتأكيد.

تنهد الرجل ثم أجاب ” معك حق ، ولكن هذا في حالة أننا لا نتحدث عن بركان تامو مسيف فهو بحجم مدينة سان فرانسيسكو، ويعد أكبر براكين العالم حجمًا ، ثم أنه خامد منذ ملايين السنوات فمن الطبيعي أن يحدث هكذا فوضى” أومئت المذيعة بتفهم للأمر.

نظر حمزة وأمه إلى بعضهما بتفاجئ ، أيبعث الله بركانًا لكي يحررهم ، أيسمع الله استغاثة قلوبهم ؟ أم قد سمع توسلات الحيوانات الشريدة التي تضورت جوعًا وضعفًا في الشوارع ؟ ، ظناً أنها نهاية البرنامج  فقد أجاب عن جميع استفساراتهم عما يحدث ، وهم لن يتمنوا أبدًا أن يدركوا فورًا ما يجب فعله ، فالجميع يحتاج لحظة لاستيعاب الأمر.

أردف السيد خالد سعيد بنبرة تهديد “و لكن لا يجب علينا النظر للماضي ، بل يجدر بنا حماية المستقبل ، فاستخدام البشر الموارد المائية دون حساب في فترة سلبهم عقلهم قد أضر بالنسبة المائية وقد انخفضت إلى الربع تقريبًا ، ويجب على السلطات في مختلف الدول بحث هذه المشكلة ومواجهتها حتى لا تضر بالبشر أكثر ، وحقيقةً لا أرى لها مخرجًا سوى أن ندعو الله أن يرحمنا ويقينا شر مصير البقاء دون ماء”

تحدثت المذيعة بخيبة أمل” أجل ، فمنذ بدأ البشر بالإفاقة بعد انفجار البركان توفد الأخبار التي تفيد ببحث المختصين هذا الشأن ، ولكن لم يتوصل أحدهم لأية نتيجة ” صمتت لثوان وقد ركزت يدها تثبت سماعة أذنها التي تبث لها حديث فريق الإعداد ، وأردفت بحماس” عاجل ، بدأ هطول المطر الغزير الذي يقارب السيول في اليابان حيث يوجد البركان ، يبدو أن الله قد استجاب دعائك سيدي”.

انتهى الحوار وقد سمعت ليلى صوت كحشد في الشارع ، فنظرت من النافذة لترى جيرانها يجتمعون في منتصف الشارع وعلى وجوههم اجتمع الحزن والجدية ، فأطفأت التلفاز ورافقها ابنها إلى الشارع حيث اجتمع الجميع.

كان الناس في حالة رعب هستيرية، فيفرضون النظريات ويفرضون نتائجها ويتناقشون بصخب ، أما ليلى فوقفت بعيدًا قليلًا وقد أحاطت كتف ابنها بيدها وكأنها تتأكد من وجوده جوارها ، وكانت صامتة تفكر فيما سمعت أتشمل سعة رحمة الله أن يقيهم كل هذه الكوارث ؟ أيمكن أن تتحقق هذه المعجزة ؟ و قد جاءتها الإجابة فوراً فقد بدأ المطر يهطل بغزارة فوق رؤوسهم ، نظرت للأعلى وابتسمت بأشراق رغم سوء حالتها النفسية قبل قليل ، فقد أجابها الله وبث الأمل في قلبها ، وقد أحياها هذا بعدما ذبل قلبها من أحداث اليوم.

صمت الجميع ونظروا لأعلى في تعجب عن سبب سقوط الأمطار الآن بغزارة ، وهدأ توتر الحشد وخوفه ، فالمطر دائمًا ما يجلب الخير لهم.

سمعت صوت كلب يعوي وحين رأته تذكرته فورًا ، إنه جميل كلبهما الذي اعتزا به واتخذته جزءً من العائلة ، ولكنه لم يكن وحده فقد اقتربت معه جراءه.

أفلتت الصبي الذي ركض لكلبه واحتضنه بشدة ، وقد تشبثت به الجراء الصغيرة كأنها تشعر بالحب الذي يكنه لهم ، عاد إلى أمه برفقة كلبه وجراءه الصغيرة وقد حملت إحداها تحتضنها.

بدأ الحشد بتفرق، وعاد الجميع أدراجهم ، وقد عادت ليلى إلى منزلها وهي توقن أن الله قد رسم لهم أملًا جديدًا سيهبهم أيامًا أخرى يقاتلون فيها من أجل الحياة ، وأنه إن نزل بهم أمرًا مجددًا فيسمع الله سبحانه وتعالى استغاثهم ويحميهم حتى وإن كانت الحماية في شكل حمم تقدم لهم الحياة.

تاريخ النشر : 2019-11-09

guest
15 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى